الأخ الأكبر وشريحة الدماغ

ذات مدرسة حاولت أن أحفظ الجدول الدوري بعناصره 105، وأشعار المتنبي. وحين نجحت في الأولى، وفشلت في الثانية؛ تمنيت لو أغرس ديوانه في تلافيف رأسي.

نسيت عناصر الجدول. ولكني أستطيع بثوانٍ أن أصل إلى أية قصيدة لشاعري الجميل ببركة الشيخ "جوجل"، ورعاية هاتفي الذكي. فأمنيتي المجنونة قبل 32 سنة متاحة الآن، ويستطيع أي منا أن يغرس في رأسه شريحة بحجم زر قميص حاشدة بمعلومات وأرقام وأشعار.

من شائعات جائحة كورونا، أن بيل غيست مؤسس مايكروسوفت أراد التحكم في البشر بزرع شريحة في أجسامهم، مع لقاح مقترح لكوفيد -19، ونسي الناس الشائعة، ولم ينتبهوا إلى ما تحقق قبل أيام عبر شركة "نيورالينك" المتخصصة في علوم الأعصاب، والتابعة للملياردير "إيلون ماسك" عن زرع شريحة كمبيوتر بحجم قرش معدني في دماغ خنزير، وهذا قد يحدث للإنسان.

الشركة تدعي أن هدفها المساعدة بعلاج حالات عصبية كالزهايمر والخرف وإصابات الحبل الشوكي. وهذا فتح كبير في سباق مسايرة الذكاء الاصطناعي الذي سيصبغ حياتنا القادمة، ولكننا نتخوف من أن هذا سيجعلنا عرضة للاختراق والتحكم، وأن يتحول الواحد منا إلى "روبوت" مسير، يسهل التجسس عليه، والتحكم بأفكاره وأعضائه وبرمجته إلكترونياً.

نحن نعيش عصر الانكشاف، حتى ليشعر الواحد أن كريات دمه متاحة لركلات عالم مجنون. نحن في بيت زجاجي، لا يُخفي شيئاً، ترصدنا وتقتنصنا الكاميرات أنى ولينا. فاحذار الأخ الأكبر وسلطانه السليط. ففي القريب سيتمنى الواحد لو أنه ما عاش ثورة الاتصال الخامسة، التي جعلت منه كائناً متاحاً يقطن على مقربة كبسة زر. أنت لا تستطيع الاختباء مهما أُتيت من خفايا وزوايا، وهذا يذكرنا بقصيدة للطفلة ميلان مورو: لو كانت الأرض مربعة الشكل، لوجدنا زاوية للإختباء. لكن الأرض كروية؛ وعلينا مواجهة العالم.  

عالمنا اليوم أصغر من القرية التي تنبأ بها العالم الكندي مارشال ماكلوهان، لا تغيب شاردة عن أحد أو واردة. كلُّ شيء مشاع ومتاح. من قتار الطعام إلى أسرار البيوت وهفهفات النفوس.

وهنا نتذكر الأخ الأكبر في رواية مزرعة الحيوانات لجورج أورويل الذي دلّل به على الكيفية التي تفرض السلطة هيمنتها على الناس فكراً ومراقبة، وتشيع أن الواحد منا مرصود من قبل الحاكم الجديد للمزرعة الخنزير الذكي (سنو بول).

إذن أنت أيها الإنسان مكشوف للجميع: للسلطات والشركات والأفراد. هم يعرفونك ويحفظون أسماء أطفالك، وصفوفهم الدراسية، وأمراضهم الوراثية، وعدد أزرار قميصانك. نحن نهيم في عالم بلا أسرار.