موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٧ مايو / أيار ٢٠٢٠

بالتواضع.. نتمم معنى مسيحيتنا

بقلم :
نبيل جميل سليمان - كندا
أستوقفتني كلمات يوحنا المعمدان إلى الرب يسوع: ها هو حَمَلُ الله الذي يرفع خطيئة العالم

أستوقفتني كلمات يوحنا المعمدان إلى الرب يسوع: ها هو حَمَلُ الله الذي يرفع خطيئة العالم

 

أستوقفتني كلمات يوحنا المعمدان إلى الرب يسوع: "ها هو حَمَلُ الله الذي يرفع خطيئة العالم" (يوحنا 1: 29)، متسائلاً بإنذهال: أيستطيع المسيحي اليوم أن يحمل أو يرفع خطيئة أخيه الإنسان..!؟ وأن يغفر له بدافع المحبة أسوّة بالمسيح..!؟

 

أنه سؤال جديد يُطرح في كلمات جديدة.. ولكن، هل في هذا السؤال ما يهمنا حقاً..!؟ قد يعتقد البعض بأنه يتعلق بذاتية المسيح، إلا أنه -من جانب آخر- يهمنا نحن حتماً لكوننا مسيحيون (مؤمنون بالمسيح)، وبذلك نتمم معنى مسيحيتنا عندما نشارك في ذاتية المسيح وشخصه وحياته.

 

قد لبسنا المسيح

 

في كثير من الأحيان ينتابنا القلق عندما نحاول أن نتعمق في كيفية المشاركة في حياة المسيح. ولكن لن نكون مسيحيين -بالكيان والإعتقاد، بالإرادة والإخلاص- إلا بعد أن نعقل ونستسيغ الفعل بإقترانه بالعمل. وفعلاً هذا هو من صميم الأصالة المسيحية (طبيعة المسيح نفسها). لأننا: "قد لبسنا المسيح" (كولسي 3: 10، أفسس 4: 24). وصرنا في المسيح خليقة جديدة (إنسان جديد)، لأن ما يفعله هذا الإنسان (ذلك الذي تجلّى فيه الله) يفعله الله، وما يعانيه هذا الإنسان يعانيه الله، بل وكل ما يجري في حياته يجري في الله. فإتحاد الله مع هذا الكائن الإنساني لم ينتهي بموته، بل يواصل وجوده "فينا" لأنه "قام" وبقيامته يبقى الله إلهاً صار إنساناً (وهو الله بالذات) وصار شخصاً محباً (وهو المحبة بالذات).

 

المحبة غير كافية

 

وعندما يكون هذا الإله شخصاً محباً، وهو المُحِبّ، فأي شئ لا تفعله المحبة..!! المحبة تفعل وتُفجّر كل أشكالها المتعارف عليها..!؟ أفلا يتوجب عليها أن تكون فريدة، خارجة عن المعتاد: تارةً نراها مذلولة حتى أدنى درجات الذلّ والهوان، وطوراً مرفوعة إلى أعلى سماوات المجد والبهاء..!؟ فكما قلنا بإن الله قد تجلّى في المسيح بالمحبة، وكيف تراءى لنا على أنه المحبة.. سندرك شيئاً فشيئاً (عندما نغوص إلى أغوار عميقة) بأن هذه المحبة غير كافية.. كيف..!؟ سنجد حتماً، بأن هناك شيئاً آخر، بل يجب أن تكون في الله صفة تحول دون أن تفعل المحبة فعلها من ذاتها. فليس لنا ما نقوله في هذا الشأن سوى إن: "الله يحب بتواضع، وبأنه متواضع بالمحبة".

 

بالمحبة أتضّع الله

 

إذاً يجب أن نقول، إنّ في تواضع الله سر عظيم يصعب إدراكه، إذ ليس من تواضع حقيقي إلا عندما ينحني الكبير أمام الصغير إحتراماً. لأن للصغير كرامة سريّة، فأن رأينا هذه الكرامة وقدّرناها حق قدرها وأنحنينا لها، فذلك هو التواضع الحق. وهنا نكتشف شيئاً، ألا وهو إنّ التواضع ينبثق من الله -سرًا عظيمًا- بالتجسد وهو التواضع الأساسي (فيلبي 2: 5-10)، ومنه يسير إلى الإنسان. أي أن التواضع لا يولد مع الإنسان، وطريقه ليس صعودًا بل إنحدارًا. وهذا ما قام به الرب يسوع، الذي إنما جاء ليخدم -بأعمال هي أعمال العبد أو الخادم- عندما ركع أمام تلاميذه وأنحنى ليغسل لهم الأرجل (يوحنا 13: 1–7)، ورفع خطايانا بذراعين ممدوتين على خشبة الصليب (يوحنا 1: 29). هذا الإله "الإنساني" و"المتواضع" و "المحب للبشر". حينما طرح نفسه وأنحنى في هذا الكائن الصغير، في هذا العدم الذي يمثل في عينيه "الخليقة". لا "ليكفّر" بذاته، بل ليظهر لهم سر التواضع الإلهي (يوحنا 13: 1-19). ولذلك، فبوسعنا القول بأن إلهنا (الأبدي، العظيم، القدير...) ليس "أكبر" بل "الأصغر" من الصغير، ليتخذ لنفسه كيان إنسان غامض من قرية صغيرة هي الناصرة. وهذا ما أحدث إنقلاباً أو ثورة في مفهوم الصلات والقيم بين البشر، لتتمثل فينا، من ثم، هذه الإستعدادات الإلهية، ولتنبعث فينا تلك المحبة المسيحية المتواضعة.

 

ليس في المسيحية شيء مستحيل

 

وبمثل هذه الصورة يأتي الله إلى البشر، ولذلك لا سبيل إلى ممارسة التواضع إلا عندما توضع مسيحيتنا على محك المحبة الأخوية ليكون لها حظ في المسيح. وعلى مثل هذه الممارسة والإختبار، ندرك بأن ليس في المسيحية شئ مستحيل. فإلى هذا المستحيل يجب أن نتحوّل الآن: أن نقول، أن نفعل لنكتشف إنّ جديد الله هو جديد الإنسان.

 

ومما حفزنّي إلى كتابة هذا الموضوع، وأوقفتني ذكراها (متألماً ومتأملاً) ومن زمن بعيد (قبل عشرة أعوام) صوراً لحكاية مرّت على مسرح أيامي الغابرة. كانت بمثابة العقبة التي سرتُ عليها حتى بلغتُ قمة سعادتي لأنني لم أفعل غير مشيئة الآب السماوي وإبنه الفادي، ولم أتبع غير نداء الروح وصداه في قلبي. فكسرتُ قيودي حتى سمعتُ الحب منادياً ورأيتُ النفس متأهبةً للسير صوب ذلك النداء. نداء بعيد ونور أنبثق من داخلي بالفرح الذي أتمناه لجميع الناس. فرح "المحبة المتواضعة" التي قادتني لأرفع وأحمل خطيئة أخي (البعيد القريب والحاضر فيَّ) وأسكبها منحنياً وراكعاً، بالدموع والقبلات أمام القريب لأغسل له أرجله. لأن واجب المسيحي أن يكون سعيداً على الأرض وأن يعلّم سبل السعادة ويكرز بأسمها أينما كان. ومن لا يشاهد ملكوت السماوات في هذه الأرض لن يراه في الحياة الآتية.