موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣٠ مايو / أيار ٢٠٢٠

أرسِل روحَك أيّها المسيح، فيتجدَّد وجهُ الأرض

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
هلمَّ أيها الروح القدس، وأَرسل من السماء شعاع نورك

هلمَّ أيها الروح القدس، وأَرسل من السماء شعاع نورك

 

أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاءُ في المسيحِ يسوع. كلُّ عامٍ وأنتم جميعًا بخير ونعمةٍ وسلامٍ وبركة. هذا هو أحدُ العنصرة، وهو الأحدُ الأخيرُ من زمنِ الفصحِ المبارك، وهو اليوم الخمسون لقيامة يسوع من بين الأموات، وهو يومُ حلول الرّوح القُدس وعيدُ ميلادِ الكنيسة وذِكرى تأسيسها وَنَشأتِها.

 

كَما تجتمعُ في هذا الأحدِ المبارك ذكرى أُخرى عَطِرَة وجميلة، فاليوم خِتامُ شهرِ أيّار المريمي المبارك، وفيه قَدَّمنا أجملَ وأذكى باقة من صلواتٍ وحُبٍّ، نَسجنَاها خيوطًا وقَطَفناها حَبّاتٍ مباركة تَنهمِرُ بينَ أَيادِينا، وتنسدِلُ بين أَنَاملِنا، وتفيضُ مِن شفاهِنا، وَرديّاتٍ فوّاحةٍ مباركة. فيا مريمُ اشفعي فينا.

 

كلمةُ عنصرة هي كلمةٌ عبريّةُ الأصل (عَتصيرت) والّتي تعني اجتماعًا. فالرّسلُ، كما قَرأنا في القراءةِ الأولى من سفر أعمالِ الرّسل، كانوا مُجتمعين في مكانٍ واحِد، يومَ أُفيضَ الرّوحُ القدس عَليهم ساعةَ العَنصرة. أمّا الكلمةُ اليونانية (Pentacosteen) فتعني خمسين، لأنَّ الرّوح القدس حلَّ في اليومِ الخمسين بعدَ قيامةِ الرب.

 

مع عيدِ العَنصرة نُسدِلُ السّتارَ على الزّمنِ الفصحي المقدّس، ومَعَهُ نطوي صفحةَ الزّمنِ الأجمل. هذا الزمن الّذي احتفلنا فيه بالمسيح الحيِّ القائم، ثمَّ عايناهُ يومَ خميسِ الصّعود صاعِدًا إلى حيثُ كانَ قَد أَتى، وها نحنُ اليومَ نُبصِرُه مُتِمًّا وعدَه: بِأَن لَن يترُكنا يتامى، بل يُرسِلُ إلينا الرّوحَ المؤيّدَ والمعزي، روحَ الحقِّ البَارَقليط.

 

مع عيد العنصرة نحتفِلُ بعيدِ ميلادِ الكنيسة ونُحي يومَ نَشأتِها، هو ذكرى انطلاقَتِها. هو ذِكرى هذهِ الثّورة الإيمانية الّتي غَيَّرت وجهَ التّاريخِ وقَلَبت مَجرى الأحداث. ثورةٌ مُقدَّسة الّتي لا تزالُ نارها مُشتعِلةً ومستمرة حتّى هذهِ السّاعة، لأنَّ أبوابَ الجحيمِ لَن تَقوى عليها، فها أنا مَعكم طوالَ الأيّامِ حتّى انقضاءِ العالم. أممٌ سَقطت وحضاراتٌ اندثَرت وأَضحَت أطلالًا وممالكُ اِنقَرَضت وحواضرُ سُحِقَت ودولٌ انهارت ومذاهبٌ تَلاشَت. أمّا الكنيسة المقدّسة، صُنعُ اللهِ وعملُ يديه، وبالرّغمِ من كُلِّ ما يشوبُ جانبَها البشري من ضُعفٍ وانقسامٍ وتَرهُّلٍ وذنوبٍ وعَثراتٍ وسيّئات، إلّا أنّها لا تزالُ واقفةً صامدة، لأنّها بيتُ الله الّذي على الصّخر قد بُنيَ، وبابُ السّماء المفتوحِ على الملكوت. ولأنَّ اللهَ مهندسُها وبانيها، وَواضِعُ أُسُسِها وحاميها، وهو الّذي يقودُها بروحِه، يُرشِدُها بكلِمتِه، ويُقدِّسُها بنعمتِه وحضورِه.

 

عيدُ العنصرةِ هو عيدُنا نحن أيضًا. فنحنُ اعتَمَدنا في المسيح، والرّوحُ حَلَّ علينا ووَقفَ على كلِّ واحدٍ منّا، كما وَقَفَ على الرُّسلِ اليوم. فَمَلَأَنا من نِعمةِ حضورهِ، وَزنَّرَنا بروحِ البنوّة، وَجَعلَ منّا هياكلَ اللهِ الحي ومَقرَّ سُكناه.

 

هو عيدُنا نحنُ لأنّ الرّوح المؤيّد، زَيَّنَنا بمواهِبِه السّبع، وأخصَبَنا بثمارِه اليانِعة. أمّا مواهبُ الرّوح القدس فهي: الحكمةُ والفَهمُ والمشورة والقوّة والعلمُ والتّقوى ومخافةُ الله. وقَد جاءَ ذِكرُها في سفرِ أشعيا النّبي، في الفصلِ الحادي عشر. أمّا ثمارُه فهي: المحبةُ والفرحُ والسلام، والصبرُ والّلطف وكَرمُ الأخلاق، والإيمانُ والوداعةُ والعفاف، وَقَد ذَكَرَها بولسُ في رسالتِه إلى أهل غلاطية، الفصلِ الخامس.

 

أودُّ اليوم أيضًا أن أوضّح المعنى الصّحيح لكلمة (البارقليط). ماذا تَعني هذهِ الكلمة وإلى مَن تُشير؟ هذهِ الكلمة هي وَصفٌ استخدَمَهُ يسوع في إنجيل يوحنا، أربع مرّات للإشارة إلى الروح القدس. والكلمةُ اليونانية هي (Parakletos-αράκλητος) والّتي تُرجِمت في النُّسخة العربية للإنجيل بكلمة (المؤيّد). "وأنا سأسألُ الآبَ، فيهبُ لكم مؤيِّدًا آخر، يكونُ معَكم للإبد" (يوحنّا 16:14). أمّا الكلمةُ الّلاتينيّة فهي (Consolator) ومنها أتت الكلمة الانجليزية (Consolation) بمعنى عزاء أو مواساة. فالرّوح القُدس هو المُعزّي أو روح المواساة، الّذي يأتي لنجدةِ ضُعفِنا، كما يقول بولس في رسالتِه إلى أهل روما (26:8 أ). وِمن معاني البارقليط أيضًا (Advocate) أي الرّوح المحامي أو المُنجِد، الّذي يُرافِعُ ويُدافِعُ عنّا "فَلَستُم أنتم المُتَكلّمين، بَل روحُ أبيكُم يَتكلَّمُ بِلِسانِكُم" (متّى 20:10). و(Intercessor) أي روحُ الشّفاعة، لأنّ الرّوحَ يشفعُ لنا بأنّات لا توصف (روما 26:8 ب).

 

أيُّها الأحبةُ جميعًا، في يوم العنصرة كان الرّسلُ مجتمعينَ كلُّهم في مكانٍ واحد! هذهِ الجُملة الّتي تصِفُ حالةَ الرّسل، تحملُ دلالاتٍ كثيرة. كانوا مُجتمعين! واليوم، كيف هو حالُ المسيحيّين؟! هل لا يزالونَ مُجتمعين؟! كلّا. بل هم مُبعثرون، مجزّؤون، مُقسّمون، مُشتّتون، مُتخاصِمون، مُتشرذِمون. كلٌّ يُغنّي على ليلاه، وكلٌّ يعزِفُ على هواه. خصامٌ لا وِئام، شِقاقٌ لا اتّفاق ولا وِفاق. شرقٌ وغرب، شمالٌ وجنوب، مِلل، طوائِف، مذاهب، وأحيانًا بِدعٌ وخُزعبلات.

 

مؤسفٌ هو حالُ الكنيسةِ بِجُزئِها البَشري وبِشقِّها الإنساني. وليتَ الأمر يتوقّف عندَ هذا الحد، ولا نَراهُ أحيانًا يتطوّر إلى تراشُقٍ وتلاسُنٍ وتشابُكٍ مؤسف بينَ الإخوة، وأحيانًا بما يَندى له الجبين. فتعِنُّ على بالي كلماتُ بولس موبِّخًا أهل قورنتوس: "أُناشِدُكُم أَيُّها الإِخوُة، أَن تقولوا جَميعًا قَولاً واحِدًا، وأَلَّا يَكونَ بَينَكُمُ اختِلافات، بل كُونوا على وِئامٍ تامّ، في رُوحٍ واحِدٍ وفِكرٍ واحِد. فقَد وَرَدني أَنَّ بَينَكُم مُخاصَمات، أَعني أَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنكُم يَقول: أَنا لِبولُس، وأنا لأَبُلُّس، وأَنا لِصَخْر، وأَنا لِلمسيح. أَتُرى المسيحُ انقَسَم؟! أَبولُسُ صُلِبَ مِن أَجْلِكُم؟! أَم باَسمِ بولُسَ اعتَمَدتُم؟!" (1قورنتوس 10:1-13)

 

نسألُ روحَ الرّب أن يملأَ جوانبَ الكنيسةِ بِعنصرةٍ جديدة، تُعيدُ إليها لُحمَتَها والتحامَها، وَحدَتَها واتِّحادِها. وأن ينبِذ جميع أشكالِ التّعصّب والتّحزّب، والخِصامِ والانقِسام. لنكونَ قلبًا واحدًا، وَفِكرًا واحدًا، في المسيحِ الواحد، يجمعُنا روحٌ واحد، على مذبحٍ واحد، لنتناولَ جميعًا من الخبزِ والكأسِ الواحد.

 

إنَّ أعذبَ ابتهالٍ وأحبَّ دُعاءٍ على قلبي، هو ذلكَ الّذي نتلوهُ إلى الرّوح القُدس، كلَّ أحد قبل بداية القدّاس الإلهي. وأودُّ أن أُصليّه وإيّاكم.

 

((هلمَّ أيها الروح القدس، وأَرسل من السماء شعاع نورك. هلمَّ يا أبا المساكين، هلمَّ يا مُعطي المواهب. هلمَّ يا ضياء القلوب، أيها المعزي الفائِق، يا نزيل النّفس الّلطيف. أيّها الفرج العذب. أنتَ في التعبِ راحة، وفي الحرِّ اعتدال، وفي البكاء تعزية. أيها النور الطوباوي، اِملأ باطن قلوب مؤمنيك. بدونِ نعمتِك، لا شيء في الإنسان، لا شيء فيه طاهر. طَهّر ما كان دنسًا، اِروِ ما كان يابسًا، اِشفِ ما هو سَقيم، لَيِّن ما هو صلب، أَضرِم ما هو بارد، قَوِّم ما هو زائِغ. أعط مؤمنيك المتكلينَ عليك المواهب السبع، هَب لهم ثواب الفضيلة، آتِهم الخلاصَ والفرحَ الدّائم. آمين))