موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٨ مارس / آذار ٢٠٢٠

يسوع وشفاء الأعمى منذ مولده في سلوان

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
أيها الرب يسوع، تتطلع إلينا بعينيك كما تطلعت إلى المولود أعمى! اقلب ظلامنا نورًا، واشفِ بحبك قلوبنا وبصائرنا

أيها الرب يسوع، تتطلع إلينا بعينيك كما تطلعت إلى المولود أعمى! اقلب ظلامنا نورًا، واشفِ بحبك قلوبنا وبصائرنا

 

الأحد الرابع من الزمن الأربعيني (يوحنا 9: 1-41)

 

ينفرد إنجيل يوحنا في رواية شفاء الأعمى منذ مولده (يوحنا 9: 1-41) التي حدثت لأول مرة في تاريخ البشرية كي يُعلن عن شخص يسوع أنه إنسان (يوحنا 9: 11)، ونبي (يوحنا 9: 17)، ورجل الله (يوحنا 9: 33)، و"ابن الانسان" (يوحنا 9: 35)، وربٌ مستحقٌ للسجود والعبادة (يوحنا 9: 38)، انه جاء يفتح بصر العين وبصيرة القلب، ليكشف للناس عن نور الايمان والحق والحياة والخلاص، وفي نفس الوقت ليفضح عمى القيادات المُرائية المتعجرفة التي لم تستطع أن تكتشف عماها الروحي وخطاياها؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 9: 1-41)

 

1 وبَينَما هو سائِرٌ رأَى رَجُلاً أَعْمى مُنذُ مَولِدِه.

 

تشير عبارة " سائر" في الأصل اليوناني παράγων (معناها مُجتازا) الى اجتياز يسوع في وسط القيادات اليهودية عند مدخل الهيكل في اورشليم او على القرب منه حيث كان يجتمع المتسوِّلون (أعمال الرسل 3: 2)، متواريا عن القيادات اليهودية، لأنهم حملوا حجارة لكي يرجموه (يوحنا 8: 59)؛ أمَّا عبارة " رأى" فتشير الى نظْرة يسوع للرجل الأعمى لا كما ينظر الآخرون إليه، إنما بروح الحب والترفق، وأحبَّه وأتى اليه كما جاء في أشعيا "إِني آعتَلَنتُ لِمَن لم يَسألوا عَنِّي، ووَجَدَني الَّذينَ لَم يَطلُبوني. قُلتُ: ((هاءَنَذا هاءنَذا)) لِأُمَّةٍ لم تَدعُ بِآسْمي" (أشعيا 65: 1)؛ أمَّا عبارة "رجل أَعْمى" فتشير الى انسان محروم من نعمة البصر أي الإدراك الحسي للضوء المرئي، وكما يقول أيوب البار "لِمَ يُعْطى لِلشَّقِيِّ نور وحَياةٌ لِذَوي النُّفوسِ المُرَّة " (أيوب 3: 20)، ولم يذكر الانجيل اسم الأعمى، ومع ذكر تكرّرت لفظة أعمى 12 مرة في الفصل التاسع من إنجيل يوحنا نظرا لأهمية شخصيته. ويُعلق القديس أوغسطينوس " الأعمى منذ مولده هو رمز الى كل انسان، حيث إن كان الشر قد وجد له جذور فينا، فإن كل إنسانٍ ولد أعمى ذهنيًا. لأنه إن كان يرى فعلًا، فلا يحتاج إلى قائد. وإذ كان يحتاج إلى من يقوده ويُنيره، فهو إذن أعمى منذ مولده". ويضيف "فمَن لم يولد أعمى؟ بمعنى عمى القلب. ولكن الرب يسوع الذي خلق الاثنين يشفي الاثنين". اما عبارة " مُنذُ مَولِدِه " فتشير الى كونه وُلد أعمى لم يبق من أمل ان يبرأ بواسطة بشرية، لذلك كان شفاؤه في عيون الشعب أعجب من شفائه لو انه عُمي بعد البصر.

 

2 فسأَلَه تَلاميذُه: ((رابِّي، مَن خطئ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟)).

 

تشير عبارة " مَن خطئ، أَهذا أَم والِداه، حَتَّى وُلِدَ أعْمى؟" الى سؤالٍ كان موضوع بحث عند اليهود واختلفت فيه أراء علمائهم. لكنهم اتفقوا على ان ينسبوا كل المصائب الأرضية الى خطايا الناس (لوقا 13: 1-4)؛  امَّا عبارة  "مَن خطئ" فتشير الى استفسار التلاميذ عن عِلة ميلاده أعمى، لانَّ معلمي اليهود يرون أنه توجد علاقة بين الخطيئة والمرض كما جاء في المزامير" جُروحي أَنتَنَت وقاحَت مِن جَرَّاءِ حَماقتَيْ "(مزمور 38: 6) وان هناك علاقة بين الخطيئة والموت ايضا؛ فهناك قول مأثور للربَّانيين "ليس موت بدون خطيئة، ولا ألم بدون شر"؛ وقد حاول الربَّانيون تبرير ذلك بما ورد في تعليم حزقيال النبي "النَّفْسُ الَّتي تَخطَأُ هي تَموت" (حزقيال 18: 20)، وهذا الأمر يوضِّح ما قاله التلاميذ لم يكن من وحي خيالهم، بل كان تعليمًا راسخًا في أذهان الكثير من اليهود. أمَّا عبارة " أَهذا" فتشير الى الأعمى الذي أخطأ وهو في حشا أمِّه في أثناء الحَمْل، قبل ولادته. وبيّنت الشريعة هذه العلاقة في صراع بين عيسو ويعقوب في أحشاء أُمهما " أصطَدَمَ الوَلَدانِ عيسو ويعقوب في جَوفِ امهما رفقة" (التكوين 25: 22)، وجاء صاحب المزامير يؤكد ذلك "إِنِّي في الإِثْمِ وُلدتُ وفي الخَطيئةِ حَبِلَت بي أُمِّي"(مزمور 51: 7). أمَّا عبارة " أَم والِداه " فتشير الى اعتقاد أكثر اليهود ان علة مصائب الأولاد قبل الولادة تكمن في خطايا والديهم مستندين على شريعة موسى "لإِنِّي أَنا الَرَّبُّ إِلهُكَ إِلهٌ غَيور، أُعاقِبُ إِثمَ الآباءِ في البَنين، إِلى الجِيلِ الثَّالِثِ والَرَّابِعِ، مِن مُبغِضِيَّ " (خروج 20: 5)، فاعتقد بعض الربَّانيين ان عقابا جزائيا لخطايا الآباء يلحق بالأبناء، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لقد تحدث التلاميذ هنا لا ليسألوا عن معلومات قدر ما كانوا في حَيْرة". كيف يكون قد أخطأ قبل ولادته حتى يُولد هكذا، ألعلَّ هذا بسبب خطيئة والديه؟ وما ذنبه هو ما دامت الخطيئة ارتكبها أحد الوالدين؟  والواقع، إن مصائب البشرية نتيجة معصية آدم كما جاء في التوراة (التكوين 3: 16-19) ويؤكد بولس الرسول ذلك بقوله " فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَت في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ المَوت، وهكذا سَرى المَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا" (رومة 5: 2). لكن اليهود جعلوا المصائب نتيجة خطايا شخصية.

 

3 أَجابَ يسوع: ((لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله.

 

تشير عبارة "لا هذا خَطِئَ ولا والِداه" الى رفض يسوع معالجة الموضوع كمشكلة للبحث.  ولم يُجبْ يسوع على السؤال، لكنه اعتبر المرض كفرصة ليُعلم عن الايمان وليُمجِّد الله (يوحنا 5: 14، 11: 4)، حيث وجَّه السيد المسيح أنظار تلاميذه إلى عناية الله الفائقة وخطَّته الخفيَّة، عوضا عن إدانة المولود أعمى أو والديه. سمح الله بعمى البصر لكنه وهب الأعمى منذ مولده البصيرة الروحية كي يُمجِّد الله بشفائه؛ فالله لا يتعامل مع خطيئة الإنسان في الأرض بنيَّة العقاب، بل بنية الشفاء. لكن لم ينكر يسوع في هذا النص ان خطايا الوالدين قد تجلب على أولادهم الامراض والموت (خروج 30: 5)، ولم يُنكر أيضا انه قد تكون بعض الخطايا علِة بعض المصائب او الامراض (مرقس 2: 5) كما ورد في التوراة (الاحبار 26: 16)، لكنه نفى ان يكون عُمى هذا الرجل من هذا الباب.  أمَّا عبارة " لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله" فتشير الى المرض كفرصة لإظهار مجد الله وقدرته تعالى في عمل الله بمنح هذا الرجل السلامة الجسدية التامة لكي يُثبِّت دعوى يسوع أنه المسيح وأنَّه نور العالم وينال الأعمى بشفائه الايمان بالمسيح وخلاصه. وأعمال الله هي عمل شفاء وتحرير وخلاص. ومن هنا علينا ان نتساءل ليس من اين اتى الألم؟ ولكن ماذا نعمل ازاءه، ليصير الألم فرصة لعمل الله؟ قال الرب الى بولس الرسول لما جُعِلَ له شَوكَةٌ في جَسَده “حَسبُكَ نِعمَتي، فإِنَّ القُدرَةَ تَبلُغُ الكَمالَ في الضُّعف" (٢ قورنتس 12: 9). يقول قائل: لماذا نعاني من أجل مجد الله؟ فيجيب القديس يوحنا الذهبي الفم "الحياة الحاضرة ليست شرورًا، ولا الخيرات هي صلاح. الخطيئة وحدها هي شر، أمَّا العجز فليس شراً".

 

4 يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني. فاللَّيلُ آتٍ، وفيه لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل.

 

تشير عبارة "يَجِبُ علَينا " في صيغة الجمع الى تعاون الآب والابن او وحدة الحال القائمة في الجماعة المسيحية التي كانت تعدّ عملها امتدادا لعمل المسيح، يسوع مع تلاميذه، مع كنيسته، فعمل الكنيسة هو امتداد لعمل المسيح. لكن عمل يسوع وعلاقته بالآب هما على مستوى مختلف تماما عن علاقته بتلاميذه كما صرّح يسوع " إِنَّ أَبي ما يَزالُ يَعمَل، وأَنا أَعملُ أَيضاً" (يوحنا 5: 17). أمَّا عبارة "يجب" فتشير الى التزام المحبة والطاعة والوحدة مع الآب في تحقيق هذا العمل؛ أمَّا عبارة " ما دامَ النَّهار" فتشير الى وقت العمل حيث ان الله وهبنا النهار للعمل كما يترنَّم صاحب المزامير " يَخرُجُ الإِنسانُ إِلى شُغلِه وإِلى عَمَلِه حتَّى المَساء" (مزمور 104: 23)، لذا لا يليق بنا ان نلهو في نهار عُمرنا ولا نُفسده، بل يليق ان نُجاهد في طاعة الله أبينا حتى متى حل المساء صار لراحتنا. ما دام نهار يُمكن للشعب أن يُؤمن بالله وبيسوع، فالنهار لنا هو بمثابة مدة حياتنا على الأرض. هو يريد أن يعمل معنا فهل نُسلِّم له حياتنا ونعمل معه؛ أمَّا عبارة " أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني " فتشير الى أعمال يسوع التي وكّلها الله له بإتمام أعمال الخلاص حيث تجلّى نشاط الآب الخلاصي في يسوع من أجل خير جميع البشر، حيث ان يسوع هو سبيل الوحيد الى الخلاص. كما يؤكد يسوع بقوله "جَميعُ ما هو لي فهو لَكَ، وما هو لَكَ فهو لي " (يوحنا 17: 10)، لأنه مهما عمل الآب فهذا يعمله الابن كذلك " جَميعُ ما هو لِلآب فهُو لي " (يوحنا 16: 15). أمَّا عبارة " اللَّيلُ آتٍ" فتشير الى المستقبل حيث لا يقدر أحد أن يعمل. وليل الشخص قد يعني يوم موته أو خطاياه التي ينغمس فيها بلا توبة كما جاء في قول صاحب الحكمة "كُلُّ ما تَصِلُ إِلَيه يَدُكَ مِن عَمَل فاْعمَلْه بِقوّتكَ فإِنَّه لا عمل ولا حُسْبانَ ولا عِلمَ ولا حِكمَةَ في مَثْوى الأَمْواتِ الَّذي أَنتَ صائرٌ إِلَيه"(الجامعة 9: 10).  وهناك ليل عام وهو يوم الدينونة حين تنتهي فرصة كل إنسان خاطئ أعمى من أن يستنير بنور المسيح، أمَّا بولس فيدعو الحياة الحاضرة ليلًا، لأن من يستمر في شره وعدم إيمانه فهو في ظلمة "قد تَناهى اللَّيلُ واقتَرَبَ اليَوم. فْلنَخلَعْ أَعمالَ الظَّلام ولْنَلبَسْ سِلاحَ النُّور" (رومة 12: 13). أمَّا عبارة " لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل" فتشير الى تشبيه حياة الانسان بيوم عمل. ويُعلق القديس أوغسطينوس "يا له من إنسان شقي! عندما كنتَ عائشًا كان وقت للعمل، الآن أنتَ في ليلٍ (ميت)، حيث لا يقدر إنسان أن يعمل ". ويوضِّح يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يقل: "أنا لا أستطيع أن أعمل"، بل " لا يَستَطيعُ أَحَدٌ أَن يَعمَل"، بمعنى أنه لا يعود يوجد إيمان ولا أعمال ولا توبة".

 

5 ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نورُ العالَم.

 

تشير عبارة "ما دُمتُ في العالَم" الى يسوع كونه إنسان فهو حاضر في هذا العالم الى حين، الى وقت قصير، لكن بكونه إله فهو حاضر في كل الأزمنة كما أعلن بذلك "هاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم " (متى 28: 20). وأمَّا عبارة " أَنا نورُ العالَم " فتشير الى يسوع الذي أتى الى البشر بالنور الذي يُمكنهم من خلاله السير بأمان، بل إنَّه نبع النور، وعمله هو إشراق نوره على الجالسين في الظلمة "أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة " (يوحنا 8: 12)، إنه شمس البرّ الذي يُنير نفوسنا وأذهاننا وكلَّ أعماقنا لكي نرى الحق كما جاء في نبوءة أشعيا " وفي ذلك اليَومِ يَسمعُ الصُّمُّ أقْوالَ الكِتاب وتُبصِرُ عُيونُ العُمْيانِ بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام "( أشعيا 29: 18) ويُعلق القديس كيرلس الكبير "الابن الوحيد هو نور ليس فقط للعالم، بل ولكل خليقة عُلْويّة". ففي شخص يسوع الذي دخل بالصليب في مجد الآب، عليهم ان يروا " النور" أي ذاك الذي يُظهر الطريق المؤدِّي الى الحياة الحقيقية لدى الآب (يوحنا 8: 12). لا نور في العالم سوى نور المسيح. هو وحده حامل الخلاص (يوحنا 8: 12، 12: 35). لذا يوصينا يسوع "آمِنوا بِالنُّور، ما دام لكُمُ النُّور" (يوحنا 12 :36). لنطلب من الله ان يضيء علينا بنوره فنرى الرؤية الصحيحة في ضوء الإيمان، وكلمته المقدسة.

 

6 قالَ هذا وتَفَلَ في الأَرض، فجَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الأعمى

 

تشير عبارة "تَفَلَ" الى البصاق الذي له خصائص شفائية بحسب اعتقاد الأقدمين. وهكذا يقوم يسوع بعمل مألوف لكن يُضفي عليه فعاليّة جديدة (مرقس 7: 33) حيث لا شفاء لمولود اعمى من تَفَل او طين او ماء بركة إنما شفاؤه بقوة إلهية فقط.  أمَّا عبارة "جَبَلَ مِن تُفالِه طيناً، وطَلى بِه عَينَي الأَعْمى" فتشير الى إظهار يد الله في عمل يسوع الذي بيّن كيف تمّ جبل الإنسان الأوّل كما جاء في سفر التكوين "جَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ الإِنسانَ تُرابًا مِنَ الأَرض ونَفخَ في أَنفِه نَسَمَةَ حَياة" (التكوين 2: 7). استخدم يسوع هذه الوسائل لكنه اعطاها طابعا آخر للوصول الى الايمان، إذ حقَّق المسيح معجزات الشفاء، وأيّد كرازته بعلامات مادية وافعال رمزية (يوحنا 9: 6) كما جاء في تعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (1151). ويستعمل يسوع وسائلنا البشرية كي يُعلن من خلالها عن حقائق تُدْخلنا في إطار الملكوت، حيث أنه استخدم التراب ليؤكد أنه الخالق المُخلص وان سرّ القوة في المسيح نفسه وفي عمل يديه. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "عندما أراد أن يشفي رجل الأعمى نزع عماه بأمرٍ يزيد العمى، إذ وضع طينًا". شفى يسوع الأعمى من دون ان يسأله أحد كما حدث لدى شفاء المقعد عند بِرْكَة بَيتَ ذاتا قرب هيكل اورشليم (يوحنا 5: 6). وتمّ الشفاء في مكان يجتمع الجماهير حتى لا يستطيع اليهود إنكارها.

 

7 ثُمَّ قالَ له: ((اِذهَبْ فَاغتَسِلْ في بِركَةِ سِلوامَ))، أَي الرَّسول. فذَهَبَ فاغتَسَلَ فَعادَ بَصيراً.

 

تشير عبارة " اِذهَبْ فَاغتَسِلْ" الى طلب يسوع من الأعمى غسل عينيه كشرط لنوال الشفاء وامتحانا لإيمانه وطاعته كما امتحن الله نعمان السوري على يد اليشاع النبي (2ملوك 5: 10). أن غسل جسد الرجل الأعمى المجبول على شكل آدم، بحاجة إلى غسل الميلاد الثاني (طيطس 3: 5). وهكذا يعتبر الاغتسال رمز المعمودية، والمعمودية هي موت وقيامة مع المسيح المُرسل من عند الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة (رومة 6: 3-4)؛ أمَّا عبارة " بِركَةِ سِلوامَ " فتشير الى بركة سلوان حاليا الواقعة في وادي قدرون جنوب شرق هيكل اورشليم (2 ملوك 20: 20، أشعيا 8: 6). ويعود تاريخها الى الملك حزقيا (716-687 ق. م)، الذي بنى قناة تحت الارض لتُمدَّ المدينة بالمياه من عين جيحون (عين ستنا مريم) خارج اسوار اورشليم (يبوس) الى البركة داخل الأسوار ليكون هناك مياه في أورشليم أثناء حصارها (2 ملوك 20: 20). وتدعى سلوام Σιλωάμ وفي العبرية הַשִּׁלֹּחַ أي الرسول او المُرسل إمَّا لأن هذا الينبوع يُعتبر عطية مرسلة من قبل الله لأجل استخدام مياهه في المدينة، كما يقول أشعيا النبي "لِأَنَّ هذا الشَّعبَ قد نَبَذَ مِياهَ سِلْوامَ الجارِيَةَ روَيداً رُوَيداً" (أشعيا 8: 6)، أو لأن مياهها كانت تُرسل عبر قنوات أو أنابيب إلى جهات مُتباينة.  وليس بالصدفة ان لفظة سلوام הַשִּׁלֹּחַ أي المرسل هو أحد القاب يسوع، المُرسل من الآب لخلاص البشر كما أعلن يسوع "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه"(يوحنا 13: 16). والمسيح هو المُرسل، إذ هو رسول العهد "هاءَنَذا مُرسِلٌ رَسولي " (ملاخي 3: 1)، وبِركَةِ سِلوامَ ترمز للسيد المسيح المُرسل من قبل الآب لإنارة النفوس وشفائها. ويُكرِّر السيد المسيح في إنجيل يوحنا أن الآب قد أرسله. وكما يدعو يسوع الأعمى أن يذهب إلى بركة سلوام كذلك يدعو كل نفس تحتاج إلى الاستنارة أن تذهب إليه، وكما ان ماء البركة سلوم (الرسول) أعادت البصر الى الأعمى، كذلك المسيح المرسل يأتي بنور الوحي الى البشر. لعلَّ في ذلك تلميحا الى ليتورجيا المعمودية. وطلب يسوع من الأعمى أن يغتسل في بركة سلوام ليؤكد الحاجة إلى مياه المعمودية حيث ان المعمودية هي استنارة الروح القدس خلال الميلاد الجديد (العبرانيين 6: 4)؛ أمَّا عبارة " فذَهَبَ فاغتَسَلَ " فتشير الى طاعة الأعمى في كل شيء بيقين وثقة وإيمان بيسوع الذي أمره، فأطاعه ولم يفعل شيئًا مضادًا له. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لِم لمْ يشفي السيد المسيح الأعمى في الحال، بل أرسل الأعمى إلى بركة سلوام؟ فيجيب "ليُعرف إيمان الأعمى، ولكي يُبكم مكابرة اليهود، ولأنه كان واجبًا أن يُبصره كل من التقى به ذاهبًا إلى البركة "؛ وأمَّا عبارة " فَعادَ بَصيراً" فتشير الى انتقال الأعمى من الظلمة الى النور على مستوى الجسد والروح معا. وهذا يذكرنا ما حدث سابقا تماما مع نعمان السوري الذي امره اليشاع النبي بالاغتسال في نهر الاردن لكي يشفى كما ورد في انجيل لوقا "وكانَ في إِسرائيلَ كَثيرٌ مِنَ البُرْصِ على عَهدِ النَّبِيِّ أَليشاع، فلَم يَبْرأْ واحِدٌ مِنهُم، وإِنَّما بَرِئ نُعمانُ السُّوريّ" (لوقا 4: 27).

 

8 فقالَ الجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرونَه مِن قَبلُ لأَنَّه كانَ شحَّاذاً: ((أَلَيسَ هو ذاكَ الَّذي كانَ يَقعُدُ فيَستَعْطي؟))

 

تشير عبارة " الجيرانُ والَّذينَ كانوا يَرونَه مِن قَبل لأَنَّه كانَ شحَّاذاً " الى الفئة الأولى التي رأت المعجزة. وقد دُهشوا بالشفاء لدرجة انهم اخذوا يشكّون في هوية الرجل الأعمى. ويبدو ان الأعمى أتى من البركة الى بيته مباشرة لأنه اول من شاهده بصيراً جيرانه. امَّا عبارة "أَلَيسَ هو ذاكَ الَّذي كانَ يَقعُدُ فيَستَعْطي؟"  فتشير الى سؤال تعجب وحيرة، لانَّ اختبارهم بالأعمى في الماضي يختلف ما يشاهدونه الآن مبصرا.

 

9 وقالَ آخَرون: ((إِنَّه هو)). وقالَ غَيرُهم: ((لا، بل يُشبِهُه)). أمَّا هوَ فكانَ يقول: ((أَنا هو)).

 

تشير عبارة "قالَ آخَرون: ((إِنَّه هو)" الى الفئة التي عاينت ما حدث مع الأعمى، إذ تمّ كل شيء علانية، أمَّا عبارة "وقالَ غَيرُهم: ((لا، بل يُشبِهُه)) " فتشير الى الفئة التي لم تصدق: "إنه يشبهه"، لأن عينا الأعمى المفتوحتان أعطته شكلًا مغايرًا تمامًا عما كان عليه. اختلف الناس في آرائهم في الأعمى كاختلاف معرفتهم به. أمَّا عبارة "أَمَّا هوَ فكانَ يقول: ((أَنا هو))" فتشير الى شهادة الأعمى أنه هو ذاك الذي كان قبلًا اعمى يستعطي الناس، والآن يتمتع بشفاء نعمة الله الفائقة. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يخزَ من عماه الأول، ولا خشي غضب الجمع، ولا استعفى من إظهار ذاته لينادي بمن أحسن إليه".  وهنا لا يشهد الرجل لنفسه انه كان اعمى وأصبح مبصرا فقط بل يشهد للمسيح الذي شفاه والذي كان يسوع يعرِّف نفسه "أنا هو" سواء للشعب اليهودي بقوله لهم " إذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم" (يوحنا 8: 24) سواء لحرس الهيكل الذي ارسلهم عظماء الكهنة والفريسيون يطلبوا يسوعَ النَّاصريّ. قالَ لَهم: " أَنا هو " (يوحنا 18: 5) وسواء لتلاميذه عندما فال لهم بعد القيامة " أَنا هو بِنَفْسي. إِلمِسوني وانظُروا" (لوقا 24: 39).  وكأن الأعمى يريد ان يمثل حضور يسوع الإنساني والمُمجِّد وكأن لهما نفس المصير.

 

10 فقالوا له: ((فكَيفَ انفَتَحَت عَيناكَ؟))

 

تشير عبارة " فكَيفَ انفَتَحَت عَيناكَ؟" الى سؤال الجيران وسؤال الذين أتوا عند سماعهم عن الشفاء العجيب وهم يريدون عن يعرفوا كيفية شفائه.

 

11 فأَجابَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع جَبَلَ طيناً فطَلى بِه عَينَيَّ وقالَ لي: ((اِذهَبْ إِلى سِلوامَ فَاغتَسِل. فذَهَبتُ فَاغتَسَلَتُ فَأَبصَرتُ)).

 

تشير عبارة "إِنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع " في أصلها اليوناني ἄνθρωπος (معنى الانسان) الى إنسان، ولكن ليس ككل إنسان ويقال له يسوع. فالأعمى رأى يسوع أنه في وضع يفوق كل الناس، بالرغم انه لم يكن قد عرفه سابقاً، لكنه سمع عنه، وسمع صوته حين أمره أن يغتسل في بركة سلوام، لقد شعر بأنه صنع طينا بنفسه وطلى به عينيه؛ امَّا عبارة "اذهَبْ إِلى سِلوامَ فَاغتَسِل" فتشير الى وصف العملية التي سبَّبت الشفاء ويُنسبها الى يسوع، أمَّا عبارة" ذَهَبتُ فَاغتَسَلَتُ فَأَبصَرتُ" فتشير الى الواقع الذي حصل معه دون زيادة او نقصان.  وما وصفه الأعمى رمز لمسيرة المعمودية كما وصفها بولس الرسول " أَوَتَجهَلونَ أَنَّنا، وقَدِ اَعتَمَدْنا جَميعًا في يسوعَ المسيح، إِنَّما اعتَمَدْنا في مَوتِه فدُفِنَّا مَعَه في مَوتِه بِالمَعمُودِيَّةِ لِنَحْيا نَحنُ أَيضًا حَياةً جَديدة كما أُقيمَ المَسيحُ مِن بَينِ الأَمواتِ بِمَجْدِ الآب؟"(رومة 6: 3-4).

 

12 فقالوا له: ((أَينَ هو؟)) قال: ((لا أَعلَم)).

 

تشير عبارة " أَينَ هو؟" الى رغبة سائليه في رؤية يسوع، ذاك الشافي الذي له القوة العجيبة او بُغية القبض عليه ليسوقوه الى رؤساء اليهود، لأنَّه فتح عيني الأعمى في يوم سبتٍ. أمَّا عبارة "لا أَعلَم" فتشير الى توارى يسوع عن الأنظار للحال بعد أن أمر الأعمى بالذهاب إلى بركة سلوام. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لاحظوا تواضع المسيح، فإنه لم يستمر مع مَن يشفيهم، لأنه لم يطلب أن يحصد مجدًا، ولا أن يجتذب الجماهير، ولا أن يظهر نفسه".

 

13 فَذَهبوا إِلى الفِرِّيسيِّينَ بِذاكَ الَّذي كانَ مِن قَبْلُ أَعْمى.

 

تشير عبارة "فَذَهبوا إِلى الفِرِّيسيِّينَ بِذاكَ الَّذي كانَ مِن قَبْلُ أَعْمى" الى إحضار الأعمى المُعافى أمام الفريسيين الذين هم فرع من المجلس المحلي باعتبار ان فعل الشفاء يوم السبت مخالف للناموس. ولا يحق لغيرهم ان يُخرجوا أحدا من المجمع (يوحنا 9: 34).  ولسوء الحظ أنتقل عمى هذا الرجل الى عمى الفريسيين (يوحنا 9: 40).

 

14 وكانَ اليَومُ الَّذي فيه جَبَلَ يسوعُ طيناً وفَتحَ عيَنَيِ الأَعمى يَومَ سَبْت.

 

تشير عبارة "يَومَ سَبْت" في العبرية יוֹם הַשַּׁבָּת الى يوم الراحة الأسبوعية لدى اليهود والاحتفال الديني للأسرة، وهو يوم العبادة عند الديانة اليهودية، وكانت حتى المعالجة محرّمة يوم السبت الاّ في حالة الطوارئ (يوحنا 5: 9)؛ إذ في زمن يسوع، كان إفتاء الربَّانيين يُجيز مخالفة شريعة السبت لإغاثة إنسان في حالة خطر الموت، ولكنه لم يكن يتساهل في أي عمل طبِّي، ويعتبر هذا الشفاء من وجهة نظر الفقهاء الفريسيين حتى لو كان شفاء عجائبي، هو عمل طبي، لذلك هو عمل مُحرّم يوم السبت (لوقا 7: 7). أمَّا عبارة " جَبَلَ يسوعُ طيناً وفَتحَ عيَنَيِ الأَعمى يَومَ سَبْت" فتشير الى العناية بالمرضى الذي هو من الأعمال الممنوعة يوم السبت. وكان الفريسيون قد أعدُّوا قائمة طويلة من الأوامر والنواهي بيوم السبت، ويُعد عجين الطين وشفاء الرجل هما من الاعمال وبالتالي فهي ممنوعة. أمَّا موقف يسوع فقد استباح استراحة السبت لشفاء المرضى معتمدا على حِجَج الربَّانيين "أَيُّها المُراؤون، أَما يَحُلُّ كُلٌّ مِنكُم يومَ السَّبْتِ رِباطَ ثَورِه أَو حِمارِه مِنَ المِذوَد، ويَذهَبُ بهِ فيَسقيه؟ وهذِه ابنَةُ إِبراهيمَ قد رَبطَها الشَّيطانُ مُنذُ ثَمانيَ عَشرَةَ سَنَة، أَفما كانَ يَجِبُ أَن تُحَلَّ مِن هذا الرِّباطِ يَومَ السَّبْت؟ (لوقا 13: 15-16).

 

15 فسأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضاً كَيفَ أَبصَر. فقالَ لَهم: ((جَعَلَ طيناً على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر))

 

تشير عبارة "سأَلَهُ الفِرِّيسيُّونَ أَيضاً كَيفَ أَبصَر" الى قصد الفريسيين من السؤال ليس التعرف على الحقيقة، وإنما ليجدوا عِلة يشكون بها على يسوع، ويشوِّهون بها صورته أمام جمهور الشعب.  اما عبارة "أَيضاً" في الأصل اليوناني πάλιν (معناها من جديد او بدورهم) فتشير الى الفريسيين الذين سمعوا النبأ على ألسنة الناس الذين سألوا الأعمى، فأرادوا ان يسألوا الاعمى بدورهم كي يسمعوه من لسانه. أمَّا عبارة "جَعَلَ طيناً على عَينَيَّ ثُمَّ اغتَسَلتُ وها إِنِّي أُبصِر" فتشير الى أقوال الرجل الأَعمى في الاستجواب الثاني التي لم تكن مناقضة لأقواله في الاستجواب الأول، غير أنه لم يذكر عن السيد المسيح "صنع طينًا" (يوحنا 9: 10)، ولا المكان الذي به أغتسل.  وكانت شهادة جديدة بدعوى يسوع انه هو المسيح على لسان الاعمى الذي برئ، وفرصة جديدة لتبيان صحة تعليم المسيح.

 

16 فقالَ بَعضُ الفِرِّيسيِّين: ((لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لأَنَّه لا يَحفَظُ شَريعةَ السَّبْت)). وقالَ آخَرون: ((كَيفَ يَستَطيعُ خاطِئٌ أَنَ يَأتيَ بِمثِلِ هذهِ الآيات؟)) فوَقَعَ الخِلافُ بَينَهم.

 

تشير عبارة "لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لأَنَّه لا يَحفَظُ شَريعةَ السَّبْت" الى الفئة الأولى من الفِرِّيسيِّين التي ادّعت ان يسوع ليس بنبيءٍ ارسله الله، لأنه لا يراعي حُرمة السبت (تثنية الاشتراع 13: 1-6)، ومن هذا المنطلق، تكون النتيجة ان شفاء يسوع للأعمى يوم السبت تمت بقوة الشيطان كما أتَّهموه ايضا لدى شفائه اخرس ممسوس قائلين " أنَّهُ بِسَيِّدِ الشَّياطين يَطْرُدُ الشَّياطين (متى 9: 34). ويُعلق القديس أوغسطينوس "في الحقيقة يا اخوة هذا ما حثَّنا عليه الله عندما أمرنا بالسبت: " لا تَعمَلوا فيه عَمَلَ خِدْمَة (العبودية)" (الأحبار 23: 8). الآن ارجعوا إلى الدروس السابقة واسألوا ماذا يعني بعمل خدمة او عبودية، وأصغوا إلى الرب: " كُلُّ مَن يَرتَكِبُ الخَطيئَة يَكونُ عَبْداً لِلخَطيئَة" (يوحنا 8: 34)، أمَّا يسوع فشفى يوم السبت لإبراز مفهوم السبت، إنه راحة في الرب، في ممارسة عمل الرب من حب ورحمة، وليس في حرفية قاتلة بالامتناع عن الأعمال اليومية الضرورية وأعمال المحبة"؛ ومن هنا جاءت توصية بولس الرسول في هذا الصدد " فلا يَحكُمَنَّ علَيكم أَحَدٌ في المَأكولِ والمَشروب أَو في الأَعيادِ والأَهِلَّةِ والسُّبوت" (قولسي 2: 16). أمَّا عبارة "كَيفَ يَستَطيعُ خاطِئٌ أَنَ يَأتيَ بِمثِلِ هذهِ الآيات؟" فتشير الى الفئة الثانية من الفِرِّيسيِّين الذين يميلون الى يسوع قد يكون بينهم نيقوديموس ويوسف الرامي والذين اعترفوا ان يسوع هو رجل من الله بما انه أجرى معجزة الشفاء، وأن الشفاء علامة صادقة على صدق رسالته، والله لا يستجيب للخاطئين كما صرّح سابقا نيقوديموس "فما مِن أَحَدٍ يَستَطيعُ أَن يَأَتِيَ بِتِلكَ الآياتِ الَّتي تَأتي بِها أَنتَ إِلاَّ إِذا كانَ اللهُ معَه" (يوحنا3: 2). أمَّا عبارة "فوَقَعَ الخِلافُ بَينَهم" فيشير بها القديس يوحنا الذهبي الفم الى سبب الخلاف" لأن بعضهم منعهم حبهم للرئاسة عن المجاهرة بالسيد المسيح، وبعضهم أسكتهم جبنهم وخوفهم من الكثيرين".

 

17 فقالوا: أَيضاً لِلأَعمى: ((وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟)) قال: ((إِنَّهُ نَبِيّ)).

 

تشير عبارة "فقالوا: أَيضاً لِلأَعمى" الى بغية ان يقف كل من الحزبين على ما يسند قوله اعترافا منهم ان الأعمى المعافى يعلم أكثر ممن يعلمه غيره. اما عبارة "وأَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟" فتشير الى طلب الفريسيين من الأَعمى المُعافى ان يصرّح عن اعتقاده بيسوع وذلك كي يفضّ الخلاف بين الجماعة المتنازعة؟؛ أمَّا عبارة " إِنَّهُ نَبِيّ" فتشير الى تأكيد ان يسوع هو مرسل من الله، ويتكلم ويعمل باسم الله، وله سلطان يفوق الطاقات البشرية كما اعترفت فيه السامرية (يوحنا 4: 19).   وكانت شهادته الشجاعة والصادقة خلاف قول اغلب مجلس الفرِّيسيين ان " لَيسَ هذا الرَّجُلُ مِنَ الله " (يوحنا 9: 16). ونحن هل نخاف قول الحقيقة، وهل نقول فقط ما نعرفه وما نحن متأكدون منه دون خوف من الآخرين؟

 

18 على أَنَّ اليَهودَ لم يُصَدِّقوا أَنَّه كانَ أَعْمى فأَبصَر، حتَّى دَعَوا والِدَيه.

 

تشير عبارة "اليَهودَ" الى اسم يهوذا الذي هو من أبناء يعقوب الذين أصبحوا أبناء شعب يتميزون بأتباعهم الديانة اليهودية وثقافتها وتراثها؛ أمَّا هنا فيقصد باليهود أصحاب السلطات الدينية، خاصة الفِرِّيسيِّين وأعضاء المجمع المحلي. أمَّا عبارة "لم يُصَدِّقوا أَنَّه كانَ أَعْمى فأَبصَر " فتشير الى رفض اليهود المعجزة ومحاولة إلغائها من قلب الأَعمى وقلب والديه، والحطِّ من قدر حقيقة الشفاء.  ولعلّ عدم تصديقهم شهادة الأعمى لأنها تمجّد يسوع مما يدلّ على عَمى ذهنهم عن صحة البراهين. أما عبارة "حتَّى دَعَوا والِدَيه" فتشير الى سؤال والدي الأعمى آملين ان يُكذبا شهادة ابنهما خوفا منهم او إكراما لهم.

 

19 فسأَلوهما: ((أَهذا ابنُكما الَّذي تَقولانِ إِنَّه وُلِدَ أَعمى؟ فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن؟))

 

تشير الآية ان مجلس الفريسيين سألوا والدي الأعمى ثلاث مسائل على آمل ان يجدوا في جواب أحدهما ما يبطل دعوى المسيح وهي " أَهذا ابنُكما؟"، هل وُلد اعمى؟ وبأي واسطة أبصر؟

 

20 فأَجابَ والِداه: ((نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا ابنُنا، وأَنَّه وُلِدَ أَعْمى.

 

تشير العبارة" نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا ابنُنا" الى اعتراف والدي الأَعمى ان ابنهما كان أعمى يستعطي، أمَّا عبارة "وُلِدَ أَعْمى" فتشير الى تأييد والدي الأَعمى حقيقة ان ابنهما اعمى منذ مولده. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "حاول اليهود أن يطمسوا المعجزة بالظلمة ويُزيلوها. ولكن هذه هي طبيعة الحق، بذات الوسائل التي يُهاجم بها البشر، يصير الحق أقوى، ويُشرق بذات الوسائل التي تُستخدم لطمسه".

 

21 أَمَّا كَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن، فلا نَدْري، ومَن فَتَحَ عَينَيه فنَحنُ لا نَعلم. إِسأَلوهُ، إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، سَيَتكلَّمُ هو بِنَفسِه عن أَمرِه)).

 

تشير عبارة "أَمَّا كَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن، فلا نَدْري، ومَن فَتَحَ عَينَيه فنَحنُ لا نَعلم " الى خوف والدي الأَعمى وضعفهما ان يقفا مع ابنهما في إجابتهما لليهود. خاف والدي الأَعمى البشر فنصبا شركًا لنفسيهما ولابنهما، وكما يقول الحكيم: " خَشيَة البَشَرِ تُلْقي فَخًّا والمُتَّكِلُ على الرَّبِّ هو في أَمان"(أمثال 29: 25). ويُظهر أنجيل يوحنا آية الأَعمى على ضوء الحالة التي يعيشها المسيحيون ومضايقات اليهود لهم " غَيرَ أَنَّ عَدَداً كَثيراً مِنَ الرُّؤَساءِ أَنفُسِهِم آمَنوا بِه، ولكِنَّهم لم يُجاهِروا بِإِيمانِهِم، بِسَبَبِ الفِرِّيسيِّين، لِئَلاَّ يُفصَلوا مِنَ المَجمَع " (يوحنا 12: 42). أمَّا عبارة " إِسأَلوهُ، إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، سَيَتكلَّمُ هو بِنَفسِه عن أَمرِه" فتشير الى إحالة الوالدين السؤال الى ابنهما خوفا ان يُكرما يسوع بجوابهما. اما عبارة " مُكتَمِلُ السِّنّ " فتشير الى ابنهما الأعمى بلغ سن الثلاثين.

 

22 وإِنَّما قالَ والِداهُ هذا لِخَوفِهِما مِنَ اليَهود، لأَنَّ اليَهودَ كانوا قدِ اتَّفَقوا على أَن يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ مَن يَعتَرِفُ بِأَنَّه المسيح.

 

تشير عبارة "لِخَوفِهِما مِنَ اليَهود" الى قرار اليهود بأن يطردوا من المجمع كل من يقول إن يسوع هو المسيح. لكن الإيمان يجب ان يتغلب على الخوف من تهديد الناس وعقوباتهم. لا يكون الايمان صحيحاً الاّ إذا كان الالتزام به بدون تحفظ حتى ول كان يتطلب الاعتراف العلني الذي قد يؤدِّي الى الفصل عن الجماعة، او الاضطهاد او الاستشهاد (يوحنا 9: 22، 12: 42، 17: 1-14). اما عبارة " لأَنَّ اليَهودَ كانوا قدِ اتَّفَقوا " في الأصل اليوناني συνετέθειντο  (معناها تعاهدوا) فتشير الى أتفاق رؤساء اليهود ان يقنعوا المجلس المحلي لفصل كل من المجمع  كل من يعتف  ان يسوع هو المسيح. أمَّا عبارة " يُفصَلَ مِنَ المِجمَعِ " فتشير الى اتخاذ الديانة اليهودية بعض القوانين لفصل فئة من المُذنبين من المجمع حيت يُحرم من الحقوق الدينية والاجتماعية. ويُحسب الفصل من المجمع كمن قد ارتدَّ عن الإيمان اليهودي، وعزله عن الجماعة، ويُحسب أيضا متمردًا وخائنًا للقيادة الدينية. ولم يَظهر تحريم المسيحيِّين من الدخول الى المجمع إلاّ في أواخر القرن الأول. ومن المحتمل ان يوحنا الإنجيلي نسب الى الماضي قانونا حديثا (يوحنا 12: 42، 16: 2). ويعلق القديس أوغسطينوس " لم يعد الطرد من المجمع بالأمر السيء. هم يُطردون والمسيح يستقبلهم".

 

23 فلِذَلكَ قالَ والِداه: إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، فاسأَلوه.

 

 تشير عبارة " إِنَّه مُكتَمِلُ السِّنّ، فاسأَلوه" الى سبب ترك جواب الوالدين " فكَيفَ أَصبَحَ يُبصِرُ الآن" الى ابنهما خوفا من اعترافهما بصحة دعوى يسوع، مما يسبب لهما الفصل من المجمع.

 

24 فَدَعَوا ثانِيَةً الرَّجُلَ الَّذي كانَ أَعمى وقالوا له: ((مَجِّدِ الله، نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ)).

 

تشير عبارة " مَجِّدِ الله " الى دعوة للرجل الأَعمى للقسم باسم الله بقول الحق، وهكذا يتمجَّد الله الذي يراه، وإلا فهو يُهين العزة الالهية. وهذا ضرب من استحلاف الشاهد بالاعتراف بالحق خوفاً من الله، وأرادوا أن يتشبَّهوا بقول يشوع بن نون عندما حكم على عاكان بالرجم إذ طلب منه أولًا " يا وَلَدي، مَجِّدِ الرَّبَّ، إِلهَ إِسْرائيلَ واحمَدْه، وأَخبِرْني بِما فَعَلتَ ولا تَكتُمْني" (يشوع 7: 19)؛ والاستحلاف بهذا اللفظ مبني على اعتقاد ان الله يتمجَّد بإظهار الحق، لأنه إله الصدق والقوة والسلطان، وهو يجازي الصادقين ويعاقب الكاذبين.  وهذا الطلب يدل هنا على ضغط الفِرِّيسيُّونَ على الرجل حتى يُعلن خطأه. ويُعلق القديس أوغسطينوس "ماذا يعني " مَجِّدِ الله "؟  في نظر الفِرِّيسيِّين هو اجحد ما قد نلته. فإن مثل هذا التصرف لا يُمجد الله بل هو تجديف عليه ". أمَّا عبارة "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ" فتشير الى اتفاق المجلس انه يستحيل ان الله يهب قوة الشفاء لمن يتعدّى الشريعة (يوحنا 9: 16)، فإذاً انت كاذب فاعترف بكذبك. وهنا يظهر رياء اليهود الذين في حضور المسيح لم يجسر أحد أن يتَّهمه لمَّا سألهم" مَن مِنكم يُثبِتُ عَليَّ خَطيئة؟" (يوحنا 8: 46)، لكن من وراء يسوع يقولون عنه "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ هذا الرَّجُلَ خاطِئ "، ويعُلق القديس يوحنا الذهبي الفم ويسألهم "من أين عرفتم أنه خاطئ؟"

 

25 فأَجاب: ((هل هو خاطِئٌ لا أَعلَم، وإِنَّما أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أَعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن))

 

تشير عبارة "هل هو خاطِئٌ لا أَعلَم" الى عدم تسليم الاعمى ان يسوع خاطئ ولم ينكر ذلك.  امَّا عبارة " أَعلَمُ أَنِّي كُنتُ أَعْمى وها إِنِّي أُبصِرُ الآن" فتشير الى جواب خبرة الأَعمى مع يسوع وإصراره على صحة الشفاء واعترافه بالمعجزة، أنَّه كان اعمى، وانه أبصر. وترك لهم الحكم على شهادته الأولى. انه لم يخفْ قول الحقيقة، وبذلك صار شاهدًا حقيقيًا لشخص السيد المسيح. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "هكذا حفظ نفسه بعيدًا عن الشكوك، فلا تفسد شهادته، ولا يتكلم عن تحيّز، بل يقدم شهادات من خلال الواقع".

 

26 فقالوا له: ((ماذا صَنَعَ لكَ؟ وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟))

 

تشير عبارة "ماذا صَنَعَ لكَ؟ وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟" الى إعادة اليهود استجوابه بطريقة أخرى لعلَّهم يجدون في إجابته ما يناقض ما سبق في الاستجواب الاول، فيجدون علة ًعلى السيد المسيح. ويحقِّق اليهود عدة مرات مع الرجل المُعافى ومع والديه، لا بحثا عن الحقيقة، بل بحثا عن وسيلة لنفيْها.  اما عبارة " وكَيفَ فتَحَ عَينَكَ؟"  فتشير الى رجوع الى سؤالهم عن شفائه وانتقلوا الى سؤال عن كيفية أعاد يسوع شفائه.

 

27 أَجابَهم: ((لقد قُلتُه لَكم فلَم تُصغُوا، فلِماذا تُريدونَ أَن تَسمَعوه ثانِيَةً؟ أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟))

 

تشير عبارة "لقد قُلتُه لَكم فلَم تُصغُوا، فلِماذا تُريدونَ أَن تَسمَعوه ثانِيَةً؟" الى ازعاج العامي تكرير سؤال اليهود لمعرفته سوء نيتهم انها ليست الوقوف على الحق بل جعله إياه ينكر الحق التي اختبره هو بنفسه.  إذ لم يجدوا تناقض في شهادة الرجل الأَعمى بالرغم من الأسئلة المتعاقبة. اما عبارة " فلَم تُصغُوا" فتشير الى معنى لم تصدِّقوا.  أمَّا عبارة "أَتُراكم تَرغَبونَ في أَن تَصيروا أَنتُم أَيضاً تَلاميذَه؟" الى سؤال استهزاء بالفِرِّيسيِّينَ حيث كان اهتمامهم هذا يقود الى طريق التلمذة ليسوع؛ ويعلق القديس أوغسطينوس "ماذا يعني قوله: "ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟" فمن جهتي أنا (الأَعمى) قد صرت فعلًا تلميذا له، أتريدون أنتم أيضًا؟ إنني الآن أرى، أرى بدون ارتياب".

 

28 فشَتَموه وقالوا: ((أَنتَ تِلميذُه، أَمَّا نَحنُ فَإِنَّنا تَلاميذُ مُوسى.

 

تشير عبارة "شَتَموه" الى اليهود الذين سبَّوا على الأَعمى وعاتبوه، ووصفوه بما فيه نقصٌ وازدراء. لقد تعرَّض إيمان الأَعمى بشدَّة للامتحان على يد بعض من ذوي السلطة. وفي هذا الصدد قال يسوع " طوبى لكم، إِذا شَتَموكم واضْطَهدوكم وافْتَرَوْا علَيكم كُلَّ كَذِبٍ مِن أَجلي" (متى 5: 11)؛ أمَّا عبارة " أَنتَ تِلميذُه" فتشير الى استخفاف اليهود بالأَعمى الُمعافى، بالرغم من أنه لم يكن بعد قد رأى يسوع ولا سمع لعظاته، لكنَّهم حسبوه تلميذه لأنه يشهد له، أما هو فكان يعتز بأن يكون تلميذه. امَّا عبارة "أَمَّا نَحنُ فَإِنَّنا تَلاميذُ مُوسى" فتشير الى افتخار الفِرِّيسيِّينَ بعلاقتهم بموسى النبي كمعلمٍ لهم، الذي امرهم بحفظ السبت، وهم لا يحتاجون إلى معلمٍ آخر مثل يسوع الذي يدَّنس السبت. ولكن لو كانوا حقاً تلاميذ موسى لالتصقوا بالسيد المسيح الذي تنبأ عنه موسى، عوض عن مقاومتهم له. ويُعلق القديس أوغسطينوس "أهكذا تتبعون العبد (موسى) وتديرون ظهوركم للرب يسوع؟ فإنكم بهذا لستم تتبعون العبد، لأنه هو نفسه يقود إلى الرب". يعتبر الفِرِّيسيِّونَ نفوسهم تلاميذ موسى، حامل الشريعة، فيما الأَعمى هو من تلاميذ المسيح. فالمسيح، حامل الوحي التام والنهائي تفوَّق على موسى كما صرّح يسوع " الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: لم يُعطِكُم موسى خُبزَ السَّماء بل أَبي يُعطيكُم خُبزَ السَّماءِ الحَقّ" (يوحنا 6: 32).

 

29 نحَنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ كَلَّمَ مُوسى، أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو)).

 

تشير عبارة "أَنَّ اللهَ كَلَّمَ مُوسى" الى المكانة التي احتلتها الشريعة في الديانة اليهودي التي رفعت شأن موسى كنبي والمشترع الذي أخذ سلطانه ورسالته من الله. وكان الفِرِّيسيُّونَ يُعدُّونه المعلم المثالي. أمَّا عبارة "أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو" فتشير الى اعتقاد الفريسيين ان اصل يسوع مجهول ولا برهان على ان الله ارسله.  وعذرهم على رفض يسوع هنا عكس العذر الذي اوردوه سابقا "على أَنَّ هذا نَعرِفُ مِن أَينَ هو، وأَمَّا المسيح فلا يُعرَفُ حينَ يأتي مِن أَينَ هو" (يوحنا 7: 27). فهناك تخبُّط اليهود بين اقوالهم "أَمَّا هذا فلا نَعلَمُ مِن أَينَ هو" (9: 29) وبين أقوال الناس "على أَنَّ هذا نَعرِفُ مِن أَينَ هو" (يوحنا 7: 27). فتساؤل الفِرِّيسيِّينَ عن أصل يسوع وسلطانه يدلّ على اندحارهم الواضح وانهزامهم. امَّا عبارة " مِن أَينَ هو " فتشير الى أصل الانسان الذي هو دليل على طبيعته كسؤال اليهود عن معمودية يوحنا (متى 21: 25) وكسؤال بيلاطس الموجَّه ليسوع " مِن أَينَ أَنتَ؟" (يوحنا 19: 9).

 

30 أجابَهُمُ الرَّجُل: ((فعَجيبٌ أَن لا تَعلَموا مِن أَينَ هو وقَد فتَحَ عَينَيَّ.

تشير عبارة " فعَجيبٌ أَن لا تَعلَموا مِن أَينَ هو وقَد فتَحَ عَينَيَّ " الى جواب الأعمى الذي فيه حكمة وشجاعة في دهشته أن الفريسيين الجالسين على كرسي القضاء يجهلون أصل شخص قوّته تُجري معجزات كهذه بوجود عدة حقائق متوفرة: فتح يسوع عينيه، والله لا يسمع للخطأة (مزمور 66: 18) بينما هم يقولون إنهم يعلمون بأن هذا الإنسان خاطئ، في حين الله يسمع للأتقياء الذين يعملون إرادته وأنه لم يسمع في تاريخ العالم أن أحدًا فتح عيني مولود أعمى. إن برهان الذي قدّمه الأَعمى تفوَّق فيه على العلماء والفقهاء من الفِرِّيسيِّينَ واليهود، وقد شكر يسوع الاب السماوي على هذه النعمة "أَحمَدُكَ يا أَبَتِ، رَبَّ السَّمَواتِ والأَرض، على أَنَّكَ أَخفَيتَ هذه الأَشياءَ على الحُكَماءِ والأَذكِياء، وكَشفتَها لِلصِّغار" (متى 11: 25).

 

31 نَحنُ نَعلَمُ أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين، بل يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه.

 

تشيرعبارة "نَحنُ نَعلَمُ" الى علم الانسان واختباره. اما عبارة " أَنَّ اللهَ لا يَستَجيبُ لِلخاطِئين " فتشير الى رد فعل الأَعمى على الفِرِّيسيِّينَ الذين نفوا ان يسوع يتَّقي الله ويعمل بمشيئته، وذلك بحقيقة شائعة " حينَئِذٍ يَصرُخونَ ولا يُجيب بِسَبَبِ تَشامُخِ الأَشْرار" (أيوب 35: 12) وتؤكد ذلك نبوءة أشعيا " فحينَ تَبسُطونَ أَيدِيَكم أَحجُبُ عَينَيَّ عنكم وإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمعُ لَكم لِأَنَّ أَيدِيَكم مَمْلوءَةٌ مِنَ الدِّماء" (أشعيا 1: 15). اما عبارة "لِلخاطِئين" في الأصل اليوناني ἁμαρτωλῶν (معناها الخطأة)، الى الذين هم مصرّين على خطاياهم كما يقول صاحب المزامير " لو كُنتُ رأيتُ إِثمًا في قَلْبي لَما اْستَمعَ السَّيِّدُ لي "(مزامير 66: 18). أمَّا عبارة "يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ " في الأصل اليوناني θεοσεβὴς (معناها المتعبد لله) تشير الى أصحاب العبادة والتقوى. أما عبارة ُ "يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه" فتشير الى الجمع بين التقوى التي يمتاز بها اليونانيون والطاعة لله التي تستند على الكتاب المقدس. الله يسمع لأصحاب التقوى والطاعة مثل إيليا النبي الذي استجاب الله له في جبل الكرمل لتوقته وطاعته، ولم يستجب لكهنة بعل (1 ملوك 18: 17-40).

 

32 ولَم يُسمَعْ يَوماً أَنَّ أَحداً مِنَ النَّاسِ فتَحَ عَينَي مَن وُلِدَ أَعْمى.

 

عبارة " يَوماً " في الأصل اليوناني αἰῶνος (معناها الدهر) تشير الى بدء العالم او في الزمن القديم كما ورد في انجيل لوقا "كَما قالَ بِلِسانِ أَنِبيائِه الأَطهارِ في الزَّمَنِ القديم αἰῶνος (لوقا 1: 70). اما عبارة " فتَحَ عَينَي مَن وُلِدَ أَعْمى" فتشير الى المعجزة الوحيدة الذي تدور على شفاء اعمى منذ مولده وقد حدثت لأول مرة في تاريخ البشرية. وهذا دليل على ان يسوع هو رجل الله. أمَّا شفاء انسان أصيب بالعمى وأصبح بصيرا، فقد حدث سابقا على سبيل المثال شفاء والد طوبيا "بِأَنَّ اللهَ قد أَنعَمَ علَيه بِرَحمَتِه ففَتَحَ عَينَيه" (طوبيا 7: 17)، فهو لم يكن أعمى منذ مولده. وهكذا تفوّق يسوع على موسى وسائر الأنبياء انه لم ذكر الاَّ عنه وحده فتح عيني مولود أعمى.

 

33 فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً)).

 

تشير عبارة " الرَّجُلُ مِنَ الله " الى أحد اتقياء الله ورسله. واستطاع الرجل الأعمى ان يبرهن ان يسوع هو من الله عن طريق قياس منطقي: ان الله لا يسمع للخطأة الكذَّابين، وحيث ان الله سمع ليسوع فهذا دليل على ان الذي فعله لا يمكن ان يكون الا بقوة الله، فالنتيجة ان يسوع هو ليس بخاطئ بل هو من الله.  اما عبارة " لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً" فتشير الى يسوع المسيح الذي لم يكن أحد في إسرائيل حتى اليوم كان رجل الله بمقداره.

 

34 أَجابوه: ((أَتُعَلِّمُنا أَنتَ وقد وُلِدتَ كُلُّكَ في الخَطايا؟)) ثُمَّ طَردوه.

 

تشير عبارة "أَتُعَلِّمُنا أَنتَ وقد وُلِدتَ كُلُّكَ في الخَطايا؟" الى غضب الفِرِّيسيِّينَ الذين عبّروا عنه بشتم الرجل وإساءته، لأنهم عجزوا ان يحملوا الأعمى على الكذب بالتهديد، وخجلوا من قوة حِجّته وشهادته الواضحة للحق. صوت قلب الأعمى يصرخ في حين أنّ صوت اليهود يريدون إسكاته لكنّ إصراره وإيمانه جعلا صوته أعلى من صراخهم، فمن هو في العالم وليس من العالم يكون صوته صوت الحق، الصوت المدوّي الّذي لا يقف بوجهه ضجيج الألوف المؤلّفَة. وصدق قول المثل المأثور "الحق يعلو ولا يعلى عليه". أمَّا عبارة "ثُمَّ طَردوه" في الأصل اليوناني (ἐξέβαλον αὐτὸν ἔξω (معناها أخرجوه خارجا) فتشير الى إخراج الأَعمى المعافى في ذلٍّ وانكسار انتقاما منه، ولكن هذا الطرد لا يعني الحرم الرسمي، وقد تنبأ يسوع فصل اليهود لتلاميذه "سيَفصِلونَكم مِنَ المَجامِع" (يوحنا 16: 2). اضطهد الفرِّيسيُون الأَعمى بسبب تأديته الشهادة للمسيح.

 

35 فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه. فلَقِيَه وقالَ له: ((أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟))

 

تشير عبارة "فسَمِعَ يسوع أَنَّهم طَردوه" الى معرفة يسوع خبر طرد الأعمى وسبب طرده وهي إصراره في الاعتراف بالحق من جهة شفائه والإقرار بان يسوع نبي. وفي هذا الصدد يقول يسوع " طوبى لَكمُ إِذا أَبغَضَكُمُ النَّاس ورَذَلوكم وشتَموا اسمَكُم ونَبذوه على أَنَّه عار مِن أَجلِ ابنِ الإِنسان"(لوقا 6: 22).  امَّا عبارة " لَقِيَه " فتشير الى مبادرة المسيح في البحث عن الأَعمى الذي طرده الفِرِّيسيُّونَ، وحرموه من حقه كعضوٍ في شعب الله فوجده. بحث عنه حتى وجده لكي يعزّي قلبه ويقوي لإيمانه، وفيه صدق صاحب المزامير " إِذا ترَكَني أَبي وأُمِّي فالرَّبُّ يَقبَلني" (مزامير 27: 10).  فالمسيح يبحث عن كل من خسر شيئاً لأجله ليعطيه اختبارا أعمق. إنه " أبو اليَتامى ومُنصِفُ الأَرامل " (مزمور 68: 6). التقى الأَعمى مع ابن الانسان الآتي من السماء ليجمع البشر، انه مسيح المطرودين والمرذولين. أمَّا عبارة "ابنِ الإِنسان " فتشير الى المسيح الموعود، إذ عبّر اليهود عن المسيح باه "بابن الله" بناء على ورد في المزامير " أُعلِنُ حُكمَ الرَّبّ: قالَ لي: أَنتَ اْبني وأَنا اليَومَ وَلَدتُكَ " (مزمور 2: 7). لكن اليهود فضّلوا ان يسموه "بابن داود" متوقعين ان يجلس على كرسي داود كملك أرضي (متى 22: 42). لكن يسوع اراد ان يُظهر ان ملكوته روحي لا أرضي فسمّى نفسه "ابن الله". وهذا اللقب لمّح إليه دانيال النبي في رؤيته (دانيال 7: 9-15) ورد هذا اللقب على لسان يسوع في اثناء الدعوى امام مجلس اليهود قائلا " سَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء" (مرقس 14: 62)، أمَّا عبارة "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟" فتشير الى قول "أتؤمن بابن الله؟" لأن هاتين السِمتين لا تنفصلان كما آمن نَتَنائيل فشهد "راِّيي، أَنتَ ابنُ الله" (يوحنا 1: 34). الفريسيون ينظرون الى الرجل الأعمى أنه وُلد كله بالخطايا (يوحنا 9: 34) أمَّا يسوع فينظر الى قلبه وإيمانه " أَنَّ الرَّبَّ لا يَنظُرُ كما يَنظُرُ الإِنْسان، فإنَّ الإنْسانَ إِنَّما يَنظُرُ إِلى الظَّواهِر، وأَمَّا الرَّبُّ فإِنَّه يَنظُرُ إِلى القَلْب" (1 صموئيل 16: 7).

 

36 أَجاب: ((ومَن هو. يا ربّ، فأُومِنَ به؟))

 

تشير عبارة " مَن هو" الى فهم الرجل الأَعمى معنى لقب "ابن الانسان" ولكنه لا يعرف من هو.  وبما انه اعترف بيسوع انه نبي فهو قادر ان يصفه له ويُعلمه من هو. سؤاله هذا هو شبيه بسؤال شاول الطرسوسي "مَن أَنتَ يا ربّ؟"(أعمال الرسل 9: 5). تشير عبارة "يا ربّ" في الأصل اليوناني Κύριε (معناها يا سيد) الى احترام الأعمى ليسوع وتوقيره. أمَّا المسيحيون فيترجمونها "يا رب".

 

37 قالَ له يسوع: ((قد رَأَيتَه، هو الَّذي يكَلِّمُكَ)).

 

تشير عبارة "هو الَّذي يكَلِّمُكَ " فتشير الى اعلان يسوع انه المسيح تماما كما كلّم المرأة السامرية. قائلا لها "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 26). وكأن يسوع يقول له: إنك تشاهد المسيح الآن بعينيك وتسمع صوته بأذنيك". فيسوع قريب من الانسان كما يقول الرسول بولس: لا تَقُلْ في قَلْبِكَ: مَن يَصعَدُ إِلى السَّماء؟ (أَي لِيُنزِلَ المسيح) أَو: مَن يَنزِلُ إِلى الهاوِيَة؟ (أَي ليُصعِدَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات) (فماذا يَقولُ إِذًا؟ ((إِنَّ الكَلامَ بِالقُرْبِ مِنكَ، في فَمِكَ وفي قَلبِكَ" (رومة 10: 6-8).

 

38 فقال: ((آمنتُ، يا ربّ)) وسجَدَ له.

 

تشير عبارة "آمنتُ، يا ربّ " الى الأَعمى الذي لم يستردَّ بصر عينيه فحسب، أنما استردَّ أيضا بصيرته الروحية حيث أعترف بيسوع سيداً فنبيا ثم ربا، على مثال اعتراف المرأة السامرية (يوحنا 4: 5-42)؛ ولا بد من انه كان مستعداً لهذا الإيمان بفعل الروح القدس الذي في قلبه وبتأمله في المعجزة التي صنعها يسوع له. وهكذا نستطيع أن نترنَّم مع صاحب المزامير "نُعايِنُ النُورَ بِنورِكَ (مزمور 36: 9)؛ ويعلق القديس اوغسطينوس "عرف الأَعمى يسوع ليس فقط كابن الإنسان كما اعتقد قبل ذلك، بل ابن الله الذي أخذ جسدنا".  ونحن ما الذي نستطيع أن نراه في المسيح ما لم نكن نستطيع رؤيته من قبل؟ امَّا عبارة " يا ربّ" في الاصل اليوناني κύριε "(معناها يا سيد) فتشير الى اسم المُخلص يسوع المسيح في الجماعة المسيحية بعد قيامته كما جاء في تعليم بولس الرسول "وجُعِلَ ابنَ اللهِ في القُدرَةِ، بِحَسَبِ روحِ القَداسة، بِقِيامتِه مِن بَينِ الأَموات، أَلا وهو يسوعُ المسيحُ ربّنا" (رومة 1: 4). وهذا الاسم يتضمن احتراما وثقة من قبل الذين يقتربون من يسوع ويترقبون منه عونا متل المرأة السامرية (يوحنا 4: 11)، او شفاء مثل الابرص الذي يَدنو من يسوع " فيَسجُدُ لَه ويقول: ((يا رَبّ، إِن شِئتَ فأَنتَ قادِرٌ على أن تُبرِئَني (متى 8: 2) ويعبّر هذا الاسم عن الاعتراف بسر يسوع الإلهي كما جاء في بشرى الملائكة للرعاة " وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ "(لوقا 2: 11). أمَّا عبارة "سجَدَ له" فتشير الى عمل تعبدي، إذ قدّم له سجودًا لائقًا بالعبادة لله. فإعلان الايمان ادّى به الى السجود، أي العبادة بالروح والحق.  لذلك يطلب بطرس الرسول من المؤمنين "انمُوا في النِّعمَةِ وفي مَعرِفَةِ رَبِّنا ومُخَلِّصِنا يسوعَ المسيح" (2 بطرس 3: 18)

 

39 فقالَ يسوع: ((إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون)).

 

تشير عبارة "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ" الى دينونة عَمى اليهود لأنهم ابوا ان ينظروا الحق. والدينونة هي نتيجة حتمية لمجيء المسيح " لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن "(يوحنا 5: 22). بالدينونة يُظهر المسيح ما في القلوب، ويميّز الأبرار من الأشرار؛ أنه نور، والنور حين يظهر يكشف من معه ومن ضده، "ها إِنَّه جُعِلَ لِسقُوطِ كَثيرٍ مِنَ النَّاس وقِيامِ كَثيرٍ مِنهُم في إِسرائيل " (لوقا 2: 24). أمَّا عبارة " لإِصدارِ حُكْمٍ " في الأصل اليوناني κρίμα (معناها دينونة) فتشير الى مجيئين: لم يأتِ المسيح في مجيئه الأول ليُدين، بل ليُخلِّص، ولكن اعمال الانسان اوجبت الدينونة عليه. وفي مجيئه الثاني أتى يسوع للدينونة لا للخلاص. والدينونة هي الانفصال عن المسيح، والمسيح هو النور والحياة والفرح والسلام والمجد. أمَّا عبارة " أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون " فتشير الى انقلاب في المواقف. فعبارة "يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون " تشير الى العميان الذين يؤمنون بيسوع المسيح فيُشفون ويبلغون معرفة الوحي، كالأعمى الذي شفاه يسوع والمرأة السامرية والمتواضعين هؤلاء نالوا البصيرة الروحية فروا طريق الحق والخلاص.  أمَّا عبارة " ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون " فتشير الى الفِرِّيسيِّينَ المتباهين بالنور، وحكماء في أعين أنفسهم (لوقا 10: 21)، مدَّعين ان لديهم "مِفتاحِ المَعرِفة" (لوقا 11: 52) لكنهم عاجزون عن رؤية يسوع الذي يأتي بنور الخلاص "أَنا نورُ العالَم" (يوحنا 9: 5) وينكرونه ليس جهلاً ولكن تجاهلاً للحقيقة. فهم يغلقون على أنفسهم للأبد في الظلمات والهلاك كما صرّح يسوع " مَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 17).

 

40 فسَمِعَه بَعضُ الفِرِّيسيِّينَ الَّذينَ كانوا معَه فقالوا له: ((أَ فنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟))

 

عبارة " الفِرِّيسيِّينَ " مشتقة من الآرامية הַפְּרוּשִׁים (معناها المنعزل) تشير الى إحدى فئات اليهود الرئيسية الثلاث مع الصدُّوقيين والأسِّينيين. والفريسيون هم قادة اليهود في الأمور الدينية. وقد حصروا الصلاح في طاعة الشريعة فجاءت ديانتهم ظاهرية وليست قلبية داخلية. واشتهر معظمهم بالرياء والعجب فوبَّخهم السيد المسيح بشدِّة على ريائهم وادعائهم البرّ كذباً وتحميلهم الناس أثقال العرضيات دون الاكتراث لجوهر الشريعة (متى 5: 20 و16: 6 و11 و12 و23: 1ـ 39). والغريب انهم هنا يتكلمون مع الجميع بشأن الأعمى المُعافى إلا معه. إنهم يتكلمون عنه ولكن ليس معه مباشرة. امَّا عبارة " أَفنَحنُ أَيضاً عُمْيان؟" فتشير الى استفهام من يسوع يدل على نوع من التهكم كأنهم يقولون نحن علماء الشريعة أتحسبنا عميان بالروح. أدراك الفِرِّيسيِّينَ أنه يتحدث عن العمى الروحي، فسألوه إن كان يقصدهم بهذا. وهذا دليل على كبريائهم وترفُّعهم على الآخرين، فهم يشعرون أنهم حكماء واذكياء، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "قول الفِرِّيسيِّينَ للسيد المسيح "ألعلَّنا نحن أيضًا عميان؟" على نحو ما قالوا في غير هذا الموضع: "إننا ذرية إبراهيم ولم نُستعبد لأحد قط؛ إننا لم نولد في زنى" (يوحنا 8: 33، 41) هكذا قالوا الآن". وهم نسوا ما قاله بولس الرسول "وإِنَّنا نَعلَمُ أَنَّ كُلَّ ما تَقولُه الشَّريعة إِنَّما تَقولُه لِلَّذينَ هم في حُكْمِ الشَّريعة، لِكَي يُخرَسَ كُلُّ لِسان ولِكَي يُعرَفَ العالَمُ كُلُّه مُذنِبًا عِندَ الله" (رومة 3: 19).

 

41 قالَ لَهم يسوع: ((لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة)).

 

تشير عبارة " لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة " الى عفو عَمى الجهل، إذ لو كان الفِرِّيسيُّونَ عُميانا على مثال الذي الرجل شُفى، لكانوا بلا خطيئة مثله.  لان المسؤولية على قدر الادراك والمعرفة. أمَّا عبارة " تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر " فتشير الى اعتراف الفِرِّيسيِّينَ ان لهم وسائط المعرفة الحق والنبوءات وهم يعتمدون بعُجب على ما عندهم، ومع ذلك فهم لا يؤمنوا بيسوع الذي يستطيع وحده ان ينتشلهم من الخطيئة بسبب عمى الكبرياء والاكتفاء الذاتي الذي يمنع من رؤية الحق، لذلك يحل عليهم غضب الله "مَن آمَنَ بِالابن فلهُ الحَياةُ الأَبديَّة ومَن لم يُؤمِنْ بالابن لا يَرَ الحَياة بل يَحِلُّ علَيه غَضَبُ الله " (يوحنا 3: 36). أمَّا عبارة "خَطيئَتُكُم ثابِتَة" فتشير الى دينونة أعظم للفريسيين بسبب ما لهم من امتيازات لكنهم ادَّعوا أنهم مُبصرون، قادرون على إدراك الحق وتمييزه عن الباطل ويفهمون الشريعة والنبوات، لذا أغلقوا على أنفسهم، وصارت خطيتهم ثابتة. وتقوم خطيئتهم على رفض رؤية العمل الذي يقوم به الله من خلال يسوع ابنه الوحيد وادعاءهم انهم يدركون أفضل من المسيح. فمثلهم هو مثل فِرعَون الذي لم يريد أن يرى عمل الله في الخَوارِقَ التي صنعها موسى وهارون امامه بل قَسَّى قَلبَه (خروج 11: 10). والجدير بالملاحظة ان رواية شفاء الأعمى تبدأ وتنتهي بالإشارة إلى علاقة الخطيئة بالعمى. خطيئة الفريسيين باقية عليهم لأنهم باختيارهم عموا أنفسهم عن المسيح، ولم يؤمنوا به، لذلك تعتبر خطيئتهم تجديف على الروح القدس الذي لا مغفرة لها.  كما صرّح يسوع "أَمَّا مَن جَدَّفَ على الرُّوحِ القُدُس، فلا غُفرانَ له أبداً، بل هو مُذنِبٌ بِخَطيئةٍ لِلأَبَد (مرقس 3: 29). ويتضَّح ان الخاطئ الحقيقي هم اولئك اليهود العميان المتكبرون الذين لم يؤمنوا بيسوع النبي وابن الله الحي القادر على الشفاء.  ويتضح أيضا ان يسوع يبدأ كلامه بإجابة تلاميذه عن العمى الجسدي الذي لا علاقة بين العمى الجسدي والخطيئة ((لا هذا خَطِئَ ولا والِداه" (يوحنا 9:3)، وينتهي كلامه مع الفريسيين مبينا العلاقة بين الخطيئة والعمى الروحي " لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة)).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 9: 1-41)، نستنتج انه يتمحور حول معجزة شفاء الأعمى، وهي معجزة من سبع معجزات اختارها يوحنا الرسول لتدوينها في انجيله، وهي: معجزة عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 1-11) وشفاء ابن عامل الملك (يوحنا 4: 46: -54)، وشفاء مقعد بركة باب الغنم (يوحنا 5: 1-9)، ومعجزة تكثير الخبز والسمكتين (يوحنا 6: 1-21، وإحياء لعازر (يوحنا 11: 1-44). وتُبين معجزة شفاء الأَعمى منذ مولده آية من آيات اعمال الله في ابن الانسان، يسوع المسيح، وآية للانتفال من الظلمة الى النور.

 

1. شفاء الأَعمى: آية من آيات عمل الله

 

انفرد إنجيل يوحنا برواية معجزة شفاء الأعمى، وهي واحدة من المعجزات الثلاث التي ذكر ان يسوع صنعها في منطقة اليهودية. وهي إحدى المعجزات التي توقع اليهود ان يصنعها يسوع عند مجيئه بناء على نبوءة أشعيا "وفي ذلك اليَومِ يَسمعُ الصُّمُّ أقْوالَ الكِتاب وتُبصِرُ عُيونُ العُمْيانِ بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام " (أشعيا 29: 18).  وهذه المعجزة هي آية أوردها يسوع على انه المسيح بقوله الى تلاميذ يوحنا المعمدان" اِذهبوا فَأَخبِروا يُوحنَّا بِما تَسمَعونَ وتَرَونالعُميانُ يُبصِرون والعُرْجُ يَمشونَ مَشْياً سَوِيّاً، البُرصُ يَبرَأُون والصُّمُّ يَسمَعون، المَوتى يَقومون والفُقراءُ يُبَشَّرون"(متى 11: 4-5).

 

أثبت يسوع لليهود علنية في عيد المظال عند اليهود وأمام الكثيرين أنه "نور العالم" والمُرسل من الله عن طريق شفائه للمولود الأَعمى منذ مولده الذي كان يتواجد حول الهيكل في اورشليم.  فقول يسوع انه "نور العالم" هو بيان نتيجة إيمان البعض به ورفض البعض إياه. فالأعمى آمن به فانتقل من ظلمة العين الى النور العين ثم من الظلمة الروحية الى النور الروحي.

 

 وقدّم يوحنا الإنجيلي البشير هذا الشفاء كآية من آيات عمل الله. وقد وضع يسوع عمله في خطة عمل الله، وعمل الله يعني نشاطه الخلاّق وتدخلاته في سبيل شعبه كما صرّح يسوع " لا هذا خَطِئَ ولا والِداه، ولكِن كانَ ذلك لِتَظهَرَ فيه أَعمالُ الله" (يوحنا 9: 3). ويعلق القدّيس إيريناوس اللِّيونيّ " عندما شفى يسوع الأعمى منذ مولده، لم يُعِدْ له بصره بواسطة كلمة فقط، إنّما من خلال عمل قامَ به. هو لم يفعلْ ذلك صدفةً أو بدون سبب، بل ليُظهرَ يد الله التي جبلَتْ الإنسان منذ البدء.  فيسوع "هو صُورَةُ اللهِ الَّذي لا يُرى وبِكْرُ كُلِّ خَليقَة... ففيه خُلِقَ كُلُّ شيَء... كُلُّ شيَءٍ خُلِقَ بِه ولَه» (قولسي 1: 15–16) (ضدّ الهرطقات، الجزء الخامس)

 

وعندما ردّ يسوع الى الأَعمى بصره، أوضح انه ادَّى عمل الذي ارسله " يَجِبُ علَينا، مادامَ النَّهار، أَن نَعمَلَ أَعمالَ الَّذي أَرسَلَني" (يوحنا 9: 4)، لذا لا تهدف اعمال المسيح إلا لإظهار عمل الآب "أَرَيتُكم كثيراً مِنَ الأَعمالِ الحَسَنةِ مِن عِندِ الآب" (يوحنا 10: 23). ويسوع يعمل اعمال الله على انها أعمال ابيه السماوي. ولم يخطئ رد فعل اليهود في هذا "اشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18).

 

وأعمال الله التي يأتي بها يسوع تكشفه كابِن الله. وهذا هو جوهر المعجزة: وحدة عمل ووحدة كيان بين الآب والابن. إن الابن والآب واحد، فمن رأى عمل الابن رأى عمل الآب، ومن رآه رأى الآب كما قال يسوع الى تلميذه فيلبس "أَلا تُؤِمِنُ بِأَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ؟ إنَّ الكَلامَ الَّذي أَقولُه لكم لا أَقولُه مِن عِندي بلِ الآبُ المُقيمُ فِيَّ يَعمَلُ أَعمالَه. صَدِّقوني: إِنِّي في الآب وإِنَّ الآبَ فيَّ وإِذا كُنتُم لا تُصَدِّقوني فصَدِّقوا مِن أَجْلِ تِلكَ الأَعمال"(يوحنا 14: 10-11).

 

لهذا السبب، رؤية آيات اعمال يسوع هي بلوغ الحد الأقصى في الايمان، التي شهد لها الأَعمى على مراحل. في المرحلة الأولى: اعترف الأَعمى ان يسوع نبياً، وذلك في ختام الاستجواب الأول الذي فرضه الفِرِّيسيُّونَ عليه بقولهم " أَنتَ ماذا تَقولُ فيه وقَد فَتَحَ عَينَيكَ؟ قال: إِنَّهُ نَبِيّ " (يوحنا 9: 17).

 

وفي المرحلة الثانية، أعلن الأَعمى انه ما من أحد في إسرائيل حتى اليوم كان "رجل الله" بمقدار يسوع. في نهاية الاستجواب الثاني، صرّح الأَعمى بهذه الحقيقة "فلَو لم يَكُن هذا الرَّجُلُ مِنَ الله، لَما استَطاعَ أَن يَصنَعَ شَيئاً" (يوحنا 9: 33).

 

وأمَّا المرحلة الثالثة فهي مرحلة الاضطهاد بسبب الشهادة التي قام الأَعمى بتأديتها للمسيح. فبلغ الأَعمى المُعافى أقصى درجات شهادته فأحتمل الاضطهاد وطُرد من المجمع من أجل يسوع (يوحنا 9: 35)؛ وقد تنبأ يسوع عن الاضطهاد " أُذكُروا الكَلامَ الَّذي قُلتُه لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظمَ مِن سَيِّده. إِذا اضطَهَدوني فسَيَضطَهِدونَكم أَيضاً" (يوحنا 15: 20). وفي المرحلة الأخيرة شهد الأَعمى ليسوع ربا والهاً "فقال: ((آمنتُ، يا ربّ)) وسجَدَ له" (يوحنا 9: 35-38).

 

ورأى الأَعمى يسوع في قوة عمله فشهد له قائلا "آمنتُ، يا ربّ، وسجَدَ له" (يوحنا9: 38)؛ فالاطلاع على يسوع كآية بصورة صحيحة تؤدِّي الى رؤية مجد المسيح والى الايمان به كما ورد في إنجيل يوحنا "لمَّا كانَ في أُورَشَليمَ مُدَّةَ عيدِ الفِصْح، آمَنَ بِاسمِه كثيرٌ مِنَ النَّاس، لمَّا رَأَوا الآياتِ الَّتي أَتى بِها" (يوحنا 2: 32).

 

ان الايمان، الذي هو انضمام الانسان بثقة الشخص الابن، هو الشرط الوحيد لنيل الحياة الابدية، وأكد ذلك يوحنا الإنجيلي "لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). اتى يسوع لملاقاته وكشف له عن كونه " ابن الانسان"، أي ذاك الذي اتى من السماء ليجمع شمل البشر ويرتفع بهم الى المشاركة في حياة الله كما صرّح "الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ستَرونَ السَّماءَ مُنفَتِحَة، وملائِكَةَ اللهِ صاعِدينَ نازِلينَ فَوقَ ابنِ الإِنْسان" (يوحنا 1: 51). فإذا كان الابن يُدعى ابن الانسان، لانّ له سلطة الدينونة.

 

في العهد القديم والأدب الرؤيوي اليهودي (سفر دانيال) نرى " ابن الانسان" يظهر على غمام السماء ويمارس الدينونة او القضاء في الأزمنة الأخيرة. وهذه هي السلطة التي اولاها الاب للابن "أَولاهُ سُلطَةَ إِجْراءِ القَضاء لأَنَّه ابنُ الإِنسان" (يوحنا 5: 27). وفي الاعمال التي يعملها يسوع، مُنح الانسان القدرة على اتخاذ القرار وباتت مسالته مسالة حياة او موت "مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24). وبعد ان طرد اليهود الأَعمى لَقِيَه يسوع وقالَ له: ((أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟)) (يوحنا 9: 39). وبهذا السؤال أوجز يسوع دوره في الدينونة والقضاء بقوله " إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون" (يوحنا 9: 39). فأعمال يسوع سرّ يحتجب عُمقه عن الذين لم يؤمنوا به. وبعد ان شُفى المقعد يوم السبت، القى اليهود مسؤولية الامر على يسوع فأجابهم " فاشْتَدَّ سَعْيُ اليَهودِ لِقَتلِه، لأَنَّه لم يَقتَصِرْ على استِباحَةِ حُرمَةِ السَّبْت، بل قالَ إِنَّ اللهَ أَبوهُ، فَساوى نَفْسَه بِالله" (يوحنا 5: 18).

 

ونستنتج مما سبق التوصيات التالية: أولا: انه لا يجوز ان نلوم المصابين ونحتقرهم كأن الله قد غضب عليهم كما فعل الفريسيون بالرجل الأعمى منذ مولده بل واجبنا ان نشفق عليهم؛ ثانيا: لا يجوز ان ننسب كل مصيبة الى خطيئة شخصية كما عمل أصدقاء ايوب البار معه "فقَد أَثموا أيّوب " (أيوب 32: 3). قد يسمح الله بحكمته بالمصائب لخير أعظم مثل ان تكون وسيلة الى إظهار رحمته وقوّته ومحبته وتمجيده تعالى وواسطة نعمة لنا " فإِنَّ الَّذي بُحِبُّه الرَّبُّ يُوَبِّخُه كأَبٍ يُوَبِّخُ ابنًا يَرْضى عنه"(أمثال 3: 12) "إنَّ كُلَّ تَأديبٍ لا يَبْدو في وَقتِه باعِثًا على الفَرَح، بل على الغَمّ. غَيرَ أَنَّه يَعودُ بَعدَ ذلِكَ على الَّذينَ رَوَّضَهم بِثَمَرِ البِرِّ وما فيه مِن سَلام (عبرانيين 12: 6، 11)، " إِنِّي مَن أَحبَبتُه أُوَبِّخُه وأُؤَدِّبُه فكُنْ حَمِيًّا وتُبْ" (رؤية 3: 19). ثالثا: يتوجب على المصابين التسلح بالصبر لأنه ربما لم يظهر قصد الله من مصائبهم الاَّ بعد زمان طويل ربما لم يظهر لهم الاّ بعد الموت.

 

2. شفاء الأَعمى آية للانتقال من الظلمة الى النور

 

في انجيل يوحنا قدّم يسوع نفسه أنه الماء الحي (يوحنا 4: 10) ثم خبز الحياة (يوحنا 6: 35) واليوم يُقدِّم نفسه نور العالم "ما دُمتُ في العالَم. فأَنا نورُ العالَم"(يوحنا 9: 5). اعترف يسوع بواقع المرض وحاول ان يشفيه ليُقدم للمريض آية أو علامة للوصول الى النور الحقيقي يسوع المسيح، السبيل الوحيد للخلاص " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة (يوحنا 8: 12). إنّ النور هو عطيَة السيد المسيح لمن يطلبه كما نرى ذلك في نص الرجل الأعمى حين تفتّح بصره وعرف الرب. طلب أن يبصر الطريق ليسير مع الطريق وفي الطريق وبالطريق إلى نهاية الطريق، طريق الحق والحياة لأنه، أي يسوع، هو وحده الطريق والحق والحياة.

 

أصاب المثل القائل "العيون نوافذ العقل والروح". ولما نال الأَعمى شفاء البصر، انفتح قلبه وعقله وبصيرته للحقيقة عن المسيح، معترفا به: " آمنتُ، يا ربّ وسجَدَ له" (يوحنا 9: 34). ولمَّا شهد بإيمانه بيسوع أنه نور العالم، وابن الانسان والديان، انتقل من الظلمة الى النور، من ظلمة العمى الى نور البصر، ومن الموت الى الحياة. وموضوع النور والظلمة منتشرة في انجيل يوحنا. أشرق النور في الظلمات (يوحنا 1: 5) وشهد له يوحنا المعمدان "لم يَكُنْ هو النُّور بل جاءَ لِيَشهَدَ لِلنُّور."(يوحنا 1: 8). فعندما جاء يسوع الى العالم، حقَّق الامل المسيحاني بتمكين العميان من استعادة البصر الذي هو أحد أعمال المسيح المنتظر كما تنبأ أشعيا النبي "في ذلك اليَومِ تُبصِرُ عُيونُ العُمْيانِ بَعدَ الدَّيجورِ والظَّلام " (أشعيا 29: 18). وبما ان يسوع هو النور الآتي الى العالم ففي إمكانه أن يُنير العالم. كما صرّح "جِئتُ أَنا إِلى العالَمِ نوراً فكُلُّ مَن آمَنَ بي لا يَبْقَى في الظَّلام" (يوحنا 12: 46). ورسالته هي انارة لا للعيون فقط، بل للقلوب ايضا.

 

ونستنتج مما سبق أنّ مجيء المسيح أصبح أمراً حاسماً، فالأَعمى منذ مولده أُبصر بعيني جسده. وأبصر بنور الايمان: حين اعترف بيسوع "ابن الانسان" وسجد له.  وبلغ ايمانه تدريجيا: ذكره بقوله انه انسان" إنَّ الرَّجُلَ الَّذي يُقالُ لَه يسوع" (يوحنا 9: 11) ثم " إِنَّهُ نَبِيّ" (يوحنا 9: 17) ثم " هذا الرَّجُلُ مِنَ الله"(يوحنا 9: 33) حتى بلغ ذروة الايمان بقوله " آمنتُ، يا ربّ انه المسيح المنتظر (يوحنا 9: 38). فان يسوع كون نور العالم مكّن الأعمى من رؤية ضوء الشمس الحقيقي بعين جسده ورؤية شمس البر بإيمانه.

 

أمَّا جيران الأَعمى وهم شهود عيان لِما حدث، يعرفون الأَعمى تمام المعرفة ولكنهم بسبب عظمة المعجزة وعدم توقعهم لحدوثها، أبدوا دهشة وتشككاً. وأمَّا والداه آمنا، لكنهما خافا ان يعترفا بالمسيح خشية طردهما من المجمع، أمَّا في نظر الفِرِّيسيِّينَ مجيء يسوع نور العالم فهو امر مزعج لأنهم لا يبصرون الحقيقة فهم في العمى الداخلي كما صرّح يسوع " إِنَّما الدَّينونَةُ هي أَنَّ النُّورَ جاءَ إِلى العالَم ففضَّلَ النَّاسُ الظَّلامَ على النُّور لأَنَّ أَعمالَهم كانت سَيِّئَة. فكُلُّ مَن يَعمَلُ السَّيِّئات يُبغِضُ النُّور فلا يُقبِلُ إِلى النُّور لِئَلاَّ تُفضَحَ أَعمالُه" (يوحنا 3: 19-20). أنّ الأعمى الحقيقي ليس من فقد النظر بالعين لأن هذا الأعمى، رغم انه فقد النظر بعينيه، إلا أنّه يبصر بقلبه وعقله وفكره، وما قوله ليسوع: "يا ابن الله"، في وسط الجموع، إلا تأكيداً على أنّ قلبه وفكره كانا مستنيرين ومبصرين. إنه آمن بالمسيح.

 

جاء يسوع الى العالم "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حكم"، الدينونة هي النتيجة الحتمية لمجيء المسيح على الارض كي "يكون نور العالم". "أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون": من يقبلون الى النور ينالون الايمان وهكذا كان موقف والدا الأَعمى منذ ولادته وموقف الأَعمى الذي انتقل من العمى الى رؤية الايمان ومعرفة يسوع المسيح، وأمَّا الذين يعتبرون انهم يمتلكون الحقيقة وأظهروا عدم الايمان والانكار والحقد مثل الفِرِّيسيِّينَ فهم يبقون في ظلمة الشر والخطيئة "فخَطيئَتُهم ثابتة".

 

فيما أظهر الرجل الأعمى إيمانه بيسوع اظهر الفِرِّيسيُّونَ عدم الإيمان والإنكار والتحيّز، فهم لا يريدون ان يروا ويَظنون أنهم يرون، ويعتبرون انهم يمتلكون الحقيقة، وهم مراؤون في مفهوم يوحنا الإنجيلي، إذ يستبدل يوحنا البشير لقب مرائي بلقب أعمى؛ فخطيئتهم تقوم على قولهم "إننا نرى" في حين أنهم عميان (يوحنا 9: 40). فعدم ايمان الفِرِّيسيِّينَ لا يرتكز على عدم كفاية البراهين، بل على الحقد والغيرة وتفضيل الظلام، فهم يُعلنون موقفهم السلبي تجاه يسوع، ويرفضون الايمان بآية يسوع وعمله في شفاء الأَعمى، فلم يوصلوا الى جوهر السر الذي يُمكنهم في الحقيقة من القول " إني أرى"، لذا جاء حُكم المسيح "إِنِّي جِئتُ هذا العاَلمَ لإِصدارِ حُكْمٍ: أَن يُبصِر الَّذينَ لا يُبصِرون ويَعْمى الَّذينَ يُبصِرون" (يوحنا 9: 39). فهم عميان يحكمون على نفوسهم ويسجنون نفوسهم في ظلمة الشر. ادعى الفِرِّيسيُّونَ أنهم مبصرون. بادعائهم هذا صاروا في غباوة بلا رجاء، وحكموا على أنفسهم، أمَّا العشارون إذ اعترفوا بعماهم فانفتح أمامهم باب الرجاء وتمتعوا ببصيرة فائقة ونعِموا بالحياة الأبدية في المسيح يسوع.

 

وتجاه يسوع، لا تتمَّ الاستنارة بالإيمان إلا للذين يعلمون أنهم العميان. فلا بد لمن يريد ان يرى مجد المسيح ان ينسى علمه. أمَّا الذين يقولن إنهم يعلمون ويرون، فإنهم لا يضعون أنفسهم موضع الاستنارة، لذلك تظل خطيئتهم ثابتة كما صرّح لهم يسوع: "لو كُنتُم عُمْياناً لَما كانَ علَيكُم خَطيئة. ولكِنَّكُم تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة"(يوحنا 9: 41).

 

أمَّا الذين يتقبلون نور المسيح، مثل هذا الأَعمى، فهم ينتقلون من العمى الى رؤية الايمان وفي النهاية يكتشفون يسوع هو المسيح "لِتُؤمِنوا بِأَنَّ يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). فمن يريد ان يقدم نفسه للمسيح، عليه ان يَطرح على نفسه السؤال الذي طُرح يسوع على الأَعمى منذ مولده "أَتُؤمِنُ أَنتَ بِابنِ الإِنسان؟" (يوحنا 9: 35).

 

الخلاصة
 

يدل إنجيل شفاء الأعمى منذ مولده طريق الإيمان. وذلك بالسماع. كما امنت المرأة السامرية التي ترى المسيح المنتظر في الرجل الذي يتحدث معها قائلا "أنا هو، أنا الذي يكلمك" (يوحنا 4: 26)، كذلك آمن الرجل الأعمى منذ مولده عندما وجّه له يسوع كلمته: أتؤمن أنت بابن الإنسان؟" فقال: "آمنت، يا رب" وسجد (يوحنا 9: 35-38). لقد سمع يسوع وآمن وسجد، غسل وجهه فرأى، ولم يسترد بصر عينيه فحسب، إنما بصيرة قلبه، فتغيّرت حياته، إذ أعلن إيمانه بالمسيح: انسانا فنبيّاً ثم ربّاً وابن الانسان.

 

أظهر يسوع حقيقة رسالته في هذه المعجزة انه نور العالم. فالأَعمى الذي شُفي قد آمن بيسوع، أمَّا الفِرِّيسيُّونَ فلم يؤمنوا بل تثبتوا في رفضهم، فأدان يسوع عماهم بتعابير قاسية: انهم عميان ويجهلون " تَقولونَ الآن: إنَّنا نُبصِر فخَطيئَتُكُم ثابِتَة" (يوحنا 9: 41). هكذا ينقسم العالم إلى مؤمنين وغير مؤمنين: فريق يعترف بعماه فيؤمن ويقبل النور، وآخر يظن أنه مُبصر فيرفض الإيمان ويبقى في ظلمته، ويصير حضور يسوع وأعماله وآياته دينونة عليهم.

 

دعاء
 

أيها الرب يسوع، إله المطرودين والمرْذولين، تتطلع إلينا بعينيك كما تطلعت إلى المولود أعمى! اقلب ظلامنا نوراً، واشفِ بحبك قلوبنا وبصائرنا! فتنفتح عيوننا معترفين أنك أنت هو النهار الذي لا يكف عن العمل! أنت النور الذي يُبدد الظلمة التي فيّنا! أنت النور المُشرق في داخلنا التي لا تقدر قوات الظلمة أن تقاومه. ولتشرق عليّنا بنورك البهي، فنصير ابناء النور ونرى أبواب السماء مفتوحة أمامنا ترحب بنا! آمين.