موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٠

أليوم، إلامَ يدعونا الله؟

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
هل الله لا يزال يدعونا وخاصة في هذا الزمن الإلكتروني والتكنولوجي؟

هل الله لا يزال يدعونا وخاصة في هذا الزمن الإلكتروني والتكنولوجي؟

 

من المؤكد أن كل إنسان مدعــو لحيــاة خاصة عبر مسيـرته الدنيوية الحيــاتية، وهذه المسيرة الخاصة بإمكاننا أن نسميها "دعوة"، وهي ناشئة من عمق إيمان الانسان إيمان الإنسان، وعليها يبرمج المدعو مسيرته إما في الكهنوت أو في الرهبانية أو التكريس أو البتولية أو الزواج أو أخرى، وما أكثرها. وقد كتب العديد من الأخوة المحترمين والاباء الافاضل مقالاتٍ وفصولاً وخاضوا في هذا الموضوع الحساس، ومعهم يسرني أن أخوض اليوم في هذا المضمار وفي هذا الزمن بالذات، فكل إنسان مدعو، يؤمن أن تلك رسالته الشخصية، اختارها بحريته الكاملة دون ضغط أو إكراه، إلا القلّة القليلة من البشر يُجبَرون على اختيار دعواتهم بسبب إرادات وطلبات كبارهم لأنها تتناسق مع مصالحهم ومراكزهم ومناصبهم ومستقبلهم، وتلك حقيقة مُرّة ومبتغى بائس، وأنقياد للرغبات الشخصية واستعبادٌ لأرادة الانسان ليس إلا.

 

والدعوة بذرة سماوية - حياتية مليئة بمحبة واهبها... إنها بذرة تحمل ثماراً يانعة كشجرة خضراء مثمرة. فالشجرة جميلة بمنظرها وحسنة بأوراقها وظلّها، ولكنها أجمل حين "تعطي ثمرها في حينه" (لوقا 42:12)، فهي غذاء للجياع وما أكثرهم، فبذلك ما هي إلا هبة يمنحها الله للمدعو، وهي تختلف من شخص إلى آخر وحسب ظروف حياته وعيشه وحقيقة إنسانيته وتربيته ومحبته. فالله يبادر ويدعو كل إنسان بحريته، والإنسان يجيب أيضًا بحريته واختياره حسب قول الرب يسوع "لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم" (يو 16:15). والمهم في هذه المسيرة أن يكون حاملها مخلصًا، وفيًّا، أمينًا، لا أنانيًا أو مصلحيًا، لذا فهي تحمل جوابًا شخصيًا وحساسًا لأنها مصير الإنسان، وعليها يبني المدعو حقيقته في أن يكون حرًا في اختياره... ليس إلا!.

 

كان هذا تعريف بسيط عن الدعوة والمدعو، وسوف لن أتطرق في هذا المقال إلاّ إلى المدعو إلى السلك الكهنوتي والرهباني والتكريسي، وحسب خبرتي ورسالتي المتواضعة، وقد تطرقتُ إلى نفس الموضوع - سرّ الكهنوت (بمناسبة السنة الايمانية التي أعلنها البابا بندكتس السادس عشر في 19 حزيران 2009 وحتى 11 حزيران 2010) واليوم وبعد أربعين سنة من الخدمة أسأل نفسي ودعوتي فما نحن إلا عائلة واحدة: هل الله لا يزال يدعونا وخاصة في هذا الزمن الإلكتروني والتكنولوجي والحاسوبي والفايروسي، ومرور الوطن بأحداث عديدة من حروب إلى حصار إلى احتلال إلى محاصصة مقيتة وطائفية بغيضة، وأخرى وأخرى؟ ليس إلا!.

 

في هذا الزمن كَثُرَ الحديث عن المدعوين في مسيرة الكهنوت، كما نحن اليوم بل في كل ساعة أمام خبر جديد، فالدنيا عرّفتنا وعلّمتنا كل شيء، وفتحتْ لنا أبواب الحياة والعلم والحاسوب "وبإمكان الإنسان، كل إنسان، أن يكون مدرسة لنفسه"، وهذا ما يقوله الإرشاد الرسولي "الكنيسة وتمييز الدعوة". والمدعوون يسألون أنفسهم: هل نحن في مسيرة مقدسة أم دنيوية عالمية؟، في مسيرة صائبة أم منحرفة؟، هل نحن في مسيرة صحيحة أم مشكِّكة؟، في مسيرة صادقة أم وظيفية؟، في مسيرة رئاسية أم مسيرة قيادية؟، وأسئلة عديدة تحمل كلها علامات استفهام وتعجّب أمام مجتمع متغيّر نحيا فيه ومعه، ونقاسمه مجالات لا تُحصى ولا تُعَدّ، ونشاركه أفراحه وأحزانه، صراعاته وآماله، وربما مآسيه، وما إلى ذلك.كما نعلم أن الوطن مرّ بأزمات الحروب والحصاروأرهاب القاعدة وأزلامها وإضطهاد داعش ومسيرته الوحشية والاحتلال، وفي هذه كلها قاسيتُ بوحدي مرارتها ومصابها وتبعياتها وعذاباتها ، ببقائي في العاصمة إيمانا مني بوفائي لدعوتي وعيشي لحقيقة رسالتي، ولا زال الوطن حتى الساعة يئنّ تحت نير الاحتلال والفساد والمحسوبية والمصلحة الكبريائية، وقد سبقته في ذلك العنصرية والطائفية التي عشنا أيامها وسنيها بالخوف والألم والفزع، وكذلك العنصرية والسياسة البائسة والفوضى الحياتية وفساد القيم واختيار مَن هو لمصلحتي، وفضح الأبرياء لغايات في النفوس، وشراء الدنيا ومناصبها، وبيع الحقائق وقدسيتها، بتقديس الدجل والكذب، واحتضان الفاسدين من أجل المصالح والغايات، وكأننا في زمن "بابل وبرجها حيث الله الخالق بَلْبَلَ لغة سكانها" (تك 9)، فنحن اليوم أيضًا مثلهم، لم نعد نفهم بعضنا بعضًا إلا غاياتنا ومصالحنا ورؤانا، وتلك حقائق الزمن وإنْ جمّلناها أحيانًا عبر عقولنا وبياناتنا وخطبنا ومواعظنا برفقة أصوات تهلّل وترنّم، وأيادٍ تصفق وأذرع تحضن، وهذه الأمور كلها تجعل من دعوتنا مشتراة أو مباعة حيث لا ندرك حقيقتنا "ولا تصل إلى نضجها الإنساني والإيماني والمسيحي والخدمي، ولا تسمح لنا أن ندرك حقيقتها بوضوح"، وإتمام نقاط مسيرتها لغياب الثقة والحقيقة والمحبة الخالصة وتفاقم الاحترام والتصفيق (مؤتمر الكنيسة وتمييز الدعوات؛ 9/11/2008)... ليس إلا!.

 

يحدثنا الكتاب المقدس عن شخصيات عديدة كأمثلة جريئة لمسيرة الدعوات المختلفة، فلنا في ذلك شخصان مثالان جديران بأن نتشبّه بهما وبحقيقة مسيرتهما وهدف رسالتهما وعمق إيمانهما وحبهما لخالقهما ألا وهما: النبي إيليا (الياس)، والصوت الصارخ (يوحنا المعمدان)، حيث كانا شاهدين وبكل جرأة مليئة برحمة الله ومحبته وبحقيقة الإنسان ودعوته، متّقداين بنور حب السماء وفي خدمة رب العلياء، وحملا رسالتيهما بكل جرأة إلى كل إنسان وإلى كل مَن ظلَّ طريق الحقيقة، طريق الإيمان والعبادة الحقة بروح النبوّة والالتزام الأمين. فالله يعرفهما وهما يعرفان الله حق المعرفة، ولم ينصاعا يوماً لأنانية الدنيا ولمصالح الزمن. وقد أكّد هذه المسيرة ربنا يسوع المسيح حينما جعل من هيرودس الملك، ثعلب الزمان (لو32:12)، ولم يساوم يومًا حنّان أو قيافا من أجل قدسية الهيكل وخلاص الإنسان كما لم يؤلهما يوما، ولم يلقِ يوماً عليهما حتى التحية، لأنه أدرك جيدًا أن مديح الناس ما هو إلا في حالات الزمن. فصاحب الفضيلة "ليس مَن عظَّم نفسه بل مَن عظَّمه الرب" (2 كو 18:10)، وإن الحقيقة ما هي إلا قبول مشيئة الله وتحقيق رغبته. ليس إلا!.

 

لذلك يتميز الإنسان -الذي خُلق على صورة الله ومثاله- بدعوته وأمانته وغيرته وعلاقاته النابعة من عمق الحقيقة الإنسانية عبر المحبة "مَن أحبّني يحبه أبي وعنده نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يو23:14)، فحيث نكون يكون الله أمامنا ومعنا وعوننا، مرافِقاً وملهِمًا لنكون علامة مميزة لاستمرار عمل الله في الإنسان، ومعلنًا ومنشدًا "حيٌّ الرب الذي أنا واقف أمامه" (2 ملوك 16:5). فالله اختارنا بنعمته، فهو دعانا وفرزنا من بطون أمهاتنا (غلا 15:1)، وبهذا الاختيار اعلمنا توما الاكويني "أنَّ عظمة وكرامة الكهنوت تفوق عظمة وكرامة الملائكة" من أجل ذلك أرسلنا في مسيرة الحياة وزوايا الألم لنعلن للشعب حب الله ورحمته كي نكون نحن رحمته "كونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم" (لو 36:6)، ورحمته تكون لجميع البشر ومن أي أمّة كانوا أو دين أو عِرق أو لون (2 كو 20:5 و2 كو 1:6-10)... فما نحن إلا سفراء وكما يقول البابا فرنسيس "ممثلين للمسيح الكاهن الأعظم" من أجل رعاية شعب الله". ليس إلا.

 

وإلى حلقة قادمة