موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٤ فبراير / شباط ٢٠٢٠

أربعاء الرماد وبداية الصوم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
أذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود

أذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود

 

الإنجيل متى 6: 2-6 و16-18

 

"إن صمت فلا تظهر للناس أنك صائم"

 

من منّا يريد أن يجلس في بيته مُكَتَّفَ اليدين لمدة سبعة أسابيع لا يأكل ولا يشرب. فهل هذا هو المفهوم للصوم، الذي نبتدأه اليوم، ويدوم إلى يوم عيد الفصح؟ هل هذا منطقي أو معقول؟ أنه ممكن الإنقطاع عن الطعام لمدة معينة، يعرفها علم الطّب (أقصاها 48 يوما و4 أيام بلا الماء و8 ثواني بلا تنفس الهواء، لكننا لا نقدر أن نعيش ثانية واحدة بعيدين عن الله). فهل هذا هو الصيام أو الصوم الكنسي؟ أي الإنقطاع عن الأكل والشرب حتى الموت؟ إذن لا يجوز تسمية هذه الفترة بفترة الصيام، بل بفترة الموت والدفن في النهاية. وهذا أيضا غير مقصود ولا معني.

 

يقول كِتاب الحكيم كوهيليت: لكل شيء وقته. وإذن للأكل والشرب وقته، وللصوم عنهما أيضا وقته. والآن حان وقت الصوم المبارك، الذي كان له اهمّيته عند الأجيال السابقة، لأنهم كانوا يعتبرونه من صلب الإيمان والحياة المسيحية، ويتمسكون به بكل جدِّية، وكان أسهل عليهم منه علينا، إذ ما كان عندهم قبل كل شيء ارتباطات ومواعيد مثل اليوم، وصرف الطاقات فالحاجة إى غذاء متكرر في العمل، كذلك ما كان عندهم لا راديو ولا تلفزيون، لا سيارة ولا دراجة، لا ثلاجة ولا أشياء محفوظة  في الفريزر، وما كان الطبّاخون أو ربّات البيوت يعرفون وصفات الطبيخ الكثيرة وأشكالها المعروضة بكمّيات في الحوانيت اليوم، بل كانت قائمة الأطعمة في الصيام من قوانين الكنيسة المعروفة ومقتصرة على مواد الطعام الموجودة في الأسواق آنذاك، وما كان ذلك بمشكلة للناس إن لم يجدوا كل يوم نوع طبيخ مُغري، بل كان تحضير وتقديم الطعام البسيط هو القاعدة. فمن ذكريات طفولتي في قرية صغيرة في االأردن، حيث ما كان فيها أي سوق تجاري بل فقط  بعض الباعة من الفلاحين المتجوّلين مع حميرهم، أن أكثر العائلات كانت تطبخ نفس الظبخة، إن لم يكن للغداء فللعشاء.

 

أمّا اليوم، فقد اختلفت الأوصاف واختلفت التعلييمات الكنسية بسبب تفرّق الدبانات الداخلية، حيث صار لكل اتّجاه ديانة، تعليمُها وقوانينُها، لتسمية وممار سة الصوم في هذه الفترة المحدّدة، حتى عيد الفصح. هذا وبالتالي فإنّ الكنيسة أعني بها اللاتينية، هي المسؤولة عن تبديل أو تطويل أو تقصير قانون الصوم العام، وقد كان أخر تجديد أدخلته عليه واقتصاره الملزم على يومين وللبالغين فقط، بعد انتهاء المجمع الفاتيكاني الثاني. هدفها الأول هو تذكير الناس بأنهم وحياتَهم لا معنى لها إن لم يكونوا مرتبطين مع الله الذي يؤمنون به، وعبادته بل وتكريمه بشكل خاص في أزمنة معينة. لذا فمن الضروري من وقت لآخر، أخذ الوقت للصلاة والتعبد الهادئ، مثلما كان يسوع يعمل، حيث نقرأ: واختلى يسوع تلك الليلة وحده للصلاة. وكان يناجي أباه. وصعد إلى الجبل وصام 40 يوما وليلة في البرّية (متى 4: 2). إذ الحياة لا تقوم فقط على الأكل والشرب، وتضييع الوقت بالركض وراء الأفراح والملذّات الدّنيوية ،التي قدّمها المجرِّب ليسوع وحاول إغراءه بها، وهي اللذات الجسدية وحب المال والثروات الدنيوية، وبالتالي الإنحراف وراء أمجاد العالم الباطلة، لا، إن للحياة  معنى وهدفاً مُهمّين، وهما الإهتمام والإستماع لكلمة الله والعمل بها، إذ هو مكتوب: ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله(متى 4.4). فزمن الصوم هذا يقدر أن يساعدنا لفهمهما ولتحاشي الطرق المغلوطة، والسير على الطريق الصحيح. نعم هذا الزمن يجب أن يُشعِرنا بجوعٍ حقيقي لكلام الله الحي: إذ هو كلام الحياة الأبدية (يو 6: 67) الخمير العتيق يجب أن يزول من نفوسنا، ويجب أن نبدله بخميرة جديدة. وبلغة سر المعمودية أن نخلع الإنسان العتيق ونلبس الجديد.هذا وزمن الصوم هذا هو ملائم. عندما جاء التلاميذ بطعام على حافة بئر يعقوب وقالوا لسيدهم: كُلْ! قال لهم، لي طعام آخر آكُله، أنتم لا تعرفوه. طعامي هو أن أعمل مشيئة الّذي أرسلني"(يو 4. 34).

 

أمّا ماذا يحدث في هذا الزمن ولماذا لا نزال نسميه زمن الصيام، علما بأن الصيام عن الطعام والشراب ما عاد المحور الرئيسي فيه، من بعد ما اقتصرته الكنيسة، تجاوبا مع ظروف المجتمع، على يومين إلزاميين فقط، هما اليوم، أربعاء الرّماد أي أول يوم للصيام، واليوم الثاني هو الجمعة الحزينة، وراحت تطلب من النّاس ممارسة ما سمّته، الصوم الروحي، فقد اختلفت الآراء حوله، وراح من الصعب تفهيمه للناس، بالرغم من أنه لا يزال في الكنيسة من أهم أزمنة السنة الليتورجية، حتى وإن كان لا يتميّر بدعاية شعبية خارجية، مثل زمان الميلاد. فلا الناس عادوا يأخذونه بمأخذ الجد، ولا هو يميّز حاله بعلامات خارجية مثيرة تهمُّ الكل، مثلا شراء الهدايا كما في عيد الميلاد، منها الصلاة المُكثّفة وقراءة التوراة في هذه الأيام، والإمتناع عن أمور عالمية تقودنا إلى التّعرض لمخالفة وصايا الله. وفي نهاية الصوم تنادي الكنيسة المؤمنين، أن يُظهروا علامة تضامن، بديلة عن الإمتناع عن الأكل والشرب، بلتنصح بتكليله بتبرّع مالي لمشروع معيّن، خارجا عن نطاق البيت، بل لمشروع مفيد في بلد فقير، لمساعدة الفقراء والمحتاجين عادة في آسيا وأفريقيا. وهذا فعل محبة مقبول عند الله، إذ محبّة الله وحدها لا تكفي، إذا لم ترتبط أيضا بمحبة القريب. أما قال أشعيا في الرسالة:عن الصوم :هو أن تكسر خبزك للجائع وأن تعتق رباط المساجين وأن تُدخل المسكين التائه إلى بيتك (58. 7).

 

نعم قد أجهدت الكنيسة نفسها بعد تخفيف قوانين الصوم الخارجية، بالمحافظة عليه كصوم روحي له قيمته، وتفهيم الناس، ما هو المعنيّ بكلمة الصوم الروحي، وقالت هو ليس التوقف أو الإنقطاع عن الأكل لساعات معينة في اليوم، إذ هذا هو المعنى الضيّق لكلمة الصوم، وإنما الإجتهاد الروحي بمقاومة الشر، المخيِّم علينا وعلى نفوسنا، والتوبة عن ماضينا. ثم تحثنا على اكتشاف القوة الداخليىة فينا بحيث نسلِّم السلطة للإرادة والرّوح، لإضعاف سلطة الشر فينا. الصائم لا يريد أن يُظهر قوة جسدية وإنما قوّة روحية كامنة فيه، بمقاومة الشرَ ومغرياتِه. فيستطيع كل صائم أن يقول كبولس: إني أقدر على كلِّ شيء بالّذي يُقوّيني.

 

انتشر قانون الصوم، أعني الإنقطاع عن الأكل والشرب، في الكنيسة والعالم المسيحي منذ القرن الخامس للمسيح، كعلامة تحضير خارجية لعيد الفصح. لذا فهو كان مربوطا أيضا بواجبات دينية كالإعتراف والمناولة في تلك الفترة، أقلّه مرة في السنة، ولو ما كانت الكنيسة تسمّية مثلما تسميه اليوم زمن التوبة. أيام التوبة مع الإنقطاع عن أكل اللحوم كانت أيضا يومي الأربعاء والجمعة. الأربعاء حتى لا يغرب عن بالنا أنه يذكِّرنا ببداية الصوم، أما يوم الجمعة فهو تذكير بموت المسيح على الصليب في ذلك اليوم. هذا ولا ننسى واجب التأمل في عذاب المسيح، لذا كانت صلاة درب الصليب من ضمن الإحتفالات الدينية خاصة كل يوم جمعة من زمن الصيام، وذلك لإعطاء المسيح الإمكانية ليتملك نفسنا بتقربنا إليه. وواجب مهم يبرز أثناء الصيام، مثلما ذكرت، وهو إعطاء حسنة للفقير، وهي ما كان معروفا بالعُشر، وقد وضعتها الكنيسة اليوم بشكل تبرع سخي ممن يقدر للقيام بمشاريع في كنائس العالم والأبرشيات الفقيرة.

 

إن الكنيسة لم تحذف قانون الصوم نهائيا بل توصي به دائما اختيارياً، لمن يريد أو يقدر، دون الإضرار بالصحة. وما نلاحظه أن كثيرين يمارسونه اليوم لا بمعناه الديني ولكن لفائدته الصّحيّة التي أوضحها علم الطب. فراح الناس اليوم يمارسون الصيام بشدة وغير مرتبطين بوقت مُعيّين، وذلك للتخلص من السمنة وتخفيف الوزن. إن هذا الصوم لا قيمة له دينيا إلا من طر ف بعيد، أي المحافظة على الحياة بشكل سليم، لأن الله هو الذي منحنا حياتنا، لذا يجب الإعتناء بها، وهذا ملزم ليس فقط وقت الصيام. هذا ولا ننسى بأنّ صوم الجسد عن المأكولات لا قيمة له إن لم يرافقه صوم العقل عن الشرور والخطايا الكامنة فينا. فالصوم الحقيقي هو الصوم عن الخطيئة وإهانة القريب والغريب وعن كلِّ ما يأتي من القلب، كما قال يسوع:" من باطن الإنسان، ومن قلوبهم تنبعث المقاصد السيئة والفحش والسرقة والقتل و الزنى والطمع والخبث والحسد والكبرياء. جميع هذه المنكرات تخرج من باطن الإنسان (مر 7: 21).

 

بالتالي إنّ الذين يمارسون الصوم لأسباب صحية، يخبرون كم يحتاج الواحد من قوة الإرادة والتضحية حتى يصلوا إلى الوزن المثالي ليمدحهم الناس. فيا حبذا لو هؤلاء يمارسونه بمعناه الديني، لكان لصومهم قيمة أعلى حيثق ننتصر على شرور كثيرة فينا. إذ الصوم هو كالتدريب الرياضي لتعليم طرق جديدة في مكافحة الشر، والتّسلّط على الضعف فينا والعيش ضمن حدود دينية مقبولة، والإلتزام بإظهار مفعول إيماننا على أرض الواقع.

 

بداية الصوم مرتبطة بعلامة تواضع ألا وهي رش الرماد على جبيننا، منذ القرن العاشر، ومن هنا الإسم أي أربعاء الرماد وهو يعود إلى العصور الأولى حيث كانت الكنيسة تهتم كثيرا بتوبة الخطأة ذوي الآثام الكبيرة، فتجمعهم مرة واحدة في السنة، يمضون الفترة بأعمال توبة وصيام صارم، لا يحق لهم الإشتراك بذبيحة القداس، إلى ليلة العشاء السرّي، أو ما نسمّيه بخميس الأسرار، حيث كانت تحلهم من أثامهم ويشتركون في ذبيحة القداس ويتناولون جسد المسيح، فيرجعون مصطلحين مع ربهم ومُبرَّرين إلى بيوتهم وعائلاتهم. وكعلامة بداية صومهم وتوبتهم الخارجية، كانت الكنيسة ترشُّ رؤوسهم بالسكن أو بما هو معروف بالرّماد، وارتداء لباس قاسٍ، يذكِّرهم بالألم الذي سببوه لجسد يسوع بألمه على الصليب.

 

هذا وإنّ قبول الرماد يعني ايضا علامة توبة، كانت الكنيسة تُعبِّر عنها بحمل لباس جماعي بسيط ، كما فعل شعب نينوى حين جاءهم النبي يونان وأنذرهم، فتابوا وعلى رأسهم الملك نبوكنصّر، بحيث ألقى بتاج الملك عن رأسه ولبس الأرجوان، وأبدله بلبس المسوح وانصاع كل الشعب للإقتداء به ، فعفاهم الرب وعفى مدينتهم نبنوى من الدمار والخراب. وهنا حدث اختيار اللبس البنفسجي البسيط في الكنيسة طيلة هذه المدة كعلامة التوبة. أما من أدخل طقس رش الرّماد على الرؤوس فكان البابا أوربان الثاني عام 1091.

 

وهذا يذكرنا بقصر الحياة بل بزوالها، فكما أن الغصن الأخضر يصبح رمادا بحرقه ، كذلك حياتنا هي ليست مؤبدة بل محدودة، وبما أننا من التراب أُخِذنا، فإلى التراب سنعود، كما تقول لنا الكنيسة حين ترشم جبيننا بالرماد: أذكر يا إنسان أنك تراب وإلى التراب تعود. فبما أن مصيرنا بالتالي هو نهاية الحياة، فتريد الكنيسة تشجيعنا لاستغلال فترة الحياة لأعمال خيرية، تكون كرصيد لنا أمامنا، كما قال المسيح: إكنزوا لكم كنوزاً في السماء. نحن، كلُّ واحدٍ منّا، وليس أي كائن آخر سيؤدي حسابا عن نفسه، وعما يقوم به من خير أو شير. فهذا هو الوقت الذي نستطيع فيه أخذ زمام حياتنا، بصومنا الروحي عن الشر، فنصلح ما فسد فينا وفي كل مكان نعيش فيه، لنحصل على الخلاص، الذي سيقدمه لنا يسوع في آخر حياته بموته على الصليب، لنقوم معه إلى الحياة الأبدية. آمين