موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ مارس / آذار ٢٠٢٠

يسوع والمرأة السامرية عند بير يعقوب

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الثالث من الزمن الاربعيني

الاحد الثالث من الزمن الاربعيني

 

يُسلط إنجيل يوحنا (يوحنا 4: 5-42) الأضواء على رسالة يسوع في منطقة السامرة ولقائه مع المرأة السامرية والسامريين عند بئر يعقوب (يوحنا 4: 5-42). وكان محور رسالته هو خلاص الجميع، ولكل انسان مهما كان جنسه او مركزه الاجتماعي او خطاياه السابقة. سعى السيد المسيح وراء كل نفس مشتاقًا لرجوعها لله تعالى مبتدئا في حوار مع السامرية في بئر يعقوب الواقع حاليا في نابلس، وكان يسوع يعرف جيدًا ما كان في قلبها؛ ومع ذلك لم يمنعها من التعبير عن ذاتها، بل تركها حتى أنهت حديثها، ودخل شيئًا فشيئًا في سر حياتها.الى ان تغيّرت وآمنت ونالت الخلاص. فكل إنسان غالٍ على قلب يسوع مهما كان! ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 4: 5-42)

 

4 وكانَ علَيه أَن يَمُرَّ بِالسَّامِرَة

 

تشير عبارة "علَيه أَن يَمُرَّ بِالسَّامِرَة" الى أهمية الحدث الذي قصده يسوع لإتمام رسالة الخلاص في السامرة حيث ان المسيح أتى وتجسَّد لهذا السبب. فالخلاص ليس فقط لليهود بل لجميع الشعوب، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لم يمضِ إلى الجليل بلا هدف، وإنما لينجز أمورًا هامة معينة بين السامريين مظهرًا أنه قام بهذا العمل العرضي أثناء الرحلة. لم يذهب إلى الأمم فورًا وإنما أثناء عبوره"؛ فقد مرّ بالسامرة في طريقه متوجهاً من اليهودية إلى الجليل، وهذه الرحلة تحتاج إلى ثلاثة أيام سفر. فكانت السامرة احدى الطريقين للصعود من اليهودية الى الجليل: إمَّا من وادي الاردن، وإمَّا من السامرة. وكان اليهود يفعلون أي شيء لتجنب المرور خلال السامرة، ومع ذلك اختار يسوع السامرة في مخططه ليجعل المرأة السامرية مُمثلة عن السامريين في تقبلهم للمسيح، كما كان نيقوديموس يُمثل اليهود (يوحنا 3: 1-9). وتعتبر رسالة يسوع في السامرة صورة مسبقة عن رسالة فيلبس، مبشّر السامرة (اعمال الرسل 8) ومقدِّمة للتبشير الى الوثنيين (يوحنا 12: 20-24). وكان باستطاعة يسوع ان لا يمرّ بالسامرة، بل يسير في شرق الأردن (متى 19: 1) كما كان يفعل اليهود الذين كانوا يتجنبون الاتصال بالسامريين، لأنهم كانوا يكرهونهم بسبب فساد أصلهم واختلاف أفكارهم الدينية. والبرهان على ذلك، احتقر الفريسيون ليسوع، وحسبوه سامريا، واعتبروه ممسوسا من قبل الشيطان (يوحنا 8: 48). أمَّا عبارة "السَّامِرَة" فتشير الى القسم الوسطي من فلسطين التي كانت مقسّمة في أيام السيد المسيح إلى ثلاثة أقسام: اليهودية في الجنوب حيث توجد مدينة اورشليم والهيكل. والجليل أو جليل الأمم في الشمال، وهي تضم كثير من الأمم الذين قبلوا الإيمان اليهودي. ثم السامرة وهي في المنتصف، ويبلغ طولها 75 كم من الشمال إلى الجنوب و64 كم من الشرق إلى الغرب، وتحدُّها اليهودية في الجنوب، والأردن من الشرق، وسهل شارون من الغرب، وسهل يزرعيل (مرج بن عامر) في الجليل من الشمال، وقد استولت على أرض السامرة سبطي: منسي وإفرائيم. وهي أجمل أراضي المنطقة وأخصبها، وعاصمتها مدينة السامرة (عاصمة مملكة الشمال، مملكة إسرائيل). وتقلصت منطقة السامرة أيام المسيح لبعض مدن تحيط بشكيم. وما ذِكْرُت منطقة السامرة هنا إلا لارتباطها مع تصميم الله بإدخال كل الذين يؤمنون بيسوع إلى الحياة الأبدية. ومن هذا المنطق، فان ارسالية يسوع شملت شعوب العالم غير اليهودية او شبه اممية.

 

5 فوَصَلَ إِلى مدينةٍ في السَّامِرَةِ يُقالُ لَها سيخارَة، بِالقُرْبِ مِنَ الأَرضِ الَّتي أَعْطاها يَعقوبُ لابنِه يُوسُف

 

تشير عبارة "مِنَ السَّامِرَةِ" الى اسم عبراني שֹׁמְרוֹן (معناه مركز الحارس) الى إقليم السامرة ويضم وسط فلسطين ويقع بين الجليل في الشمال واليهودية في الجنوب. وفي عام 63 ألحقها بومبي بولاية سوريا وفي عام 6 ق.م. أقام الإمبراطور أغسطس عليها حاكماً، وكانت هذه حالتها وقت مرور يسوع المسيح بها. امَّا عبارة "سيخارَة" وفي الأصل اليوناني " Συχάρ (ومعناها "سكر"، لأن سكانها كانوا مُحبِّين للسكر) الى قرية "عسكر" بالقرب من شكيم، وهي نابلس اليوم حيث اشترى يعقوب ارضا (التكوين 33: 18-19) وأعطاها ليوسف (التكوين 48: 20-24)، وهي تقع على مسافة نحو 800م شمالي بئر يعقوب. وتبعد حوالي 64كم من القدس، و83كم من أريحا. اما القديس ايرونيموس فيقول "أنها شكيم وليست سوخار، وكانت تدعى في أيامه نيابوليس ".  واسم المدينة الحالي فهو نابلس؛ اما عبارة " الأَرضِ الَّتي أَعْطاها يَعقوبُ لابنِه يُوسُف" فتشير الى قطعة الحقل قبالة شكيم كما ورد في سفر التكوين "وَصَلَ يَعْقوبُ سالِمًا إِلى مَدينةِ شَكيمَ الَّتي بأَرضِ كَنْعان، حينَ عادَ مِن فدَّانَ أَرام، فخيَّمِ قُبالَةَ المَدينة. واَشْتَرى قِطعَةَ الحَقْلِ الَّتي نَصَبَ فيها خَيمَتَه مِن بَني حَمورَ أَبي شَكيم بِمِئَةِ قَسيطة (فضة)" (التكوين 33: 18-20)، وبنى مذبحًا ودعاه إيل، إله إسرائيل. وقد ترك يعقوب هذا الحقل كميراثٍ خاصٍ بيوسف وأبنائه (التكوين 48: 21-22)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يعتز السامريون بإبراهيم ويدعونه أباهم، إذ هم من الكلدانيين، ودعوا يعقوب أيضًا أباهم بكونه من نسله".  أمَّا عبارة " يَعقوب" اسم عبري יַעֲקֹב (معناه يعقب، يمسك العقب، يحل محل) فيشير الى أحد الآباء الثلاثة الكبار للعبرانيين. وهو ابن اسحق ورفقة وتوأم عيسو. واخذ يعقوب بركة أبيه بدلاً من عيسو اختلاسا (تكوين 27). ومع أنه اختلس البكرية، فقد أصبح وارث المواعيد. وتزوَّج من راحيل وليئة. ولد له من امرأتيه وسريتيه أحد عشر ابناً وابنة (التكوين 31). وترك يعقوب ارض فدان ارام واتجه إلى أرض كنعان (التكوين 33: 1-18). واشترى أرضاً عند شكيم نصب فيها خيمته، وأقام هناك مذبحاً (التكوين 33: 18-20). وقبل موته بارك أولاً أولاد يوسف، ثم جميع أولاده، اسباط إسرائيل. وحنَّط أطباء مصر جثته. وجاء بها يوسف وأخوته إلى حبرون في موكب ودفنوها في مغارة مكيفلة في الخليل (التكوين 50: 1-14) وتغيّر اسمه يعقوب الى اسم إسرائيل الذي يُطلق على كامل أمته، بني اسرائيل (تثنية الاشتراع 33: 10).

 

6 وفيها بِئرُ يَعقوب. وكانَ يسوعُ قد تَعِبَ مِنَ المَسير، فَجَلَسَ دونَ تَكَلُّفٍ على حافَةِ البِئر. وكانَتِ الساعةُ تُقارِبُ الظُّهر.

 

تشير عبارة "بِئرُ" في الأصل اليوناني “πηγή   الى عين ماء تنبع في قعر بئر عميق. وفي هذا إشارة للمسيح ينبوع الحياة كما ورد في رؤيا يوحنا " إِنِّي سأُعْطي العَطْشانَ مِن يَنْبوعِ ماءِ الحَياةِ مَجَّانًا " (رؤيا 21: 6). امَّا عبارة "بِئرُ يَعقوب" فتشير الى بئر في قطعة الأرض التي ابتاعها يعقوب ونصب فيها خيمته " وَصَلَ يَعْقوبُ سالِمًا إِلى مَدينةِ شَكيمَ الَّتي بأَرضِ كَنْعان، حينَ عادَ مِن فدَّانَ أَرام، فخيَّمِ قُبالَةَ المَدينة. واَشْتَرى قِطعَةَ الحَقْلِ الَّتي نَصَبَ فيها خَيمَتَه مِن بَني حَمورَ أَبي شَكيم بِمِئَةِ قَسيطة. وأَقامَ هُناكَ مَذبَحًا ودَعاه بِاَسمِ إيل، إِلهِ إِسْرائيل" (التكوين 18-20). (التكوين 33: 19) وهي تقع حاليا في قبو كنيسة قائمة حتى اليوم كانت برعاية رهبان أرثوذوكس من روسيا الذين باشروا بناءها فوق البئر، لكن أتت الثورة الشيوعية عام 1917، ولم يتمَّ بناؤها، بل بقيت جدرانا واقفة بلا سقف، إلى سنة 1999 حيث كمَّل بناءها بمساحته 28 م2 الاب يوستينوس من كهنة الروم الأرثوذوكس.  والبئر على بُعد 76 متراً من تل بلاطة (شكيم) في الجزء الشرقي من مدينة نابلس على مصب الوادي الشرقي-الغربي، بالقرب من سيخارَة القديمة (قرية عسكر) في سفح جبل جرزيم. ولم يذكر هذه البئر في الكتاب المقدس الاّ في هذه الآية من إنجيل يوحنا؛ وهذه البئر هي اليوم واحدة من أكبر الشهادات على مرور المسيح في نابلس. امَّا عبارة " فَجَلَسَ دونَ تَكَلُّفٍ على حافَةِ البِئر " في الأصل اليوناني ἐκαθέζετο οὕτως ἐπὶ τῇ πηγῇ (معناها جلس هكذا على البئر) فتشير الى الحال التي كان عليها وهو تعبٌ مُبيِّنا سبب جلوسه. وماذا يعنى هكذا"؟ يعلق القديس يوحنا فم الذهبي " ليس على عرش ولا على وسادة، ولكن ببساطة على الأرض، على حجارة ملقاة بجوار البئر". لأنه ليس مؤكداً ان يكون للآبار حافة بل كانت فوهتها بمستوى الارض، ويُردّ عليها حجر كما ورد في سفر التكوين "وكانَ، إِذا جُمِعَتِ القُطْعان، يُدَحرَجُ الحَجَرُ عن فَمِ البِئر، فتُسْقى الغَنَم، ثُمَّ يُرَدُّ الحَجَرُ على فَمِ البِئرِ إِلى مَوضِعِه" (التكوين 29: 3)، وهذا هو حال الآبار القديمة اليوم في فلسطين؛ ما عبارة

 أمَّا عبارة "تَعِبَ مِنَ المَسير" فتشير الى يسوع الذي كإنسان حقيقي خضع للضعف الجسدي، وكان شبيه بنا في كل شيء كما جاء في الرسالة الى العبرانيين " لَقَدِ امتُحِنَ في كُلِّ شَيءٍ مِثْلَنا ما عَدا الخَطِيئَة" (العبرانيين 4: 15)، ويُعلق القديس أوغسطينوس "كان يسوع ضعيفًا في الجسد، لكيلا تصير أنت ضعيفًا، بل في ضعفه تصير قويًا، لأن " الضُّعْفَ مِنَ اللّه أَوفَرُ قُوَّةً مِنَ النَّاس " (1قورنتس 1: 25).  أمَّا عبارة " الساعةُ تُقارِبُ الظُّهر" في الأصل اليوناني ὥρα ἦν ὡς ἕκτη  (معناها الساعة السادسة بحسب التوقيت اليهودي آنذاك) فتشير الى  الساعة الثانية عشرة ظهراً في توقيتنا الحالي . وهذا الوقت غير ملائم لاستقاء الماء، فالوقت الطبيعي هو عند الصباح أو المساء حيث الشمس هادئة، والحاجة للماء في الاغتسال وإعداد الطعام. ووقت الظهر هي ساعة الحر التي فيها احتاج يسوع الى ماء ليشرب وسوف يحتاج الى ذلك الماء على الصليب، فيقول " أَنا عَطْشان" (يوحنا 19: 28).

 

7 فجاءَتِ امرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ تَستَقي. فقالَ لَها يسوع: اسْقيني.

 

تشير عبارة "فجاءَتِ امرَأَةٌ مِنَ السَّامِرَةِ تَستَقي" الى عمل من شأن المرأة في الشرق. لكن ساعة مجيء المرأة غير مألوفة. وكانت النساء يخرجن للاستسقاء من الآبار وجلب المياه مرتين يوميا صباحا ومساء. وقد جاءت هذه المرأة الى البئر ظهراً، ربما لتتجنَّب لقاء الناس، بسبب سمعتها السيئة، فجاءت بمفردها مما يدلُّ أيضا على انها كانت فقيرة وإلاّ أرسلت خادماتها ليستقن لها. وهذه المرأة هي إلى حد ما رمز لبشرية تائهة، ومتعبة من الركض وراء أشكال من الحب لا تروي العطش. واما القديس اوغسطينوس فيعلق " هذه المرأة صورة الكنيسة، لان الكنيسة سوف تأتي من الأمم الغريبة عن اليهود" (CCL 36, 154). ويذكر التقليد الأرثوذكسي ان اسم المرأة "فوتيني". أمَّا عبارة "فقالَ لَها يسوع: اِسْقيني" فتشير الى عطش يسوع من التعب في المشي واتخذ يسوع طلب الماء وسيلة الى بدء يسوع الحديث مع المرأة. ومن المعلوم أنك إذا سالت واحدا معروفا جعلته راضيا عنك، لان سؤالك هو دليل على اعترافك له بالفضل إذ يملك ما لا تملكه أنتَ.  ويثير الاستغراب رؤية يسوع، معلم الشريعة يتحدث مع امرأة علنًا، إذ هو امر غير مُستحب في العالم اليهودي، بل الشرقي والأكثر استغراباً انَّ يهوديا يطلب جرعة ماء من سامرية.  لكن يسوع تجاوز القواعد الاجتماعية (مرقس 7: 1-15)، كي يعطي هذه المرأة رسالة خاصة عن الماء الحي الذي يُروي ظمأها الروحي الى الابد دون أن يوبِّخها. ويُعلق القديس أوغسطينوس "ماذا تعني "أنا عطشان"؟ إني أتوق إلى إيمانكِ. ذاك الذي سأل أن يشرب كان في عطشٍ إلى إيمان المرأة نفسها " (CCL 36, 154). فطعام المسيح وشرابه هو اجتذاب النفوس ليُخلصها كما تنبَّأ أشعيا "يُبَرِّرُ عَبْديَ البارُّ الكَثيرين وهو يَحتَمِلُ آثامَهم " (أشعيا 53: 11)؛ يطلب يسوع خلاص النفوس وهو يعطش لا الى ماء البئر بل الى إيمان البشر وخلاصهم. وفي الواقع، لمَّا طلب يسوع من السامرية ان يشرب قال لها: "لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" (يوحنا 4: 10). طلب يسوع ان يشرب ووعد ان يسقي حيث يتحول واهب الحياة لمتسولٍ يعطي حياة. قد يطلب منا المسيح خدمة بسيطة ليمنحنا بركة كبيرة. ومن يُقدم خدمة للمسيح، يأخذ في مقابلها مئة ضعف كما وعد الرب " ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع" (متى 10: 42). أن يسوع ليس إنسانا للماضي فقط ولكن بوسعنا نحن أيضا أن نقابله على طريقنا وعلى حافة بئرنا اليوم.

 

8 وكانَ التَّلاميذُ قد مَضوا إِلى المَدينَةِ لِيَشتَروا طَعاماً

 

تشير عبارة " التَّلاميذُ " في الكتاب المقدس إلى كل من اتبع معلماً مثل أشعيا النبي (أشعيا 8: 16) او يوحنا المعمدان (متى 9: 14). وتستعمل لكل المؤمنين الذين قبلوا تعاليم المسيح (يوحنا 4: 1 و6: 66) وبنوع أخص من الرسل الاثني عشر (متى 5: 1). امَّا عبارة "قد مَضوا إِلى المَدينَةِ لِيَشتَروا طَعاماً" فتشير الى بيان لعلة طلب يسوع من المرأة السامرية ان يستقي. امَّا عبارة " المدينة " فتشير هنا الى "سيخارَة" التي ورد كرها في الآية السابقة (يوحنا 4: 5)، وهي قرية " عسكر" في نابلس اليوم. وقد استغل السيد المسيح فرصة ذهاب التلاميذ إلى المدينة ليشتروا طعامًا ليدخل في حوارٍ مع المرأة السامرية، ليجْذبَها هي وأهل المدينة للخلاص. امَّا عبارة " لِيَشتَروا طَعاما" فتشير الى اليهود الربانيين الذين أجازوا من طعام السامريين الفواكه والبقول والبيض. 

 

9 فقالَت له المرأَةُ السَّامِريَّة: كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟ لِأَنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السامِرِيِّين.

 

تشير عبارة "كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟" الى استفهام للتعجب وليس للاستفسار إذ يُعبِّر عن عدم التعامل والعلاقات ن بين السامريين واليهود بسبب العداوة المعروفة بينهما. أمَّا السيد المسيح فلم ينشغل بهذه العداوة، إنما ما كان يُشغله هو أن يجذبَ النفوس لنيل خَلاصهِم. اما عبارة " وأَنتَ يَهوديٌّ" فتشير الى معرفة المرأة السامرية ان يسوع هو يهودي إما من هيئته او ملبسه المختلف عن السامريين أو من لهجة حديثه كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لعلها ظنت ذلك من ملبسه ومن لهجة كلامه"؛ أمَّا عبارة "لِأَنَّ اليَهودَ لا يُخالِطونَ السامِرِيِّين" فتشير الى عدم مخالطة بين اليهود والسامريين، فاليهود يعتبرون السامريين منشقِّين وغرباء وأنجاساً وقريبين من الوثنيين. لهذا لا يطلب اليهودي منهم طعاماً ولا شراباً (لوقا 10: 33)، ومقابل هذا يتحاشى السامريون اليهود. ان أعنف العداوات ما نتجت عن الاختلال الديني. وهذا ليس من شريعة الله، لان الله يريد ان يعامل الناس بعضهم بعضا كإخوة.  أمَّا عبارة " السامِرِيِّين" فتشير الى الشعب المختلط بين الأشوريين الذين أستوطنوا في السامرة لدى احتلالها 722 ق.م. وبين اليهود الذين بقوا في السامرة. كما ورد في الكتاب المقدس "وأتى مَلِكُ أَشورَ بِقَوم مِن بابِلَ وكوت وعوا وحَماةَ وسَفرْوائيم، وأسكَنَهم في مُدن السَّامِرةِ مَكانٌ بَني إسْرائيل، فأحتلوا السَّامرَةَ وسَكَنوا مدُنَها" (2 ملوك 1: 24).  وهذا الشعب المختلط يعتبر غير نقي في راي اليهود الذين يعيشون في مملكة يهوذا. وزادت العداوة بعد عودة اليهود من سبي بابل سنة 537ق.م. وبنائهم هيكل أورشليم، وتفاقمت العداوة عندما بنى السامريون هيكلهم الخاص على جبل جرزيم سنة 315 ق.م. والسامريون ادَّعوا التسلسل من الاسباط العشرة، دينا نقيا مستمدا من شريعة موسى. وقد أدّى هذا الامر الى معارضة شديدة بين الفريقين. فكان على اليهودي المتديّن ان يتجنّب كل صلة بهم، وكم بالأحرى ان يتجنّب طلب طعام منهم، واحتقر اليهود السامريين كما جاء في سفر سيراخ "والشَّعبُ الأَحمَقُ السَّاكِنُ في شَكيم" (يشوع بن سيراخ 50: 25-26)؛ وكانوا يتعالون عليهم. وكان اليهود إذا أرادوا أن يشتموا أحداً قالوا عنه أنه سامري وهكذا عملوا مع المسيح " أَلَسْنا على صوابٍ في قَولِنا إِنَّكَ سامِريّ، وإِنَّ بِكَ مَسّاً مِنَ الشَّيطان؟ " (يوحنا 48:8)، وبالمثل كان السامريون يكرهون اليهود. أمَّا عبارة "لا يُخالِطونَ" في الأصل اليوناني συγχρῶνται (معناها لا يعاملون) فتشير الى المعاشرة. فالمرأة السامرية كانت مؤدبة في استمال الالفاظ، كما يعلق يوحنا الذهبي الفم " لأنها لم تقل إن السامريين لا يعاشرون اليهود، لكنها قالت "لأن اليهود لا يعاملون السامريين". من يقترب من المسيح، سيعرف المسيح، والمسيح سيعرفه شخصياً.

 

10 أَجابَها يسوع: لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً.

 

تشير عبارة "لو كُنتِ تَعرِفينَ" الى حاجة المرأة السامرية الى المعرفة الصادقة، معرفة عطية الله لها، ومعرفة المُتحدِّث معها، لأنه هو العطية العظمى! هو كنز الحب الإلهي الفائق، المُروي للنفس العطْشى. قد نفكر في بعض الأحيان، مثل المرأة السامرية، أن حياتنا هي مجموع ما نعرفه فقط من الأمور اليومية، لكن هناك أمور روحية نجهلها وهي لا تزال محجوبة عنا. فعدم معرفة حقيقة المسيح من الأسباب لرفض نعمته. أمَّا عبارة "عَطاءَ الله " فتشير الى "الحياة الابدية (يوحنا 4: 14)، وإلى الروح القدس (يوحنا 7: 38-39)، الى يسوع المسيح ابن الله الحبيب " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة (يوحنا 3: 16)، ويعلق القديس اوغسطينوس "عطية اللَّه هو الروح القدس. لكن يسوع حتى ذلك الحين كان يتحدث مع المرأة بحرصٍ، ويدخل إلى قلبها تدريجيًا "(CCL 36, 154؛ امَّا عبارة " ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ " فتشير الى ما ظنَّته المرأة السامرية بان يسوع مجرد انسان يهودي محتاج الى شربة ماء وجهلت انه عطاء الله والمُرسل منه تعالى، بل الله نفسه المتجسِّد. أمَّا عبارة "لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" فتشير الى حاجة المرأة السامرية الى يسوع القادر ان يهب لها عطية أعظم مما طلبه منها. إن المعرفة الصادقة تدفع نحو الطلب. فالله من جانبه مستعد أن يهب ما نحن بحاجة إليه، لكنه ينتظر منَّا أن نعلن رغبتنا في الأخذ، نسأل فنأخذ عطية الماء الحي.  أمَّا عبارة " ماءً " فتشير الى ما يحفظ حياة النبات والحيوان والانسان ومن هنا جاءت إلى رمزيّة الماء واستعاراته التي يحتلّها الماء في تاريخ العالم والبشريّة، وفي تاريخ الشعب المختار، وأهمها هو صورة عن السعادة والبركة. في هذا المعنى يكون فم البار ينبوع حياة (أمثال 10 :11). وكذلك العلمُ الذي يعطيه (أمثال 13 :14) والمعرفة التي يمتلكها (امثال16 :22).  أمَّا عبارة " الماءً الحي " فتشير الى مياه جارية من نبع لا من الجمع. في فلسطين كانوا يحفرون آبار ماء حيّة في العبرية באר (معناه بئر) بها يصلون إلى المياه السفليّة. فالماء الحي هو تعبير شائع لينابيع المياه او مياه الآبار الجارية، وهكذا يُسمّى الله ينبوع ماء حيّ (إرميا 2 :13).  وماء الحي هو رمز الى البركات الروحية والخلاص كما جاء في نبوءة أشعيا "تستَقونَ المِياهَ مِن يَنابيعَ الخَلاصِ مُبتَهِجين" (أشعيا 12: 3). أمَّا في إنجيل يوحنا فالماء هو عطية الروح الذي يهب الحياة الابدية "أَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة (يوحنا 4: 14). والماء الذي وعد به يسوع هو الحياة الأبديّة. فمن شرب منه لن يعطش أبدًا. وهو يرمز أيضا إلى الروح القدس، ويُعلق القديس أمبروسيوس انها " مياه نعمة الروح حيّة، التي تُطهر الأجزاء الداخلية للعقل وتغسل كل خطية للنفس، وتُطهر عصيان الأخطاء الخفيَّة". المسيح يعرض ذاته دائمًا لكي نتعرف عليه فنطلبه فنجده ونسأله فيعطينا الماء الحي. الماء هو سر الحياة. والمسيح أتى ليعطينا الحياة. أظهر يسوع حكمته في مخاطبته المرأة السامرية منتقلا بها من الماء الذي يروي الجسد الى الماء الذي يروي الروح ويهب الحياة الأبدية. وقد جذب السيد المسيح هذه المرأة إلى طريق الخلاص، لا بالهجوم على العبادة في السامرة، بكونها منشقَّة، ومشوِّهة الإيمان والعبادة اليهودية، وإنما بجذب فكرها من الانشغال بالعداوة إلى الدخول إلى أعماق نفسها لتعطش إلى الماء الحي، وتُدرك حاجتها إلى المخلص المسيح.

 

11 قالَت لَه المَرأَة: يا ربّ، لا دَلْوَ عِندَكَ، والبِئرُ عَميقة، فَمِن أَينَ لَكَ الماءُ الحَيّ؟

 

تشير عبارة "يا ربّ" في الأصل اليوناني Κύριε (معناها يا سيد) الى احترام السامرية ليسوع وتوقيره، حيث بدَّلت قولها من يهودي (يوحنا 4: 9) الى سيد. أمَّا المسيحيون فيترجمونها "يا رب". أمَّا عبارة " لا دَلْوَ عِندَكَ، والبِئرُ عَميقة " فتشير الى سؤال السامرية الى سوء الفهم بين الماء الطبيعي الذي يحتاج الى دلو وبئر وحبل، وبين ماء الحياة الذي وعدها ان يعطيها يسوع.  وفي الواقع، هذه البئر من أعمق آبار فسطين إذ يبلغ عمق البئر اثنين وثلاثين متراً، حيث ان طول الحبل المستخدم في بئر يعقوب نحو 23 م. وقطرها 2.13 م ،  ويظن العلماء أن عمقها كان نحو 46م وأنها قد ارتفعت بسبب سقوط الحجارة فيها.  فالمرأة اخذت تضع العراقيل امام يسوع ليأتي بالماء؛ أمَّا عبارة " فَمِن أَينَ لَكَ الماءُ الحَيّ؟" فتشير الى سؤال المرأة السامرية التي توحي في تذمر بني إسرائيل على موسى لنقص الماء لهم في برية سيناء عند مَسَّا ومريبا (المحنة والخصومة) (الخروج 17: 3-7)، ولكن على عكس بني اسرائيل، فإن المرأة السامرية لم تقسِّي قلبها تحت ضغط خطيئتها وشعورها بالذنب، بل فتحت قلبها كما يترنم صاحب المزامير" أَليومَ إِذا سَمِعتُم صَوتَه فلا تُقَسُّوا قُلوبَكم كما في مَريبة وكما في يَوم مَسَّة في البَرِّيَّة" (مزمور 95: 7-8)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "حالما علمت من هو يسوع استمعتْ إليه وأصغتْ، الأمر الذي لا يُقال عن اليهود، لأنهم إذ علموا ولم يسألوه شيئًا، ولا رغبوا في الانتفاع بأمرٍ ما منه، بل شتموه وطردوه". اما عبارة " الماءُ الحَيّ " فيشير الى رمز الخلاص كما يقول أشعيا “تستَقونَ المِياهَ مِن يَنابيعَ الخَلاصِ مُبتَهِجين" (أشعيا 12: 3) والى الحياة "يقول الرَّبّ. " فإِنَّ شَعْبي صَنَعَ شَرَّين: تَرَكوني أَنا يَنْبوعَ المِياهِ الحَيَّة" (ارميا 2/13). والينابيع وعيون المياه هي مكان اللقاء والعهد لله والانسان على السواء كما جاء في التكوين " رُوحُ اللهِ يُرِفُّ على وَجهِ المِياه. (التكوين 1: 2). رفع يسوع المرأة السامرية الى مستوى روحي، ساعة ارادت ان تبقى على مستوى الماء، والدلو والحبل.

 

12 هل أَنتَ أَعظَمُ مِن أَبينا يعقوبَ الَّذي أَعْطانا البِئْرَ، وشرِبَ مِنها هو وبَنوهُ وماشِيَتُه؟

 

تشير عبارة "هل أَنتَ أَعظَمُ مِن أَبينا يعقوبَ " الى سؤال المرأة السامرية على لسان السامريين الذين كانوا يحسبون أنفسهم أبناء يعقوب، فهم سلالة ابني يوسف: إفرئيم ومنسى بناء على تقليدهم. وكم هذا المنطلق، تشدِّد المرأة على موضوع الخلاف المذهبي وتريد أن تؤكد أنها من صلب إسرائيل، إذ هي من أبناء يعقوب أبي الآباء. وامَّا عبارة " يعقوبَ الَّذي أَعْطانا البِئْرَ " فتشير الى يعقوب الذي أعطى السامريين هذه البئر، لأنهم سكنوا الأرض التي وهبها يعقوب الى يوسف (يوحنا 4: 6). فعظمة البئر لعظمة التي حفرها وأتخذ ماءها. فهي تقارن يسوع مع يعقوب الذي اعطى نسله هذه البئر؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إن أبانا يعقوب قد أعطانا هذه البئر ولم يستعمل بئرًا غيرها، لأنه هو والمنسوبين إليه شربوا من هذه البئر، فما كانوا يشربون منها لو كانوا يمتلكون أفضل منها، فما تقدر أنت أن تعطينا أفضل من هذه البئر ومن هذا الماء "؛ أمَّا عبارة " البِئْرَ " في اللغة اليونانية φρέαρ فتشير الى البئر الذي ماؤه راكد وشحيح (ارميا 2: 13)، بعكس لفظة البئر πηγή التي وردت سابقا (يوحنا 4: 6) الذي يشير لينبوع طبيعي وماؤه جارٍ؛ فهناك لفظان في اليونانية للبئر: الأول πηγή يشير لينبوع طبيعي ماؤه جارٍ، ويستخدمه يوحنا عندما يتكلم يسوع عن البئر. واللفظة الأخرى اليونانية للبئر φρέαρ والتي تشير للبئر التي ماؤها راكد وشحيح فيستخدمه يوحنا حين تقولها السامرية. وعليه فان يوحنا الإنجيلي يقارن بين ينبوع يعطيه الله وبئر شحيح يحفره الإنسان.

 

13 أَجابَها يسوع: كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَة.

 

تشير عبارة "كُلُّ مَن يَشرَبُ مِن هذا الماء يَعطَشُ ثانِيَة" الى ماء بئر يعقوب الذي يستطيع ان يروي العطشان فقط الى حين، لأنه يعطش ثانية، امَّا عطية يسوع فلن يعطش ابدا مُبيِّنا انه هو أعظم من يعقوب وسائر الإباء والانبياء والرسل.

 

14 وأَمَّا الَّذي يَشرَبُ مِنَ الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه فلَن يَعطَشَ أَبداً بلِ الماءُ الَّذي أُعطِيهِ إِيَّاهُ يصيرُ فيه عَينَ ماءٍ يَتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة

 

تشير عبارة "الَّذي يَشرَبُ" الى من يقبل المسيح قبولا تاما او يؤمن حق الإيمان به. امَّا عبارة " الماءِ الَّذي أُعطيهِ أَنا إِيَّاه " فتشير الى نعمة المسيح وخلاصه والروح القدس الذي يرسله. امَّا عبارة " فلَن يَعطَشَ أَبداً " فتشير الى الذي يحصل على كل ما يحتاج إليه من البركات الروحية ويحيا للأبد (يوحنا 6: 51).  اما عبارة "عَينَ ماءٍ " فتشير الى الحياة (أشعيا 12: 3) والى الحكمة (باروك 3: 12) والى الشريعة (اشعيا44: 3) أمَّا يوحنا الا نجيلي فيلمح هنا الى عطية الروح القدس الذي يهب الحياة الابدية (يوحنا 7: 38-39)، الذي تنبأ عنه النبي يوئيل "سيَكونُ بَعدَ هذه أَنِّي أُفيضُ روحي على كُلِّ بَشَر"(يوئيل 3: 1). وارتبط حلول الروح القدس بالمعمودية لذلك قال الرسول بطرس لسامعيه في عيد العنصرة " توبوا، وَلْيَعتَمِدْ كُلٌّ مِنكُم بِاسمِ يسوعَ المَسيح، لِغُفْرانِ خَطاياكم، فتَنالوا عَطِيَّةَ الرُّوحِ القُدُس"(أعمال الرسل 2: 38). يسوع يستطيع ان يمنح عطية الحياة الأبدية التي تنبع في النفس وتروي العطش الداخلي لأنه هو كلمة الله الحية قادر على اشباع جوع وعطش نفوسنا بالروح القدس الذي يهبه لنا. اما عبارة " َتفَجَّرُ حَياةً أَبَديَّة" الى الروح القدس الذي يشفي اشواق النفس بالاتحاد بالله وبالمصالحة وبمعرفة الحق وراحة الضمير ومغفرة الإثم وبالقداسة والسعادة والاستقاء " المِياهَ مِن يَنابيعَ الخَلاصِ "(أشعيا 12: 3).

 

15 قالَت له المَرأَة: يا ربّ، أَعطِني هذا الماء، لِكَي لا أَعطَشَ فأَعودَ إِلى الاستِقاءِ مِن هُنا

 

تشير عبارة "أَعطِني هذا الماء" الى طلب ناقص لأنها ظنت الماء الطبيعي يُغنيها من التعب والعناء من المجيء الى البئر. وطلبها يشبه طلب اليهود في كفرناحوم " يا رَبّ، أَعطِنا هذا الخُبزَ دائِماً أبد " (يوحنا 6: 34) أنهم يقصدوا الخبز المادي. لكن بكلمة "أعطني" شعرت السامرية انها محتاجة الى شيء يقدر يسوع ان يهبها لها. واستغل يسوع الماء الطبيعي لكي يتكلم عن الماء الحياة الذي يدل على الروح القدس ومواهبة وثماره" المَحبَةُ والفَرَحُ والسَّلام والصَّبرُ واللُّطْفُ وكَرَمُ الأَخْلاق والإِيمانُ والوَداعةُ والعَفاف" (غلاطية 5: 22-23). كثيرون لا يعرفون المسيح سوى للماديات، لا لعطاياه الروحية. أمَّا عبارة "لا أَعطَشَ فأَعودَ إِلى الاستِقاءِ مِن هُنا" فتشير الى فهْم خاطئ لرسالة المسيح، المسيح لا يُزيل التحديات، بل يُعيننا على معالجتها بمفهوم صحيح ومن منظور سليم.

 

16 قالَ لَها: اِذهَبي فَادْعي زَوجَكِ، وارجِعي إِلى ههُنا

 

تشير عبارة " فَادْعي زَوجَكِ " الى يسوع الذي يُبيّن انه يعرف سيرتها الماضية لكي تشعر بمرض نفسها وبحاجتها الى التوبة والى الايمان به تعالى القادر ان يعطيها الحياة الجديدة. إذ كشف ان الزوج التي تدّعي زوجها ليس في الحقيقة زوجها بل عشيقها، وبموجب الشريعة، يجب اعتبارها زانية؛ ولانَّ الخطيئة هي العقبة في طريق نوالها للعطية السماوية، لا بد من كشفها والاعتراف بها مما يوقظ شعورها بالذنب الشخصي.

 

17 أَجابَتِ المَرأة: لَيسَ لي زَوج. فقالَ لَها يسوع: أَصَبتِ إذ قُلتِ: لَيسَ لي زَوج.

 

تشير عبارة " لَيسَ لي زَوج" الى إدانة السامرية نفسها على ارتباطها بزوج غير شرعي، إذ إنها تعيش مع من هو ليس برجلها بعد خمس زيجات.  أمَّا عبارة "أصَبتِ إذ قُلتِ: لَيسَ لي زَوج " فتشير الى مدحه إياها على صدقها بدل توبيخها، لأنه لو لامها على خطيئتها ربما قسَّت قلبها وانصرفت غاضبة ولم تُصغي الى كلامه. لكن يسوع قبِل اعترافها الصادق وجابه خطيئتها، وكمّل ما لم تستطع البوح به من سلسلة خيانات وزنى؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "كم كانت حكمة هذه المرأة عظيمة، وكم كان خضوعها إذ قبلت التوبيخ. في هذا التوبيخ يذكر يسوع أمرين: يُعدِّد جميع أزواجها السابقين، ويُوبِّخها على ذاك الذي تعيش معه، وهي تحاول أن تخفي أمره. هنا ماذا صنعت المرأة؟ لم تبدِ ضيقًا ولا تركت يسوع هاربة، ولا حسبت كلامه إهانة، لكنها على العكس أبدت إعجابها به، وفاق تقديرها له، إذ قالت: " يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ ". ويضيف القديس الذهبي الفم قائلا " تأمل في الحكم العادل المستقيم لهذه المرأة، فقد اتخذت قرارها من واقع الحقائق، سواء فيما يخصُّ أبينا يعقوب أو يسوع، أمَّا اليهود فلم يكن رد فعلهم هكذا. إذ لمّا شاهدوه يطرد الشياطين منهم لم يقولوا إنه أعظم من أبينا يعقوب أب الأسباط، بل قالوا "إِنَّ هذا لا يَطرُدُ الشَّياطينَ إِلاَّ بِبَعلَ زَبولَ سيِّدِ الشَّياطين " (متى 12: 24).

 

18 فَقَد كانَ لَكِ خَمسَةُ أَزْواج، والَّذي عِندَكِ الآنَ لَيسَ بِزَوجِكِ، لقَد صَدَقتِ في ذلكَ.

 

تشير عبارة "خَمسَةُ أَزْواج" الى رمز خمسة اسفار الشريعة التي لا يقبل السامريون سواها في الكتاب المقدس، او تشير الى خمسة آلهة لدى السامريين وهم بَنوت، ونَرْجال، وأشيما، نِبْحازَ وترْتاق (2ملوك 17: 29-41)، وهم الشعوب الوثنية الذين كانوا أتوا إلى السامرة مع آلهتهم المزيفة.  وربما تشير الى رقم (6) أي خمسة ازواج سابقا والزوج الحالي. والرقم (6) يدل على مستوى النقص الذي يُبقي المرأة على عطشها. أمَّا السابع الذي هو يسوع فهو العريس الحقيقي لشعب السامرة الذي تُمثله هذه المرأة، وهو يحمل الكمال كما في عرس قانا الجليل سِتَّةُ أَجْرانٍ "كانَ هُناكَ سِتَّةُ أَجْرانٍ مِن حَجَر" (يوحنا 2: 6). كانت المرأة السامرية خاطئة، التقت بالمسيح في وضح النهار وكانت الصعوبة أمامها خطيئتها. وكانت قوة المرأة في ضعفها بعكس نيقوديمس الذي كان ضعفه في قوته، أذ عطَّله التصاقه بالسنهدريم وخوفه على مركزه بإعلان يسوع هو المسيح. امَّا عبارة " والَّذي عِندَكِ الآنَ لَيسَ بِزَوجِكِ " فتشير الى بيان المسيح لها انها خاطئة ضد الوصية السابعة من وصايا العشر، حيث ان لا تزال عائشة في الزنى. وهو تلميح مبطّن آخَر إلى أنَّ ديانة السامريين غير الصحيحة أو عبادتهم غير الصحيحة للإله الحقيقي حيث ان خمسة ازواج تشير الى آلهة لدى السامريين. اما عبارة " لقَد صَدَقتِ في ذلكَ " فتشير الى المسيح الذي مدحها مرة ثانية على صدقها بإقرارها بالإثم. وهذا وفق قول الحكيم " مَن كَتَمَ مَعاصِيَه لم يَنجَحْ ومَنِ اْعتَرَفَ بِها وأَقلعً عنها يُرحَم" (أمثال 28: 13)، وفي هذا الصدد يقول يوحنا الحبيب: "وإِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم"(1 يوحنا 1: 9).

 

19 قاَلتِ المَرأَة: يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ.

 

تشير عبارة " نَبِيّ" الى رجل الله الذي يعرف ما في قلب الانسان ويعلم الغيب ويرى ما لا يراه الآخرون، وان معرفته ليست مجرد معرفة بديهيه بل معرفة خارقة للطبيعة. ان المرأة السامرية لاحظت ان يسوع عالم بخفايا حياتها (يوحنا 4: 16-19)، فحيّته تحيَّتها لرجل الله.  لقد تحققت المرأة من يسوع بمثل البرهان التي تحقق به نتانئيل عظمة يسوع (يوحنا 1: 48-49). يعرف يسوع القلوب معرفة عميقة، وهذا ما لاحظته المرأة السامرية وهذا ما يؤكِّده الانجيل " لا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان"(يوحنا 2: 25).  ولمّا أعلن المسيح فعلها المستور لم تستصعب ذلك ولا تركته وهربت، لكنها تعجبت بالأكثر فقالت له: "يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ "، وطلبت منه توضيح مشكلة جوهرية هي مشكلة العبادة الحقيقية.

 

20 تَعَبَّدَ آباؤُنا في هذا الجَبَل، وأَنتُم تَقولونَ إِنَّ المَكانَ الَّذي فيه يَجِبُ التَّعَبُّد هو في أُورَشَليم.

 

تشير عبارة "تَعَبَّدَ آباؤُنا في هذا الجَبَل" الى تمسك المرأة السامرية بانتمائها العرقي فتذكر إبراهيم الذي بنى مذبحا للرب كما ورد في سفر التكوين " بَنى هُناكَ مَذبَحًا لِلرَّبِّ الَّذي تَجَلَّى لَه"(التكوين 12: 7) وفيه تقابل ابراهيم مع ملكي صادق حيث باركه، وتشير الى يعقوب الذي بنى هناك مذبحا للرب "أَقامَ هُناكَ مَذبَحًا ودَعاه بِاَسمِ إيل، إِلهِ إِسْرائيل" (التكوين 33: 20). وعلى هذا الجبل أوصى موسى النبي بمباركة الشعب لدى اجتيازهم نهر الأردن الى ارض الميعاد حيث وقف عليه ستة اسباط وهم: شمعون ولاوي ويهوذا ويساكر ويوسف وبنيامين، بينما وقف ستة اسباط أخرى، وهم رأوبين وجاد واشير وزبولون ودان ونفتالي على جبل عيبال للعنة (تثنية الاشتراع 27: 11-13). اما عبارة " هذا الجَبَل " فتشير الى جبل جرزيم الذي جعله السامريون منافساً ببركته لجبل صهيون في اورشليم (تثنية الاشتراع 11: 29)، فبنى سنبلط أحد قادة السامريين عام 332 ق. م. هيكل جبل جرزيم بمساعدة منسَّى رئيس الكهنة، وزوج ابنته بحسب ما ورد في كتابات يوسيفوس فلافيوس. وفي القرن الثاني قبل الميلاد قطع السامريون كل علاقة لهم باليهود فسلموا هيكلهم للحاكم أنطيوخس ابيفانوس السلوقي اليوناني، عام 170 طالبين منه أن يُكرسه للإله جوبتر أولمبياس، حتى لا يعانوا من الضيقات المرة التي صبّها انطيوخس عليهم. لكن يوحنا هركانوس، قائد المكابيين دمَّر هيكل السامريين في السنة 129 ق. م. ولم يُبنَ الهيكل ثانية.  ولكن لم يتردد السامريون من إقامة العبادة على جبل جرزيم واعتبروا ذلك الجبل أقدس جبال الأرض وأثبتوا قدسيته بما جاء في التوراة " فإِذا عَبَرتُمُ الأُردُنَّ، تَنصِبونَ هذه الحِجارةَ الَّتي أنا آمُركم بنَصبِها اليَومَ على جَبَلِ جَرِزَّيم " (تثنية 27: 4)، وظنوا انه هو الجبل الذي ذهب اليه إبراهيم ليقدِّم ابنه إسحاق ذبيحة للرب. لذلك لا يزال السامريون يذبحون حتى اليوم حمل الفصح فوق جبل جرزيم. أمَّا عبارة " وأَنتُم تَقولونَ إِنَّ المَكانَ الَّذي فيه يَجِبُ التَّعَبُّد هو في أُورَشَليم " فتشير الى اليهود الذين حسبوا صهيون مسكن الله، إذ اختار النبي داود اورشليم كموضع للعبادة بإرشاد الله " وبَنى هُناكَ داوُدُ مَذبَحًا لِلرَّبّ، وأصعَدَ مُحرَقاتٍ وذَبائِحَ سَلامِيَّة، ودَعا إلى الرَّبِّ فأجابَه بِنارٍ مِنَ السَّماءَ على مَذبَحِ المُحرَقَة " (ا أخبار 21: 26).  ولذلك بنى سليمان الحكيم الهيكل "إِنِّي قد بَنَيتُ لَكَ بَيتَ سُكْنى، مَكانًا لِسُكْناكَ لِلأَبَد) (2اخبار 6: 2). وهناك ومارس الكهنة واللاويون العبادة في هيكل اورشليم. والجدير بالذكر ان مكان العبادة هي جوهر الاختلاف بين دين السامريين ودين اليهود وعلة البغض الشديد بينهما.

 

21 قالَ لَها يسوع: صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة تَأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم

 

تشير عبارة "صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة" الى تأكيد كلام يسوع واهميته. دعت السامرية يسوع نبياً وعلّمها باعتباره نبي وامرها بتصديقه ككلام الأنبياء. اما عبارة " المَرأَة " فتشير الى شخص فرد وهو المرأة السامرية، ولكن من خلال هذه المرأة نرى شعب السامريين الذين سيأتون الى يسوع ويدعونه " مُخَلِّص العالَمِ ” (يوحنا 4: 42)؛ امَّا عبارة "تَأتي ساعة" فتشير الى زمن الانجيل حيث يبدأ نظام جديد ويزول نظام قديم الذي استمر نحو 1500 سنة اوجب فيه اليهود الذهاب ثلاث مرات في السنة ليعبدوا الله في هيكل اورشليم الذي هُدم الهيكل سنة 70 م على يد القائد الروماني طيطس. أمَّا عبارة "تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم" فتشير الى مفهوم عبادة غير مُحدَّدة باي مكان واحد.  لا فرق في الأمكنة فلا يجب على اليهود ان يسجدوا في جرزيم، ولا على السامريين ان يسجدوا في اورشليم، لان هذه الأمكنة هي رمز لحضور المسيح، وبما ان المسيح حضر فلا حاجة بعد الى هذه الأمكنة. ويُعلق العلامة أوريجانوس " الإنسان الكامل والمقَّدس يتعدى حتى هذا، إذ يعبد الرب بطريقة تأملية وإلهية بالأكثر. فكما أن الملائكة (كما يتفق حتى اليهود) لا يعبدون الآب في أورشليم، لأنهم يعبدونه بطريقة أفضل عمَّن يعبدون في أورشليم، هكذا الذين يستطيعون أن يكونوا مثل الملائكة (لوقا 2: 36) في ميولهم لا يعبدون الآب في أورشليم، بل بطريقة أفضل "، أمَّا القديس يوحنا الذهبي الفم فقد أوضح ذلك بقوله " إنه لم يفضل مكانًا آخر، إنما أعطى الأفضلية للنية". ومن هذا المنطلق، يجوز تقديم العبادة لله في كل مكان كما أعلن ملاخي النبي "لِأَنَّه مِن مَشرِقِ الشَّمسِ إِلى مَغرِبِها آسْمي عَظيمٌ في الأُمَم، وفي كُلِّ مَكانٍ تُحرَقُ وتُقَرَّبُ لِآسْمي تَقدِمَةٌ طاهرَة، لِأَنَّ آسْمي عَظيمٌ في الأُمَم، قالَ رَبُّ القُوَّات" (ملاخي 1: 11).  امَّا عبارة " الآب " تشير الى الله أب للناس اجمعين وذلك بسبب عنايته بهم وحبِّه إياهم على السواء، وهكذا جعل يسوع اليهود والسامريين في منزلة واحدة امام الله ألآب.  إذا اقتربنا من الله يحق لنا ان نقترب منه تعالى كاقتراب ابناء من ابيهم.

 

22 أَنتُم تَعبُدونَ ما لا تَعلَمون ونَحنُ نَعبُدُ ما نَعلَم لِأَنَّ الخَلاصَ يَأتي مِنَ اليَهود

 

تشير عبارة "أَنتُم تَعبُدونَ ما لا تَعلَمون " الى السامرين الذين لا يعلمون ما يعبدون لأنهم أشركوا الاوثان بعبادتهم لله" وعَبًدوا البَعْل وأَمَرّوا بَنيهم وبَناتِهم بِالنار، وتًعاطَوُا العِرافَةَ وَالفراسة، وباعوا أنفُسَهم لِعمَلِ الشَّر في عًينَي الربِّ لإسْخاطِه" (2 ملوك 17: 22-23). وفي موضع آخر نقرا " فأَخَذَت كُلُّ أمةٍ تَعمَلُ آِلهتَها وتَضَعُها في بُيوتِ المَشارِفِ الَّتي عَمِلَها السِّامِرِيُّون، كُلُّ أمَّةٍ في مُدنِها الَّتي سَكَنَتها" (2ملوك 17: 29).  وبالإضافة الى ذلك، ينكر السامريون أسفار الأنبياء التي تعلن مشيئة الله، وهؤلاء الأنبياء ارسلهم الله ليمهِّدوا طريق المعرفة على شخص المسيح المُخلص؛ والحقيقة أن المسيح (الخلاص) سيتجسَّد ويأتي من اليهود، وهذه الحقيقة أعلنها الأنبياء، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " إن سألت: كيف لم يعرف السامريون من هو الذي يسجدون له؟! أجبت: لأنهم اعتقدوا أن الله يحده مكان معين ويتحيز لهم، لهذا يسجدون له. ظنوا أنه يوجد إله محدود، ومن اجل ذلك استرضوه وعبدوه"؛ أمَّا اليهود فكانوا بعيدين عن هذا الظن، لأنهم عرفوا الله أنه إله المسكونة كلها، وإن كان هذا الرأي لم يكن رأيهم كلهم"؛ وأمَّا عبارة "ونَحنُ نَعبُدُ ما نَعلَم " فتشير الى المسيح الذي خاطب السامرية بلغتها " أنتم ونحن". المسيح كابن إنسان ضمَّ نفسه في تواضع لجمهور اليهود العابدين من خلال الأسفار الإلهية الشريعة والمزامير والأنبياء. ويُعلق القديس أمبروسيوس " يقول "نحن" إذ يضم نفسه مع البشر بحسب الجسد، ولكي يظهر أنه أجاب كمتجسدٍ، إذ يضيف "الخلاص من اليهود"؛ اما عبارة " نَعبُدُ ما نَعلَم " فتشير الى اليهود الذين يقبلون كل اسفار الكتاب المقدس في العهد القديم: التوراة والانبياء والمزامير، بعكس السامرين الذين لا يقبلون الاَّ التوراة، أي الخمسة الكتب الأولى).  أمَّا عبارة "ألان" فتشير الى وجود المسيح الآن، به عرفنا الآب، وبه الحق عرفنا الحق، وبه الروح أرسل لنا الروح الذي يقودنا في العبادة. العبادة الحقيقية قائمة على عطية الروح القدس الذي يعرّفنا بالله كآبٍ فنعبده. وهذه العبادة بدأت منذ الآن مع المسيح وتجاوزت عبادة هيكل اورشليم ومعبد السامريين في جبل جرزيم (اعمال الرسل 7: 47-48)؛ أمَّا عبارة "الخلاص يأتي من اليهود" فتشير الى الله الذي أعلن الخلاص الى الشعب اليهودي من خلال نبوءات العهد القديم التي قبلوها وهيّاهم كي يأتمنهم على تدبيره الخلاصي وقد سعى على تنفيذه من خلالهم ليقود الناس أجمعين إلى العبادة بالروح والحق ولكي "َيتَبَارَكُ بِكَ جَميعُ عَشائِرِ الأَرض" (تكوين12: 3) كما وعد الله أبينا أبراهيم ،  ويكون هذه الشعب نورا للأمم العالم ويجذبوهم الى معرفة الله كما تنبَّا الأنبياء بمجيء المسيح ليخلص الامة والعالم كله. وقد اكّد ذلك بولس الرسول إذ سلمت لهم التعاليم الإلهية "أَنَّهمُ ائتُمِنوا على كَلام الله" (رومة 3: 2)، وخدمة الله "أُولئِكَ الَّذينَ هم بَنو إِسرائيل ولَهُمُ التَّبَنِّي والمَجْدُ والعُهود والتَّشريعُ والعِبادَةُ والمَواعِدُ "(رومة 9: 4)، ومنهم جاء المسيح "مِنهمُ المسيحُ مِن حَيثُ إِنَّه بَشَر" (رومة 9: 5)، ومنهم تبدأ الكرازة بالإنجيل للأمم. ان الخلاص لا ينحصر باليهود وإن كان الخلاص يأتي منهم ، إذ ان يسوع يهودي وبه ينال العالم الخلاص.

 

23 ولكِن تَأتي ساعةٌ -وقد حَضَرتِ الآن- فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب

 

تشير عبارة "تَأتي ساعةٌ" الى الساعة التي ورد ذكرها سابقا (يوحنا 4: 21) التي جاء فيها ابن الإنسان ليرفع الإنسان من الحرف إلى الروح، وهي زمن الانجيل حيث أتى يسوع وأعلن تعاليمه.  أما عبارة "العِبادُ الصادِقون " فتشير الى الذين هم يقدِّمون العبادة الروحية القلبية المرضية لله بعكس المراؤون الذين يقدِّمون مجرد عبادة ظاهرية. اما عبارة " يَعبُدونَ الآبَ " فتشير الى هؤلاء الذين يعرفون لمن يسجدون، إذ يعتبرونه أبا لهم حيث يقتربون من الله كاقتراب الابناء من ابيهم.  أمَّا عبارة " بِالرُّوحِ " فتشير الى المسيح الذي يُحدِّد الطبيعة الحقيقية للعبادة، التي تُقدّم الى الله بالروح أي بالقلب وليس مجرد بالشفتين. وهذا هو جوهر العبادة وما سواه من مكان، وهيئة العابد والطقس يعتبر عوارض. فالمكان ليس مهما بقدر ما ترْك الروح القدس يُصلي فينا كما يصرِّح بولس الرسول " إِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف " (رومة 8: 26)، والروح يُعلمنا أيضا اقوال المسيح كما جاء في شهادة يوحنا المعمدان "المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء (يوحنا 4: 25) ويُعيننا ان نحس بالحب " مَحَبَّةَ اللّه أُفيضَت في قُلوبِنا بِالرُّوحَ القُدُسِ الَّذي وُهِبَ لَنا "(رومة 5: 5). اما عبارة" والحَقّ " فنشير الى معرفة الله والاقتراب منه كما أعلنها يسوع المسيح الذي هو حق. امَّا عبارة " فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ" فتشير الى هؤلاء الذين يسجدون لله بالروح والحق يرضى الله منهم كل الرضى.  وهذه غاية مخاطبة يسوع للمرأة السامرية.  امَّا عبارة " الآب " فتشير الى إله المحبة والنعمة لا النقمة والقدرة فقط. وتكرَّرت لفظ الاب ثلاث مرات في هذا النص (يوحنا 4: 21، 23). وشروط العبادة الحقيقية إذاً هي حقيقة داخلية وإخلاص في القصد والهدف. فالقصد هو ما الذي سوف نقوم به لتحقيق هذا الهدف، والهدف هو ما الذي نطمح أن نحققه. والمؤمن يستطيع بفضل عطية الروح القدس ان يعرف الله ويعبده على أنه الآب. وهذه هي العبادة الحقة التي تمتاز بها الأزمنة الأخيرة التي بدأت مع يسوع المسيح، ولذلك ستعتبر كل عبادة أخرى، ولا سيما العبادة التي تُقام في هيكل اورشليم منتهية بائدة كما جاء في اعمال الرسل " على أَنَّ العَلِيَّ لا يَسكُنُ في بُيوتٍ صَنَعَتها الأَيدي كما يَقولُ النَّبِيّ " (اعمال الرسل 7: 47-48). ويُعلق القديس أوغسطينوس "أتريد أن تصلي في هيكلٍ؟ الجبل في داخلك، إن كنت أنت أولًا هيكل اللَّه، لأنه في هيكله يسمع من يصلي". ويقول بولس الرسول "لأَنَّ هَيكَلَ اللهِ مُقدَّس، وهذا الهَيكَلُ هو أَنتُم" (1 قورنتس 3: 17). فالمسيح لا يركز على مكان العبادة بقدر تركيزه على كيفية تقديم العبادة لله الذي هو روح. فالله الآب يطلب العبادة بالقلب، إذ قيل: " فإِنَّه مَن ذا الَّذي يَرهَنُ نَفْسَه بِدُنُوِّه إِلَيَّ يَقولُ الرَّبّ؟ " (ارميا 30: 21).

 

24 إِنَّ اللهَ رُوح فعَلَى العِبادِ أَن يَعبُدوهُ بِالرُّوحِ والحَقّ.

 

تشير عبارة " اللهَ رُوح" في الاصل اليوناني πνεῦμα θεός (يضع كلمة "روح" قبل كلمة "الله") فيشير الى روح الذي هو الله. وبذلك يضع النبرة في الروح، وهو ليس بمادة يمكن ان نراها او نحصره في مكان او على جبل كما زعمت المرأة السامرية (4: 20)، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " قول المسيح للمرأة السامرية: "الله روح" لا يدل على معنى آخر إلا على أنه خالٍ من جسم، لذلك ينبغي أن تكون عبادة خالية من جسم أيضًا، أي أن تكون بروحنا وبنقاوة عقلنا"، ويوضّح ذلك القديس هيلاريوس أسقف بواتييه بقوله "الله روح" لا تغيّر الحقيقة أن الروح القدس له اسمه الخاص به، وأنه هو العطية المقدَّمة لنا".  امَّا عبارة " يَعبُدوهُ" فتشير الى عبادة روحية قلبية غير قائمة فقط على حركات الشفتين والركوع وغيره من الأوضاع الجسدية. لا يجوز الاكتفاء بالعبادة الخارجية دون العبادة الداخلية" لأَنَّ الرَّبَّ هو الرُّوح (2 قورنتس 3: 17)؛ أمَّا عبارة "بِالرُّوحِ" فتشير الى العبادة الحقَّة التي تتماشى مع طبيعة الله. الله روح وعبادته تكون بالروح، أي بالعقل والقلب والعاطفة الروحية بإرشاد الروح القدس. يسوع لا يربط العبادة بمكان وزمان، كما يؤكده بولس الرسول: " فاللهُ الَّذي أَعبُدُ في رُوحي" (رومة 1: 9). والعبادة تعني السجود لله وتقديم تسبيح وشكر لله بحب وانسحاق أمامه تعالى؛ فالله يسكن عند المُنسحق والمُتواضع القلب كما تنبأ أشعيا " أَسكُنُ في العَلاءِ وفي القُدْس ومع المُنسَحِقِ والمُتَواضِعِ الرُّوح"(أشعيا 15:57)؛ أمَّا عبارة "بالحَقّ" فتشير الى الإخلاص دون رياء او الاعتماد على الطقوس دون الروح، وبمعرفة الحق المبني على وحي الآب عن ذاته وعن حبِّه في ابنه الذي هو الحق" كما صرّح يسوع "أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة. لا يَمْضي أَحَدٌ إِلى الآبِ إِلاَّ بي" (يوحنا 14: 6).

 

25 قالَت لَه المرأة: إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء.

 

تشير عبارة " إِنِّي أَعلَمُ " الى معرفتها كسائر السامريين بالتوراة (اسفار موسى الخمسة الأولى) وانتظارهم المسيح كما ورد في تثنية الاشتراع 18: 15). أمَّا عبارة “المَشيحَ" بالعبرية מָשִׁיחַ واليونانية Μεσσίας (معناها مسيا كما ينطقها السامريون) فتشير الى المسيح Χριστός، كما يعلق يوحنا البشير لإفادة قرائه غير اليهود. أمَّا عبارة "المَشيحَ آتٍ " فتشير الى تحقيق الوعد الإلهي الخاص بمجيء المسيح الذي تتمُّ فيه نبوءة موسى "يُقيمُ لَكَ الرَّبُّ إِلهُكَ نَبِيًّا مِثْلي مِن وَسْطِكَ، مِن إِخوَتكَ، فلَه تَسْمَعون" (تثنية الاشتراع 18: 15)؛ ويُعلق القديس أوغسطينوس " كان اسم "المسيح" ليس بجديدٍ على السامرية، كانت بالفعل تترقب مجيئه. لقد آمنت بالفعل أنه قادم. من أين كان لها أن تؤمن بهذا لو لم يغرسه موسى؟" واليهود أيضا كانوا ينتظرون المسيح كما ورد في انجيل يوحنا "التَفَّ علَيه اليَهودُ وقالوا له: حَتَّامَ تُدخِلُ الحَيرَةَ في نُفوسِنا؟ إِن كُنتَ المَسيح، فقُلْه لَنا صَراحَةً" (يوحنا 10: 24)؛ أمَّا عبارة "إِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء" فتشير الى المرأة السامرية التي تفضل ان تنتظر الاعلام الاكمل الذي سوف يأتي به المسيح المنتظر حول ملكوت الله الذي كله خيرات. وهنا أقرَّت أن كل ما استندت عليه في حديثها غير أكيد ما لم يأتِ المسيا الذي يُزيل من قلبها كل ما فيه من الشكوك الدينية ويحكم بالصواب فيما اختلف فيه معلمو الدين ويفسر لها كل ما لم تفهمه من كلام يسوع في روحانية الله وعبادته.

 

26 قالَ لَها يسوع: أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ.

 

تشير عبارة "أَنا هو" الى اختتام الحوار مع المرأة السامرية بكشف هويته لها. وهنا يعرّف يسوع نفسه حيث يطلق على نفسه اسم الله الشخصي كما اوحاه الله الى موسى النبي "أنا هو مَن هو " אֶהְיֶה אֲשֶׁר אֶהְיֶה (خروج 3: 14-15). ولم يسبق ان تحدَّث السيد المسيح بعبارات مباشرة بهذه الصورة مع اليهود، ولا مع تلاميذه ولا حتى مع بُنطِيوس بيلاطُس عندما استجوبه (متى 26: 63) إنما أعلن أنه المسيح في عالم السامرة، لان لا خوف من النظرة السياسية التي ترتبط بهذا اللقب في اليهودية. ولم يقرْ يسوع يوماً لنفسه بلقب المسيح، ما عدا هذه المرة الوحيدة، وذلك في حديثه مع المرأة السامرية، فد صرّح علانيةً انه المسيح المنتظر، ملك؛ لان السامريون كانوا ينتظرون مسيحا بمثابة ملك نبوي مثل موسى، وبالتالي لم يكونوا يتنظرون مسيحا سياسيا بل قائدا روحيا، ولذا كشف يسوع عن هويته الملوكية المسيحانية للمرأة السامرية، يقيناً منه أنها ستفهم نوعا ما معنى مُلك يسوع المسيحاني.

 

27 ووَصَلَ عِندَئِذٍ تَلاميذُه، فعَجِبوا مِن أَنَّه يُكَلِّمُ امرَأَة، ولكِن لم يَقُلْ أَحَدٌ مِنهم: ((ماذا تُريد؟)) أَو ((لِماذا تُكَلِّمُها؟))

 

تشير عبارة "عِندَئِذٍ" الى بلوغ الحوار بين يسوع والمرأة السامرية الى هذا الحد. أمَّا عبارة "ووَصَلَ عِندَئِذٍ تَلاميذُه" فتشير الى عودة التلاميذ من المدينة ليبتاعوا طعاما. فالمرأة لم ترد ان تتكلم بحضوره فانصرفت.  امَّا عبارة " فعَجِبوا مِن أَنَّه يُكَلِّمُ امرَأَة " فتشير الى تعدّي العادة التي كانت تمنع الرجل عن مخاطبة امرأة لا يعرفها، وخاصة ان يسوع المعلم الديني يتحدث مع امرأة، وأكثر من ذلك مع امرأة سامرية علناً. ولم يكن من عادة الرجال أن يتحدثوا مع نساء في الطريق، حتى وإن كانت زوجاتهم، وقد وجدت قوانين كثيرة سنَّها الحاخامات في هذا الشأن. فكان اليهود يحتقرون المرأة، ومن أقوالهم "أشكرك أنت الرب الذي لم تخلقني امرأة ولا أمميًا ولا عبدًا" (الخدمة اليومية في المجامع). لذلك لم يفهم التلاميذ هذه النظرة وخاصة ان يسوع كان يعمل ما يطلبه الآب السماوي منه (يوحنا 4: 23)، لكن يسوع جاء لينتزع عزلة الخطأة مثل المرأة السامرية (يوحنا 4: 27). وهذ ما سار عليه الجماعة المسيحية الأولى كما جاء في تعليم بولس الرسول لَيسَ هُناكَ يَهودِيٌّ ولا يونانِيّ، ولَيسَ هُناكَ عَبْدٌ أَو حُرّ، ولَيسَ هُناكَ ذَكَرٌ وأُنْثى، لأَنَّكم جَميعًا واحِدٌ في المسيحِ يسوع" (غلاطية 28:3).

 

28 فتَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها، وذَهبَت إِلى المَدينة فقالَت لِلنَّاس

 

تشير عبارة "تَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها" الى المرأة التي لم تعد بحاجة الى ماء البئر، بعد ان احسَّت بالماء الحي الذي بدا يفيض فيها، فتركت جَرّتها كما عمل الرسل لمّا دعاهم يسوع تركوا شباكهم، ليتبعوه (مرقس 1: 18).  تركت السامرية جَرَّتها بمحض إرادتها وعملت عمل المُبشرين. وترك الجرة علامة على انقلاب كامل في حياتها، حيث أنها تعلن عن ترك كل حياتها القديمة؛ ويُعلق العلامة أوريجانوس "ربما تركت جرة الماء التي كانت في بئر تعتز بعمقها، أي بالتعاليم، إذ احتقرت الأفكار التي سبق أن قبلتها، وتقبلت جرة أفضل من جرة الماء، تحوي ماءً نبع حياة أبدية". وإذا ربطنا هذه الجرة بالجرار الست في عرس قانا الجليل، نرى ان اليهود والسامريين مجتمعين معا في وليمة يسوع مع تلاميذه. والجدير بالذكر أنَّ جرَّة الماء التي كانت تحملها المرأة السامرية أعادها الفاتيكان الى كنيسة بئر يعقوب وهي محفوظةً الآن في بيت من الزجاج على أحد أعمدة الكنيسة. أمَّا عبارة " ذَهبَت إِلى المَدينة فقالَت لِلنَّاس " فتشير الى المرأة السامرية التي أصبحت اول مُبشرة لدى السامريين جاءت بهم الى يسوع المسيح قبل فيلبُّس أحد الشمامسة السبعة (اعمال الرسل 8). اجتذبها يسوع إلى الخلاص، بل وجعلها مُبشرة بالخلاص. من عرف المسيح يود ان يُخبر كل الناس عنه كما صرّح يوما بولس الرسول " إِذا بَشَّرتُ، فلَيسَ في ذلك لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضةٌ لا بُدَّ لي مِنها، والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر!" (1 قورنتس 9: 16). اكتشفت السامرية النبع الحقيقي وارتوت منهُ، وحصلت على الخلاص وشاركت به. وتغير توجه حياتها فبعد ان كانت هاربة من الناس أصبحت تُبشِّر الناس. فإنّ القيام بالرسالة بعد الارتداد لن يكون إلاّ بعد اكتشاف حقيقيّ للربّ، واكتشاف تعاليمه، وبعد اقتناع شخصيّ. يسوع هو أول من زرع الكلمة في السامرة وفيما بعد سيحصد التلاميذ.

 

29 هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح؟

 

تشير عبارة "هلُمُّوا فَانْظُروا" الى رغبة المرأة السامرية في تنوير الآخرين فتدعو أبناء جنسها لمعرفة يسوع، وهي تكرِّر لهم الدعوة الّتي وجَّهها يسوع لأول تلميذين له، يوحنا الحبيب واندراوس قائلا لَهما: "هَلُمَّا فَانظُرا!" (يوحنا 1، 39). سالت السامريين يان يأتوا الى يسوع ويفحصوا عنه بأنفسهم كما فعل فيلبس عندما التقى بنتنائيل يدعوه ان يعرف يسوع " هلُمَّ فانْظُرْ؟ " (يوحنا 1: 46). امَّا عبارة "رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ" فتشير الى عدم خجلها من قولها أنَّ يسوع قال لها كل مع فعلتْه. فكان تأثير يسوع في هذه المرأة السامرية الى حدٍ انها لم تَعد كما كانت قبل لقائها بالرب، بل ارادت ان تشهد ليسوع امام أهل وطنها.  ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "إنها لم تعد تنظر إلى ما هو أرضي، ولا تعود تلقي بالًا إلى مجد دنيوي أو عارٍ، لكنها أصبحت مُنْتمية إلى شيءٍ واحدٍ فقط، وهي تلك الشعلة المقدسة المُتقدة داخلها والمُمتلئة به"، أمَّا القديس كيرلس الاورشليمي يقارن بين السامرة ورئيس الكهنة فيقول": رئيس الكهنة لم يعرف يسوع، والسامرية أعلنت عنه قائلةً: "ا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح؟"؛ أمَّا عبارة " أَتُراهُ المَسيح؟" فتشير الى سؤال استفهام للناس حول يسوع الذي كشف قلبها ومسلكها؛ والاستفهام أحسن دعوة لهم للفحص والوقوف على الحق. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " كانت السامرية حكيمة في كرازتها، إذ لم تملي عليهم إيمانها به، بل بحكمة طلبت منهم أن يأتوا وينظروا ليتحققوا من شخصه: أَتُراهُ المَسيح؟ انظر حكمة المرأة إنها لم تجزم أنه هو المسيح بحكم واضح ولا صمتت، لأنها أرادت أن تجتذبهم إليه، ليس بحكمها هي، وإنما باستماعهم له". كثيرا ما نرى الأسلوب في الارشاد أنجع من الجدال. لا نتردد في ارشاد نفس واحدة للحق ربما كان ذلك واسطة ارشاد اهل المدينة الى المسيح.

 

30 فخَرَجوا مِنَ المَدينةِ وساروا إِليه

 

تشير عبارة "فخَرَجوا مِنَ المَدينةِ" الى تأثير المرأة السامرية في كل أهل المدينة. إذ ايقظت اهتمامهم بصورة جعلتهم يخرجون من المدينة ويأتون لرؤية يسوع، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " آمنت المرأة السامرية على الفور، وبذلك اتَّضح أنها أكثر حكمة من نيقوديمُس، بل وأكثر شجاعة وثباتًا. لأن نيقوديمُس بعد أن سمع بقدر ما سمعت المرأة آلاف المرات لم يذهب ويدعو آخرين لسماع هذه الكلمات، ولا تحدث بصراحة على الملأ. لكن هذه المرأة السامرية قامت بالكرازة للجميع تدعوهم إلى المسيح. امَّا عبارة " وساروا إِليه " فتشير الى المرأة السامرية التي قادت المدينة بأكملها إلى الإيمان بيسوع المسيح. امرأة سامرية لها ماضٍ مؤلم أصبحت أول مُبشِّرة بالإنجيل للسامرة، فكسبت المدينة كلها لحساب يسوع المسيح.

 

31 كانَ تَلاميذُه خِلالَ ذلكَ يقولونَ لَه مُلِحيِّن: راِّبي، كُلْ.

 

تشير عبارة "خِلالَ ذلكَ" الى المدة بين ذهاب المرأة وقدوم اهل المدينة   اما عبارة "راِّبي، كُلْ" فتشير الى التلاميذ الذين عرفوا ان يسوع بحاجة الى طعام، لأنه كان جائعًا ومُتعباً بينما انطلقت المرأة السامرية للكرازة بكل قوة.

 

32 فقالَ لَهم: لي طَعامٌ آكُلُه أَنتُم لا تَعرِفونَه.

 

تشير عبارة "لي طَعامٌ آكُلُه أَنتُم لا تَعرِفونَه" فتشير الى طعام روحي الذي هو العمل بمشيئة الله التي هي خلاص النفوس كما سيؤكده لتلاميذه "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" (يوحنا 4: 34).  وأمَّا التلاميذ فظلوا على مستوى الطعام المادي؛ ويعلق العلامة أوريجانوس " طعام المسيح، الذي لم يكن يعرفه التلاميذ عندئذ، لأنهم لم يكونوا يعرفوا ما كان يسوع يفعله حينما كان يفعل إرادة من أرسله ويُتمم أعماله الكاملة. إنه يفعل إرادة الآب التي هي واحدة مع إرادته". ويؤكد ذلك القديس أوغسطينوس " أن طعام السيد المسيح هو أن يُتمِّم إرادة الآب". وأي طعام أكثر بهجة من عمل مشيئة اللَّه؟ ويُفسر القديس ايرونيموس إرادة الاب هنا بقوله " كان الرب جالسًا جائعًا وعطشانًا اقتات بإيمان المرأة السامرية". إن التبشير المرأة السامرية شغلت جسده عن الحاجة للطعام. الانسان غالٍ على قلب يسوع مهما كان حجم خطيته، وهو ينتظره لتقبل خلاصه ومحبته اللامتناهية!  وإذا كان الماء يرمز الى العماد، فالطعام يرمز الى الإفخارستيا لاسيما ونحن في إطار الأزمنة الأخيرة في حصاد وفيرة (يوحنا 4: 35-36).

 

33 فأَخَذَ التَّلاميذُ يتساءلون: ((هل جاءَهُ أَحَدٌ بِما يُؤكَل؟)).

 

تشير عبارة "هل جاءَهُ أَحَدٌ بِما يُؤكَل؟" الى سؤال التلاميذ يفسرون كلام يسوع لهم حرفيا، في حين كان يتحدث بصورة روحية.

 

34 قالَ لَهم يسوع: ((طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه.

 

تشير عبارة "طَعامي أَن أَعمَلَ بِمَشيئَةِ الَّذي أَرسَلَني وأَن أُتِمَّ عَمَلَه" الى انتعاش وقوت يسوع عن طريق طاعته لمشيئة الله. ومشيئة الآب هي خلاص النفوس، وهذه هي إرادة الآب التي أرسله لأجلها. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 4:2). ليتنا نأكل خبز الحكمة، ونشبع بكلمة اللَّه، لأن حياة الإنسان التي خُلقت على صورة اللَّه لا تتحقق "بِالخُبزِ وَحدَه بل بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخرُجُ مِن فَمِ الله" (متى 4:4).

 

35 أَما تَقولونَ أَنتُم: هي أَربعةُ أَشهُرٍ ويأتي وَقْتُ الحَصاد؟ وإِنِّي أَقولُ لَكم: اِرفَعوا عُيونَكم وانظُروا إِلى الحُقُول، فقَدِ ابْيَضَّت لِلحَصاد.

 

تشير عبارة "أَربعةُ أَشهُرٍ" الى الحادثة التي وقعت نحو منتصف كانون الأول، إذ جاء السيد المسيح إلى اليهودية بعد أن احتفل في العيد في أورشليم (يوحنا 3: 22)، والآن يتركها بعد أربعة أشهر من الحصاد؛ أي مكث فيها حوالي ستة أشهر. أمَّا عبارة "اِرفَعوا عُيونَكم" فتشير الى كلمة يسوع المسيح الذي يحثنا على رفع أفكارنا وبصيرتنا وانظارنا إلى فوق كما جاء في أشعيا:" إِرفَعوا عُيونَكم إِلى العَلاءِ وآنظُروا مَنِ الَّذي خَلَقَ هذه الَّذي يُخرِجُ قُوَّاتِها بِعَدَد ويَدْعوها جَميعاً بِأَسْمائِها لِعَظَمَةِ قُدرَته وشِدَّةِ قُوَّتِه فلا يَنقُصُ أَحَدٌ مِنها (أشعيا 40: 26). أمَّا عبارة "ابْيَضَّت لِلحَصاد" فتشير الى لون الحنطة عند الحصاد، وتدل على مقدرة الانسان على معرفة أوان الحصاد إذا نظر الى الحقول.  أراد يسوع ان يلفت الانتباه لا الى حصاد الحقول لكن الى الحصاد في آخر الأزمنة. وهذا الحصاد ابتدأ ويمتد الى انحاء العالم كله (يوحنا 4: 42). والسامريون الذين يقتربون هم البواكير (متى 9: 37-38). ويُعلق العلامة أوريجانوس" الحقول التي غُرست فيها البذور هي كتابات الناموس والأنبياء التي لم تكن قد ابيضت بالنسبة للذين لم يتقبلوا حضور الكلمة. لكنها صارت هكذا بالنسبة للذين صاروا تلاميذ ابن الله، وأطاعوه". لا يتكلم المسيح علن حصاد القمح بل حصاد المؤمنين الذي بدأت ثماره تظهر في إيمان السامريين. وهناك تفسير آخر لهذه الآية، يقابل يسوع التبشير بالإنجيل مع الزرع، فهناك أربعة أشهر بين الزرع والحصاد، اما بين زرع المسيح (الروحي) والحصاد لم يكن أكثر من ساعة (متى 9: 36-39).

 

36 هُوَذا الحاصِدُ يَأخُذُ أُجرَتَه فيَجمَعُ الثَّمَرَ لِلحَياةِ الأَبدِيَّة فيَفرَحُ الزَّراعُ والحاصِدُ معاً

 

عبارة "الحاصِدُ" فتشير الى الرسل الذين قادوا الناس بالتبشير الى المسيح. اما عبارة " يَأخُذُ أُجرَتَه " فتشير الى جزاء من يبذل نفسه في سبيل يسوع كما وعد يسوع "أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضاً على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر" مما يؤكد ما تنبأ به دانيال " يُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيراً مِنَ النَّاسِ أَبْراراً كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور" ( دانيال 12: 3) ؛ امَّا عبارة "يَجمَعُ الثَّمَرَ لِلحَياةِ الأَبدِيَّة" فتشير الى نتائج التبشير الروحية التي تدوم الى الابد ، لان النفوس التي نجت بالتبشير تنال سعادة لا نهاية لها . امَّا عبارة "الزَّراعُ ُ" فتشير الى الأنبياء الذين زرعوا ولم يحصدوا.  وفي هذه الآية تشجيع لكل الذين يتعبون في سبيل الخلاص كما جاء في تعليم بولس الرسول " فنَحصُدَ في الأَوانِ إِن لم نَكِلّ" (غلاطية 6: 9).

 

37 وبِذلِكَ يَصدُقُ المَثَلُ القائل: الواحِدُ يَزرَعُ والآخَرُ يَحصُد.

 

اما عبارة "الواحِدُ يَزرَعُ والآخَرُ يَحصُد" فيشير الى الواحد وهم المتمسكون في العهد القديم، والآخر هم المتمسكون في العهد الجديد، ويعلق العلامة أوريجانوس "كلاهما يفرحان معًا لأن لهما هدف واحد من الله الواحد بيسوع المسيح الواحد، المخزن لهما في الروح القدس الواحد".

 

38 إِنِّي أَرسَلتُكُم لِتَحصُدوا ما لم تَتعَبوا فيه. فغَيرُكُم تَعِبوا وأَنتُم دَخلْتُم ما تَعِبوا فيه.

 

تشير عبارة "فغَيرُكُم تَعِبوا" الى انبياء العهد القديم (العبرانيين 35:11-40) او يوحنا المعمدان. فالعمل الشاق الذي يتطلب جهدًا هو غرس البذور وإدخال النفس إلى معرفة الله. هذه هي رغبة الأنبياء وعمل يوحنا المعمدان أن ينهِّدوا كل البشر للرب؛ أمَّا عبارة " وأَنتُم دَخلْتُم ما تَعِبوا فيه" فتشير الى التلاميذ الذي هم حصَّادو الأزمنة الأخيرة، فهم يحصدون ما كلّف الزارع اتعاباً وآلاما: وهو تلميح الى الأنبياء الذين علموا قبلهم ولا سيما يسوع الذي عاد وهيأ هذا العمل بشكل خاص. فلم يبقَ للتلاميذ الا ان يجنوا أتعابه.

 

39 فآمَنَ بِه عَدَدٌ كَثيرٌ مِن سامِريِّي تِلكَ المَدينَة عن كَلامِ المَرأَةِ الَّتي كانَت تَشهَدُ فتَقول: ((إِنَّه قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ)).

 

تشير عبارة "آمَنَ بِه عَدَدٌ كَثيرٌ مِن سامِريِّي تِلكَ المَدينَة عن كَلامِ المَرأَةِ" الى ايمان السامريين بسبب شهادة المرأة. لكن بعد أن استمعوا للمسيح آمنوا به أكثر جدًا بسبب كلامه. والعجيب أن أهل السامرة لم يطلبوا آيات ولا معجزات بل اقتنعوا بتعليم المسيح واقواله.

 

40 فلَمَّا وصَلَ إِلَيه السَّامِريُّونَ سَأَلوهُ أَن يُقيمَ عِندَهم، فَأَقامَ هُناكَ يَومَيْن.

 

تشير عبارة "يُقيمَ عِندَهم" الى السامريين في نابلس الذين يسألونه أن يمكث معهم، أمَّا في إنجيل لوقا فنجد بعضا من السامريين رفضوا أن يَعبر يسوع مدينتهم كما ورد في إنجيل لوقا " فأَرسلَ رُسُلاً يَتَقَدَّمونَه، فذَهبوا فدَخَلوا قَريَةً لِلسامِريِّين لِيُعِدُّوا العِدَّةَ لِقُدومِه فلَم يَقبَلوه لِأَنَّه كانَ مُتَّجِهاً إِلى أُورَشَليم"(لوقا 9: 53). ففي كل شعب نجد من يقبل الحق، ومن يرفضه. أمَّا عبارة "أَقامَ هُناكَ يَومَيْن" فتشير الى يسوع الذي يقيم مع الذين يطلبونه، خاصة عندما يأتون إليه، ويُعلق العلامة أوريجانوس " بقي يسوع يومين مع الذين يسألونه، لأنهم لم يدركوا بعد يومه الثالث، إذ كانوا غير قادرين على إدراك أي معجزة مثل هؤلاء الذين أكلوا مع يسوع في اليوم الثالث في عرس قانا الجليل" (يوحنا 2: 1). ويقارن هنا القديس أوغسطينوس بين أهل السامرة وأهل الجليل فيقول "قضى يومين في السامرة فآمن به السامريون، وقضى أيامًا كثيرة في الجليل ومع ذلك لم يؤمن به اهل الجليل. لم ينتظر السامريون آية، بل آمنوا بمجرد كلمته وبحديثه".

 

41 فآمَنَ مِنهُم عَدَدٌ أَكبَرُ كَثيراً عن كلامِه

 

تشير عبارة "آمَنَ" الى إيمان وليس اختباراً منقولا، بل انه ثقة حية تستند الى كلمة المسيح. لقاؤهم معه وهبهم نموًا في الإيمان وتزايدًا في عدد المؤمنين. وبالرغم من أن السامريين لم يروا معجزة ما، لكن ما اجتذبهم إلى السيد المسيح هو شخصه وحديثه الإلهي. تمتَّعوا بكلمته واهبة الحياة. ركز السيد المسيح على شخصه وتعليمه لكي يقبله الأمم ويتمتعوا بالخلاص؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " سيُدين هؤلاء السامريون اليهود بإيمانهم بالمسيح وقبولهم إياه، لأن أولئك اليهود بعد كل أعماله وعجائبه قاوموه، أمَّا السامريون فبدون آيات أظهروا إيمانهم به".

 

42 وقالوا لِلمَرأَة: ((لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً))

 

تشير عبارة " لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ" الى إيمان السامريين نتيجة سماعهم ليسوع مباشرة.  وبالرغم من أنهم سمعوا المرأة السامرية في ارتياب تقول " أَتُراهُ المَسيح؟ اما هم لم يقولوا إننا نظن أنه المسيح، لكنهم قالوا: " عَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً "؛ أمَّا عبارة " فقَد سَمِعناهُ نَحنُ " فتشير الى شهادة المرأة السامرية أمام السامريين أدَّت الى مرحلة من مراحل الايمان، وهي جذبهم الى المسيح؛ والايمان يزدهر بالإصغاء الى كلام المسيح وخاصة في لقائه الشخصي. فلا بُد من الخبرة الشخصية لتعميق الايمان. وقد كان إيمان السامريين يقينًا انه "المسيح مخلص العالم"، ولسان حالهم ما قالت ملكة سبأ لسليمان الملك: " صَدَقَ الكَلامُ الَّذي سَمِعتُه في أَرضَي عن أقْوالِكَ وعن حِكمَتِكَ، ولم أُصَدِّقْ ما قيلَ لي حَتَّى قَدِمتُ ورَأَيتُ بِعَينَيَّ، فإِذا بي لم أُخبَرْ بِالنِّصف، فقَد زِدتَ حِكمَةً وصَلاحًا على الخَبَرِ الَّذي سَمِعتُه" (1ملوك 10: 6-7). ويُعلق العلامة أوريجانوس " ليس بالأمر المدهش في الحقيقة أن البعض يُقال عنهم أنهم يسلكون بالإيمان لا بالعيان، وآخرين يسلكون بالعيان (الداخلي) الذي هو أعظم من السلوك بالإيمان"؛ أمَّا عبارة " مُخَلِّصُ العالَمِ" فتشير الى لقب يُطلق أحيانا على الرب في العهد القديم (أشعيا 19: 20)، وأطلقه كتُّاب العهد الجديد على يسوع بوجه عام (متى 1: 21)، وينفرد يوحنا باستعمال هذا اللقب "مخلص العالم" (1 يوحنا 4: 14) الذي يُشير الى شمولية الخلاص. فيسوع هو أكثر من معلم كما انتظره السامريون، انه المخلص ومخلص العالم. وخلاص يسوع لا يتوقف عند اليهود (يوحنا 4: 22)، بل يصل الى السامريين والى العالم كله كما يؤكد ذلك يوحنا الإنجيلي " فإِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 3: 16).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 4: 5-42)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 4: 5-42)، نستنتج انه يتمحور حول حوار عن هوية المسيح وموضوع العبادة لدى السامريين عند بير يعقوب. ومن هنا نبحث في حوار عن هوية المسيح مع السامرية والسامريين ثم موضوع العبادة

 

  1. حوار عن هوية المسيح

 

في مقابلة نشرت في إذاعة الفاتيكان لعام 2016 قال البابا فرنسيس: "إن الحوار يسمح للأشخاص بالتعرف على بعضهم البعض وفهم حاجات بعضهم البعض. وهو أولاً علامة لاحترام كبير، لأنه يضع الأشخاص في موقف إصغاء. ثانيًا، هو تعبير عن المحبة لأنه، بغض النظر عن الاختلافات، يمكنه أن يساعد في البحث عن الخير العام ومقاسمته. واخيراً يدعونا الحوار لنضع أنفسنا أمام الآخر ونراه كعطية من الله الذي يسألنا ويطلب منا أن نعترف به".  ومن هذا المنطلق ان الحوار يُشكّل تعبيرًا عن الحاجّة القصوى لمحبة المسيح الذي يذهب للقاء المرأة السامرية وجميع الناس. إن الحوار يهدم جدران الانقسامات ويخلق جسور التواصل ولا يسمح لأحد العزلة والانغلاق على ذاته في عالمه الصغير. دخل يسوع في حوار مع السامرية بكلام ضمني وغامض، حتى اظهر لها نعمة الله فآمنت ونالت الخلاص.

 

أ‌) الحوار مع السامرية (يوحنا 4: 6-25)

 

ينتقل يسوع من اليهودية الى الجليل مروراً بالسامرة حيث يلتقي امرأة سامريّة عند بئر يعقوب فقلب حياتها. رضي يسوع ان يُلقي من أفضل مواعظه لامرأة سامرية وان يكون منبره حجر البئر مُظهراً قيمة نفس واحدة في عينه. فتجاوز كل الحواجز الجغرافية والثقافية والدينية من اجل حوار الخلاص، لأنه يهتم بالنفس البشرية. فالتقليد اليهودي كان يعتبر المرأة السامرية دنسة منذ ولادتها. والدليل على ذلك، ان الكلام مع امرأة أدهش التلاميذ. بادر يسوع بالحوار مع السامرية ودار الحوار في البداية على الماء والطعام.

 

ومن خلال الحوار كشف السيد المسيح للسامرية عن شخصه بشكل تدريجي في بداية حديثه فحسبته يهوديًا (يوحنا 4: 9) لا يخالط السامريين (يوحنا 4: 9)، ودعته: "يا سيد" (يوحنا 4: 11)، وتوقعت أنه أعظم من يعقوب، أب الاسباط (يوحنا 4: 12)، وآمنت أنه واهب المياه الحية (يوحنا 4: 15)، وأنه نبي (يوحنا 4: 19)، وتوقعت أخيرا أن يكون المسيا المنتظر (يوحنا 4: 25)، فقال لها: " أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ " (يوحنا 4: 26)، وقال" لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً" (يوحنا 4: 10). فأصبح لسان حالها كلام ارميا النبي في مناجاته مع الله " قد استَغوَيتَني يا رَبُّ فآستُغْويت قَبَضتَ علَيَّ فغَلَبتَ" (ارميا 20: 7). وخلاصة القول، تطور الحوار بين المسيح والمرأة السامرية بصورة تدريجية فاكتشفت فيه هوية يسوع انه يهودي وعطاء الله وربٌ ونبيٌ ومسيح؛ واما حواره مع السامريين كشفوا ان يسوع هو مخلص العالم.

 

  1. يسوع يهودي (يوحنا 4: 9)

 

اكتشفت السامرية من خلال الحوار مع يسوع انه يهودي فقالت له ((كَيفَ تسأَلُني أَن أَسقِيَكَ وأَنتَ يَهوديٌّ وأنا امرَأَةٌ سامِريَّة؟ " (يوحنا 4: 9)، ولكن ليس يهوديا مثل الاخرين: انه يطلب من السامرية ان تسقيه! واليهود، في الواقع، كما يوضح يوحنا الإنجيلي، لا يخالطون السامريين، وقد صدر تنظيم سنة 76-66 يعتبر كل امرأة سامرية نجسة. ونتيجة لذلك حُرّم على اليهودي ان يستعمل إناء سامرية، وخاصة إذا كانت قد شربت منه.

أمَّا يسوع فإنه تخلَّى عن تلك المنازعات، لان كان همّه خلاص النفوس، فهو يعطش لا الى ماء البئر بل الى إيمان السامرية وخلاصها. وقد امتدح السامري الابرص الذي عاد يشركه على الشفاء من دون البرص التسعة الآخرين الذين هم أيضا ناولا الشفاء (لوقا 10: 30-37)، والسامري الرحيم (لوقا 10: 33-38)، وقبل صعوده الى السماء أوصّى الرسل الالتزام بالخدمة في السامرة: "تكونونَ لي شُهودًا في أُورَشَليمَ وكُلِّ اليهودِيَّةِ والسَّامِرَة، حتَّى أَقاصي الأَرض " (أعمال 1: 8).

 

  1. يسوع عطاء الله (يوحنا 4: 10)

 

ظل يسوع يتكلم مع المرأة السامرية بكلام ضمني وغامض حتى دخل شيئا فشيئا في قلبها، فأظهر لها نعمة الله " لو كُنتِ تَعرِفينَ عَطاءَ الله ومَن هوَ الَّذي يقولُ لَكِ: اسقيني، لَسَأَلِته أَنتِ فأَعطاكِ ماءً حَيّاً)). (يوحنا 4: 10). ان الأنبياء مثل عاموس (8: 11) وأشعيا (55: 1) وباروك (3: 12) وكتب الحكمة (الامثال 13: 14، ابن سيراخ 15: 1-3) كلهم رمزوا بنبع الماء الحي الى كلمة الله، والى الشريعة والى الحكمة. فالماء الحي الذي يَعد به يسوع، يرمز الى وحي الله الى البشر في كلمته وفي شخصه بالذات. هذا هو عطاء الله. فهذا الماء يُصبح لمن يشربه، أي لمن يؤمن بالمسيح وبكلامه، نبع حياة لا ينضب، بفضل عمل الروح القدس الذي " سيتلقاه المؤمنون به "مَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ" وأَرادَ بِقَولِه الرُّوحَ الَّذي سيَنالُه المؤمِنونَ بِه" (يوحنا 7: 37-39).

 

وهكذا انقلب الوضع: فالمرأة هي التي تسأل الآن، وتطلب من يسوع ليسقيها. اعترفت انه الرب القادر على إرواء عطش نفسها (يوحنا 4: 15). ويسوع لا يعطي ماء الحي الاّ لمن يهتدي ويؤمن به. ونستنتج مما سبق ان عطية الله هي يسوع المسيح الذي بذله الله الآب للبشر " لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة (يوحنا 3: 16). فالمسيح والماء الذي يرمز الى الروح القدس هما حقيقة واحدة لا يمكن ان تكون منفصلة عن بعضها البعض لأن يسوع لا بد أن يموت عن خطايا الانسان حتى يمنح الروح القدس وبذلك نسترد سلطان البنوة والشركة مع الله. واستعمل يسوع موضوع الماء (يوحنا 4: 7-26) للانتقال من عطش على مستوى الجسد الى الحياة الابدية والعبادة في الروح القدس.

 

  1. يسوع أعظم من أبينا يعقوب (يوحنا 4: 12)

 

على إثر سؤال السامرية الساخر " هل أَنتَ أَعظَمُ مِن أَبينا يعقوبَ الَّذي أَعْطانا البِئْرَ، وشرِبَ مِنها هو وبَنوهُ وماشِيَتُه؟ (يوحنا 4: 12)، اغتنم يسوع هذا التحدي وكشف لها انه أعظم من يعقوب. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لم يجبْها يسوع: "نعم، أنا أعظم من يعقوب"، لكنه بلغ هذا الهدف في إيضاح طبيعة الأمور، ومدى الفرق الشاسع والاختلاف الكامل بينه وبين يعقوب من خلال عطائهما"؛ كشف يسوع عن مفاعيل الماء الذي يعطيه: انه ليس كالماء الذي ينبجس من عمق بئر يعقوب، اذ ان هذا الماء لا يروي الظمأ الا موقتاً، أمَّا الماء الذي يَعد به يسوع، فيروي الظمأ الى الابد. ويصبح عين ماء يتفجر حياة ابدية فيمَن يشرب منه.

 

وبعد أن أوضحت تقديرها ليعقوب، شاهدت من هو أعظم منه وذلك بقولها ليسوع " يا ربّ، أَعطِني هذا الماء، لِكَي لا أَعطَشَ فأَعودَ إِلى الاستِقاءِ مِن هُنا (يوحنا 4: 15). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "هنا تفضله عن يعقوب. لأن لسان حالها يقول: "لن أحتاج إلى هذه البئر ما دمت أنال منك هذا الماء... ، وبهذا لم تعقبها أفكارها السابقة ولا كانت مجادلة متمردة".

 

ونستنتج مما سبق ان يسوع أوضح لها أنه لا وجه للمقارنة بين ماء يروي الجسد إلى حين، وماء يسند النفس ويرويها أبديًا، الماء الذي يقدِّمه الرب لها هو عطية إلهية "أنا أعطية"، لذا يهب فرحًا إلهيًا كما يتنبأ أشعيا "تستَقونَ المِياهَ مِن يَنابيعَ الخَلاصِ مُبتَهِجين" (أشعيا 12: 3)، ويهب حياة أبدية كما يصرّح المسيح " مَن يُقبِلْ إِليَّ فَلَن يَجوع ومَن يُؤمِنْ بي فلَن يَعطَشَ أبَداً" (يوحنا 6: 35)، وهو ماء داخلي في النفس يحوّل الأعماق إلى ينبوع فياض، " ومَن آمنَ بي فَلْيَشَربْ كما ورَدَ في الكِتاب: ستَجْري مِن جَوفِه أَنهارٌ مِنَ الماءِ الحَيّ " (يوحنا 7: 38). وقد أشتهى الأنبياء هذه المياه الحية، كم صرّح أشعيا " أَيُّها العِطاشُ جَميعاً هَلُمُّوا إِلى المِياه" (أشعيا 55: 1). وقد قيل في سفر الرؤيا: " لَن يَجوعوا ولَن يَعطَشوا ولَن تَلفَحَهمُ الشَّمسُ ولا الحَرّ، لأَنَّ الحَمَلَ الَّذي في وَسَطِ العَرشِ سيَرْعاهم وسيَهْديهم إِلى يَنابيع ِماءِ الحَياة " (رؤيا 7: 16).

 

  1. يسوع نبي (يوحنا 4: 19)

 

كشف يسوع عن حياة المرأة السامرية الشخصية بانها اتخذت خمسة أزواج والذي يصحبها اليوم ليس بزوجها (يوحنا 4: 16-18)، فأيقظ فيها احساسا بالذنب الشخصي، فاستسلمت الى الاعتراف بيسوع وانحنت امام رجل الله مُعترفة انه نبي قائلة ِ: ((يا ربّ، أَرى أَنَّكَ نَبِيّ. (يوحنا 4: 19)؛ اعترفت به انه نبي يعرف ما في القلب وما فيه من عطش الى حب حقيقي والى ماء الحياة.

 

  1. يسوع هو المسيح (يوحنا 4: 25)

 

يصف صاحب المزامير عطش الانسان لله مثل العطش الى الماء "كما يشْتاقُ الأيَلُ إِلى مَجاري المِياه كذلِكَ تَشْتاقُ نَفْسي إِلَيكَ يا أَلله" (مزمور 42: 2) وقد دُعي الله " يَنْبوعَ الحَياةِ" (مزمور 36: 9) او "يَنْبوعَ المِياهِ الحَيَّة"(ارميا 17: 13) وبقوله إنه معطي الماء الحي التي يروي الى الابد عطش الانسان لله، أعلن يسوع انه المسيح، فليس سواه يقدر ان يعطي العطية المجانية التي تُشبع حاجة النفس.

 

وفي حوار المرأة السامرية مع يسوع نزل عليها هذا الكشف انه المسيح فصرّحت: " إِنِّي أَعلَمُ أَنَّ المَشيحَ آتٍ، وهو الَّذي يُقالُ لَه المسيح، وإِذا أَتى، أَخبَرَنا بِكُلِّ شَيء" (يوحنا 4: 25). اتى كلامها في حينه كأنه ثمرة يانعة. تتكلم السامرية عن المسيح الآتي فيكشف يسوع ذاته قائلا "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 26). وبهذا الكلام بلغت قمة الإعلان الإلهي بفم المخلص نفسه، وعلى إثر ذلك "تَركَتِ المَرأَةُ جَرَّتَها، التي لم تعد بحاجة اليها وذَهبَت إِلى المَدينة (يوحنا 4: 28)، وقد تحوّلت من امرأة خاطئة الى مبشّرة بالمسيح "هَلُمُّوا فَانْظُروا رَجُلاً قالَ لي كُلَّ ما فَعَلتُ. أَتُراهُ المَسيح؟" (يوحنا 4: 29)، وكشفت سر يسوع (يوحنا 4: 27-30) فأكد يسوع ذلك "أَنا هو، أَنا الَّذي يُكَلِّمُكِ" (يوحنا 4: 26).

 

ولم يتردد يسوع ان يعلن أنه المسيح في عالم السامرة، لان لا خوف من النظرة السياسية التي ترتبط بهذا اللقب في اليهودية. لم يقرْ يسوع يوماً لنفسه بلقب المسيح، ما عدا مرة واحدة هنا في حواره مع المرأة السامرية حيث صرّح علانياً أنه المسيح المنتظر، ملك؛ لان السامريون كانوا ينتظرون مسيحا بمثابة ملك نبوي مثل موسى، وبالتالي لم يكونوا يتنظرون مسيحا سياسيا بل قائدا روحيا، ولذا كشف يسوع عن هويته الملوكية المسيحانية للمرأة السامرية، يقيناً منه أنها ستفهم نوعا ما معنى مُلك يسوع المسيحاني.

 

ب) الحوار مع السامريين: يسوع مخلص العالم: (يوحنا 4: 26-42)

 

لمَّا تكلم يسوع مع المرأة السامرية أتمَّ رسالته التي من أجلها ارسله الآب الى العالم، وأعطى يسوع أخيرا جوابا كاملا أنه مخلص العالم. وهذا الامر دفع المرأة للتبشير بيسوع وجذب الناس إليه والاعتراف به انه هو مخلص العالم.  وقبِل يسوع الضيافة لدى السامريين لمدة يومين، فكسب قلوب السامريين، ولما اخذوا بكلامه، استخلصوا النتيجة من الحدث، وبدأوا يُعلنونها جماعيا "وقالوا لِلمَرأَة: ((لا نُؤمِنُ الآنَ عن قَولِكِ، فقَد سَمِعناهُ نَحنُ وعَلِمنا أَنَّهُ مُخَلِّصُ العالَمِ حَقاً)). (يوحنا 4: 42).

 

لم تصل الرواية الى ذروتها عن طريق شهادة المرأة السامرية (يوحنا 4: 39)، إنما أيضاً عن طريق لقاء السامريين مع شخص يسوع وكلمته. فالإيمان لا يأتي عن اختبار الاخرين، فحسب بل انه ثقة تسند الى كلمة يسوع. فاعترف السامريون انه "مخلص العالم" (42).

 

ورؤية السامريين للسيد المسيح وسماعهم له ثبَّت إيمانهم الذي تسلموه من المرأة، وانجذب كثيرون معهم في ذات الإيمان، كما تعرفوا عليه أنه ليس مخلص اليهود ولا السامريون فحسب، بل هو بالحقيقة مخلص العالم الذي قال عنه أشعيا النبي: " كَشَفَ الرَّبُّ عن ذراعِ قُدسِه على عُيونِ جَميعِ اَلأُمَم فتَرى كُلُّ أَطْرافِ الأَرضِ خَلاصَ إِلهِنا" (أشعيا 52: 10). ويُعلق يوحنا الذهبي الفم " إنه المخلص الحقيقي الذي يَهب الخلاص الحقيقي الأبدي وليس الزمني".

 

واخيراً رأى يسوع في رؤية نبوية تلاميذه يحصدون حقولا شاسعة التي سبقهم في العمل فيها الأنبياء وخاصة المسيح نفسه كي يدركوا وحدة العمل الإلهي وتعب الذين سبقوهم، وبِذلِكَ يَصدُقُ المَثَلُ القائل: الواحِدُ يَزرَعُ والآخَرُ يَحصُد." إِنِّي أَرسَلتُكُم لِتَحصُدوا ما لم تَتعَبوا فيه. فغَيرُكُم تَعِبوا وأَنتُم دَخلْتُم ما تَعِبوا فيه" (يوحنا 4: 37-38).

 

  1. حوار عن العبادة الجديد

 

قدم يسوع للسامرية ماءً حيًا يفيض في داخلها فاعترفت بخطيتها ولم تنكر الواقع أمام المسيح، وإنفتحت عيناها على الله وعبادته فتطرق يسوع في حواره مع السامرية حول موضوع العبادة ومكان العبادة.

 

ا) العبادة الحقيقية بالروح والحق:

 

تقتضي الشريعة ان العبادة لله وحده (تكوين 23: 7) وتحظّر بشدة أي وضع من أوضاع العبادة لأي كائن يمكن اعتباره منافسا لله كالأصنام (تثنية الاشتراع 4: 19). او الآلهة الغريبة (خروج 34: 14). وقد أكد يسوع على ذلك بإجابته لإبليس المُجرب " لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسجُد وايَّاهُ وَحدَه تَعبُد " (متى 4: 10).

 

وتعبّر العبادة عن ردود الفعل المتعددة للإنسان لقُربه من الله، وهي مزيج من وعيه بضعفه وخطيئته من ناحية، ومن احترام مُشبع بالرهبة (مزمور 5: 8)، وبعرفان الجميل (التكوين 24: 48) وبالتسبيح يغمر كيان الانسان كله (مزمور 96: 1-6) من ناحية أخرى. وبما أن رد فعل الانسان يغمر كيان الانسان كله، فلا بد من اشتراك الجسد في التعبير عن إيمانه بسلطان الله على خليقته وولائه. ولكن الانسان الخاطئ يحاول ان يقتصر على المظاهر الخارجية، لذلك فان العبادة الوحيدة التي ترضى الله هي التي تصدر من القلب.

 

والجديد الذي جاء به السيد المسيح في العبادة في حواره مع السامرية، هو العبادة بالروح والحق. بما ان في "الله روح"، انه يحوّل العبادة ويسمو بها الى كمالها. فيستطيع كل مولود من الروح (يوحنا 3: 8) ان يعبد بالروح والحق" (يوحنا 4: 24). والعبادة بالروح لا تعني الاقتصار على عبادة داخلية دون علامات خارجية، انما تنطلق من تكريس الكيان كله من روح ونفس وجسد كما صرّح بولس الرسول "قَدَّسَكم إِلهُ السَّلامِ نَفْسُه تَقديسًا تامًّا وحَفِظَكم سالِمينَ رُوحًا ونَفْسًا وجَسَدًا" (1 تسالونيقي 5: 23).

 

وصل الحوار بين يسوع والمرأة السامرية الى ذروته بالتكلم عن العبادة بالروح والحق (يوحنا 4:19-26): فالعبادة غير مرتبطة بمكان وزمان. وإذ نادى يسوع بسمو الايمان اليهودي (22) بمقارنته بالإيمان السامري الا ان العبادة الحقيقية شخصية وروحية تُقدَّم الى الله عن طريق الروح القدس. هذا الروح يُعرّفنا بالله كأب فنعبده، إذ يصلي فينا ومن أجلنا " إِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف "(رومة 8: 26) ويعلمنا أقوال المسيح "الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء ويُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم " (يوحنا 14: 26). وهكذا العبادة في المسيحية لا ترتبط بمكان ولا زمان ولا أجناس، بل الكل يسجدون للآب، من خلال إيمانهم بابنه المسيح، وقوة الروح القدس الذي يحل فيهم ليقودهم في العبادة الروحية.

 

وتتم العبادة الحقيقية بالروح في داخل الانسان حيث يسكن الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَوَ ما تَعلَمونَ أَنَّ أَجسادَكُم هي هَيكَلُ الرُّوحِ القُدُس، وهو فيكُم قد نِلتُمُوه مِنَ الله، وأَنَّكُم لَستُم لأَنفُسِكُم؟ (1 قورنتس 6: 19)، وهي العبادة الوحيدة التي ترضي الآب (متى 3: 17) وفيها العابدون الحقيقيون يرفعون أصواتهم "أبا أيها الآب" (غلاطية 4: 4-9). وأمَّا في السماء لن يكون هناك هيكل وإنما يكون الله والحمل (رؤيا 21: 22) وتستمر العبادة ليلا نهارا (رؤية 4: 8) لتقديم الكرامة والمجد لذاك الذي يحيا الى الابد (الرؤية 4: 10).

 

والعبادة الجديدة التي يعلنها يسوع ليست عبادة باطنية بحثه وفردية بدون طقوس وبدون هيكل وبدون ابعاد اجتماعية، إنما نعني روحية أي إنها من صنع روح الله، وليس من صنع الخليقة الجسدية. فمن قلب الانسان المُتجدد بالماء والروح (يوحنا 3: 5) تصعد الصلاة البنويَّة " يا ابتاه (رومة 8: 15) التي وحدها ترضي الله لان بها وحدها يعرف الله روحه. فهذه الديانة هي "في الحق" لأنها مبنية على وحي الآب عن ذاته وعن حبِّه في ابنه الذي هو الحق " (يوحنا 14: 6).

 

ب) مكان العبادة الحقيقية

 

لما رأت المرأة السامرية في يسوع انه نبي، رجل الله، سألته ان يحل المشكلة القائمة بين اليهود والسامريين:
"تَعَبَّدَ آباؤُنا في هذا الجَبَل، وأَنتُم تَقولونَ إِنَّ المَكانَ الَّذي فيه يَجِبُ التَّعَبُّد هو في أُورَشَليم" (يوحنا 4: 20). فالسامريون يعتبرون جبل جرزيم هو المكان الذي قدّم فيه إبراهيم محرقته (التكوين 22: 2) "في ارض مورة بالقرب من شكيم كما جاء في التوراة (تكوين 12: 6)، ليس في ارض مورية (التكوين 22: 2) وفيه التقى إبراهيم بالكاهن الأعظم مَلْكيصادَق. وكان يعقوب قد اقام فيه مذبحا (التكوين 33: 20)، وفيه تمَّت أول تقدمة عبرانية في الأرض المقدسة بحسب اعتقاد السامريين وليس على جبل عيبال (تثنية الاشتراع ع 27: 4)، وكان يعتبر جبل البركات (تثنية الاشتراع 27: 11-14) ألم يكن هذا المكان المقدس هو المكان الذي اختاره الرب ليُعبد فيه؟ (تثنية الاشتراع 12: 5-12).

 

العبادة لا ترتبط بمكان، هي مرتبطة بشخص، وهذا الشخص حاضر في كل مكان ويرافق الساجدين له بالروح والحق. " قالَ لَها يسوع: "صَدِّقيني أَيَّتُها المَرأَة تَأتي ساعةٌ فيها تَعبُدونَ الآب لا في هذا الجَبَل ولا في أُورَشَليم (يوحنا 4: 21). ولَّى زمن العبادة على الجبل مهما كان مقدساً، وبطل الخلاف المعابد: اورشليم او جرزيم. ان يسوع هو فوق هذا الصراع، وقد جمع اليهود والسامريين بدون تمييز، إذ أعلن "تَأتي ساعةٌ -وقد حَضَرتِ الآن -فيها العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ فمِثْلَ أُولِئكَ العِبادِ يُريدُ الآب" (يوحنا 4: 23). لقد أتت ساعة البشارة بالعهد الجديد، فبصلب المسيح لم يعد هناك داعٍ للذبائح. وبالتالي أصبح واجبًا إلغاء الهيكل اليهودي والسامري. وصارت العبادة والسجود لأب الجميع. وعوض التنافر بين اليهود والسامريين ستصبح هناك عبادة واحدة، لواحد فقط هو الآب. وما يهم الله، ليس المكان، إنما طبيعة العبادة " إِنَّ اللهَ رُوح فعَلَى العِبادِ أَن يَعبُدوهُ بِالرُّوحِ والحَقّ"(يوحنا 4: 24). الله يعبد في كل مكان تنبأ عنه الأنبياء " لِأَنَّه مِن مَشرِقِ الشَّمسِ إِلى مَغرِبِها آسْمي عَظيمٌ في الأُمَم، وفي كُلِّ مَكانٍ تُحرَقُ وتُقَرَّبُ لِآسْمي تَقدِمَةٌ طاهرَة، لِأَنَّ آسْمي عَظيمٌ في الأُمَم، قالَ رَبُّ القُوَّات" (ملاخي 11:1).

 

ولم يأت يسوع الى السامرة ليبيّن للناس ضلالهم الديني، بل جاء بدافع الحب يبحث عن الانسان لجذبه الى العبادة الحقَّة. موضوع العبادة له قيمته الكبيرة في الحوار بين الأديان. والحوار جرى حول مكان العبادة. فاليهود يجب ان يقدموا الذبائح في هيكل اورشليم، أمَّا السامريون فمكان تقديم الذبائح والعبادة هو جبل جرزيم. أمَّا يسوع فيكشف ان العبادة الحقة لا تتعلق بمكان خاص، كما يصرِّح " العِبادُ الصادِقون يَعبُدونَ الآبَ بِالرُّوحِ والحَقّ "(يوحنا 4: 23) فيفتح آفاق العبادة والخلاص أمام كل البشر وفي كل مكان، لا تتعلق العبادة بشعب معيّن ولا بمكان معيّن. اظهر يسوع عمليا شمولية العبادة "في الروح والحق" التي جاء يؤسسها ولأجل ذلك أعلنها عند السامريين خارج حدود الديانة اليهودية.

 

الخلاصة
 

في هذا انجيل يُتاح لنا اكتشاف الرغبة العميقة الّتي تقيم فينا. والمكان الّذي يحدث هذا فيه هو سيخارة، وهي قرية في السامرة يتوقف فيها يسوع، وهو قادم من اليهودية في طريقه إلى الجليل.

 

تقبَّلت السامرة الكلمة بالإيمان لا بالمعجزات من خلال المرأة السامرية التي يروي لنا الإنجيلي قصة لقائها مع السيد المسيح، ينبوع الحياة. يلتقي بها المسيح، وهي سامرية، يكسر الرب يسوع حاجز البغض الذي تعالى بين اليهود والسامريين لأن حواجز البشر لا تمنع الله من سكب نعمه على مَن يشاء. ويحاور المرأة السامرية بكل صبر عظيم على تغيير قلبها لتؤمن به. انتقل معها تدريجيا من طلب معروف لها الى جذبها الى الماء الحي ثم أيقظ ضميرها بكلام عن سيرتها الماضية ثم روحية العبادة ثم اوصلها الى الإعلان انه هو المسيح المنتظر ليخرج بها من خصوصياتها المشينة إلى العمل التبشيري، فتجتذب مدينة بأسرها في لحظات قليلة وتقودهم إلى مخلص العالم.

 

قصة المرأة السامرية هي قصة رجال بحثوا بإخلاص عن الربّ مثل بولس الرسول وأوغسطينوس وشارل دي فوكو واكتشفوا السيّد المسيح من خلال شكوك واعتراضات فوجده انسانا أعظم من يعقوب ونبياً ومسيحا ومخلصا لهم للعالم.

 

دعاء
 

أيها الآب السماوي، كما أرسلت ابنك يسوع المسيح الى العالم ليلتقي بالناس خاصة الخطأة، أشعل فينا نار الحب الإلهي من خلال كلمتك، فنسير على خطى السامرية النادمة لننال غفران الخطايا ونغيّر حياتنا وتصرفاتنا وننال نعمة الروح القدس لكي نعبدك بالروح والحق ونصبح مبشرين باسمك القدوس على مثالها فيؤمن بك العالم معلما ونبيا ومسيحا ومخلصا.