موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٤ ابريل / نيسان ٢٠٢٠

يسوع وإحياء لَعازَر في العيزرية

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
تؤكد قيامة لعازر سلطة يسوع على الموت، وأنه "القيامة والحياة"

تؤكد قيامة لعازر سلطة يسوع على الموت، وأنه "القيامة والحياة"

 

انفرد إنجيل يوحنا في سرد معجزة إحياء لَعازَر من القبر مُظهرا مجد الله في يسوع المسيح ابنه وسلطانه على الموت ومُبيّنا انه "القيامة والحياة" (يوحنا 11: 1-45). وكل من يؤمن بيسوع المسيح ينتقل من الموت الى الحياة؛ ويُعلق القديس اوغسطينوس " بين كل العجائب التي صنعها الرب يسوع المسيح احتلت إحياء لَعازَر من الموت المكانة الأولى في كرازة الانجيل". ولا توجد في الكتاب المقدس كله رسالة تتحدث عن القيامة أفضل من قيامة لعازر باستثناء قيامة المسيح نفسه من بين الأموات. هذه القيامة التي قال عنها باروخ سبينوزا الفيلسوف الهولندي اليهودي" إنه لو أمكن أن يؤمن بها لحطم نظرياته جميعًا وقبل الإيمان المسيحي". وهكذا إن قيامة لعازر وضعت حدا فاصلا بين المؤمن وغير المؤمن. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 11: 1-45)

 

1 وكانَ رَجُلٌ مَريضٌ وهو لَعازَر مِن بَيتَ عَنيْا، مِن قَريَةِ مَريَمَ وأُختِها مَرْتا.


تشير عبارة "كانَ رَجُلٌ مَريضٌ" الى بداية الرواية بشكل مفاجئ؛ وهنا يذكرنا يسوع بمثل السامري الرحيم عندما سأله أَحَدُ عُلماءِ الشَّريعَةِ "مَن قَريبـي؟ (لوقا 10: 28-29)؛ أمَّا عبارة " لَعازَر" في الأصل اليوناني Λάζαρος ، وهي مختصر للاسم العبري אֶלְעָזָר أليعازر (معناه الله يعين) فتشير الى الشخص الذي كان يُحبُّه يسوع (يوحنا 11: 3، 5)، واسم لَعازَر كان شائعا في القرن الأول، حيث ورد في مَثل الغني ولَعازَر (لوقا 16: 19-31)، وكان لَعازَر يسكن في بَيتَ عَنيْا مع اختيه مريم ومرتا،  وكان رجلا غنياً كما نستنتجه من خلال  الطيب الغالي الثمن الذي أتت به أخته مريم الى المسيح، ومن خلال كثرة الاصحاب اللذين أتوا لتعزية مريم ومرتا على وفاة أخيهما لعازر، ومن القبر منحوت في الصخر التي دفن فيه لعازر. والمسيح شهد عنه شهادة حسنة. كان لَعازَر من بين المدعوِّين الى العشاء الذي أقامه سمعان الابرص في بَيتَ عَنيْا إكراما للمسيح ستة أيام قبل الفصح (متى 26: 6). وكان من نصيبه ان يُقيمه من الأموات بأعجوبة (يوحنا 11: 1-44). مع أن الانجيل لم يسجل كلمة واحدة نطق بها لعازر، إلاَّ أن قصته لا تزال مُدوِّية عبر التاريخ. ويروي التقليد أن لَعازَر هرب إلى جزيرة قبرص، وهناك مات مرة أخرى بعد ثلاثين سنة بعد وفاته الأولى، ودفن في لارنكا في قبرص. أمَّا عبارة "بَيتَ عَنيْا" اسم آرامي עַנְיָה (معناه "بيت البؤس أو العناء) فتشير الى قرية تقع على بعد نحو ثلاثة كم شرقي المنحدر الشرقي لجبل الزيتون، على ارتفاع 553 مترا فوق سطح البحر، ويفصلها عن القدس الآن جدارٌ، وهي على الطريق المؤدِّية الى اريحا (متى 21: 17)، والمعروفة اليوم بـ “العازرية" او "العيزرية" نسبة الى لَعازَر الذي أقامه يسوع من بين الاموات (يوحنا 11). وكان يسوع يتردَّد اليها مراراً، ولا سيما في أيامه الأخيرة قبل موته (يوحنا 12: 1). والجدير بالذكر ان "بَيتَ عَنيْا" المعروفة في فلسطين بقرية العيزرية تختلف عن "بَيتَ عَنيْا" الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الأردن والتي ورد ذكرها في انجيل يوحنا " بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ"(يوحنا 1: 28)؛ أمَّا عبارة " قَريَةِ مَريَمَ وأُختِها مَرْتا " فتشير الى القرية التي كانت تسكن فيها مريم ومرتا (لوقا 10: 38)، والأرجح ان مرتا  كانت أكبر من أختها ( لوقا 10: 38)  ولكن مريم ذُكرت أولا لأنَّها اشتهرت اكثر من مرتا نظرا لسكب الطِّيب على قدمي يسوع (يوحنا 12: 1-3)؛ أمَّا عبارة "مريم" فهو اسم عبري מִרְיָם (معناه عصيان وبحسب أصول سريانية معناه الملكة أو السلطانة أو السيدة) فتشير الى اخت  لَعازَر  وتلميذة المسيح التي جلست عند قدميه (يوحنا 10: 39)، "والتي اختارت النَّصيبَ الأّفضَل، ولَن يُنزَعَ مِنها" (لوقا 10: 41)، وهي التي "دهَنَت قَدَمَي يسوع ثُمَّ مَسَحَتْهما بِشَعرِها "(يوحنا 12: 1-3)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "مريم هذه ليست التي كانت زانية المذكورة في انجيل لوقا (لوقا 7: 37-50)، أمَّا هذه فكانت شريفة ثابتة في الفضيلة، اجتهدت في ضيافة السيد المسيح"؛ وأمَّا عبارة "مَرْتا" كلمة آرامية מַרְתָא (معناها ربة) فتشير الى الأخت الكبرى لمريم اخت  لَعازَر والتي كانت ربة البيت، وذات حركة، وكانت توجه أفكارها الى الأمور اليومية والايمان بمُخلصها وكانت أمينة وقد أحبَّها يسوع (يوحنا 11: 21-32).

 

2 ومَريَمُ هيَ الَّتي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِالطِّيب ومسَحَت قَدَمَيهِ بِشَعرِها. وكانَ المَريضُ أَخاها لَعازَر

 

تشير عبارة "مَريَمُ هيَ الَّتي دَهَنَتِ الرَّبَّ بِالطِّيب ومسَحَت قَدَمَيهِ بِشَعرِها " الى تَميُّزها عن المريمات الأُخريات وهنّ: مريم ام يسوع ومريم امرأة قلوبا ومريم المجدلية.  وهذا الحدث معروف عند قُراء انجيل متى ومرقس (متى 26: 6-13 ومرقس 14: 39). ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ "لكي تعبّر مريم عن امتنانها لكَ، يا ربّ، تَناولَت حُقَّةَ طيبٍ كواجبٍ عليها لأخيها (يوحنا 12: 3)، وأخذَت تُمجّدكَ على مرّ العصور"(أناشيد الصّباح لسبت لعازر). ويجب ان نميّز ايضا بين مريم اخت لعازر الذي دهنت يسوع بالطِّيب في بيت عنيا وتلك المرأة الخاطئة التي دهنت يسوع بالطٍّيب في الجليل (ولوقا 7: 36-50). أمَّا عبارة " دَهَنَتِ الرَّبَّ بِالطِّيب " فتشير الى عادة قديمة حيث يُدهن رأس الضيف ورجليه دلالة على علامة الفرح كما يترنم صاحب المزامير" وبِالزَّيتِ تُطَيِّبُ رأسي فتَفيضُ كأسي " (مزمور 23: 5)؛ أمَّا عبارة " بِالطِّيب " في الأصل اليوناني μύρῳ(معناها المُر) فتشير الى عطور مصنوعة من  صمغ من شجرة ذات شوك Balsamodendron Myrrha كان يستعمل أيضاً للتحنيط (يوحنا 19: 39)، ولتعطير النساء (مزمور 45: 8). وكان ذا قيمة (متى 2: 11). أمَّا عبارة "فأَرسَلَت أُختاهُ تقولانِ لِيَسوع" فتشير الى سعي مريم ومرتا الى الرب يسوع لطلب المعونة عندما مرض اخوهما مرضا شديداً وقد آمنتا بقدرته على شفائه لانهما عاينتا معجزاته.

 

3 فأَرسَلَت أُختاهُ تقولانِ لِيَسوع: ((يا ربّ، إِنَّ الَّذي تُحِبُّه مَريض)).

 

 تشير عبارة " فأَرسَلَت أُختاهُ تقولانِ لِيَسوع " الى تبلغ يسوع عن وضع لعازر لما كان بينهما من الصداقة (لوقا 10: 38) حيث كان يسوع آنذاك في عبر الأردن على مسافة يومين من بيت عنيا.  أمَّا عبارة " يا ربّ، إِنَّ الَّذي تُحِبُّه مَريض " فتشير الى وصف ليسوع واقع المشكلة مما يدل على الثقة في محبة المسيح، وهي بمثابة صلاة الاختين التي تذكرنا بصلاة مريم العذراء في قانا الجليل "لَيسَ عِندَهم خَمْر" (يوحنا 2: 3)، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " ليست من صلاة أبسط من هذه الصلاة القصيرة المملوءة تواضعًا مع ثقة وتسليم للأمر بين يديه ". اكتفت الاختان بإبلاغه بأمر مرضه دون طلب أو تعليق، تركتا لحبه أن يتصرف كما يشاء. هل نفعل نحن كذلك بالصلاة عند مرض أحد اقربائنا؟ هل نحن نطرح حاجاتنا المادية كما طرحته الأختان على يسوع بعبارة موجزة لأننا نعلم أن الرب يعرف كل ما نحن بحاجة اليه قبل ان نسأله؟  المطلوب ليس الإلحاح في طلب الأمور المادية لكن في طلب الأمور الروحية والمواهب السماوية. لماذا؟ لأن الإلحاح عليها علامة على أن الإنسان يشعر بحاجته إلى هذه المواهب الروحية، والرب يريد أن يسمع من الإنسان ما يدل على أنه مؤمن بحاجته إلى هذه المواهب (لوقا 5: 5-13). أمّا عبارة " تُحِبُّه " في الأصل اليوناني φιλεῖς  (معناها الحب الاخوي ) فتشير الى قوة علاقات المودّة والصداقة بين لَعازَر والسيد المسيح، وهي واحدة من الملامح الإنسانية ليسوع (يوحنا 5: 11، 36). وحرصت الأختان على القول: " الَّذي تُحِبُّه " أكثر من القول: "الذي يحبك" فنحن نلجأ إلى المسيح لا استنادًا على حبنا له، بل إلى حبِّه هو لنا. وهذا ما يُذكرنا كلام الله لشعب العهد القديم " وإِيَّاكَ اخْتارَ الرَّبُّ إِلهكَ لِتَكونَ لَه شَعبَ خاصَّتِه مِن جَميعَ الشَّعوبِ التَّي على وَجهِ الأَرض... لِمَحبَةِ الرَّبِّ لَكم " (تثنية اشتراع 7: 7-8).  والمحبة هنا هي مفتاح لفهم هذا النص الإنجيلي. إذ تكررت فيه ثلاث مرات (يوحنا 11: 3 و5 و36)، دلالة على أهمية المحبة، ويُعلق القديس اوغسطينوس "يسوع ليس بالذي يحب وينسى".  لكون محبة يسوع لعازر لم تصنه من المرض والموت، فالمرض والموت ليسا دليل على غضب الله او بغضه او إهماله.

 

4 فلمَّا سمِعَ يسوع قال: ((هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله)).


تشير عبارة "فلمَّا سمِعَ يسوع قال" الى جواب يسوع على مسمع من التلاميذ الى الوفد المُرسل من قبل مريم ومرتا بغية تعزية الاختين وبعث الرجاء في قلبيهما.  أما عبارة "هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت" فتشير الى مرض ليس نهايته الموت، فهو لا يؤدّي للموت النهائي عن هذه الحياة، وإنما لموتٍ مؤقتٍ سُمح به لأجل مجد الله من خلال إقامة لَعازَر على يد يسوع. فلن تكون الكلمة الأخيرة للموت، بل مناسبة لإظهار اندحار الموت وحضور الله وقدرته الساطعة وتجلَّى ابن الله (يوحنا 2: 11)، وكقوله هذا شبيه لما قاله يسوع في احياء ابنة يائيرس "لم تَمُتِ الصَّبِيَّة، وإِنَّما هيَ نائمة" (مرقس 5: 39) وفي نيته ان يُحييها. أمَّا عبارة " مَجْدِ الله " فتشير الى الموت الذي لم يعَد نهاية، بل مرحلة تؤدي في آخر الامر الى القيامة، وبالتالي لإظهار مجد الله تعالى، لأنها حملت الناس على تمجيده تعالى بألسنتهم وبقلوبهم. وفي الواقع، كانت إقامة لَعازَر من الموت، السبب للحكم على يسوع بالموت (يوحنا 11: 45-54) الذي يقوده الى المجد على الصليب بالصليب. ان الله قادر على ان يُخرج الخير من أي موقف. اما عبارة " لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله " فتشير الى ربط بين الله وبينه، وما يُمجِّد الله يُمجِّده هما واحد؛ (يوحنا 1: 14)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "انظروا كيف ذُكر أن ليسوع ولأبيه أيضًا المجد الواحد، لأنه إذ قال: "لأجل مجد الله"، قال بعد ذلك " لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله ". ان الله سيُظهر مجده بواسطة المسيح، والآب سيتمجّد بالمسيح (يوحنا 13: 31)، لان الآب يحُبُّ الابن (يوحنا 3: 35) فربط مجده بمجد ابنه (يوحنا 5: 23). هل يكون موت كل مسيحي لمجد الله من خلال إيمانه الذي يظهره عند احتضاره ومن خلال إيمان ذويه وصبرهم على وفاته؟

 

5 وكانَ يسوعُ يُحِبُّ مَرْتا وأُختَها ولَعازَر،


تشير عبارة "كانَ يسوعُ يُحِبُّ مَرْتا وأُختَها ولَعازَر" الى اكتراثه بهم كما يُعلق القديس اوغسطينوس "أحد هم مريض واثنتان في حزن، والكل محبوبون. لكن ذاك الذي أحبهم هو منقذ المرضى، بل بالأكثر هو مقيم الموتى، وهو معزي الحزانى". أمَّا عبارة " يُحِبُّ " في الأصل اليوناني ἠγάπα (الحب الروحي) الى الحنو وإرادة الخير وبذل الذات للآخر كما يحب الله " فإِنَّ اللهَ أَحبَّ ἠγάπησεν العالَمَ حتَّى إِنَّه جادَ بِابنِه الوَحيد لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِه بل تكونَ له الحياةُ الأَبدِيَّة" (يوحنا 3: 16).  

 

6 ومعَ ذلك فلمَّا سَمِعَ أَنَّه مريض، بَقِيَ في مَكانِه يَومَين.

 

تشير عبارة " بَقِيَ في مَكانِه يَومَين " الى تأخر يسوع عن السفر لا ليمتحن إيمان مريم ومرتا بل تتميما لإرادة الله. وهذا الأمر يدل على ان تحركات يسوع لا يُمليها عليه البشر، بل الآب السماوي. إن التوقيت الذي يختاره الله قد يجعلنا نظنُّ انه لا يستجيب لنا، الا انه يسدُّ كل احتياجاتنا حسب توقيته الزمني. وصانع الزمن لا يمكن أن يُفلت الزمن من بين يديه، إنه يعرف اللحظة المناسبة لكل عملٍ كما فعل في عرس قانا الجليل (يوحنا 2: 4). ويعلق القديس اوغسطينوس "يسوع يعرف اللحظة المناسبة لكل عملٍ".  امَّا عبارة " مَكانِه " الى بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ " (يوحنا 1: 28) حيث " عَمَّدَ يوحَنَّا في أَوَّلِ الأَمْر، فَأَقامَ هُناك" (يوحنا 10: 40). أمَّا عبارة " يَومَين " فتشير الى مكوث يسوع يومين لأسباب اقتضتها حكمته ولو لا ذلك لشفى لعازر من مرضه بكلمة كما فعل بابن عامِلٌ اِلمَلِك الذي كان ابنٌه مَريضٌ في كَفَرناحوم (يوحنا 4: 50). وهكذا لم تحدث احياء لعازر وهي أعظم معجزاته بعد قيامة يسوع نفسها. ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لماذا بَقِيَ في مَكانِه يَومَين؟ حتى يخرج النفس الأخير ويُدفن، فلا يقول أحدٌ أنه لم يكن ميتًا بل كان غارقًا في نومٍ عميق، أو أنه كان قد غشى عليه ولم يكن موتًا. لهذا السبب مكث يومين حتى يحدث الفساد، وتقولا مريم ومرتا: "قد أنتن".  يسمح الله بالمصائب الجسدية للخيرات الروحية. 

 

7 ثُمَّ قالَ لِلتَّلاميذِ بَعدَ ذلِك: ((لِنَعُدْ إِلى اليَهودِيَّة)).

 

تشير عبارة " بَعدَ ذلِك " في الأصل اليوناني μετὰ τοῦτο (معناها بعد هذا) الى بعد يومين من وصول الوفد المُرسل اليه من قبل اختي لعازر ورده الجواب. وتتطلب المسافة بين بيت عنيا العيزرية وبيت بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ يوم واحد. وإذا فرضنا ان لعازر مات يوم مجيء الوفد المرسل الى يسوع ثم نضيف اليومين اللذين مكث فيهما يسوع في بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ مع إضافة اليوم الذي سافر فيه مع تلاميذه الى بيت عنيا العيزرية، يكون لدينا أربعة ايام كما ذكرت مرتا " فهذا يَومُه الرَّابع" (يوحنا 11: 39). أمَّا عبارة " لِنَعُدْ إِلى اليَهودِيَّة " فتشير بيت عنيا في اليهودية مميزا لها عن بَيتَ عَنْيا عِبْرَ الأُردُنّ. يُعلن يسوع لتلاميذه مقدمًا إلى أين هو ذاهب مع أنه لم يفعل ذلك في أي موضع آخر، وذلك كي يُحذِّرهم مُقدَّمًا حتى لا يضطربوا أمام عنصر المفاجأة في آلامه وموته. وهنا يدل على خطر الموت الذي يواجهه يسوع بتمام الوعي والحرِّية (يوحنا 10: 18). يؤكد يسوع هنا ان نداء الواجب ينبغي أن يكون فوق كل شيء حتى على الخطر. 

 

8 فقالَ له تَلاميذُه: ((رابِّي، قَبلَ قليلٍ حاوَلَ اليَهودُ أَن يَرجُموكَ، أَفَتعودُ إِلى هُناك؟)).

 

تشير عبارة "رابِّي" بالعبرية רַבֵּנוּ (معناها حاخام) الى أعلى مراتب العلم والأستاذية ويعني بذلك العَالِم أو العلاّمة. وأمَّا عبارة "اليَهودُ" فتشير في انجيل يوحنا الى رؤساء اليهود الذين كنّوا العداوة ليسوع (يوحنا 8: 48) ولا يريدوا ان يفهموه؛ ورَدت اللفظة 17 مرة في انجيله دلالة على أهميتها.  أمَّا عبارة " يَرجُموكَ" فتشير الى تذكير ما حدث في اورشليم يوم عيد تجديد الهيكل منذ بضعة أسابيع حين "أَتى اليَهودُ بِحِجارَةٍ ثانِيَةً لِيَرجُموه" (يوحنا 10: 31، 39). لذلك كان مجرد التفكير بالرجوع الى اليهودية يشوِّش التلاميذ، وكأن يسوع يسير نحو موته. ويُعلق القديس أوغسطينوس "أراد التلاميذ بنصيحتهم أن يحفظوا الرب من الموت، ذاك الذي جاء ليموت ليُخلصهم من الموت". والرجم هم نوع من أنواع العقاب الشديد التي فرضتها الشريعة (الاحبار 20: 2) وكان الرجم يتمُّ خارج المدينة كما تنص الشريعة "أَخرِجِ اللاَّعِنَ إِلى خارِجِ المُخَيَّم، ولْيَضَعْ كُلُّ مَن سَمِعَه أَيدِيَهم على رأسِه، ولْتَرجُمْه كُلُّ الجَماعة"(الاحبار 24: 14). ويقول التقليد اليهودي إنَّ المجرم كان يُجرَّد من كل ملابسه الاَّ ما يستر عورته، ثم يطرحه أول شاهد الى الارض من ارتفاع عن الأرض بنحو ثلاثة أمتار. ويقوم الشاهد الثاني برجمه بالحجر الأول على صدره فوق القلب، فاذا لم يمتْ أكمل الواقفون عملية الرجم. وتنص الشريعة ان المحكوم عليهم بالرجم هم المجرمون وعبدة الاصنام ومدنِّسو السبت ومرتكبو الزنى والمتمرِّدون من البنين (الاحبار 20). وقد حاول اليهود ان يرجموا يسوع أكثر من مرة (يوحنا 8: 59، و10: 31و 11: 8). اما عبارة " أَفَتعودُ إِلى هُناك؟" فتشير الى تعجب التلاميذ من ذهاب المسيح الى اليهودية وخوفهم على حياته وحياتهم ورغبتهم في العدول عن قصده.

9 أَجابَ يسوع: ((أَلَيسَ النَّهارُ اثنَتَي عَشْرَةَ ساعَة؟ فمَن سارَ في النَّهار لا يَعثُر، لأَنَّه يَرى نورَ هذا العالَم.


تشير عبارة " النَّهارُ اثنَتَي عَشْرَةَ ساعَة " الى يوم العمل المُمتد من طلوع الشمس الى غروبها، وهو يحتوي على اثنتي عشرة ساعة، وذلك بحسب تقسيم اليهود للنهار الذي اقتبسوه عن البابليين ايام سبيهم الى بابل وظلوا على ذلك الى يومنا هذا. فالإنسان يعمل طالما كان هناك نهار؛ ولمّح يسوع باثنتي عشرة ساعة الى زمن خدمته على الأرض الذي عيَّنه الله (يوحنا 9: 4-5).  اما عبارة " فمَن سارَ في النَّهار لا يَعثُر" فتشير الى سير المسافر في ضوء الشمس في طريق آمنا فيه. أمَّا عبارة "النهار" فتشير الى وقت العمل والحركة وقد شبَّه يسوع حياة الإنسان مسيرة نهار. ولذلك ينبغي على يسوع ان يواصل تحقيق رسالته حتى الأجل الذي حدّده الآب أي ساعة الليل او ساعة الظلمات كما صرّح يسوع لتلاميذه " إِصعَدوا أَنتُم إِلى العيد، فأَنا لا أَصعَدُ إِلى هذا العيد، لِأَنَّ وَقْتي لم يَحِنْ بَعْد" (يوحنا 7: 8). وهنا يقرِّر يسوع مبدأ عاماً، وهو تتميم مخطط الله، إن لديه مُهمَّة لينجزها في وقتها (يوحنا 9: 4). فقد أعطانا الله ساعات النهار كفرصٍ ثمينةٍ للعمل. انه وقتٌ كافيٌ لتتميم خطة الله علينا. وهذا الوقت الذي اعطانا إياها الله في هذه الحياة يمكننا إما أن نضيِّعه عبثا أو نستغله الى اقصى حد لمجد الله الأعظم. أمَّا عبارة " لأَنَّه يَرى نورَ هذا العالَم" فتشير الى يسوع الذي أتى البشر بالنور الذي يُمكّنهم بالسير بنوره بأمان كما صرّح " أَنا نُورُ العالَم مَن يَتبَعْني لا يَمْشِ في الظَّلام بل يكونُ له نورُ الحَياة"(يوحنا 8: 12). فمن يسير في نور المسيح أي بحسب وصاياه لن يعثر لان يسوع نور حياتنا يُنير كل خطواتنا (يوحنا 35:12) ولذلك علينا ألاَّ نخاف من العثرات طالما نوره فينا وينير بصيرتنا الداخلية بالرغم نت ان طريقنا مملوء بالعثرات، أمَّا من يبقى في الظلمة ويسير في الليل أي ليس بحسب مشيئة الله فيتعثر. لم يقل المسيح لتلاميذه هنا لا تخافوا، بل ضرب لهم مثلا مناسبا كي يستطيعون الاستنتاج ما به طمأنينة قلوبهم وعدم الخوف. وباختصار علينا ان نتبع يسوع، نور العالم، إن كنَّا لا نريد ان نتعثّر.

 

10 ومَن سارَ في اللَّيلِ يَعثُر: لأَنَّ النُّورَ لَيسَ فيه.


تشير عبارة "ومَن سارَ في اللَّيلِ يَعثُر" الى حال المسافر أثناء الليل حيث يكون عُرضة للعِثار والسقوط، إذ لا نور له في سيبله.  أمَّا عبارة " اللَّيلِ" فتشير الى الظلمات التي تضع حداً لعمل الله، وهي ترمز هنا الى ليلة آلام المسيح (يوحنا 7: 8، 13: 30)، كما حدث مع يهوذا الإسخريوطي الذي أغلق قلبه أمام عمل الله ودعوته فدخل في الليل، وكان مصيره الهلاك إذ "خرَجَ مِن وَقتِه، وكانَ قد أَظلَمَ اللَّيل" (يوحنا 13: 30)؛ أمَّا عبارة "يَعثُر" فتشير الى من يسلك وراء شهواته بعيدا عن نور المسيح فإنه يسلك في طريق خطر ونهايته الموت. اننا لا نستطيع ان نسير بدون نور يسوع في ليل هذا العالم دون ان نعثر. وفي أي حال لا يعرف النور الحقيقي الاَّ أبناء النور (يوحنا 3: 19-21). فيسوع يقصد هنا ان ساعته لم تأتِ بعد، لذلك يستطيع ان يذهب لرؤية عازر: متى جاء الليل، ساعة الظلمة يصبح الخطر فعلياً.

 

11وقالَ لَهم: بَعدَ ذلك: ((إِنَّ صَديقَنا لَعازَرَ راقِد، ولَكِنِّي ذاهِبٌ لأُوقِظَه)).

تشير عبارة "وقالَ لَهم: بَعدَ ذلك " في الأصل اليوناني αῦτα εἶπενκαὶ μετὰ τοῦτο λέγει αὐτοῖς, ( معناها : قال هذا وبعد ذلك قال لهم) الى ما ذكر من الكلام على السير الآمن في النهار والسير الخطِر في الليل ثم قال لهم.  أمَّا عبارة "صَديقَنا" في الأصل اليوناني φίλος  (معناه الحب الاخوي ) ، فتشير الى قول حبيبنا ولم يقل حبيبي، دلالة لدخولنا في عهد مع الله يجعلنا أحباء ليس فقط له، بل ولكل تلاميذه، وعلاقة المحبة ما زالت قائمة بينه وبين المسيح وبين التلاميذ أيضاً حتى بعد الموت. ويدل يسوع تسمية لعازر حبيبه على محبته لكل مؤمن. إنه يحبنا في الحياة والموت وبعد الموت الى الابد.  أمَّا عبارة " راقِد" في الأصل اليوناني κεκοίμηται  (النوم الطويل)  فتشير الى الموت بالنوم او الرقاد كما جاء في مفهوم بولس الرسول "تَنبَّهْ أَيُّها النَّائِم καθεύδων وقُم مِن بَينِ الأَمْوات يُضِئْ لَك المسيح" (أفسس 5: 14). فهناك وجه شبه بين الموت والنوم.  كما ورد في القرآن " وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ" (سورة الكهف 18)، فالمنظر واحد، ثم رجاء قيام كل من الميِّت والنائم؛ حيث ان الموت ليس بنهاية الانسان، لانَّ لا بدَّ له ان يستيقظ في يوم القيامة، وأخيرا هناك راحة في النوم من اتعاب النهار، وفي الموت راحة من أتعاب الحياة كما ورد في سفر الرؤية " طوبى مُنذُ الآنَ لِلأَمْواتِ الَّذينَ يَموتونَ في الرَّبّ! أَجَل، يَقولُ الرُّوح، فلْيَستَريحوا مِن جُهودِهم. (رؤية 14: 13). وبهذا يُقدِّم يسوع المسيح مفهوما جديدا للموت فدعا ه رُقاداً، كما قال يسوع الى والد أحد الوجهاء الذي طلب من شفاء ابنته "الصَّبِيَّةُ لم تَمُت، وإِنَّما هِيَ نائِمَةَ καθεύδει" (متى 9: 24). ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لا يُقال عن القديسين أنهم أموات بل يُقال عنهم أنهم راقدون". أما عبارة "ذاهِبٌ لأُوقِظَه " فتشير الى بغية يسوع الى مجيئه الى بيت لعازر مشيرا الى موته كرقاد لمَن يؤمن بالمسيح وبصداقته وقوته الإلهية. ويُعلق القديس ايرونيموس "الحقيقة لا يُقال عن القديسين أنهم أموات بل يُقال عنهم أنهم راقدون".

 

12فقالَ له تَلاميذُه: ((يا ربّ، إِذا كانَ راقداً فسَيَنْجو))

 

تشير عبارة " يا ربّ، إِذا كانَ راقداً فسَيَنْجو " الى سوء فهم التلاميذ لمفهوم رقاد النوم، ولا عجب في ذلك. لقد اساء التلاميذ فهم كلام المسيح أكثر من مرة على سبيل المثال: موضع الخميرة (متى 16: 6)، وموضوع السيف (لوقا 22: 38) وموضوع الطعام (يوحنا 4: 32).

 

13 وكانَ يسوعُ يَتَكلَّمُ على مَوتِه، فظَنُّوا أَنَّهُ يَتَكلَّمُ على رُقادِ النَّوم

 

تشير عبارة " فظَنُّوا أَنَّهُ يَتَكلَّمُ على رُقادِ النَّوم" الى سوء الفهم بين التلاميذ ويسوع، والواقع، كان يعنى المسيح بالرقاد موتا، لذلك يفسِّر يوحنا الإنجيلي كلام يسوع. وسوء الفهم هو من ميزات الانجيل الرابع (يوحنا 2: 20، 4: 15، 6: 27، 7: 33-36).

 

14 فقالَ لهُم يسوعُ عِندَئِذٍ صَراحَةً: ((قد ماتَ لَلَعازَر))،

 

تشير عبارة " ماتَ لَلَعازَر" الى زَوَالُ الْحَيَاةِ عَنْه، وهنا نجد تبديل يسوع الكلمة الأولى "راقد" κεκοίμηται (أي النوم) بكلمة "مات"ἀπέθανεν، لان تلاميذه لم يفهموا قصده سابقا. وهذا الامر اعدّ يسوع قلوب التلاميذ الى معجزة قيامة لعازر.  

 

15 ويَسُرُّني، مِن أَجْلِكُم كي تُؤمِنوا، أَنِّي لم أَكُنْ هُناك. فَلْنَمْضِ إِلَيه!))

 

 أمَّا عبارة "يَسُرُّني" فتشير الى سبب فرح المسيح ليس لأن لَعازَر قد مات، لكن لأن التلاميذ سيرون سلطانه على الموت، فيُثبِّت بالمعجزة إيمانهم ولا يتشككون فيما بعد من أحداث الصليب. وهكذا كشف يسوع الهدف من تأخره على نداء مرتا ومريم، إذ كان من الضروري ان يموت لعازر لكي يظهر سلطان يسوع على الموت لتلاميذه وللآخرين. اما عبارة " فَلْنَمْضِ إِلَيه " فتشير الى الذهاب الى لعازر الميت ولم يقل لنمضي الى بيته او الى قبره. وهذا دليل على قصده إحياءه.

 

16 فقالَ توما الَّذي يُقالُ لَه التَّوأَمُ لِسائِرِ التَّلاميذ: فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه! )).


تشير عبارة " توما " وهو اسم آرامي תּוֹמָא (معناه التوأم) الى التلميذ الوارد اسمه في لوائح الرسل الاثني عشر، (يوحنا 21: 2)، والذي يقوم بدور بالغ الأهمية في إنجيل يوحنا، وهو الذي قال للرب في كلمة وداع يسوع "يا ربّ، إِنَّنا لا نَعرِفُ إِلى أَينَ تَذهَب، فكَيفَ نَعرِفُ الطَّريق؟ " (يوحنا 14: 5)، وهو مستعدٌ للذهاب مع المسيح حتى خطر الموت، حبا له، لكنه هو التلميذ الذي يميل الى الشك "قالَ لَه سائِرُ التَّلاميذ: رأَينا الرَّبّ. فقالَ لَهم: ((إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن" (يوحنا 20: 25). وهو أحد التلاميذ السبع الذين تراءى لهم يسوع بعد قيامته على شاطئ بحيرة طبرية (يوحنا 21: 2). أمَّا عبارة " لِنَموتَ معَه" فتشير الى مشاركة التلاميذ مصير يسوع والموت معه تلبية لدعوة المسيح "مَن أَحَبَّ حياتَهُ فقَدَها ومَن رَغِبَ عنها في هذا العالَم حَفِظَها لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 12: 25). يتوجب على تلميذ السميح ان يوحّد حياته ويوجّهها، بالنظر الى الحياة الجديدة التي يكشفها له المعلم. أمَّا عبارة " فَلْنَمْضِ نَحنُ أَيضاً لِنَموتَ معَه!" فتشير الى حب توما وغَيْرته ووفائه لسيده يسوع! اعتقد توما ان رحيلهم الى اليهودية سيعني الموت لهم جميعاً، وحثّ الآخرين على مرافقة يسوع لكي يموتوا معه. التلاميذ كانوا يعلمون أن الذهاب إلى أورشليم فيه خطورة على حياة المسيح وتلاميذه، فاتخذت الرحلة من عِبْرِ الأُردُنّ الى بَيتَ عَنيْا طابع مسيرة الى الموت. بالرغم من حماسة توما وشجاعته ابتعد عن يسوع في اثناء آلامه، وبعد قيامته شكَّ ولم يؤمن قبل ان يرى ويتحقَّق "إِذا لم أُبصِرْ أَثَرَ المِسمارَينِ في يَدَيهِ، وأَضَعْ إِصبَعي في مَكانِ المِسمارَين، ويدي في جَنْبِه، لن أُومِن"(يوحنا 20: 25).  ويلمِّح يوحنا الإنجيلي الى موت يسوع نفسه بجانب موت لعازر، يلمّح الإنجيلي يوحنا إلى موت آخر، هو موت يسوع نفسه كما أشار عليها سابقا (يوحنا 11: 8)، وفي النهاية، وبشكل أكثر وضوحًا، عندما قرر قادة اليهود قتل يسوع، تحديداً بسبب إقامته لَلَعازَر (يوحنا 11، 47-53).

 

17 فلَمَّا وَصَلَ يسوع وَجَدَ أَنَّهُ في القَبرِ مَنذُ أَربَعةِ أَيَّام.

 

تشير عبارة " فلَمَّا وَصَلَ يسوع " الى وصول يسوع من بيت عنيا عبر الأردن الى بيت عنيا (العيزرية) في اليهودية والمسافة بينهما مسيرة يوم. ولم يدخل يسوع القرية عند وصوله إليها، بل بقي خارجها (يوحنا 11: 20، 30). امّا عبارة " أَربَعةِ أَيَّام " فتشير الى وجود لعازر في القبر منذ أربعة أيام، حيث ان الدفن تمُّ يوم الوفاة بالذات كما صرّحت مرتا ليسوع "لقَد أَنتَن، فهذا يَومُه الرَّابع " (يوحنا 11: 39)، وكما حدث في دفن حننيا وسفيرة زوجته (أعمال الرسل 5: 6، 10). ويُعلق القديس اوغسطينوس " هناك اعتقاد لدى اليهود أن النفس تحوم حول الجسد بعد الموت لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع تفارقه بلا أمل قط للعودة إلى الجثمان".  أمَّا عبارة " مَنذُ أَربَعةِ أَيَّام" فتشير الى المدة من معرفة يسوع في خبر موت لَعازَر حتى مجيئه الى بَيتَ عَنيْا. أذ كان يسوع في عِبْرِ الأُردُنّ (يوحنا و10: 40) حيث المسافة من عِبْرِ الأُردُنّ إلى بَيتَ عَنيْا حوالي يوم. وعليه هناك يوم لسفر للمُرسل من بَيتَ عَنيْا إلى عِبْرِ الأُردُنّ وإضافة الى يومين مكث فيها المسيح في عِبْرِ الأُردُنّ، وإضافة الى يوم سفر الرجوع إلى بَيتَ عَنيْا.

 

18 وبَيتَ عَنيا قَريبَةٌ مِن أُورَشَليم، على نَحوِ خَمسَ عَشْرَةَ غَلَوة،


تشير عبارة "بَيتَ عَنيا قَريبَةٌ مِن أُورَشَليم" في الأصل اليوناني ἦν δὲ  Βηθανία ἐγγὺς τῶν Ἱεροσολύμων " (معناها كانت بيت عنيا قريبة من اورشليم) الى كون اورشليم والقرى التي حولها خربا حين كتب يوحنا إنجيله وهو على معرفة للأماكن في اورشليم لذلك كتب " كانت"؛ امَّا عبارة " قَريبَةٌ مِن أُورَشَليم " فتشير الى وصف يوحنا الإنجيلي المسافة، لأنه لم يكتب إنجيله لسكان الأرض المقدس.  أمَّا عبارة "خَمسَ عَشْرَةَ غَلَوة " فتشير الى مسافة نحو 3كم او بُعد ثلثي ساعة مشياً على الاقدام حيث ان الغلوة مقياس يوناني الأصل σταδίων، ويبلغ 184 مترا او 145 خطوة. والغلوة عند العرب رمية سهم أبعد ما يقدر عليه (274-365 متر)، وجمعه "غلوات" أو "غلاء". واستعمل الكتاب المقدس الغلوة في تقدير القياسات في أربع مناسبات: فقد رأى التلاميذ يسوع في بحيرة طبرية، وهو يسير إليهم في الماء، على بعد ثلاثين غلوة (نحو 6 كم) (يوحنا 6: 19)؛ وكانت عمواس تبعد عن القدس مسافة ستين غلوة (نحو 12 كم) (لوقا 24: 13) وخرج الدم من المعصرة في رؤيا يوحنا، إلى مسافة ألف وستمئة غلوة (تعادل حو 320 كم) (رؤيا 14: 20).

 

19 فكانَ كثيرٌ مِنَ اليَهودِ قد جاؤوا إِلى مَرْتا ومَريَم يُعَزُّونَهما عن أَخيهِما.


تشير عبارة " كثيرٌ مِنَ اليَهودِ " الى كثير من رؤساء اليهود الذين كانوا أكثرهم من أعداء يسوع واتوا لتعزية ذلك البيت ليس لأنهم اقربائه، وإنما لان وظيفتهم اقتضت ذلك. أمَّا عبارة "يُعَزُّونَهم" فتشير الى تعزية طويلة التي تمتد حوالي ثلاثين يوما. وكان الحزن عند اليهود يستمر لمدة حوالي شهر، يدعون الثلاثة أيام الأولى "أيام الحزن"، يليها سبعة أيام تُدعى "أيام المراثي". وفي فترة الحزن لا يعمل أهل الميت شيئًا، وإن حيَّاهم أحد فلا يردُّون السلام عليه. أمَّا في أيام المراثي فلا يمارسون أعمالًا إلاَّ ما هو خاص: ينامون في فراش على الأرض، ولا يرتدون نعالهم، ولا يغتسلون أو يدهنون أنفسهم، ويغطون رؤوسهم ولا يقرأون في الشريعة أو المشنأ أو التلمود، وفي بقية الثلاثين يومًا لا يحلقون شعرهم، ولا يرتدون ثوبًا أبيضا أو ثوبًا جديدًا، ولا يُخيطون أي تمزيق يحدث في الثياب أثناء الجنازة. وكان طقس تقديم التعازي واسع الانتشار زمن يسوع.

 

20 فلَمَّا سَمِعَت مَرتا بِقُدومِ يسوع خَرجَت لاستِقبالِه، في حينِ أَنَّ مَريَمَ ظَلَّت جالِسَةً في البَيت.

تشير عبارة " مَرتا ...خَرجَت " الى استقبالها للمسيح لأنها هي الأكبر سنًا، وهي التي كانت تُدير شؤون البيت (لوقا 10: 40). أمَّا عبارة "مَريَمَ ظَلَّت جالِسَةً في البَيت" فتشير الى طبيعة مريم الهادئة (لوقا 10: 39)، إذ ظلت مع المُعزِّين في البيت. والجلوس يدل هنا على موقف استسلام، فمريم غير قادرة على فعل شيء لذلك تستسلم للوضع واستولت عليها خيبة الأمل بعكس اختها مرتا الحيوية النشيطة.

 

21 فقالَت مَرْتا لِيَسوع: ((يا ربّ، لَو كُنتَ ههنا لَما ماتَ أَخي.


تشير عبارة " لَو كُنتَ ههنا لَما ماتَ أَخي " الى عتاب مصحوب بالإيمان والرجاء حيث ان مرتا كانت تؤمن بصداقة يسوع وبسلطانه على المرض، وإنه قادر بحضوره يشفي اخاها ويمنع الموت عنه، لان محبته له كانت تمنعه من ان يسمح لموته. ولكننا نرى أن إيمان قائد المئة أقوى من إيمان مرتا، هو الذي قد آمن أن قدرة المسيح على الشفاء تتحدى المكان "يا رَبّ، لَستُ أَهْلاً لأَن تَدخُلَ تَحتَ سَقفِي، ولكِن يَكْفِي أَن تَقولَ كَلِمَةً فيَبرَأَ خادِمي " (متى 8: 8). ويعلق القدّيس غريغوريوس النيصّي "لمّا كان يسوع، الحياة، غائبًا عن لَعازَر وشقيقتَيه، فعلَ الموت فِعله عبر المريض".  فالسؤال هل يُمكن للموت أن يكسر أواصر الصداقة بين يسوع ولعازر؟ 

 

22 ولكِنِّي ما زِلتُ أَعلَمُ أَنَّ كُلَّ ما تَسأَلُ الله، فاللهُ يُعطيكَ إِيَّاه)).


تشير عبارة "ما زِلتُ أَعلَمُ " الى فعل أول إيمان من مرتا تجاه يسوع، انه رجل الله، وما يطلبه من الله يُعطى له "الله يَستَجيبُ لِمَنِ اتَّقاهُ وعَمِلَ بِمَشيئتِه" (يوحنا 9: 31) كما نال النبيان إيليا وأليشاع من الله بصلواتهما. وهكذا انفتحت قبل الأوان على ما يمكن ان يفعله الرب من أجل أخيها لعازر

 

23 فقالَ لَها يسوع: ((سَيَقومُ أَخوكِ)).

 

تشير عبارة "سَيَقومُ أَخوكِ" الى تأكيد يسوع لمرتا لما يفعل، يكفي ان يقول لكي يتمّ فعلا ما قال. ولم يقل يسوع متى يقوم وكيف يقوم وذلك امتحانا لها ليزيد إيمانها به. 

 

24 قالَت لَه مَرْتا: ((أَعلَمُ أَنَّه سيَقومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأَخير)).


تشير عبارة "أَعلَمُ أَنَّه سيَقومُ في القِيامَةِ في اليَومِ الأَخير" الى رجاء مرتا بالقيامة الأخيرة كسائر اليهود بناء على اقوال العهد القديم ان الصالحين يقومون في يوم الدين (لوقا 10: 10). وهذه العقيدة كانت منتشرة في البيئات اليهودية المتأثرة بالمذهب الفريسي (2مكابيين 7: 23). وقد جاءت الأسفار التي بعد السبي تفيض بالأحاديث عن القيامة (2 ملوك 7: 9؛ الحكمة 5: 1-7)، ثم جاءت الكتابات اليهودية مثل يوسيفوس فلافيوس المؤرخ والترجوم تتحدث عن القيامة.  كان موضوع القيامة من الأموات قد استقر تمامًا في العقلية اليهودية، ماعدا عند الصدّوقيين الذين يرفضونه.

 

25 فقالَ لَها يسوع: ((أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا


تشير عبارة "أَنا القِيامةُ والحَياة" الى القيامة التي لم تكن مجرد أمل بعيد، لكنها قوة حاضرة ومُجسَّدة في يسوع، ويسوع نفسه هو الحياة التي يحتاجها الإنسان. لم يقل يسوع "أعِد" بل قال "أنا القيامة؛ يسوع ليس فقط الذي يأمر الموت، ويعطي الحياة، انه هو القيامة والحياة؛ والدخول في علاقة معه، هو الدخول مع الحياة بالذات. والاستماع اليه، والايمان به، هما منذ الآن، القيامة والحياة، إن للرب يسوع سلطانا على الحياة والموت، لأنه خالق الحياة (يوحنا 14: 6)، أما عبارة " الحَياة " فتشير الى يسوع ينبوع الحياة الجسدية والروحية، وان كل من ينال الحياة من البشر إنما ينالها منه وهو يحفظها، وهذا يتضمن أيضا انه القيامة أيضا لان مبدأ الحياة يقدر ان يعيدها ويُحيي الميت. وفتح لنا من خلال قيامته وحياته سبيلا وعربونا لقيامتنا وحياتنا. وشدّد يوحنا الإنجيلي على إقامة لَعازَر كدليل ان يسوع هو الذي ينقلنا من الموت الى الحياة كما يؤكد بولس الرسول "متَى لَبِسَ هذا الكائِنُ الفاسِدُ ما لَيسَ بِفاسِد، ولَبِسَ الخُلودَ هذا الكائِنُ الفاني، حينَئذٍ يَتِمُّ قَولُ الكِتاب: ((قدِ ابتَلَعَ النَّصْرُ المَوت، فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟" (1 قورنتس 15: 54-57). أمَّا عبارة " مَن آمَنَ بي" فتشير الى كل من يتحد بالمسيح عن طريق الايمان تكون له القيامة. فالإيمان لا يقي الانسان من الموت الجسدي الى حين تليه الحياة الأبدية. فمن يؤمن به "ينتقل بفضل هذا الايمان مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة" (يوحنا 5: 24) وينتصر على الموت " لِتَكونَ بهِ الحَياةُ الأَبديَّةُ لِكُلِّ مَن يُؤمِن"(يوحنا 3: 15).  أمَّا عبارة " وَإن ماتَ، فسَيَحْيا" فتشير الى انفصال الروح عن الجسد الذي لا يوثِّر شيئا في حياة الروح، حيث لا بد للمؤمنين ان يقوموا من الموت ويحيوا حياة مجيدة لأنهم متَّحدون بذلك الذي هو الحياة ويشاركونه في تلك الحياة الى الابد. المؤمن يموت كما مات لعازر ويُدفن جسده في القبر لكن تسلط الموت على جسده وقتيا وامَّا نفسه فهي متحدة بالمسيح فلن يتسلط الموت عليها. لان يسوع له القدرة على النيل من الآب على إيصال البشر الذين يؤمنون به الى الحياة والقيامة الأخيرة (يوحنا 5: 26-29، 6: 39-40). فالمؤمن سيحيا أي تعود اليه الحياة الجسدية يوم القيامة ويصبح الموت بابا الى الحياة الأبدية كما يؤكده بولس الرسول " فإِذا حَيِينا فلِلرَّبِّ نَحْيا، وإِذا مُتْنا فلِلرَّبِّ نَموت: سَواءٌ حَيِينا أَم مُتْنا فإِنَّنا لِلرَّبّ" (رومة 14: 8).   أمَّا الموت الذي يقصده يسوع هنا فهو الموت الجسدي. وهكذا يعلن يسوع نفسه مبدأ القيامة المُقبلة للأجساد كما جاء في تعليم السيد المسيح "لا تَعجَبوا مِن هذا فتَأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَه جَميعُ الَّذينَ في القُبور" (يوحنا 5: 28)، ويعلن يسوع نفسه أيضا مبدا القيامة للحياة الأبدية" مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة "(يوحنا 5: 24) والاّ فلا يُفهم معنى الآية " مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا". فمنذ الآن أصبح يسوع مبدأ الحياة التي لا تزول: وهكذا فان قيامة الأجساد في اليوم الأخير ليست إلا إكمالا لإعطاء الحياة الأبدية التي توهب للمؤمنين منذ اليوم " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير "(يوحنا 6: 54). والحياة الأبدية التي يقصدها الرب هنا هي حياة المجد والفرح ورؤية الله وشركة المحبة مع القديسين.

 

26 وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً. أَتُؤمِنينَ بِهذا؟)).


تشير عبارة وكُلُّ مَن يَحْيا " الى حياة بالجسد كما كانت مرتا حينئذٍ. أمَّا عبارة " لن يَموتَ أَبَداً " فتشير الى الموتٍ الروحيٍ بحيه ان الخطيئة لا سلطة لها على المؤمن، وبالتالي الموت الجسدي لا يأتيه كعدو بل كصاحب لينقله من هذا العالم الى عالم أفضل منه لان شوكة الموت (أي الخطيئة) نزعها يسوع.  وانه يقيمه من القبر ويدخله الى المجد فلن يموت، كما جاء في تعليم بولس الرسول" فإِذا كُنَّا قَد مُتْنا مع المسيح، فإِنَّنا نُؤمِنُ بِأًنَّنا سنَحْيا معَه.  ونَعلَمُ أَنَّ المسيح، بَعدَما أُقيمَ مِن بَينِ الأَموات، لن يَموتَ بعدَ ذلِك ولن يَكونَ لِلمَوتِ علَيه مِن سُلطان" (رومة 6: 8-9). ليس للموت سلطان على المؤمن الذي حياته مستترة مع المسيح في الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله. فإِذا ظَهَرَ المسيحُ الَّذي هو حَياتُكم، تَظَهَرونَ أَنتُم أَيضًا عِندَئِذٍ معَه في المَجْد" (قولسي 3: 3-4). ومن هذا المنطلق، سيبقى المؤمن حياّ بعد الموت بفضل هبة الحياة الأبدية التي هي له بالإيمان؛ أمَّا عبارة " أَتُؤمِنينَ بِهذا؟" فتشير الى سؤال يسوع طالبا إيمانا به الذي يتحدى الطبيعة والموت. حيث انه القيامة وينبوع الحياة وان له مفاتيح الموت. فلا يكفي لمرتا ان تؤمن بيسوع نبيا ورجل الله انما هو القيامة والحياة.  

 

27 قالَت له: ((نَعَم، يا ربّ، إِنِّي أَومِنُ بِأَنَّكَ المسيحُ ابنُ اللهِ الآتي إِلى العالَم)).


تشير عبارة "نَعَم، يا ربّ" الى موافقة مرتا في حزم وبلا تردُّد على سؤال يسوع أنه ينبوع كل قيامة. أمَّا عبارة "إِنِّي أَومِنُ بِأَنَّكَ المسيحُ ابنُ اللهِ الآتي إِلى العالَم " فتشير الى إعلان إيمانها بيسوع انه المسيح أي الممسوح من الله ملكا وكاهنا ونبيا وانه ابن الله أي ألها مصدر كل قيامة؛ وهذا الإعلان هو نفس إعلان الإيمان الذي نطق به بطرس الرسول وامتدحه السيد المسيح (متى 16: 16-17). وبالرغم من ان مرتا اشتهرت بانشغالها الشديد (لوقا 10: 38-42)، الاّ أنَّها ذات إيمان عميق قوي؛ أمَّا عبارة " الآتي إِلى العالَم" فتشير الى يسوع نبي الأزمنة الأخيرة (يوحنا 1: 21) في حين ان اليهود يرون النبي الآتي هو الذي يرسله الله الى العالم ليتزعَّم حركة تحرير قومي ويقيم سلطان إسرائيل كما نستنتج من سؤال التلاميذ " يا ربّ، أَفي هذا الزَّمَنِ تُعيدُ المُلْكَ إِلى إِسرائيل؟ " (اعمال الرسل 1: 6). فيسوع هو الفادي الموعود بمجيئه الى العالم.

 

28 قالت ذلك ثُمَّ ذَهَبَت إِلى أُختِها مَريَمَ تَدعوها، فأَسَرَّت إِلَيها: ((المُعَلِّمُ ههُنا، وهو يَدعوكِ)).


تشير عبارة " فأَسَرَّت إِلَيها " في الأصل اليوناني λάθρᾳ εἰποῦσα (معناها قالت همسا) دعت مرتا أختها مريم بصوت خفي بدون ان يُعلم أحدا غيرها من اليهود الذين في بيتها لكي تتعزى من مراحم الرب بعيدًا عن نياح المُعزِّين وصياحهم. فكل من يتعزى من المسيح يدعو الآخرين خاصة المتألمين لينالوا ايضا التعزية من المسيح. أمَّا عبارة " المُعَلِّمُ " في الأصل اليوناني ُ " διδάσκαλος فتشير الى اللقب الذي كان معروفا به بين تلاميذ يسوع ومعارفه" أَنتُم تَدعونَني المُعَلِّمَ والرَّب وأَصَبتُم في ما تَقولون، فهكذا أَنا " (يوحنا 13: 13). ومريم تلميذة ليسوع كما وصفها إنجيل لوقا "مَريم، جَلَسَت عِندَ قَدَمَي الرَّبِّ تَستَمِعُ إِلى كَلامِه" (لوقا 10 39). أمَّا عبارة "هو يَدعوكِ" فتشير الى يسوع الذي يبحث عن مريم كما بحث الرب عن آدم في الجنة بعد الخطيئة. يدعو يسوع مريم لكي يهتم بها ويطلب سلامها ويقدّم تعزية لقلبها. ولا تقوم تعزية يسوع المعلم على عواطف مجرَّدة، وإنما مع الحب والحنو يُقدِّم حقائق إيمانية فريدة. وما أحوج النفس وسط وادي الدموع هذا أن تترك كل ما يحطمها من متاعب،  لتنسحب بالرجاء نحو ذاك الذي وحده قادر ان يقيم النفس معه في مجده أبديًا!

 

29 وما إن سَمِعَت مَريَمُ ذلك حتَّى قامَت على عَجَلٍ وذَهَبَت إِلَيه.

تشير عبارة " قامَت على عَجَلٍ وذَهَبَت إِلَيه " الى طبيعة مريم الانفعالية، إذ حيث أنها حالما تلقّت الدعوة، قامت مسرعة الى يسوع دليل محبتها الشديدة له. تركت المعزِّين الكثرين لتذهب الى المعزِّي الحقيقي.  امَّا عبارة " على عَجَلٍ" فتشير الى نشوء الامل في قلبها هي التي كانت جالسة حزينة. 

 

 30 ولَم يَكُنْ يسوعُ قد وَصَلَ إِلى القَريَة، بل كانَ حَيثُ استَقَبَلَتهْ مَرْتا.

تشير عبارة " ولَم يَكُنْ يسوعُ قد وَصَلَ إِلى القَريَة " الى بقاء يسوع خارج القرية لأنه اتى ليقيم لعازر من قبره الذي كان خارج القرية.

 

31 فلَمَّا رأَى اليَهودُ الَّذينَ كانوا في البَيتِ مَعَ مَريمَ يُعزُّونَها أَنَّها قامَت على عَجَلٍ وخرَجَت، لَحِقوا بِها وهم يَظُنُّونَ أَنَّها ذاهِبَةٌ إِلى القَبرِ لِتَبكِيَ هُناك.


تشير عبارة "اليَهودُ الَّذينَ كانوا في البَيتِ" الى اليهود الذين كانوا مع مريم في البيت رافقوها اعتبارا لها ولأختها لمشاركتهم لهما في الحزن كما اوجبت العادة؛ اما عبارة " لَحِقوا بِها " فتشير الى العادة في اليهودية التي اتبعوها لمنع مريم من الحزن الشديد المُضر لجسمها إثر مشاهدة قبر اخيها. وكانت النتيجة ذلك كثرة الشهود بالمعجزة التي صنعها يسوع. وأمَّا عبارة" يَظُنُّونَ أَنَّها ذاهِبَةٌ إِلى القَبرِ لِتَبكِيَ هُناك " فتشير الى النظرة البشرية لدى اليهود الذين ظنّوا ان مريم ذاهبة الى القبر، الى حيث الموت. ولكنها ذهبت الى يسوع، الى حيث الحياة. زار اليهود مريم ومرثا في البيت لمشاركتهم في ألمهما؛ غير أنهم لا يستطيعون عمل أي شيء ضد الموت. لكن زيارة يسوع فهي مختلفة تمامًا، جاء يسوع يزور شقيقتي لعازر حاملاً لهما ليس فقط صداقته بل الحياة.

 

32 فما إِن وَصَلَت مَريَمُ إِلى حَيثُ كانَ يسوع ورَأَته، حتَّى ارتَمَت على قَدَمَيه وقالَت له: ((يا ربّ، لو كُنتَ ههُنا لَما مات أَخي))

 

تشير عبارة " ارتَمَت على قَدَمَيه" الى انسحاقها وتوسّلها، وهذا دليل على ان الحزن قد اشتدَّ عليها ونشأ الرجاء في قلبها بحضور يسوع. اما عبارة " لو كُنتَ ههُنا " فتشير الى ترديد نفس كلمات اختها مرتا لما التقت بيسوع (يوحنا 11: 21) مما يدل انهما تبادلتا هذا القول بينهما حيث كان امل مريم مثل امل مرتا، وهو ان يسوع لو كان حاضرا قبل موت أخيهما لشفاه.

 

33 فلَمَّا رآها يسوعُ تَبكي ويَبكي معَها اليَهودُ الَّذينَ رافَقوها، جاشَ صَدرُه وَاضطَرَبَت نَفْسُه

 

أمَّا عبارة " تَبكي " في أصل اليوناني κλαίουσαν   (معناها بكاء في صراخ بصوت مسموع) فتشير الى نحيب وعويل وبكاء بصوت مسموع كتعبير ظاهري عن الحزن؛ وبما ان الله الآب أرسل ابنه ليجبُر "مُنكَسِري القُلوب ويعزِّي "جَميعَ النَّائحين" (أشعيا 61: 1-2)، حيث يسوع تعاطف مع مريم ومرتا. ولعل هذا يذكرنا بقول جبران خليل جبران: "إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحتها بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها في الشعور وتشاركها في الإحساس، والحب الذي تغسله العيون بدموعها يظل طاهرًا وجميلاً وخالدًا".  أمَّا عبارة "جاشَ صَدرُه" في الأصل اليوناني ἐνεβριμήσατο τῷ πνεύματι (معناها اختلج بالروح) فتشير الى ارتعاش يسوع امام هذه الألم كما ارتعش أثناء العشاء الأخير لما تنبأ بخيانة يهوذا الإسخريوطي " فقالَ يسوعُ هذا فاضطَرَبَت نَفْسُه (يوحنا 13: 21). ولكن بعض البحاثة يرونه في عبارة " جاشَ صَدرُه" تذمر لتأثره واضطرابه العنيف أمام ذلك البكاء الذي هو في الواقع يعبّر عن العجز وعن قلة الرجاء تجاه الموت (يوحنا 11: 38) كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "البكاء الذي تطلقه النساء قرب الميت يُنسي حقيقة القيامة". والبعض الآخر يرى في هذه العبارة " جاشَ صَدرُه" تعبيرا عن سخط شديد ناشئ عن الحزن الذي تسبّب من عدم إيمان اليهود والخطيئة. وقد تعبر أيضا عمَّا ستكلف يسوع المعجزة الذي كان مزمعا ان يأتي بها. أمَّا عبارة "اضطَرَبَت نَفْسُه " في الأصل اليوناني ἐτάραξεν(معناها يهتز جسم الانسان اهتزازًا قويًا من الانفعال الذي يحاول ضبط نفسه تجاهه) فتشير إحساس يسوع بقلق وحيرة وارتباك بسبب حزن مريم والذي يرافقونها يبكون، ويعلق القديس يوحنا الذهب الفم" أنتم تنزعجون بغير إرادتكم، أما المسيح فانزعج لأنه أراد ذلك". وقد وردت كلمة "اضطرب يسوع" ثلاث مرات لدى إحياء لَعازَر، ولما تنبَّأ عن موته وقيامته (يوحنا 12: 27)، ولمَّا تكلم عن خيانة يهوذا الإسخريوطي (يوحنا 21:13). والمسيح لا يزال الها وانسانا في السماء يشعر مع شعبه و "هو عن يَمينِ اللهِ والَّذي يَشفعُ لَنا" (رومة 8: 34).  

 

34 وقال: ((أَينَ وَضَعتُموه؟)) قالوا لَه: ((يا رَبّ، تَعالَ فانظُر)).


تشير عبارة "أَينَ وَضَعتُموه؟" الى سؤال يسوع شبيه بسؤال الله لآدم "أَينَ أَنْتَ؟ "(التكوين 3: 9). ان الله يهتم بنا بعكس مفهوم الاغريق الشائع في ذلك الزمان عن الله. فالإله عندهم بعيد عن البشر دون مشاعر ولا اندماج بهم. ويُلمح يسوع في هذا السؤال أيضا عن نيته في عمل المعجزة، ويُنبِّه الجمهور للمعجزة الآتية فيتحول الجمهور لشهود عيان على المعجزة. اما عبارة " تَعالَ " فيُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم على معناها بقوله " معنى تعال؟ لتأتِ مغفرة الخطايا، ولتأتِ الحياة إلى من رحل، والقيامة من الأموات، ليأتِ ملكوتك لهذا الخاطئ أيضًا". أمَّا عبارة" أنظر" فيعلق عليها القديس أمبروسيوس " ماذا تعني "أنظر"؟ ترفق، فإن الرب ينظر حين يتحنن. لذلك قيل له: "أنظر إلى تواضعي وألمي، واغفر لي كل خطاياي". هنا يظهر السيد المسيح أنه قد صار بالحقيقة إنسانًا يحمل مشاعر إنسانية، يشارك المتألمين، ويبكي مع الباكين. إنه رجل أحزان (أشعيا 53: 3). لم يوجد قط ضاحكًا، لكنه في أكثر من موضع وُجد باكيًا.

 

35 فدَمعَت عَيْنا يسوع.


تشير عبارة "دَمعَت عَيْنا " في الأصل اليوناني ἐδάκρυσεν (معناها دَمَع أي انسياب الدموع من عينيه بدون صوت) الى ذرف عينا يسوع دمعا لكي يُظهر المخلص نفسه أن لديه مشاعر بشرية حقيقية لموت لعازر حبيبه. لم يكن على الارض انسان قلبه أرقّ من قلب يسوع؛ ويُعلق القديس اوغسطينوس "جاء الفعل "بكي" هنا في اليونانية مختلفًا عما ورد عن بكاء κλαίουσαν مريم وجمهور المحيطين بها (يوحنا 11: 33)، إذ لا يحمل العويل المرتفع مثلهم، بل انسياب الدموع من عينيه. إنها مجرد شهادة عملية لمشاعره العميقة ومشاركته للمتألمين أمام الجموع التي لم تدرك بعد كيف تواجه الموت. وقد وجدت الجموع في هذه الدموع شهادة حية عن محبته الى لعازر (يوحنا 11: 36). وهذه الآية هي أقصر آيات في الانجيل لكنها أهميتها كبيرة لأنها دلّت على ناسوت المسيح مع كونه إلها. ودموع يسوع بيَّنت رقة قلبه وصداقته للمؤمنين. ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ "كونك تجسّدت، جئتَ إلى بيت عنيا. كإنسان حقّ، بكَيتَ لعازر" (أناشيد الصّباح لسبت لعازر). وقد ورد بكاء يسوع ثلاث مرات، بكى هنا لدى بكاء مريم اخت لَعازَر واليهود معها، متعاطفا مع اهل لَعازَر في حزنهم ومتأثرًا أمام موقف الموت الذي هو أعظم ألم للبشر، ويُعلق القديس أوغسطينوس " بكى الرب نفسه أيضًا من أجل لَعازَر نفسه الذي سيقيمه إلى الحياة، بلا شك لكي يسمح لنا بمثاله أن نبكي على موتانا، وإن كان لم يعطنا وصيته بذلك، هذا مع إيماننا بأنهم يقومون إلى الحياة الحقيقية. ليس اعتباطًا جاء في سفر يشوع بن سيراخ " لِيَكُنْ بُكاؤُكَ مراً وأَكثِر مِن قَرعِ صَدرِكَ وأَقِمِ المَناحَةَ ... ثُمَّ تَعز عنِ الحُزْن فإِنَّ الحُزنَ يؤدِّي إِلى المَوت وحُزنَ القَلبِ يُنهِكُ القِوى" (يشوع بن سيراخ 38: 17-19). ثم بكى يسوع أيضا على أورشليم لِما سيصيب البشر واورشليم " لمَّا اقَتَربَ فَرأَى المَدينة بكى علَيها" (لوقا 19: 41). (لوقا 19: 41)، وبكى أخيرا في الجسمانية عن آلام الصليب كما جاء في رسالة العبرانيين "هو الَّذي في أَيَّامِ حَياتِه البَشَرِيَّة رفعَ الدُّعاءَ والاِبتِهالَ بِصُراخٍ شَديدٍ ودُموعٍ ذَوارِف " (عبرانيين 5: 7)، فهو يشاركنا أحزاننا ويحملها عنا كما تنبأ أشعيا النبي "لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا " (أشعيا 53: 4). فقد كشف يسوع من خلال دموعه عن طبيعته الإنسانية ومشاركته للمتألمين والباكين. إنه "رَجُلُ أَوجاعٍ" (أشعيا 53: 3). انه بشر مثلنا. ويُعلّق مار كيرلس الإسكندريّ "ظنّ اليهود أنّ عينَي يسوع دمعتا بسبب موت الطّبيعة الإنسانية. إنّه لم يبكِ لَعازَر فحسب، بل لِما حدث للبشريّة كلّها التي صارت تحت الموت". توحي لنا هذه الآية انه مطلوب مشاركة الآخرين في حزنهم، وانه يجوز للمسيحيين ان ينوحوا على موت اقربائهم وان يظهروا علامات الحزن على شرط ان لا تتجاوز الحد كحزن الذين لا رجاء لهم، كما يقول الرسول " ولا نُريدُ، أَيُّها الإِخوَة، أَن تَجهَلوا مَصيرَ الأَموات لِئَلاَّ تَحزَنوا كَسائِرِ النَّاسِ الَّذينَ لا رَجاءَ لَهم" (1 تسالونيقي 4: 13). ويُعلق القديس أوغسطينوس "بكى يسوع في صمت، واضطرب ثم تنهد كمن يكبح اضطرابه، وسأل عن موضع القبر... كل هذا أثار تساؤلات في أذهان اليهود، ورغبة في معرفة ما سيفعله دون نفورٍ من جانبهم". على كل حال قسمت دموع يسوع اليهود المتواجدين للعزاء الى قسمين.

 

36 فقالَ اليَهود: ((اُنظُروا أَيَّ مَحَبَّةٍ كانَ يُحِبُّه)).

 

تشير عبارة "اُنظُروا أَيَّ مَحَبَّةٍ كانَ يُحِبُّه" الى شهادة فئة من اليهود الذين تأثروا لحزن يسوع ومشاهدته دموعه لموت عازر صديقه، وأقرّت بعمق محبة يسوع لَه.  فكان استحسانهم ليسوع استعدادا لإيمان بعضهم بعد ذلك "فآمَنَ بِه كثيرٌ مِنَ اليَهودِ الذينَ جاؤوا إِلى مَريَم ورَأَوا ما صَنَع" (يوحنا 11: 45)؛ ونستنتج من كلام اليهود ورد فعلهم مشاعر يسوع: الشفقة والحنان، والحزن والدموع. ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ "بمواساتكَ وببكائكَ على صديقكَ، وضعتَ حدًّا لدموع مرتا" (أناشيد الصّباح لسبت لعازر). " ونحن إذ نرى دمه يتساقط من جسمه على الصليب نسبحه قائلين: "انظروا كيف يحبنا!" (القديس ايرونيموس)

 

37 على أَنَّ بَعضَهم قالوا: ((أَما كانَ بإِمكانِ هذا الَّذي فَتَحَ عَينَيِ الأَعمى أَن يَرُدَّ المَوتَ عَنه؟))

 

تشير عبارة " كانَ بإِمكانِ هذا الَّذي فَتَحَ عَينَيِ الأَعمى أَن يَرُدَّ المَوتَ عَنه؟" الى شهادة فئة من اليهود الذين اتخذوا موقف من يسوع شبيها بموقف مرتا، وهم يتساءلون عن حقيقة حزنه بما ان يسوع شفى الاعمى (يوحنا 9: 6) أليس بوسعه ان يردّ الموت عن صديقه لَعازَر؟ فإن كان هو المسيح حقا فلماذا لم يمنع الموت عن لعازر؟  أفليس ذلك برهنا على ان قوته محدودة! ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "لقد اعترف اليهود هنا أن السيد المسيح فتح عيني الأعمى، ولكنهم استكثروا عليه أن يجعل لعازر لا يموت".

 

38 فجاشَ صَدرُ يسوعَ ثانِيةً وذَهَبَ إلى القبر، وكانَ مغَارةً وُضِعَ على مَدخلِها حَجَر.


تشير عبارة "جاشَ صَدرُ يسوعَ" الى انزعاج يسوع من جديد بسبب الارتياب اليهود التهكمي وشكِّهم؛ وقد اضطرب يسوع أمام موت لَعازَر، كما اضطرب نفسه قبل موته “الآنَ نَفْسي مُضطَرِبة، فماذا أَقول؟ " (يوحنا 12: 27)؛ ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " لا يفهم من انزعاج يسوع في نفسه فقدان سلامه الداخلي، لكنه كما أخلى ذاته ليحلَّ بيننا كإنسانٍ حقيقيٍ كاملٍ، سمح بإرادته أن يدخل الانزعاج إلى نفسه حتى يشارك المنزعجين، فيحملهم إلى سلامه الإلهي". فقد أراد السيد المسيح أن يتّخذ طبيعتنا المُعرضة للموت لكي يُحرِّرنا من سلطان الموت. أمِّا عبارة " ذَهَبَ إلى القبر" فتشير الى توجه يسوع الى القبر خارج القرية، لكنه لم يدخل القرية، حيث كانت العادة ان القبور كانت تنحت في الصخر على مقربة من المدن أو القرى. أمَّا عبارة "مغَارةً وُضِعَ على مَدخلِها حَجَر" فتشير الى كهف او مغارة منحوتة في الحجر الجيري في منحدر جوانب الجبل، وكان بابها بمثابة حجر مستدير يسدّ مدخله (يوحنا 20: 1). وكان القبر واسعاً بحيث يسمح للناس السير داخله لتحنيط الميت، وعادة ما كان يوضع داخل القبر الواحد اجسادا عديدين من الموتى، وبعد الدفن يدحرج حجر كبير امام القبر. وهذا هو قبر لَعازَر الذي لا يزال موجود للآن، في قرية العيزرية في ضواحي القدس، أنه منحوت في الصخر، وله مدخل علوه يبلغ نحو متر وعرضه 61 سم يؤدي الى سبع وعشرين درجة تنتهي الى غرفة مساحتها 2.74 م2 وداخلها مساحة تسع الى أربعة نواويس.

 

39 فقالَ يسوع: ((إِرفَعوا الحَجَر! ((قالَت لَه مَرْتا، أُختُ المَيْت:)) يا ربّ، لقَد أَنتَن، فهذا يَومُه الرَّابع)).


تشير عبارة "ارفعوا الحَجَر!" الى أمر يسوع برفع الحجر من مدخل القبر حتى يرى كل الواقفين أن الجسد ملقى في القبر ميتًا، ويشمُّون الرائحة، ويتأكدون أنه أنتن، وعند خروجه من القبر لا يظنوا أنه خيال، بل هو جسد حقيقي. وهكذا رفع حجر القبر يجعلهم شهود عيان كما هو الحال مع الخَدَم في عرس قانا الجليل حيث امرهم " اِمْلأُوا الأَجرانَ ماءً" (يوحنا 2: 7) وكما كان الذين ملأوا الاجران شهودا بتحويله الماء خمرا كان الذين رفعوا الحجر شهودا بصحة إحياء لعازر.  امَّا عبارة " قالَت لَه مَرْتا، أُختُ المَيْت " فتشير الى ذكر يوحنا البشير نسبتها الى لعازر لاعتراضها على فتح القبر دون غيرها. أمَّا عبارة " لقَد أَنتَن " فتشير الى رد فعل مرتا بانه غير ضروري لرفع الحجر، لأن أَصْبَحَتْ رائِحَتُهُ كَريهَةً مؤكدة ان ليس لها من امل ان يقيم يسوع اخاها. ان الموت الذي كان في القبر منذ أربعة أيام. ويعلق القديس اوغسطينوس" حتى إن كنت راقدًا في قبرك، فالرب يُقيمك، وإن كان جسدك قد أنتن". امَّا عبارة " فهذا يَومُه الرَّابع "فتشير الى الوقت الكافي لابتداء الفساد في جسد الميت.

40 قالَ لَها يسوع: ((أَلَم أَقُلْ لَكِ إِنَّكِ إِن آمَنتِ تَرينَ مَجدَ الله؟)).


تشير عبارة " أَلَم أَقُلْ لَكِ إِنَّكِ إِن آمَنتِ تَرينَ مَجدَ الله؟" الى توبيخ يسوع لمرتا على عدم إيمانها مصحوب بلطف وتشجيع لتقوية ايمانها الضعيف لكي ترى مَجدَ الله من خلال إحياء لعازر اخيها، خاصة كان قد سبق وقال لها سترى مجد الله في النصرة على الموت "هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله" (يوحنا 11: 4) وقال لها أيضا "سَيَقومُ أَخوكِ" (يوحنا 11: 23). الإنسان يريد أن يرى ليؤمن، وهذا ليس إيمان، فيسوع يطلب ان نؤمن لكي نرى كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين، " الإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (العبرانيين 11: 1). اما عبارة " إِن آمَنتِ " فتشير الى ضرورة الايمان للذين يريدون ان يشاهدوا أعماله المجيدة. ألم يقل يسوع " كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن " (مرقس 9: 33)   الإيمان هو بركة عظيمة، وبه يستطيع الناس أن يصنعوا أمورا عظيمة. وألم يقل المسيح ايضا: " إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل قُلتُم لِهذا الجَبَل: اِنتَقِلْ مِن هُنا إِلى هُناك، فيَنتَقِل" (متى 17: 20). اما عبارة " تَرينَ مَجدَ الله؟" فتشير الى انتصار المسيح على الموت. وكل من آمن بالمسيح سيرى مجده ومجد القيامة.  ونلاحظ ان طريق الايمان تختلف بين المسيح والانسان، الانسان يريد ان يرى ليؤمن، واما المسيح فيريده ان يؤمن ليرى.

 

41 فرَفَعوا الحَجَر ورفَعَ يسوعُ عَينَيه وقال: ((شُكراً لَكَ، يا أَبَتِ على أَنَّكَ استَجَبتَ لي))


تشير عبارة "رفَعَ يسوعُ عَينَيه" الى نظر يسوع الى السماء، وهي عادة في مخاطبة لآبيه السماوي كما فعل عند صلاته الكهنوتية " رَفَعَ عَينَيهِ نَحوَ السَّماءِ " (يوحنا 17: 1)، وهي وضع صلاة تعتبر من ميزات التقليد الطقسي المسيحي، أمَّا اليهود فيتوجّهون في صلواتهم بأنظارهم نحو هيكل اورشليم.  أمَّا عبارة " شُكراً لَكَ "في الأصل اليوناني   εὐχαριστῶ (معناها شكر خاص بالمسيحية) فتشير الى تعبير عن فرح المسيح بعودة الحياة للأموات، والمسيح لم يسأل الآب بل شكره لثقته في استجابة الآب له وتدل العبارة أيضا على الاتحاد التام بينه وبين الآب في الفكر والعمل. ونفس المفهوم شكر يسوع عند لدى كشف سر الملكوت للصغار (لوقا 10: 20-21)، وبنفس المفهوم أيضا شكر يسوع عند تأسيس سر الإفخارستيا الذي سيعطى حياة للبشر (لوقا 22: 19)؛ ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ " كإنسان فانٍ، استدعَيتَ الآب؛ كإله، أقَمتَ لعازر. لذا، نمجّدكَ يا ربّ إلى أبد الآبدين" (أناشيد الصّباح لسبت لعازر). أمَّا عبارة " يا أَبَتِ "فتشير الى إثبات دعواه انه المسيح ابن الله. أمَّا عبارة " على أَنَّكَ استَجَبتَ لي" فتشير الى صلاة ثقةٍ التي تكشف عن اتحاد الابن بالآب الذي يستجيب في كل حين للابن، فالآب يسمع ويستجيب ليسوع دائما. ويُعلق القديس ايرونيموس " يصلي يسوع كابن الإنسان، ويأمر كابن الله". والمسيح كان يصلي دائما لآبيه السماوي، وجعل كل حادثة جرت له موضوعا للصلاة.

 

42 وقَد عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً ولكِنِّي قُلتُ هذا مِن أَجْلِ الجَمْعِ المُحيطِ بي لِكَي يُؤمِنوا أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني))

تشير عبارة "عَلِمتُ أَنَّكَ تَستَجيبُ لي دائِماً أَبَداً" الى الصلاة من أجل الحاضرين لكي يثقوا أن يسوع على علاقة بأبيه السماوي، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " قد وضع السبب الصادق لصلاته، لكيلا يظنوا أن يسوع المسيح ضد الله، ولا يقولوا إنه ليس من الله"؛ امَّا عبارة " مِن أَجْلِ الجَمْعِ المُحيطِ بي " فتشير الى جمع من يهود اورشليم وتلاميذه واهل القرية. ويعلق القديس هيلاريون "لم يكن يسوع بحاجة إلى الصلاة لأحياء لَعازَر، بل من أجل الجمع المُحدق به. صلاته لم تنفعه بل نفعت إيماننا". أمَّا عبارة " لِكَي يُؤمِنوا أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني" فتشير الى هدف الصلاة، وهي ليرى الجَمع العلاقة التي بين يسوع وأبيه السماوي فلا يقولوا "إِنَّ هذا لا يَطرُدُ الشَّياطينَ إِلاَّ بِبَعلَ زَبولَ سيِّدِ الشَّياطين "(متى 12: 24)، بل يؤمنوا بمعجزة إحياء لَعازَر كآية يؤمنوا أنّه مرسل من الآب فيتمجَّد الآب بواسطة ابنه يسوع (يوحنا 11: 40). فكانت هذه المعجزة فاصلة بين رأي الناس فيه انه مرسل من يد الله.

 

43 قالَ هذا ثُمَّ صاحَ بِأَعلى صَوتِه: ((يا لَعازَر، هَلُمَّ فاخرُجْ)).


تشير عبارة "صاحَ بِأَعلى صَوتِه" الى تعامل يسوع باقتدار عظيم وقوة وجلال كما ورد في المزامير " صَوتُ الرَّبِّ بِالقوة صَوتُ الرَّبِّ بِالبَهاء " (مزمور 29: 4)، لكي يسمعوا الجميع وينتبهوا انه هو الذي أقام لعازر.  ويُعلق هيسيخيوس الاورشليمي" حثّ الصّوت لَعازَر على الإسراع، فأصعدته الدّعوة من التّراب وحرّرته بأجنحتها من القيود أمَّا عبارة "يا لَعازَر" فتشير الى مناداة يسوع للميت باسمه كعلامة اهتمامه به شخصيًا ليعود روحه لجسده.  ويعلق ابوليناريوس اللاذقيّ "يدعو يسوع بالاسم صديقه الأحبّ، لكي يكون رمزًا لقيامة أحبّائه الذين سيُدعَون بأسمائهم"؛ أمَّا عبارة هَلُمَّ فاخرُجْ" فتشير الى أمر يسوع موجَّه الى لعازر بالخروج بسلطانه نفسه؛ إنها صرخة فعّالة أعادت الميت الى الحياة فخرج لَعازَر من القبر مع انه كان مشدود اليدين كما تنبا أشعيا النبي عن قوة كلامه " فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه " (أشعيا 55: 11). خرج لَعازَر بأمر يسوع من القبر، ولم يُخرجه باسم أحد بل بسلطانه. ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ " كإله حقّ، أحيَيتَ إنسانًا ميتًا منذ أربعة أيّام من خلال إرادتكَ" (أناشيد الصّباح لسبت لعازر). وإحياء لعازر هي علامة على وعد الله في قيامة جميع الذين ماتوا في المسيح إلى الحياة الأبدية في اليوم الأخير وفقا لقوله " لقد أتت الساعة التي يسمع فيها الأموات صوت ابن الله، ويقومون الى الحياة (يوحنا 5: 25) وكان لَعازَر من السامعين. وكانت ساعة مجد ليسوع، التي أكّدت ما أعلنه " انا القيامة والحياة". هذا هو إيماننا وهذا هو رجاؤنا، كما جاء في تعليم بولس الرسول" فإِذا كانَ الرُّوحُ الَّذي أَقامَ يسوعَ مِن بَينِ الأَمواتِ حالاًّ فيكُم، فالَّذي أَقامَ يسوعَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات يُحْيي أَيضًا أَجسادَكُمُ الفانِيةَ بِرُوحِه الحالِّ فيكُم" (رومة8: 11).  دلّ بكاء يسوع على ناسوته ومعجزته في إحياء لعازر دلت على لاهوته.

44 فخرَجَ المَيتُ مَشدودَ اليَدَينِ والرِّجلَينِ بالعَصائِب، مَلفوفَ الوَجهِ في مِنْديل. فقالَ لَهم يسوع: ((حُلُّوهُ ودَعوهُ يَذهَب)).


تشير عبارة "خرَجَ المَيتُ مَشدودَ اليَدَينِ والرِّجلَينِ بالعَصائِب" الى خروج لعازر مربوطًا مما يبدو أنه ليس بأقل عجبًا من قيامته؛ ويذكِّرنا هذا المشهد ما جاء في نبوءة حزقيال النبي " هاءَنَذا أَفتَحُ قُبورَكم وأُصعِدكم مِنْ قُبورِكم يا شَعْبي، ... فتَعلَمونَ أَنِّي أَنا الرَّبَّ تكَلَّمتُ وصَنَعتُ، يَقولُ الرَّبّ " (حزقيال 37: 12)؛ أمَّا عبارة "العَصائِب " فتشير الى ما يٌعصب به كالمنديل والكفن المصنوع من كتّان غير مشدودة على الجسم، وغايتها ان تحفظ اطياب التحنيط على جسده. كان الكلام عن قيامة عازر مقتضب، لكن يفوق في قوته رؤيا حزقيال حول العظام اليابسة، قالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ لِهذه العِظام: هاءَنَذا أُدخِل فيكِ روحًا فتَحيَين" (حزقيال 37: 1-10). يرى القديس أوغسطينوس "أن هذه الأعمال تحمل معانٍ تمسّ خلاصنا. فإن كان قد أقام هذه الأجساد إنما ليوحي قيامة نفوسنا".  أمَّا عبارة "مَلفوفَ الوَجهِ في مِنْديل" فتشير الى وضع منديل على رأس الميت حيث يُلَف الوجه كعادة اليهود في تدبير الموتى كما حدث مع السيد المسيح بعد موته (يوحنا 20: 7)؛ أمَّا عبارة " حُلُّوهُ ودَعوهُ يَذهَب" فيشير الى طلب يسوع من الحاضرين ان يلمسوا جسد لَعازَر ويقتربوا منه ويتعرفون على حقيقته: أنه هو ذاك الميت فعاش. ويُعلق القديس أوغسطينوس" إن إقامة لَعازَر من بين الأموات ليس موضوع دهشتنا بل هو موضوع فرحنا. فليس من المدهش أن ذاك الذي يخلق بقوته أناسًا يأتي بهم إلى العالم أن يقيم ميتًا، لكنه أمر مفرح أنه يهبنا القيامة ويمتعنا بالخلاص". وقد حدثت هذه المعجزة قبل الأسبوع الأخير من حياة يسوع على الأرض في يوم السبت السابق لدخوله أورشليم ولذا دُعي سبت عازر بحسب التقليد. ويُعلق القدّيس يوحنّا الدمشقيّ "قَمتَ لعازر الذي مات منذ أربعة أيّام؛ أخرجتَه من القبر كشاهدٍ حقّ على قيامتك في اليوم الثالث" (أناشيد الصّباح لسبت لعازر).  كشفت قيامة لعازر من بين الأموات عن حقيقة القيامة، أنها ليست خيالاً أو وهمًا يراود الإنسانية، بل هي حقيقة مؤكدة كشف عنها لعازر بعودته بعد أربعة أيام من الموت، وكشفت عن يسوع انه القيامة والحياة.  أحيا يسوع لعازر من الموت لا ليخفف حزنه او حزن مريم ومرثا، إنما اراد يسوع ان يزيد إيمان رسله وأتباعه ليثبت لهم، في الواقع، انه "الطريق والحق والحياة". لنسأل أنفسنا هل يسوع هو الطريق لحياتنا؟ هل هو الحق الذي يرشدنا الى "الحياة".  

 

45 فآمَنَ بِه كثيرٌ مِنَ اليَهودِ الذينَ جاؤوا إِلى مَريَم ورَأَوا ما صَنَع.

 

تشير عبارة "فآمَنَ بِه كثيرٌ مِنَ اليَهودِ " الى رد فعل إيمانية عند فئة من اليهود، فهؤلاء سمعوا صوت المسيح وآمنوا فصارت لهم حياة كما صلى يسوع " لِكَي يُؤمِنوا أَنَّكَ أَنتَ أَرسَلتَني " (يوحنا 11: 42).  ويليق بنا أن نقول مع والد الصبي المصاب بالصرع: " آمنتُ، فشَدِّدْ إِيمانيَ الضَّعيف!" (مرقس 24:9). فنحن بحاجة ان نقول مثل الرسل "يا رب زِدْنا إِيماناً (لوقا 17: 5). ولكن هناك رد فعل معاكس من فئة أخرى من الاحبار والفريسيين الذين رفضوا الايمان ورفضوا شهود العيان، لان إحياء لَعازَر معناها ضياع هيبتهم وتهديد لنفوذهم الديني والاستقرار السياسي في البلاد، لأنه يأتي بآيات كثيرة ويخشون حركة مسيحانية تجلب نقمة الرومان (يوحنا 19: 12)، فتأمرا على قتله. وهكذا إن قيامة لعازر وضعت فاصلا بين المؤمن وغير المؤمن، وأضحت نقطة تحول هامة في منعطف الطريق.  اما عبارة " الذينَ جاؤوا إِلى مَريَم ورَأَوا ما صَنَع" الى ذكر هؤلاء الذين جاءوا الى مريم وبقوا معها دون ان يذكر يوحنا اسم مرتا، لان مريم كانت علة مجيئهم الى القبر ومشاهدتهم المعجزة.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (يوحنا 11: 1-45)، نستنتج انه يتمحور حول معجزة إحياء لَعازَر، الذي انتقل عازر من المرض (يوحنا 11: 1) الى الموت (يوحنا 11: 15) الى الحياة بفضل سلطان سيدنا يسوع المسيح وقوته الإلهية (يوحنا 11: 44). ومن هنا نطرح ثلاثة أسئلة: ما هو مفهوم المرض والموت وكيف ننتقل من الموت الى الحياة؟

 

1) ما هو مفهوم المرض في الكتاب المقدس؟ (يوحنا 11: 5-9)

 

وقع حدث إحياء عازر في عيد التجديد (يوحنا 10: 22) الواقع في أيام الشتاء حيث كان يُحتفل بتذكار تطهير الهيكل الذي دنّسه انطيوخس ابيفانوس (1 مكابين 4: 36-59، 2 مكابين 2: 16: 16-19). وفي جو هذا العيد أحاط رؤساء اليهود بيسوع واحرجوه ليكشف عن نفسه، إذا كان هو المسيح! (يوحنا 10: 24). وعلى أثر جوابه الذي عُدَّ تجديفاً، رأى يسوع نفسه مُجبرا على الانسحاب من اليهودية، والرجوع الى عِبْرِ الأُردُنّ (يوحنا 10: 25-42) وهناك بلَّغوه مرض لعازر الذي كانَ يسوعُ يُحِبُّه (يوحنا 11: 6-7).

 

المرض هو ليس مشكلة لعازر فحسب، إنما أيضا مشكلة البشر في كل وقت وفي ك لمكان؛ والمرض هو قبل كل شيء حالة ضعف وهزال كما وصفه صاحب المزامير "يَخفِقُ قَلْبي وقوّتي تفارِقُني وحتَّى نُور عَينَيَّ لم يَبقَ معي" (مزمور 38: 11). وقد ترك الكتاب المقدس الناحية العلمية للمشكلة، وتمسك فقط بالمعنى الديني للمرض، فالمرض يُظهر مسبقاً سلطان الموت على الإنسان " فيكُم كَثيرٌ مِنَ الضُّعَفاءِ والمَرْضى وكَثيرٌ مِنكُم ماتوا " (1 قورنتس 11: 30).

 

وخلق الله الإنسان للسعادة (تكوين 2) فمن اين جاء المرض؟ لم يدخل المرض العالم إلا كنتيجة للخطيئة (تكوين 3: 16-19). فهو إحدى علامات غضب الله على العالم الخاطئ (خروج9: 1-12) وعلى شعب الله الخائن (تثنية 28: 21-22). لذا يكون طلب الشفاء في مزامير التضرّع مصحوباً دائماً بإقرار بالخطايا "يا رَبِّ مِن غَضَبِكَ لا صِحَّةَ في جَسَدي ومِن خَطيئَتي لا سَلامَة في عِظامي" (مزمور 38: 4). ويربط شعور الإنسان الديني بين المرض والخطيئة. وقد يرى يسوع المسيح في المرض شراً يعانيه البشر، كنتيجة للخطيئة، ودليلاً على تسلّط الشيطان عليهم كما صرّح في شفاء المرأة المنحنية: "هذِه ابنَةُ إِبراهيمَ قد رَبطَها الشَّيطانُ مُنذُ ثَمانيَ عَشرَةَ سَنَة؟ (لوقا 13: 16).

 

ولكن عندما يُصيب المرض أبراراً، على مثال أيوب وطوبيا، فيمكن أن يعتبر المرض امتحان من قبل العناية الإلهية، هدفها إظهار أمانتهم كما أعلن الملاك رافائيل (רפאל ومعناه "الله يشفي) لطوبيا: "وحينَما لم تَتَوانَ في القِيامِ وتَرْكِ المائِدةِ والذَّهابِ لِدَفْنِ المَيْت، أُرسِلْتُ حينَئِذٍ اليكَ لِأَمتَحِنَكَ" (طوبيا 12: 13). أمَّا في حالة " المسيح"، وهو البار المتألم، يأخذ المرض قيمة تكفيرية عن معاصي الخطأة "لقَد حَمَلَ هو آلاَمَنا وآحتَمَلَ أَوجاعَنا فحَسِبْناه مُصاباً مَضْروباً مِنَ اللهِ ومُذَلَّلاً" (أشعيا 53: 4).

 

وفي حالة عازر، فإن المرض كان طريقا الى موته، فحياته ليست في نهاية الأمر سوى صراع ضد قوى الموت. وموته كان طريقا لإظهار مجد الله الآب في المسيح يسوع الذي أخرجه من القبر وأقامه حيا. ويُظهر الشفاء قدرة المسيح (لوقا 6: 19)، ألم يصرّح يسوع لدى سماعه عن مرض عازر: "هذا المَرَضُ لا يَؤُولُ إِلى المَوت، بل إِلى مَجْدِ الله، لِيُمَجَّدَ بِه ابنُ الله" (يوحنا 11: 4) ويُظهر الشفاء أيضا المرض انتصار يسوع على الشيطان وظهور القوة الإلهية التي تهزمه وإقامة ملكوت الله (متى 11: 5). ولهذا، فأمام كل المرضى الذين يولونه ثقتهم (مرقس 1: 40)، او من يطلبون الشفاء للمرضى على مثال مريم ومرتا لا يطلب يسوع إلا شرطاً واحداً: أن يؤمنوا، لأن كل شيء ممكن بالإيمان (متى 9: 28)، وهذا الإيمان يقتضي الإيمان بملكوت الله. وهذا هو الإيمان الذي يخلصهم (متى 9: 22). الم يقل يسوع المسيح لمرتا " أَتُؤمِنينَ بِهذا؟ (يوحنا 11: 26). ومن هذا المنطلق، فان معجزات الشفاء تُعبّر مسبقاً عن حالة الكمال التي ستعود إليها الإنسانيّة أخيراً في ملكوت الله.

 

2) ما هو مفهوم الموت في الكتاب المقدس؟ (يوحنا 11: 10-33)

 

الموت جزء من واقع الحياة، فهو علامة توقف وجود الإنسان في الظروف الجسدية. وبمفهوم يسوع ينقسم الموت الى ما يصيب الجسد فقط دون النفس والى ما يصيبهما معا "لا تَخافوا الَّذينَ يَقتُلونَ الجَسد ولا يَستَطيعونَ قَتلَ النَّفْس، بل خافوا الَّذي يَقدِرُ على أَن يُهلِكَ النَّفْسَ والجَسدَ جَميعاً في جَهنَّم" (متى 10: 28).  لذلك تدعى حالة الاستلام للخطيئة موتا "أَنتُم، وقَد كُنتُم أَمواتًا بِزَلاَّتِكم وخَطاياكُمُ" (أفسس 2: 1) ويدعى أيضا هلاك النفس موتا "فاعلَموا أَنَّ مَن رَدَّ خاطِئًا عن طريقِ ضلالِه خَلَّصَ نَفْسَه مِنَ المَوت وسَتَرَ كَثيرًا مِنَ الخَطايا"(يعقوب 5: 20).

 

وتروي معجزة إحياء لعازر خبرات مريم ومرتا ويسوع في الموت. وتبدأ بمواجهة خبرة موت عازر، موت اخ مريم ومرتا، موت صديق ليسوع. إن لَعازَر الميت " لم يعد له وجود بعد" (مزمور 39: 15). وما يجري بعد الموت يُخفى عن أعين الأحياء، حيث انه عندما يُوضع الجسد في حفرة تحت الأرض، يظل شيء ما من المتوفى، وهو القبر بمثابة أثر له باق على شكل حفرة فاغرة، وكأنه موضع صمت كما يقول صاحب المزامير " لَيسَ الأَمْواتُ يُسَبِّحونَ الرَّبّ ولا جَميعُ الهابِطينَ إلى الصَّمت " (مزمور 115: 17)، وموضع ظلمات ونسيان كما يصرّح صاحب المزامير "أَفي القبر ِيُحَدَّثُ بِرَحمَتِكَ وفي الهاوِيَةِ بِأَمانَتِكَ؟ أَفي الظُّلمَةِ نُعرَفُ عَجائِبُكَ وفي أَرضِ النِّسْيانِ بِرّكَ؟ (مزمور 88: 12-13)، يُسلم الإنسان إلى التراب (أيوب 17: 16)، والى الدود (أشعيا 14: 11،)، بحيث لم يعد وجوده إلا سبات بحيث يتوسل صاحب المزامير من الله ان ينقذه منه " أُنظُرْ واْستَجِبْ لي أَيُّها الرَّبّ إِلهي وأَنِرْ عَيَنيَّ لِئَلاَّ أَنامَ نَومةَ المَوت" (مزمور 13: 4).

 

وحتمية الموت هو واقع مشترك لجميع الناس كما صرّح الملك داود يوم وفاته "أَنا ذاهِبٌ في طَريقِ أَهلِ الأَرضَ كُلِّهم" (1 ملوك 2: 2). فيُشكل الموت نهاية لحياة كل انسان، لان الإنسان من التراب وإليه يعود كما قال الرب لآدم بعد خطيئته "لأَنَّكَ تُرابٌ وإِلى التُّرابِ تعود "(تكوين 3: 19). ولكن لا يُمكن حصر الموت في مجرد ظاهرة طبيعية، خالية من المعنى. وفي الواقع، لم يصدر حكم الموت ضد البشر، إلا بعد خطيئة آدم، أبينا الأول "وأَمَّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرّ فلا تَأكُلْ مِنها، فإنَّكَ يَومَ تأكُلُ مِنها تَموتُ مَوتًا " (تكوين 2: 17)، فلقد خلق الإنسان، لعدم الفساد، والموت كما نختبره لم يدخل العالم إلا بحسد إبليس (حكمة 2: 23-24). فيحمل إذاً الموت سلطانه علينا قيمة الرمز: إنه يُعلن واقع الخطيئة في الحياة الدنيا.

 

ومع بداية التاريخ البشري بمعصية الإنسان دخلت الخطيئة العالم، وبالخطيئة دخل الموت كما جاء في تعليم بولس الرسول " فكَما أَنَّ الخَطيئَةَ دَخَلَت في العالَمِ عَن يَدِ إِنسانٍ واحِد، وبِالخَطيئَةِ دَخَلَ المَوت، وهكذا سَرى المَوتُ إِلى جَميعِ النَّاسِ لأَنَّهُم جَميعاً خَطِئوا" (رومة 5: 12). فالخطيئة هي " شَوكَةَ المَوتِ " (1 قورنتس 15: 56)، لأن الموت هو ثمرتها وعاقبتها وأجرتها (رومة 6: 16)؛ ومنذ ذلك الحين، يموت الجميع في آدم (رومة 15: 22)، حتى إن الموت ساد على العالم (رومة 5: 14). فهناك رباط بين الخطيئة والموت. فالخطيئة شر، لا لأنها تناقض طبيعتنا وتخالف الإرادة الإلهية فحسب، وانما ايضا لأنها تشكل طريقاً إلى الموت. كما جاء في تعليم الحكماء " ومَنِ اتَبعً الشَرّ فلِمَوته" (أمثاله11: 19)، وعليه، فالموت، بالنسبة إلى الخطأة، لا يشكّل قدراً طبيعياً، إنه حرمان من أعز خير منحه الله للإنسان، ألا وهو الحياة. وبالتالي فهو يتخذ طابع اللعنة.

 

وليس بمقدرة الإنسان أن يُخلَص نفسه من الموت. إذ تلزمه لذلك نعمة الله الذي هو وحده الحي بحكم طبيعته. وحتى مجيء المسيح كان الموت سائداً على العالم. ولمَّا جاء يسوع على أرضنا وانتصر بموته على الموت، تغيَّر معنى الموت منذ تلك اللحظة بالنسبة للبشرية المُتجدَدة التي تموت مع المسيح لتحيا معه إلى الأبد. فأصبح الموت باب للحياة الأبدية.  ألم يقل السيد المسيح الى مرتا "أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا" وكُلُّ مَن يَحْيا ويُؤمِنُ بي لن يَموتَ أَبَداً" (يوحنا 11: 25-26).

 

ونستنتج نما سبق ان الموت هو جزء من واقع الحياة، وعلامة توقف وجود الإنسان في الظروف الجسدية. وبالتالي فهو يضع حداً لجهده في السعي في الزمن نحو الكمال. وأمَّا فيما يتعلق بالمؤمن فزمن الموت هو زمن الاتحاد الكامل مع الله. فينبغي على كل إنسان أن يكون مستعداً لمواجهة الموت، ما دام هو أيضاً "سيرى الموت" كما يصرح صاحب المزامير " أَيُّ إِنْسانٍ يَحْيا ولا يَرى الممات؟ (مزمور 89: 49). ومن هنا نتساءل كيف ننتقل من الموت الى الحياة؟

 

3) كيف ننتقل من الموت الى الحياة؟

 

كانت مرثا تؤمن بالقيامة في اليوم الأخير، ولكن المسيح أعطاها برهان واضح في قيامة أخيها من بين الأموات؛ وأثبت يسوع نفسه لتلاميذه والشعب انه هو "القيامة والحياة "من خلال إحياء لَعازَر. فمنذ حياة يسوع على الأرض ظهرت علامات انتصار يسوع على الموت، فقد أعاد الحياة الى لَعازَر (يوحنا 11: 10-33) واقام آخرين من الموت: ابنة يائيرس (متى 9: 18-26)، ابن ارملة نائين (لوقا 7: 11-17). وفي ملكوت الله الذي أنشأه، كان الموت يتقهقر أمام من المسيح الذي هو كان " القيامة والحياة " (يوحنا 11: 25). فعودة لَعازَر الى الحياة تؤيد ما قاله يسوع " انا القيامة والحياة". ويعلق علاَّمة القديس بطرس خريزولوغُس " لقد سمح سيدنا يسوع المسيح بأن يذوق لَعازَر طعم الموت لأنّه أراد أن يقيم الميت فيظهر مجد المسيح؛ ولقد سمح بأن ينزل صديقه إلى مثوى الأموات حتّى يظهر الله، ويعيد الإنسان من الجحيم".

 

وأخيراً واجهه يسوع الموت التي كانت البشرية غارقة في ظلاله " فقَد ظَهَرَ لِلمُقِيمينَ في الظُّلمَةِ وَظِلالِ الـمَوت لِيُسَدِّدَ خُطانا لِسَبيلِ السَّلام (لوقا 1: 79)، إذ إتّخذ طبيعتنا المُعرَّضة للموت. وارتعشت نفسه أمام قبر لَعازَر (يوحنا 11: 33 و38)، واضطرب أمام الموت كما أعلن في صلاته "لآنَ نَفْسي مُضطَرِبة، فماذا أَقول؟ يا أَبَتِ نَجِّني مِن تِلكَ السَّاعة. وما أَتَيتُ إِلَّا لِتلكَ السَّاعة" (يوحنا 12: 27)، وقَبِلَ كأس الموت المُرَّة كما صرّح امام تلميذه بطرس " أَفَلا أَشرَبُ الكَأسَ الَّتي ناوَلَني أَبي إِيَّاها" (يوحنا 18: 11) "وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب" (فيلبي 2: 8) لكي يعمل إرادة الأب (مرقس 14: 36)، لأنه كان يجب عليه أن "يُتمِّم " الكتب " (متى 26: 54).  ولذلك فإن اتحاد بموت المسيح ننتقل من الموت الى الحياة، وهذا الامر يتغير معنى الموت وكيف يكون ذلك؟

 

(ا) الإيمان في المسيح:

 

يتغير معنى الموت بالإيمان. إذ به ينتقل الانسان من الموت إلى الحياة " مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة" (يوحنا 5: 24)، ومن يؤمن به فلا يخشى شيئاً، وإن مات فسيحيا "أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا (يوحنا 11: 25). هذا هو ربح الإيمان. إنَّ مَن هو "الحياة" قادر أن يُعيد الحياة ويُحيي الميت. للمسيح القدرة على هبة الحياة لكل مؤمن ويعترف كما اعترفت مرتا اخت لَعازَر "نَعَم، يا ربّ، إِنِّي أَومِنُ بِأَنَّكَ المسيحُ ابنُ اللهِ الآتي إِلى العالَم"(يوحنا 11: 27). أعلنت مرتا إيمانها بالمسيح، وأختها مريم سجدت له قبل إحيائه اخيهما لَعازَر. وهنا يصطدم الإيمان بمأساة الموت.

 

قام لَعازَر من الموت وظل حيًا لعدة سنوات ثم مات. فإذا كان قيامة لعازر ليست خيالاً أو وهمًا يراود الإنسانية، بل هي حقيقة مؤكدة كشف عنها لعازر بعودته بعد أربعة أيام من الموت كم بالأحرى قيامة من يؤمن بالمسيح   القائل" أمّا كُلَّ مَن يؤمَنَ بِالمسيح كانَت له الحياةُ الأَبَدِيَّة ويسوع يُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 6: 40). إن المسيح الذي أحياء لعازر وحده، الذي سيقيم بكلمة واحدة في يوم القيامة جميع الموتى حين يسمع جميع الذين في القبور صوته فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين فعلوا السيئات إلى قيامة الدينونة! كما تنبأ يسوع " لا تَعجَبوا مِن هذا فتَأتي ساعةٌ فيها يَسمَعُ صوتَه جَميعُ الَّذينَ في القُبور فيَخُرجونَ مِنها أَمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات فيَقومون لِلحيَاة وأَمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات فيقومونَ للقضاء" (يوحنا 5: 28 -29).

 

 وتابع يوحنا الإنجيلي "يسوعَ هو المسيحُ ابنُ الله، ولِتَكونَ لَكم إِذا آمَنتُمُ الحياةُ بِاسمِه" (يوحنا 20: 31). والإيمان بالمسيح يعطي حياة وإنجيل يوحنا يقدم لنا هذه الحياة الآن بشرط الإيمان " مَن سَمِعَ كَلامي وآمَنَ بِمَن أَرسَلَني فلَه الحَياةَ الأَبَدِيَّة ولا يَمثُلُ لَدى القَضاء بلِ انتَقَلَ مِنَ المَوتِ إِلى الحَياة.  الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: تَأتي ساعةٌ -وقد حَضَرَتِ الآن -فيها يَسمَعُ الأَمواتُ صَوتَ ابنِ الله والَّذينَ يَسمعَونَه يَحيَوْن " (يوحنا 24:5-25). ويسوع هو الذي سيعطي القيامة في اليوم الأخير (يوحنا 28:5-29). الايمان هو الثقة بالرب والتعاون معه للخروج من قبورنا وإخراج الآخرين من قبورهم، لتحريرنا وتحريرهم. وهناك شرط آخر لنوال الحياة يقدمه إنجيل يوحنا وهو التناول من جسد الرب ودمه " مَن أَكل جَسَدي وشرِبَ دَمي فلَه الحَياةُ الأَبدِيَّة وأَنا أُقيمُه في اليَومِ الأَخير" (يوحنا 54:6).


في حين أن الذي لا يؤمن سوف يموت في خطاياه " فإذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم (يوحنا 8: 24). وهكذا تتكرر مأساة الإنسانية في صراعها مع الموت، في حياة كل واحدٍ منا، وترتبط خاتمتها بالنسبة إلينا بموقفنا إزاء المسيح والإنجيل: إمَّا الحياة الأبدية لمن يحفظ كلام الرب حيث لا يرى الموت إلى الأبد، وإمَّا أهوال " الموت الثاني للآخرين (رؤيا 2: 11). من يطلب الحياة يلزم عليه الاتحاد بمون المسيح وقيامته.

 

(ب) الاتحاد بموت المسيح

 

يأخذ الموت الجسدي بالاتحاد بموت المسيح معنىً جديداً. لم يُعد فقط قدراً حتمياً نستسلم له أو قضاء إلهياً نقبله أو حكماً تستوجبه الخطيئة، إنما "يموت المسيحي من أجل الرب"، كما أنه كان يحيا من أجله "فما مِن أَحَدٍ مِنَّا يَحْيا لِنَفْسِه وما مِن أَحدٍ يَموتُ لِنَفْسِه، فإِذا حَيِينا فلِلرَّبِّ نَحْيا، وإِذا مُتْنا فلِلرَّبِّ نَموت: سَواءٌ حَيِينا أَم مُتْنا فإِنَّنا لِلرَّبّ. (رومة 14: 7-8) وإذا مات شهيداً من أجل المسيح، فإنّ موته يشكل إراقة تتخذ قمة الذبيحة في نظر الله كما أعلن يولس الرسول لأهل فليبي "فلَوِ اقتَضى الأَمْرُ أَن يُراقَ دَمي ذَبيحَةً مُقَرَّبَةً في سَبيلِ إِيمانِكم، لَفَرِحتُ وشارَكتُكمُ الفَرَحَ جَميعًا (فيلبي 2: 17). إن هذا الموت الذي به "يمجّد الله" (يوحنا 21: 19) يستحق له إكليل الحياة (رؤيا 2: 10).

 

وبعد أن كان الموت مصيراً مُقلقاً، أضحى إذاً موضوع تطويب " طوبى مُنذُ الآنَ لِلأَمْواتِ الَّذينَ يَموتونَ في الرَّبّ! فلْيَستَريحوا مِن جُهودِهم، لأَنَّ أَعْمالَهم تَتبَعُهم " (رؤيا 14: 13). إن موت الأبرار هو دخول في السلام (حكمة 3: 3)، في الراحة الأبدية، وفي النور الذي لا نهاية له. إن أمل الخلود والقيامة الذي كنا نستشفه في العهد القديم قد وُجد في سر المسيح أساسه الثابت، فالاتحاد بموته ليس فقط يجعلنا نعيش حالياً حياة جديدة، ولكنه يمنحنا أيضاً الضمان أن " الَّذي أَقامَ يسوعَ المسيحَ مِن بَينِ الأَموات يُحْيي أَيضًا أَجسادَكُمُ الفانِيةَ بِرُوحِه الحالِّ فيكُم" (رومة 8: 11). فحينئذٍ بالقيامة سندخل في عالم جديد حيث " لِلمَوتِ لن يَبْقى وُجودٌ" (رؤيا 21: 4)، ولن يرى المختارون القائمون مع المسيح "الموت الثاني" (رؤيا 20: 6) بل سيكون نصيب المَرذولين وإبليس والموت والجحيم (رؤيا 21: 8،).

 

ونستنتج مما سبق، ان الموت في نهاية الأمر، رِبْحٌ للمؤمن ما دام المسيح هو حياته كما صرّح بولس الرسول " فالحَياةُ عِندي هي المسيح، والمَوتُ رِبْح" (فيلبي 1: 21). إن وضع المؤمن الحاضر الذي يقيَده بجسده الفاني يسبب له إرهاقاً، فهو يؤثر هجره لكي يقيم في جوار الرب (2 قورنتس 5: 8)، إنه يتعجل ارتداء لباس المجد المُعد للقائمين، حتى تبتلع الحياة ما هو زائل فينا (2 قورنتس 5: 1-4). إنه يرغب في أن ينطلق ليكون مع المسيح (فيلبي 1: 23).  ويختم صاحب المزامير بصلاة الرجاء الكبرى في القيامة " آمَنتُ، سأُعايِنُ صَلاحَ الرَّبِّ في أَرضِ الأَحْياء أُرجُ الرَّبَّ وتَشَدَّدْ ولْيَتَشَجَّعْ قَلبُكَ واْرجُ الرَّبّ " (مزمور 27: 13-14).

 

الخلاصة


تضع الكنيسة معجزة قيامة لَعازَر في بداية أسبوع الآلام الذي سينتهي بقيامة الرب يسوع المسيح، فهي تظهر أن القيامة في سلطان المسيح، وان يسوع هو الإنسان الحق الذي بكى لَعازَر، صديقه الميت، وهو الاله الحق الذي بعَثَ لَعازَر من القبر حيّاً. ويُعلق القديس أوغسطينوس "يُجري الرب هنا واحدة من أعظم معجزاته، فكونه الخالق، ها هو يقيم الآن خليقته".  فهو الله ظهر في الجسد "قد أُظهِرَ في الجَسَد وأُعلِنَ بارّاً في الرُّوح وتَراءَى لِلمَلائِكَة وبُشِّرَ به عِندَ الوَثَنِيِّين وأُومِنَ بِه في العالَم ورُفِعَ في المَجْد "(طيموتاوس 16:3).

 

ومعجزة أحياء لعازر هي أعظم معجزات يسوع ما عدا قيامته، وهي معجزة لا شك فيها ولا مجال لإنكارها، لأنها كانت امام شهود كثيرين من أصحابه واعدائه. ومن المسلم فيه ان لا قوة طبيعية او بشرية تستطيع ان تجعل الميت يسمع الصوت ويقوم من الموت ويخرج من القبر. والمسيح وحده أقام الموتى ثلاث مرات مبينا سلطانه على الموت بصورة تصاعدية: حيث ان أول ميت هو إقامة أبنة يائيرس على أثر خروج روحها (مرقس 5: 35)39)، والثاني ابن ارملة نائين والناس يحملونه الى القبر (لوقا 7: 12))، والثالث لعازر واقامته بعد دفنه بأربعة أيام.

  

وقيامة لَعازَر تؤكد سلطة يسوع على الموت، وانه "القيامة والحياة "، فهو قادر أن يُقيم الّذين قد ماتوا في المسيح إلى الحياة الأبديّة في اليوم الأخير (يوحنا 5: 21-29).  فمن يؤمن به ينتقل من الموت الى الحياة.  وإحياء لعازر هي رمز الى عمل يأتيه السميح أعظم من إقامة الأجساد وهو أحياء النفوس المائتة بالخطيئة ووهبها الحياة الأبدية. هذا هي محبة الله لنا بالمسيح يسوع ربّنا. فهو الحي الذي وإن مات سيقوم ويُقيمنا معه. وما صلاتنا في قانون الايمان الا إقرار لإيماننا بالإله الآب والابن والروح القدس وقيامة الموتى في اليوم الآخر وفي الحياة الأبديّة. هذا هو إيماننا ورجاؤنا.

 

دعاء
 

أيها الآب السماوي، نسألك باسم ابنك يسوع المسيح الذي احيا لعازر من القبر ان ندرك ان لا مفر من الموت فننعم علينا ان نؤمن بانه " القيامة والحياة " فنقوم ونحيا معه في الحياة الأبدية. آمين!

 

قصة: مفهوم العزاء المسيحي

 

وقف كاهن يصلي أمام جثمان شاب راحل وهو يطلب العزاء للمحزونين قائلاً: "إننا نستودع حبيبنا بين يديك أيها الرب، وديعة منا لديك إلى يوم القيامة، إذ سوف نراه كما هو، وبعد أن وُري الجثمان في القبر جاء أخو المتوفي باكيًا وهو يقول: "هل حقاً سنتقابل معًا وهل أعرفه ويعرفني، فهذا آخر أمل لي".

 

وابتسم الكاهن واضعا يده على كتف الشقيق الحزين وقال: "أي سعادة لنا في هذه الحياة لو تبخر من قلوبنا هذا الأمل، وتسرب إلينا الشك في يوم اللقاء! إن الحياة الثانية ليست منفصلة عن هذه الحياة كما يظن الكثيرون، بل إنها في الحقيقة بداية الآمال التي يتعلق بها كل مؤمن يثق في وعود المسيح الصادقة. أم يقل الى مرتا اخت لعازر" أَنا القِيامةُ والحَياة مَن آمَنَ بي، وَإن ماتَ، فسَيَحْيا" (يوحنا 11: 25)؟