موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٥ أغسطس / آب ٢٠٢٠

الأمُّ وجهٌ يعكسُ للبشرِ رحمةَ اللهِ وحنانَهُ

بقلم :
ميشيل فرنسيس - فرنسا
الأمُّ وجهٌ يعكسُ للبشرِ رحمةَ اللهِ وحنانَهُ

الأمُّ وجهٌ يعكسُ للبشرِ رحمةَ اللهِ وحنانَهُ

 

خلقَ اللهُ الكونَ بأسرِهِ وخلقَ الإنسانَ مِن فَيضِ محبَّتِهِ ليكونَ معينًا له في هذا الكونِ الفسيحِ. وحينَما يَكتشفُ الإنسانُ محبَّةَ اللهِ لهُ يشعرُ بالأسفِ على كلِّ لحظةٍ مرَّت ولم تَكُن لحظةَ حُبٍّ وانفِتاحٍ على الرَّبِّ المُحِبِّ. واكتشافُ الإنسانِ محبَّةَ اللهِ أسمى اكتشافٍ لهُ يتمُّ في عُمقِ أعماقِهِ ويُدركُ بعدئِذٍ أنَّهُ ما دامَ على أرضِ الغُربةِ هذهِ، فإنَّهُ في زمنِ التَّشوُّقِ والتَّحرُّقِ لذلكَ اليومِ الذي فيهِ يَمثُلُ أمامَ خالِقهِ ويراهُ وجهًا لِوَجهٍ.

 

وحينَ تغمرُ المحبَّةُ قلبَ الإنسانِ فإنَّها تجعلُهُ فرِحًا طربًا، وكذلكَ تجعلُهُ أحيانًا مَغمومًا لأنَّهُ لا يستطيعُ أن يكونَ الآنَ والمحبَّةَ معًا في حضورٍ مُكثَّفٍ وعميقٍ. فالحياةُ صعبةٌ على مَن اكتشفَ محبَّةَ اللهِ وباتَت نارُها تَلهبُهُ وتحرقُهُ، فهوَ يعيشُ استِشهادًا يوميًّا قبلَ أن يَدخلَ في عرسِ الأبديَّةِ. والسُّؤالُ: مَن عاشَ استشهادَ الحبِّ هذا وكانَ أكملَ مثالٍ في عَيشِهِ؟

 

نتذكَّرُ ماذا حدثَ منذُ واحدٍ وعشرينَ قرنًا خلَت. فقد شعَّ نورٌ على أرضِنا وما زالَ يُنيرُ الكثيرينَ مِنَ النَّاسِ وهذا النُّورُ هوَ السَّيِّدُ المسيحُ وهؤلاءِ النَّاسُ هم ذَوو الإرادةِ الصَّالحةِ. فما أعظمَ هذهِ الأُمَّ التي ولدَت لنا نورًا إلَهيًّا يُعطي نفوسَنا وأجسادَنا القوَّةَ والقُدرَةَ! ما أعظمَ هذهِ الأُمَّ بفضائِلِها لأنَّها استحقَّت أن تكونَ أُمًّا للهِ!

 

هذهِ الأُمُّ المِعطاءُ قد أُحيطَت بِهالةِ القداسَةِ لأنَّها تعكسُ لنا نحنُ الذينَ على الأرضِ ما في قلبِ اللهِ مِن عواطفَ نبيلةٍ وطاهرةٍ يحملُها لأبنائِهِ البشرِ. إنَّهُ الأبُ والأُمُّ في حنانِهِ وعطفِهِ وهوَ خالقُ الكُلِّ ومُعطي عواطفَ الأُبوَّةِ والأُمومةِ لكلِّ البشر. فأمومةُ العذراءِ مَثَلٌ ساطعٌ لاكتِشافِ محبَّةِ اللهِ وكذلكَ نرى في كلِّ أُمٍّ انعكاسًا لِجُزءٍ مِن رحمةِ اللهِ ومَحبَّتِهِ.

 

نعم قلبٌ صغيرٌ خُلِقَ لكلِّ واحدٍ منَّا ولكنَّهُ يُصبحُ قلبًا كبيرًا حينَما يُعطي ذاتَهُ عَن مَحبَّةٍ لقلوبٍ أخرى بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى عطفِ الأبِ وحنانِ الأُمِّ لِتكبُرَ بِدَورِها وتُعطي الحبَّ لغَيرِها.

 

وما أجملَ هذا الطِّفلَ الصَّغيرَ الذي بدأَت قدماهُ تطأانِ الأرضَ وأصبحَت شفتاهُ تنطقانِ بكلماتٍ هيَ لقلبِ والدَيهِ خَلقُ حُبٍّ جديدٍ. فعندَما يقولُ: أُمِّي أُمِّي تهرعُ الأُمُّ مُسرِعةً مُتقصِّيَةً ماذا يَطلبُ فلذةُ كبدِها، فتُعانقُهُ وتُقبِّلُهُ وكأنَّها وإيَّاهُ دخلَا في عالَمٍ جديدٍ لا تقدِرُ إلّا الخِبرةُ أن تقولَ ما هيَ حقيقتُهُ هذا العالَمُ. ففي لِقاءِ الأُمِّ بوَلدِها يَغدو قلباهُما يرقصانِ رقصةَ الفرحِ والسُّرورِ وهيَ عينُها رقصةُ يوحنَّا في بطنِ أُمِّهِ أليصابات عندَما سمعَ صوتَ أُمِّهِ الرُّوحيَّةِ يَطرقُ أُذنَي أُمِّهِ الجسديَّةِ.

 

فأُمومَةُ العذراءِ هيَ البابُ الذي منهُ انحدرَ إلهُنا وصيَّرَنا أولادًا لهُ، فكم يَغتبطُ أبونا حينَما يسمعُ مِن أولادِهِ بطهارةِ قلبٍ وصِدقِ نيَّةٍ كلمةَ أبي! فهل يتركُنا لوحدِنا بعدَها؟ لا، إنَّهُ يهرعُ إلينا ليُضمِّدَ جراحَنا ويُعزِّي نفوسَنا.