موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٣ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

الانحياز الى الحياد

محمد السماك

محمد السماك

محمد السماك :

 

حتى يكون لبنان سويسرا الشرق حقًا، ليس بالمعنى الجمالي للطبيعة فقط، ولكن بمعنى فك الارتباط بالانقسامات والصراعات الاقليمية والدولية يتحتم دراسة التجربة السويسرية في ضوء الواقع اللبناني قبل الدعوة للإقتداء بها.

 

بنَتْ سويسرا حيادها على القواعد الآتية:

 

أولاً: القيام بدور لا تستطيع الدول الأوروبية الأخرى المتنافسة والمتصارعة أن تقوم به. وكان هذا الدور هو حماية الفاتيكان. ولا يزال الحرس السويسري يقوم بهذا الدور حتى اليوم. وهذا يعني أن الحياد لا يعني الانغلاق على الذات، بل المبادرة خارج الصراعات.

 

ثانيًا: الانفتاح على أصحاب الفكر الانساني في المجتمعات العربية، ليس إيواءً فقط، ولكن تشجيعًا أيضًا. فرسالة لبنان ليست إنغلاقية اختناقية، ولكنها رسالة عيش مشترك تحترم كرامة الانسان وحق الجماعة –أيّ جماعة- في الاختلاف والتمايز.

 

وهذا ما سبق أن فعلته سويسرا عندما احتضنت المفكر والفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، على سبيل المثال.

 

ثالثًا: استقطاب مؤسسات دولية لاتخاذ لبنان مقرًا لها. وهذا ما يتجسد في جنيف؛ فالمؤسسة الدولية الوحيدة الموجودة في بيروت (الاسكوا) يجري التعامل معها وكأنها عبء ثقيل. أما في سويسرا فان المؤسسات الدولية تتمتع بالرعاية والتشجيع مثل الصليب الأحمر الدولي، ومنظمة العمل الدولية، ومنظمة الصحة العالمية.. الخ. وبقدر ما يمثله وجود هذه المؤسسات الدولية من تأكيد وتعزيز للحياد السويسري، فان الدولة السويسرية توفر لها كل ما تحتاج اليه من رعاية وحماية.

 

رابعًا: لا يكون الحياد إعلانًا من طرف واحد. فحتى يكون الحياد محترمًا دوليًا، لا بد من إقراره دوليًا أيضًا. فسويسرا بنت صرح حيادها على مواثيق دولية، منها معاهدة باريس 1815، ومعاهدة لاهاي 1907. وهذا يعني أنّ حياد لبنان يحتاج الى معاهدة مع جامعة الدول العربية ومع منظمة الأمم المتحدة؛ وربما مع مؤسسات دولية اخرى مثل الاتحاد الأوروبي.

 

وهذا يعني انه لا يكفي أن يعلن لبنان حياده من جانب واحد. لا بد من أن يلتزم بهذا الحياد المجتمع الدولي. لقد أثبتت التجربة ان الحياد الذاتي كالحياد الذي اعتمدته إيرلندا 1937 أو الحياد النمساوي 1955، أو حتى الحياد المالطي 1980، يحتاج دائماً الى مظلة تحميه وتفرض احترامه.

 

خامسًا: لا يعني الحياد الإنكفاء على الذات والانقطاع عن الدول العربية الأخرى. فالدول المحايدة (النمسا وإيرلندا ومالطة) أعضاء في الاتحاد الأوروبي. ولبنان المحايد يبقى عضوًا في الجامعة العربية. فالذاتية اللبنانية أو الخاصية اللبنانية كانت موضع احترام عربي منذ تأسيس الجامعة، إذ أُعيد النظر في مشروع ميثاق الاسكندرية ليتوافق مع هذه الخاصية بعدم اتخاذ القرارات بالأغلبية بل بالإجماع. وهكذا عطّل لبنان اتخاذ أي قرار يعتبره تجاوزاً لخصوصيته القائمة على تركيبته المجتمعية المتعددة. وفعل ذلك من داخل النظام.

 

ولقد أثبتت الوقائع خلال العقود الأخيرة ان حياد لبنان ليس حاجة لبنانية فقط، بل انه حاجة عربية ايضًا. فالصراع في لبنان هو في جوهره صراع على لبنان.

 

ومع الحياد يستطيع لبنان أن يؤدي دوره في الأسرة العربية أيام السلم وحتى أيام الحرب. وهذا ما كانت تفعله سويسرا وفي اطار حيادها مع المجموعة الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن على العكس من ذلك جرى تحويل لبنان الى الجبهة العربية الوحيدة المفتوحة عسكريًا مع اسرائيل (قبل وبعد اتفاق القاهرة مع منظمة التحرير الفلسطينية، واليوم أيضًا قبل وبعد معاهدات الصلح المصرية - كامب دافيد، والأردنية – وادي عربة، والفلسطينية – أوسلو، وحتى بعد تسارع دول عربية أخرى الى الاعتراف باسرائيل وتطبيع العلاقات معها).

 

ليست التجربة السويسرية هي التجربة الحيادية الوحيدة في أوروبا. هناك تجارب بلجيكا وفنلندا والسويد خلال الحرب العالمية الثانية. ولكن لا ألمانيا احترمت حياد بلجيكا، ولا روسيا احترمت حياد فنلندا. وحتى السويد اضطرت –أو أُكرهت- على تصدير مواد ضرورية للصناعات العسكرية الى كل من طرفي الحرب. وحتى سويسرا ذاتها لم تسلم من الضغوط والضغوط المعاكسة . ذلك انه أثناء الحروب تُستباح كل المحرمات. لأن الحروب هي مسألة حياة أو موت (بقاء أو فناء) بالنسبة للمتقاتلين.

 

مع ذلك فان تكريس حياد لبنان، إن لم يوقف الصراع فيه، فانه قادر على ان يضعه في اطار الصراع عليه. وبذلك يبقى الصراع خارجيًا وبين الخارج، وفي الخارج، وتُطوى صفحة تحويل لبنان الى مسرح دامٍ ومدمر لصراعات الآخرين، وتتوقف عملية استنزاف الدم اللبناني لإرواء عطش المتصارعين.

 

سادسًا: إن الإلتزام بالحياد داخليًا وخارجيًا، يمكن ان يحوّل لبنان من مسرح للتقاتل التدميري، الى ملاذ آمن لرؤوس الأموال ولأصحابها – كما سويسرا.

 

عرف لبنان شيئًا من ذلك في الخمسينات من القرن الماضي بعد تهجير الشعب الفلسطيني من وطنه، وعرفها في الستينات بعد اجراءات التأميم التي اعتمدها بعض الدول العربية. فأقام أسس اقتصاده عليها. ولكن الانتقال بلبنان من الملاذ الآمن الى المسرح الدامي دمّر كل شيء، وأعاده الى نقطة الصفر.. أو الى ما تحتها.

 

سابعًا: بين الارتباط بأحد المحاور المتصارعة في المنطقة، والحياد عن هذا الصراع وفك الارتباط بالمتصارعين جملة وتفصيلاً، يكون لبنان أو لا يكون.

 

لقد أثبتت التجارب العديدة التي مرّ بها لبنان منذ استقلاله، ان انحيازه الى أي من المعسكرات المتصارعة في المنطقة كان بطاقة دخول الى جهنم. إذ سرعان ما يتحول لبنان ذاته الى مسرح لهذا الصراع . وربما الى المسرح الوحيد. حدث ذلك من خلال الصراعات: الفلسطينية–الإسرائيلية، الفلسطينية–السورية، الفلسطينية–الأردنية، السورية– الاسرائيلية، العراقية–السورية (صدام حسين – حافظ الأسد). وهو يحدث اليوم أيضًا من خلال الصراع العربي–الإيراني.

 

من هنا السؤال هل غير الحياد ينجي لبنان من شرور ومآسي هذه السلسلة من الصراعات المتواصلة بصورة أو بأخرى؟

 

صحيح ان الحياد ليس مجرد أمنية وطنية سهلة الإنجاز. وصحيح انه دون تحقيق الحياد كمّ هائل من الصعوبات والعراقيل، الا ان الصحيح أيضاً ان لبنان جرّب على مدى الخمسين عاماً الماضية كل أنواع الانحيازات لهذا الفريق أو ذلك ، وخسر فيها كل رهاناته . لم تبقَ لديه ورقة يطرحها سوى ورقة فكّ الارتباط بصراعات المنطقة والحياد عن المتصارعين والتمسك برسالته اليهم جميعاً ، رسالة العيش المشترك واحترام كرامة الانسان.

 

في الاساس لا حياد بين الحق الفلسطيني والباطل الاسرائيلي. ولكن الحياد يكون بين من يحتكر الصواب والحق ويتنكر لحقوق ومصالح الآخرين في أن يكونوا آخرين وأصحاب وجهات نظر أخرى، وبين من يعتبر رأيه قدسًا مقدسًا لا يحتمل أي شكل من أشكال المراجعة أو إعادة النظر، وكأنه تنزيل من عند ربّ العالمين.

 

كلٌ يقاتل ويتقاتل بإسم الله والله من ذلك براء. فلماذا لا نكون نحن على الحياد بين المتقاتلين؟

 

(جريدة اللواء)