موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

يسوع الملك والدينونة العظمى

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الرابع والثلاثون من السنة (متى 25: 31-46)

الاحد الرابع والثلاثون من السنة (متى 25: 31-46)

 

النص الإنجيلي (متى 25: 31-46)

 

31 ((وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، 32 وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء. 33 فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه. 34 ثُمَّ يَقولُ الملِكُ لِلَّذينَ عن يَمينِه: ((تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم: 35 لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني، 36 وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ)). 37 فيُجيبُه الأَبرار: ((يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ 38 ومتى رأَيناكَ غريباً فآويناك أَو عُرياناً فكَسَوناك؟ 39 ومتى رَأَيناكَ مريضاً أَو سَجيناً فجِئنا إِلَيكَ؟ )) 40 فيُجيبُهُمُ المَلِك: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه )). 41 ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: ((إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه: 42 لأِنِّي جُعتُ فَما أَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيتُموني، 43 وكُنتُ غَريباً فما آوَيتُموني، وعُرياناً فما كَسوتُموني، ومَريضاً وسَجيناً فما زُرتُموني)). 44 فيُجيبُه هؤلاءِ أَيضاً: ((يا رَبّ، متى رَأَيناكَ جائعاً أَو عَطشان، غَريباً أَو عُرياناً، مريضاً أَو سجيناً، وما أَسعَفْناك؟)) 45 فيُجيبُهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه)). 46 فيَذهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إِلى الحَياةِ الأَبدِيَّة)).

 

المقدمة

 

يصف متى الانجيلي (25: 31-46) يسوع ملكاً الذي يأتي في مجده في آخر الأزمنة لإدانة جميع شعوب الارض (يوحنا 5: 22)، ويجازيها خاصة على أعمال الرحمة التي مارسوها والتي لم يُمارسوها تجاه المحتاجين اليها.  العالم بحاجة إلى المسيح الإنساني، المسيح الفقير، المسيح المتألم، المسيح المُشرّد المسيح، المسيح المصلوب، ان المسيح الملك يقابلنا في كل هؤلاء.  ويعلق بيّوس الحادي عشر " إن اعترف البشر بالسلطة الملكيّة للرّب يسوع المسيح في حياتهم الخاصة وفي حياتهم العامّة، فإنّ بركات عظيمة، كالحرّية العادلة والهدوء والطمأنينة والوفاق والسّلام، ستنتشر بشكل مؤكَّد في المجتمع بأكمله" (الرّسالة العامّة: في البَدءِ (Quas Primas)، سنة 1925) وننال رضاه في الحياة الآخرة. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي: (25: 31-46)

 

31 وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه،

 

تشير عبارة " ابنُ الإِنسانِ" الى إحدى الألقاب المُميَّزة للسيد المسيح، حيث فضَّلته الجماعة المسيحية الأولى على سائر الألقاب التي أطلقتها عليه (متى 8: 20 و11: 19 و17: 13 و27 24: 30). وسُمِّي يسوع بذلك بيانا لاتحاد لاهوته بناسوته، وتكرّر هذا اللقب خمسين مرة في الإنجيل.  ويُعزي بعض المفسّرين هذا اللقب الى ما ورد في حزقيال النبي "يا ابنَ الإِنسان " (حزقيال 2: 1)؛ لكن أكثرهم يردّونه الى التقليد الرؤيوي " كنتُ أَنظر في رُؤيايَ لَيلاً فإِذا بِمِثلِ آبنِ إِنسان آتٍ على غَمامِ السَّماء فبَلَغَ إِلى قَديمِ الأَيَّام وقُرِّبَ إِلى أَمامِه"(دانيال 7: 13)، وفي هذا التقليد سيأتي ابن الانسان في اليوم الأخير ليدين الخاطئين ويُخلّص الأبرار.  فالمسيح حين يأتي ليدين العالم لا يأتي بمجرد لاهوته بل بطبيعته " لِأَنَّ الآبَ لا يَدينُ أحَداً بل أَولى القَضاءَ كُلَّه لِلاِبْن"(يوجنا 5: 22). أمَّا عبارة " في مَجْدِه " فتشير الى بهائه باعتباره ابن الله كما جاء في صلاة يسوع الكهنوتية "فمَجِّدْني الآنَ عِندَكَ يا أَبتِ بِما كانَ لي مِنَ المَجدِ عِندَكَ قَبلَ أَن يَكونَ العالَم" (يوحنا 17: 5). وتشير العبارة أيضا الى شرفه الذي أعطاه الآب إياه جزاءً لاتضاعه بتجسده وموته فاديا " فَوضَعَ نَفْسَه وأَطاعَ حَتَّى المَوت مَوتِ الصَّليب.  لِذلِك رَفَعَه اللهُ إِلى العُلى ووَهَبَ لَه الاَسمَ الَّذي يَفوقُ جَميعَ الأَسماء "(فيلبي 2: 8-9). أمَّا عبارة "جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه" فتشير الى اقتباس هذه الآية أيضا من سفر زكريا " ويأتي الرَّبُّ إِلهي وجَميعُ القِديسينَ معَه (زكريا 5: 14)، وهي وصف نبوي للدينونة الأخيرة " فسَوفَ يَأتي ابنُ الإِنسانِ في مَجدِ أَبيهِ ومعَه مَلائكتُه، فيُجازي يَومَئِذٍ كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه"(متى 16: 27)؛ ويُعلّق القديس أوغسطينوس "إن الابن المتجسّد هو الذي يدين، حتى لا يرى الأشرار أمجاد اللاهوت، إنّما تقف نظرتهم عند حدود الجسد الذي يظهر مُرهبًا لهم. يظهر بشكل عبد للعبيد، ويحفظ شكل الله للأبناء". أمَّا عبارة " جَميعُ الملائِكة" فتشير الى إضافة من قبل متى الانجيلي لإيضاح موقف الملائكة تجاه ابن الانسان، خاصة في مجده لدى مجيئه الثاني يوم الدينونة (آية 31) حيث يواكبونه في اليوم الأخير كما صرَّح بولس الرسول: "لأَنَّ الرَّبَّ نَفْسَه، عِندَ إِعْلانِ الأَمْر، عِندَ انطِلاقِ صَوتِ رَئيسِ المَلائِكة والنَّفْخِ في بُوقِ الله، سيَنزِلُ مِنَ السَّماء" (1 تسالونيقي 4: 16). أمَّا عبارة " يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه " فتشير الى ابن الانسان كملك ديّان في نهاية الأزمنة وملكا (يوحنا 5: 22)؛ وهو الذي يأتي من السماء ليدين الارض كلها، لا الشعب المختار وحده كما صرّح يسوع امام مجلس اليهود "سَوفَ تَرونَ ابنَ الإنسانِ جالِساً عن يَمينِ القَدير، وآتِياً في غَمامِ السَّماء "(مرقس 14: 62). وفي موضع آخر يضيف يسوع "أَنتُم الَّذينَ تَبِعوني، متى جلَسَ ابنُ الإِنسانِ على عَرشِ مَجدِه عِندما يُجَدَّدُ كُلُّ شَيء، تَجلِسونَ أَنتم أَيضاً على اثنَي عَشَرَ عَرْشاً، لِتَدينوا أَسباطَ إِسرائيلَ الاثَنيْ عَشَر" (متى 19: 28). فما أعظم الفرق بين حاله على عرش مجده وحاله عندما كان طفلا في مذود بيت لحم "لم يَكُنْ لَهُما (يوسف ومريم) مَوضِعٌ في الـمَضافة"(لوقا 2: 7)، وعندما كان يتجول في انجيل "َلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه"(متى 8: 20)، وحين تركه تلاميذه واحاط به اعداؤه وهم يسخرون منه (متى 27: 29)، وحين وقف كمذنب امام بيلاطس (متى 27: 22) وحين جُلد ووضعه الجنود اكليل من الشوك على راسه (يوحنا 19: 1-2)، وأخيرا حين صُلب بين لصين (يوحنا 19: 18).  

 

32 وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء

 

تشير عبارة "تُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم" الى يسوع الدياَّن الذي هو الملك والراعي الذي يجمع شعبه للدينونة (حزقيال 34: 12-17)، والدينونة هنا لا تدل على دينونة الاموات كما هو وارد في رؤيا "رَأَيتُ الأَمواتَ كِبارًا وصِغارًا قائِمينَ أَمامَ العَرْش. وفُتِحَت كُتُبٌ، وفُتِحَ كِتابٌ آخَرُ هو سِفرُ الحَياة، فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم" (رؤيا 20: 12)، بل دينونة جميع الاحياء والاموات. والدينونة هنا هي عاقبة ابدية تقررها الاعمال كما يؤكِّد ذلك سفر رؤيا " فحوكِمَ كُلُّ واحِدٍ على قَدرِ أَعْمالِه" (رؤيا 20: 13). يدين يسوع الملك جميع الشعوب ويُجازيها على أعمال الرحمة التي صنعوها او لم يصنعوها للآخرين المحتاجين. والرحماء عنده يُرحمون كما صرّح يسوع في عظة التطويبات "طوبى لِلرُّحَماء، فإِنَّهم يُرْحَمون"(متى 5: 7). أمَّا عبارة " جَميعُ الأُمَم " فتشير الى "كل العالم " (متى 24: 9، 28: 19).  ولا يستثنى منها أحد لا اليهود ولا الوثنيين (لوقا 24: 47). نقف جميعاً امام الديَّان، مسيحيون وغير مسيحيين، مؤمنون وملحِدون، مسلمون وهندوس...   يجتمع امام المسيح الديان جميع الاحياء والاموات منذ بدء الخليقة الى يوم القيامة (يوحنا 5: 28). أمَّا عبارة "الرَّاعي" فتشير الى مهمَّة الراعي التي تشبه مهمة الملك، أي الرّعاية والاهتمام والاعتناء بكامل القطيع. فكلُّ المحتاجين: كلُّ الجياع والعطاش، والغرباء والذين بلا مأوى، والعريان والمرضى والمساجين، هم أعضاء مملكته.  أمّا عبارة " فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ " فتشير الى تمييز الملائكة الاخيار عن الأشرار حيث يفصلون الى الابد اعتبارا من اعمالهم بحسب أيمانهم بالمسيح او عدم إيمانهم به. أمَّا عبارة "يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء" فتشير الى الخراف والجداء الكثيرة التي ترعى معاً، ولكنها تُعزل عن بعضها عندما يأتي موسم الجِزاز. ويشير حزقيال النبي الى الحكم بين ماشية وماشية، بين الغنم والماعز وبَينَ الكِباشِ والتُّيوس بقوله " وأَنتُنَّ يا خِرافي؟ هكذا قالَ السَّيِّدُ الرَّبّ: هاءَنَذا أَحكُمُ بَينَ شاةٍ وشاة، بَينَ الكِباشِ والتُّيوس" (حزقيال 34: 17).  وهو دليل واضح على ان العالم ينقسم في اليوم الأخير الى قسمين فقط كما أشار ربنا ال ذلك في مثل القمح والزؤان (متى 13: 24-30) ومثل الشبكة. فلَمَّا امتَلأَت أَخرَجَها الصَّيَّادونَ إِلى الشَّاطِئ وجَلَسُوا فجَمَعوا الطَّيِّبَ في سِلالٍ وطَرَحوا الخَبيث" (متى 13: 47-50).

 

 33 فيُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه

 

تشير عبارة "يُقيمُ الخِرافَ عن يَمينِه والجِداءَ عن شِمالِه" الى فصل الخراف (الابرار) عن الجداء (الاشرار)، وذلك لا على اساس الدين او الطائفة او المال او المنصب او الشهادة الجامعية، انما على اساس موقف كل واحد تجاه الفقراء والمساكين. تصف هذه الآية يسوع الملك في صورة الراعي الذي يفصل بين الخراف والجِداء كي يُبيِّن الفرق بين المؤمنين وغير المؤمنين. ويُعلق القديس اوغسطينوس "ما هو العدلُ والحقُّ؟ سيجمعُ إليه مختارِيه للدينونة، ويَفصِلُ الباقِين عنهم. فيضعُ البعضَ عن يمينِه والبعضَ الآخَرَ عن شِمالِه. أوَ ليسَ هذا هو العدلُ نفسُه؟ أليس هذا هو الحقُّ نفسُه؟"؛ أمَّا عبارة " الخِرافَ " فتشير الى لونها الأبيض التي يرمز للبِرِّ (رؤيا 7: 14). واراد يسوع بالخراف هم الأشخاص الصالحون، لأنه الخراف وديعة لا تؤذي، ولأنها تحب راعيها وتخضع له وتشعر بحاجة إليه (متى 18: 12، يوحنا 10: 8) فكل الذين آمنوا بيسوع وأظهروا إيمانهم بأعمالهم يُحسبون صالحين وخراف رعيته.  أمَّا عبارة عن يَمينِه" فتشير الى الجانب الأيمن (1 ملوك 2: 19)، وهو موضع الاكرام (اعمال الرسل 7: 55) ومحل الشرف، فالذين في ذلك المحل هم في رضى الملك وحمايته كما جاء في تعليم بولس الرسول "الَّذي عَمِلَه في المسيح، إِذ أَقامَه مِن بَينِ الأَمْوات وأَجلَسَه إِلى يَمينِه في السَّمَوات" (متى 32: 44). أمَّا عبارة " الجِداءَ " فتشير الى لونها ألأسود، وهذا اللون يشير للخطيئة (ارميا 23:13) والمراد بها الأشرار وهم اقل من الخراف قيمة ونفعا وألفة وطاعة. أمَّا عبارة " عن شِمالِه " فيشير الى محل الإهانة فالذين في هذا المحل يحكم عليهم الملك، ويرفضهم.

 

34 ثُمَّ يَقولُ الملِكُ لِلَّذينَ عن يَمينِه: تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم

 

تشير عبارة " الملِكُ " الى المسيح الذي سُمي في هذا الفصل ايضا ابن الانسان والراعي والدياَّن. وكثيرا ما تكلم المسيح قبل ذلك عن ملكوته، وهي المرة الاولى مرة التي سمَّى يسوع بها نفسه ملكا ودعاه غيره بذلك (لوقا 19: 38) وذلك قبل صلبه بأقل من ثلاثة أيام.  ولما سأله بيلاطس " أَجابَ يسوع: ((هوَ ما تَقول، فإِنِّي مَلِك. وأَنا ما وُلِدتُ وأَتَيتُ العالَم إِلاَّ لأَشهَدَ لِلحَقّ. فكُلُّ مَن كانَ مِنَ الحَقّ يُصْغي إِلى صَوتي "(يوحنا 18: 37) وهو معروف في السماء ملكا (رؤيا 17: 14). فالمسيح يجلس في يوم الدين ملكا وديانا ليمتحن ويحكم بالثواب والعقاب ويُجري قضاءه، ولا يكون ملك اليهود وحدهم كما كُتب على الصليب بل ملك العالمين رَبُّ الأَرْبابِ ومَلِكُ المُلوك" (رؤيا 17: 14). أمَّا عبارة " تَعالَوا" فتشير الى اليوم الذي يقول فيه يسوع للناس " تَعالَوا إِليَّ " للخلاص" تَعالَوا إِليَّ جَميعاً أَيُّها المُرهَقونَ المُثقَلون، وأَنا أُريحُكم"(متى 11: 28) فالذين يسمعونه ويأتون إليه يقول لهم في ذلك اليوم " تعالوا" للمجد (يوحنا 17: 24). وهذا هو اعتراف المسيح بهم أمام وجه أبيه والملائكة القديسين. أمَّا عبارة " يا مَن بارَكَهم أَبي " فتشير الى هؤلاء الذين زهدوا في نفوسهم (متى 16: 24) وبذلوا حياتهم في سبيل المسيح (لوقا 18: 29). فأصبحوا مباركيه وهم أحياء على الارض؛ وعلامات كونهم انهم مباركي الآب انهم منتخبون للخلاص " إِنَّ الرَّبَّ يَعرِفُ الَّذينَ لَه "(2 طيموتاوس 2: 19)، وانهم عطية الآب للمسيح كما ورد في صلاة يسوع الكهنوتية " إِنِّي أَدعو لَهم ولا أَدعو لِلعالَم بل لِمنَ وَهبتَهم لي لأَنَّهم لَكَ" (يوحنا 17: 6)، وان الله قَدَّرهم على صالح الاعمال بوساطة الروح القدس، وأخيرا ان الله احبّهم ومجّدهم في السماء.  أمَّا عبارة "رِثوا" فتشير الى الميراث الناشئ عن كون الشخص عضو في اسرة. لذلك لم يقل يسوع لتلاميذه خذوا بل "رثوا "، فهم أبناء يرثون مجد أبيهم وليسوا غرباء. وفي هذا الصدد يقول بولس الرسول "فإِذا كُنَّا أَبْناءَ الله فنَحنُ وَرَثة: وَرَثَةُ اللهِ وشُرَكاءُ المسيحِ في المِيراث، لأَنَّنا، إِذا شارَكْناه في آلامِه، نُشارِكُه في مَجْدِه أَيضًا"(رومة 8: 17)، ويُعلق القديس اوغسطينوس "أنتم الذين كنتم الملكوت لكن بغير سلطان لتحكموا، تعالوا لكي تملكوا! أنتم الذين كنتم قبلًا في الرجاء وحده، أمَّا الآن فتنالون السلطان كحقيقة واقعة"؛ أمَّا عبارة " المَلكوتَ " فتشير الى الحقوق والبركات المختصة بالملكوت الذي المسيح راسه، وبدليل ذلك قال بولس الرسول" فلَيس مَلَكوتُ اللهِ أَكْلاً وشُرْبًا، بل بِرٌّ وسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس" (رومة 14: 17). أمَّا عبارة "المُعَدَّ "   فتشير الى طول المدة التي شُغلت بإعداده ووفرة كنوز حكمة الله وغناه التي انفقت عليه.  أمَّا عبارة " لَكُم " فتشير الى كل فرد منكم على قدر حاجته، فلم يُعدْ للبشر عموما ولا للكنيسة بجملتها بل لكل نفس من المؤمنين.  أمَّا عبارة "المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم " فتشير الى الملكوت المُعدٌّ قبل وجود أي عمل صالح، انه معَّدْ للإنسان منذ الازل لا من بدء الخليقة وذلك في قصد الثالوث والاقدس وقضائه، ويوكَّد بولس هذه الكلام "ذلِك بِأَنَّه اختارَنا فيه قَبلَ إِنشاءِ العالَم لِنَكونَ في نَظَرِه قِدِّيسينَ بِلا عَيبٍ في المَحبَّة" (أفسس 1: 4). ولم يكمل الإعداد الاّ بعد موت المسيح، لان موته كان الجزء الأعظم من الاعداد، والمسيح صعد الى السماء ليكمله بدليل قوله " في بَيتِ أَبي مَنازِلُ كثيرة ولَو لم تَكُنْ، أَتُراني قُلتُ لَكم إِنِّي ذاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مُقاماً" (يوحنا 14: 2)، وإعداد الملكوت للمؤمنين منذ الازل يؤكد انه هبة من الله تعالى لا اجرة لأنه اعدَّ قبل ان يخلق المؤمنون كما جاء في تعليم بولس الرسول: "أَمَّا هِبَةُ اللهِ فهي الحَياةُ الأَبَدِيَّةُ في يسوعَ المَسيحِ ربِّنا" (رومة 6: 23).

 

35 لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني

 

تشير عبارة " لأَنِّي " الى وجوب ان يظهر المؤمنون بأعمالهم استعداداهم لذلك الملكوت المعَّد لهم.   كما ان الملكوت معَّد لهم، يجب ان يكونوا هم أيضا مُعدِّين له. ويظهر ان كل الناس يدانون في يوم القضاء حسب أعمالهم. ولا تناقض بين هذا وكون الخلاص بالإيمان، لأنه لا سبيل الى اظهار صحة الايمان بالأعمال. أمَّا عبارة "أَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني " فتشير الى سبب دينونة التي تفاجئ الجميع، وهو تقمص يسوع شخصية الفقراء والمعوزين؛ ويربط كل فعل محبة بضمير المتكلم: اطعمتموني أنا. أمَّا عبارة " وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ " فتشير الى مظاهر الشقاء البشري.  سيحكم الله علينا على قدر محبتنا له، ومن ميزاتها الإنسانية: ان نطعم الجياع، ان نأوي المطرودين واللاجئين، وان نكسو العراة، ونزور المرضى والمسجونين ونعتني بهم. وهناك تطابق بين الاعمال التي يُثني يسوع عليها وأعمال التقوى التي يُشيد بها الدين اليهودي.  فالدين اليهودي يطالب بهذه الاعمال "أَلَيسَ الصَّومُ الَّذي فَضَّلتُه هو هذا: حَلُّ قُيودِ الشَّرِّ وفَكُّ رُبُطِ النِّير وإِطْلاقُ المَسْحوقينَ أَحْراراً وتَحْطيمُ كُلِّ نير؟  أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟" (أشعيا 58: 6-8). أمَّا عبارة " عَطِشتُ فسَقَيتُموني " فتشير الى المسيح الذي يُشيد في العهد الجديد بأهمية رواء العطاش "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع " (متى 10: 42). أمَّا عبارة " كُنتُ غَريباً فآويتُموني " فتشير الى إكرام الضيوف كما أشاد يسوع "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني. مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال (متى 10: 40-41)، مطابقا بينه وبين جميع البؤساء الذين هم إخوته.  

 

36 وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ

 

تشير عبارة " عُرياناً فَكسَوتُموني " الى أهمية كساء العراة كما كان يوصي يوحنا المعمدان “مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه. ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك" (لوقا 3: 11)؛ أمَّا عبارة " مَريضاً فعُدتُموني " فتشير الى زيارة المرضى كما ورد في مثل السامري الرحيم "وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه"(لوقا 10: 33)، ولا يتطرق يسوع الى موضوع تربية الايتام ولا دفن الموتى بل يضيف يسوع زيارة السجناء.

 

37 فيُجيبُه الأَبرار: ((يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟

 

تشير عبارة " يا رَبّ، متى رأَيناكَ جائعاً فأَطعَمْناك أَو عَطشانَ فسَقيناك؟ " الى جواب الابرار الذي يبرز تواضعهم لأنهم شعروا بأنهم لم يستحقوا المدح والثواب.   فهم جهلوا انهم عندما فعلوا الخير بأخوتهم فعلوه بالمسيح لأنهم لم يخدموه شخصيا.

 

38 ومتى رأَيناكَ غريباً فآويناك أَو عُرياناً فكَسَوناك؟  39ومتى رَأَيناكَ مريضاً أَو سَجيناً فجِئنا إِلَيكَ؟ 40 فيُجيبُهُمُ المَلِك: الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه"

 

تشير عبارة " متى رَأَيناكَ " الى تكرارها مرة أخرى في هذا النص الإنجيلي (متى 25: 37). وهي تدل على إن من يجعل نفسه قريباً من أي إنسان في معاناته، فإنه يفعل ذلك، دون علمه، انه يفعله للرب نفسه، الموجود في الأخ المتألم، أي أن كل لفتة محبة تجاه أي شخص هي لفتة للمسيح. امَّا عبارة "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار" فتشير الى كشف يسوع الديان للأبرار ان ما يصنعوه كان له معناً عميقاً يجهلونه. أراد أن يرينا أنّه الضامن الحقيقيّ للفقراء.  فإنَّ ما نعمله للقريب نعمله ليسوع، ويعلق القدّيس قيصاريوس "فكّروا يا إخوتي وأخواتي وانظروا إلى المثل الذي أعطاه ربّنا، الذي جعل منّا مسافرين وأمرنا بالمجيء إلى "الوَطَنِ السَّماوِيّ" (العبرانيين 11: 16) عبر السير في طريق المحبّة... وهو على الرغم من كونه في السّماء، ورحمةً منه لأعضاء جسده المتألّمة، قال: "أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه" (عظات للشعب، العظة 24 ). وقد أوضح يسوع ذلك لشاول (بولس) الذي كان في طريقه الى دمشق لاضطهاد المسيحيين " فقال بولس له: ((مَن أَنتَ يا ربّ؟)) قال: ((أَنا يسوعُ الَّذي أَنتَ تَضطَهِدُه" (اعمال الرسل 9: 5). وفي موضع آخر قال يسوع " مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني" (متى 10: 40). "ومَن قَبِلَ طِفْلاً مِثلَه إِكْراماً لاسمي، فقَد قَبِلَني أَنا" (متى 18: 5)، وكذلك في انجيل لوقا نجد قول يسوع " مَن سَمِعَ إِلَيكُم سَمِعَ إِليَّ. ومَن أَعرَضَ عَنكم أَعرَضَ عَنِّي، ومَن أَعرَضَ عَنِّي أعرَضَ عَنِ الَّذي أَرسَلَني" (لوقا 10: 16). ويُعلق القديس ايرونيموس "كل مرّة تبسط يدك بالعطاء أذكر المسيح" وفي هذا الصدد قالت القديسة تريزا دي كالكوتا،"إنّ الأمر الوحيد الذي يمكن أن يجعلني حزينة هو إهانة الربّ بسبب أنانيّتي أو لتمنّعي عن مساعدة الآخرين وعندما نؤذي الفقراء، إنّما نؤذي الربّ؛ أمَّا عبارة "إِخوتي" فتشير الى تلاميذ المسيح (يوحنا 20: 17) وشركائه في ضيقه (العبرانيين 2: 10-11) واعضاء في الكنيسة الحقيقية. "لأَنَّ كُلاًّ مِنَ المُقَدِّسِ والمُقَدَّسينَ لَه أَصْلٌ واحِد، ولِذلِكَ لا يَستَحْيي أَن يَدعُوَهم إِخوَةً حَيثُ يَقول: ((سأُبَشِّرُ بِاسمِكَ إِخوَتي"(عبرانيين 2: 10)، ثم امتدَّ معناها إشارة الى جميع الناس. وهكذا استبدلت كلمة "التلاميذ" بكلمة " اخوتي" لا لاقتصار صفة الاخ على التلاميذ وحدهم، بل لإعلان الصلة التي تجمع بين يسوع وكل إنسان محتاجٍ حيث أراد يسوع ان يتقمّص شخصية الفقراء المهمَّشين، فيطابق بينه وبين جميع هؤلاء البؤساء الذي يعتبرهم إخوته. فصانع الرحمة للآخرين من أي دين كان، أنما هو صانعها للمسيح. فيكشف لصانع الرحمة أن ما عمله كان له معنى عميق يجهله. أمَّا عبارة "الصِّغار" فتشير الى المؤمنين الذين هم أقل اعتبارا من غيرهم والمحتقرين عند سائر العالم. وفي الواقع يدل يسوع أولا على "التلاميذ" وحدهم " ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع” (متى 10: 42). ان الاهمية المحورية هي العلاقة بالمسيح. يجازي يسوع الملك الديَّان الابرار عن ممارسة المحبة الاخوية تجاه الذين يعيشون على هامش المجتمع. ويجازيهم على اعمالهم بحسب ما قاموا به من أعمال الرحمة نحو المحتاجين إليهم.

 

41 ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه

 

تشير عبارة " إِليكُم عَنِّي " في الأصل اليوناني Πορεύεσθε (معناها أذهبوا) الى قول المسيح الذي قال سابقا "تَعالَوا إِليَّ "(متى 11: 28) " قال لهم أخيراً "أذهبوا عني".  فالذين قالوا لله في حياتهم الدنيا " ابتَعِدْ عَنَّا. وماذا يَصنَع بِنا القَدير"(أيوب 22: 17) سيسمعونه يقول لهم "ابعدوا عني"، وهذا الامر بداية عذاب جهنم، لان القرب من الله شبع وسرور (مرقس 16: 11) والبعد عنه موت وهلاك. أمَّا عبارة " المَلاعين " فتشير الى الأشرار الذين جحدوا إيمانهم. والحكم وهنا على الذين رفضوا ان يُعينوا اخوتهم في وقت الشدَّة فحُرموا من كل خير ومسرة ونالوا عقاب الالام والأحزان بعكس الابرار الذي قال لهم الرب "يا مَن بارَكَهم أَبي ".  ولم يقل لهم " يا ملاعين ابي " لان من الله الخلاص، وأمَّا الهلاك فيأتي من اعمال الناس، فهم لعنة على أنفسهم كما ورد في نبوءة أشعيا: " هكذا قالَ الرَّبّ: إِنَّما آثامُكم باعَتْكم ومَعاصيكم طَلَّقَت أُمَّكم"(أشعيا 50: 1). وهذا ما يوضِّحه يوحنا الانجيلي بقوله: "كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه" (1 يوحنا 3: 14).  أمَّا عبارة " النَّارِ الأَبَدِيَّةِ " فتشير الى العقاب الابدي في الجحيم الذي هو مكان القصاص بعد الموت لكل من يرفض التوبة (متى 5: 29). وهناك كلمتان تستخدمان للتعبير عن الجحيم: كلمة عبرية שְׁאוֹל معناها الهاوية والتي استخدمت في العهد القديم للإشارة الى القبر، مثوى الاموات (مزمور 16: 10)، واستخدمت كلمة أخرى وهي جهنم גֵּיהִנּם نسبة الى وادي هنوم حيث كان الأطفال يُحرقون بالنار قربانا للآلهة الوثنية (2 ملوك 23: 10)، وهو مكان النار الأبدية (متى 18: 8) المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه وكل من لا يؤمنون بالله (متى 25: 46). وهذه هي الحالة الأبدية والنهائية للأشرار بعد القيامة والدينونة الاخيرة.  وهذه النار ليس للتطهير بل للعذاب، وهي علامة غضب الله على الخطأة لأنه تعالى بالنسبة إليهم " نارٌ آكِلَة" (العبرانيين 12: 29). أمَّا عبارة "لإِبليسَ وملائِكَتِه" فتشير الى الله الذي لم يُعِّدْ النار الأبدية للإنسان بل للشيطان (رؤيا 19: 20)، كما سبق وقال الى الابرار "رِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم" (متى 25: 34)، لذلك لم يقل ان جهنم معدة للأشرار من الناس بل للشياطين. والشياطين هم الملائكة الساقطون. أعدّ لهم محل العذاب الذي استحقوه (رؤيا 12: 8-9)، وكل من يختار بنفسه أن يكون ابنًا للشيطان يذهب معه للنار الأبدية كما جاء في تعليم يسوع " أَنتُم أَولادُ أَبيكُم إِبليس تُريدونَ إتمامَ شَهَواتِ أَبيكم. كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 8: 44).  الله أعدّ الملكوت السماوي للإنسان. لكن الأشرار اختاروا بأنفسهم لأنفسهم أن يُلقوا في النار الأبدية التي أُعدّت لإبليس وجنود، كما حدث مع يهوذا الإسخريوطي الذي ذهب الى مكانه (اعمال الرسل 1: 25) فإذا دينونتهم عادلة.

 

42 لأِنِّي جُعتُ فَما أَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فما سَقَيتُموني، 43 وكُنتُ غَريباً فما آوَيتُموني، وعُرياناً فما كَسوتُموني، ومَريضاً وسَجيناً فما زُرتُموني)).  44فيُجيبُه هؤلاءِ أَيضاً: ((يا رَبّ، متى رَأَيناكَ جائعاً أَو عَطشان، غَريباً أَو عُرياناً، مريضاً أَو سجيناً، وما أَسعَفْناك؟))

 

تشير هذه الآيات الى الأشرار الذين دينوا هنا لا لارتكاب سرقة او قتل او غيرها من التعديات بل لمجرد اهمالهم الواجبات بأنهم لم يظهروا المعروف لتلاميذ المسيح ولا لمسيحهم بواسطتهم، وذلك بعدم اعتنائهم بالفقراء والمحتاجين والغرباء والمسجونين.  انهم عاشوا لأنفسهم.

 

45فيُجيبُهم: ((الحَقَّ أَقولُ لَكم: أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه

 

تشير عبارة "أَيَّما مَرَّةٍ لم تَصنَعوا ذلك لِواحِدٍ مِن هؤُلاءِ الصِّغار فَلي لم تَصنَعوه " الى علة اولئك الذين يُدانون كأشرار، وهي التقصير او الاهمال. إن التقصير سَبَبه عدم وجود محبّة في حياتهم ترحم الآخرين. لقد دفنوا الانجيل في أتربة الهوى والانانية وأطفأوا مصابيح الرحمة في قلوبهم تجاه المحتاجين والفقراء. أمَّا عبارة "فَلي" فتشير الى المسيح الذي هو أساس الذي يُبنى عليه ما يستحق الثواب من الاعمال.  

 

46 فيَذهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إِلى الحَياةِ الأَبدِيَّة

 

تشير الآية " فيَذهَبُ هؤُلاءِ إِلى العَذابِ الأَبديّ، والأَبرارُ إِلى الحَياةِ الأَبدِيَّة" الى اقتباس هذه الآية من نبوءة دانيال "كثيرٌ مِنَ الرَّاقِدينَ في أَرضِ التُّرابِ يَستَيقِظون، بَعضهم لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، وبَعضُهم لِلعارِ والرَّذلِ الأَبَدِيّ." (دانيال 12: 2) وجاء نص انجيل يوحنا يؤكد ذلك "يَخُرجونَ مِن القبور أمَّا الَّذينَ عَمِلوا الصَّالحات فيَقومون لِلحيَاة وأمَّا الَّذينَ عَمِلوا السَّيِّئات فيقومونَ للقضاء" (يوحنا 5: 29). وتشير هذه الآية أيضا الى قيامة الأموات، ولكنها تصف أيضا الحالة الابدية والنهائية للأبرار والأشرار بعد القيامة والدينونة الاخيرة. وعندما يحذّر الرب يسوع من العذاب الابدي، فهو إنما يسعى لانقادنا من هذا العذاب الرهيب، ويحثُّنا للعمل الصالح لنيل السعادة الابدية. أمَّا عبارة " العَذابِ الأَبديّ فتشير الى العذاب الذي اعتبر عقابا للخطيئة الشخصيّة (تكوين 3 :14-19) أو الجماعيّة (أشعيا 1 :4-8). والعذاب الابدي هو عقاب أبدى الذي هو ابعد البعد عن الله.  ومن الشواهد على ابدية العقاب بعد الموت ما ورد في الكتاب المقدس " أَظهَرَ الرَّبُّ نَفْسَه وأَصدَرَ القَضاء وأُخِذَ الشِّرِّيرُ بِمَا فَعَلَت يَدَاه (مزمور 9: 8) "قد فَزعَ الخاطِئونَ في صِهْيون والرِّعدَةُ أَخَذَتِ الكُفَّار. مَن مِنَّا يَسكُنُ في النَّارِ الآكِلَة؟ ومَن مِنَّا يَسكُنُ في المَواقِدِ الأَبَدِيَّة؟ " وأشعيا 33:14) "ومع هذا كُلِّه، فبَيننا وبَينَكم أُقيمَت هُوَّةٌ عَميقة، لِكَيلا يَستَطيعَ الَّذينَ يُريدونَ الاجتِيازَ مِن هُنا إِلَيكُم أَن يَفعَلوا ولِكَيلا يُعبَرَ مِن هُناك إِلَينا" (لوقا 16: 26) " مَن آمَنَ بِالابن فلهُ الحَياةُ الأَبديَّة ومَن لم يُؤمِنْ بالابن لا يَرَ الحَياة بل يَحِلُّ علَيه غَضَبُ الله "  (يوحنا 3: 36 ) " وأَن يُجازِيَكم أَنتُمُ المُضايَقينَ وإِيَّانا بِالرَّاحَة عِندَ ظُهورِ الرَّبِّ يَسوع، يَومَ يَأتي مِنَ السَّماءِ تُواكِبُه مَلائِكَةُ قُدرَتِه  في لَهَبِ نار ويَنتَقِمُ مِنَ الَّذينَ لا يَعرِفونَ الله ولا يُطيعونَ بِشارةَ رَبِّنا يسوع.  فإِنَّهم سيُعاقَبونَ بِالهَلاكِ الأَبَدِيّ مُبعَدينَ عن وَجْهِ الرَّبِّ وعَن قُوَّ تِه المَجيدة، " (2 تسالونيقي 1: 7-9). والعذاب الابدي كناية عن تمام الشقاء والاثم.  أمَّا عبارة "الحَياةِ الأَبدِيَّة" فتشير الى أتحاد الانسان بالله، وهو حالة أقرب القرب الى الله، وهي هبة الله وهي كناية عن كمال السعادة والقداسة. ويقوم هذا الاتحاد بالرؤية الكاملة كما جاء في تعليم بولس الرسول: "نَحنُ اليومَ نَرى في مِرآةٍ رُؤَيةً مُلتَبِسة، وأَمَّا في ذلك اليَوم فتَكونُ رُؤيتُنا وَجْهًا لِوَجْه" (1 قورنتس 13: 12)؛ فالإنسان لا يجد راحته واستقراره إلا في الله، كما يقول القديس اوغسطينوس "صنعتنا لك، يا الله، ويبقى قلبنا مضطربا حتى يجد راحته وقراره فيك". وليس النعيم الكامل يدخل قلوب أهل النعيم، بل أهل النعم بأكملهم يدخلون نعيم الله     والحياة الابدية.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (25: 31-46)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حول الدينونة العظمى ويسوع الملك الديان. ومن هنا نتساءل ما هو مضمون الدينونة في المسيحية؟ وما هي أعمال الرحمة التي سيُديننا يسوع الملك عليها في يوم الدينونة؟

 

1) ما هو مضمون الدينونة في المسيحية؟

 

إن اللفظ الأصلي للدينونة هو שׁפָט" الذي يلي عادة الحُكم حيث ان كلمة שֹׁפְטֵ هو الديَّان او الحاكم الذي يسوس شعباً ما (دانيال 9: 12).  وأن إحدى الوظائف الهامة لكل الحكام تقوم خاصة على البَتِّ في النزاعات لكي تسود العدالة في المجتمع، وقد مارسها موسى والشيوخ معاونوه (خروج 18: 13-26)، وصموئيل (1 صموئيل 7: 16-8: 3)، والملوك (2 صموئيل 15: 1-6، 1 ملوك 3: 16-28)، وبعض القضاة المحلِّيين، ولاسيما الكهنة (تثنية 16: 18 -20، 17: 8-13).

 

أمَّا الأنبياء فهم الذين أعلنوا أن الله يدين العالم بالنار (أشعيا 66: 16)، وإنه سيجمع الأمم في وادي يوشافاط יְהוֹשָׁפָט (معناها الله الديان): إذ ذاك يكون الحصادِّ في الأزمنة الأخيرة (يوئيل 4: 12 – 14). وينطبق ذلك أيضاً على سفر الحكمة، حيث نرى الأخيار والأشرار يمثلون معاً لأداء الحساب (حكمة 4: 20-5: 23).

 

 ويستلهم مدونو الكتاب المقدس هنا الاختبار البشري عندما يتحدثون عن دينونة الله.  فإن دينونة الله تُشكل تهديداً متواصلاً للبشر، لا في الآخرة فحسب، بل في التاريخ أيضا، إنه من المستحيل على خاطئ واحد أن يفلت منها. ويصف كتاب دانيال بصور مذهلة هذه الدينونة التي ستختتم الزمن وتفتتح ملكوت ابن البشر الأبدي (دانيال 7: 9-12 و26).

 

وفي أيام السيد المسيح، كان انتظار دينونة الله بآخر الأزمنة حدثاً عاماً. ويشير يوحنا المعمدان في مطلع الإنجيل، إلى الدينونة، عندما ينذر سامعيه بالغضب الآتي، ويُحثُّهم على قبول معموديته، علامة للتوبة (متى 3: 7-12). وبدأت ساعة الأزمنة الأخيرة مع الساعة التي ظهر فيها يسوع في العالم، فدينونة الأزمنة الأخيرة هي حاضرة منذ تلك الساعة، وإن كان ينبغي انتظار عودة المسيح المجيدة، حتى نراها متمّمة في ملئها.

 

وكثيراً ما أشارت كرازة يسوع إلى دينونة اليوم الأخير. فكل البشر لا بدَّ وأن يؤدُّوا الحساب (متى 25: 14-30).  وإن سبب الدينونة الإلهية الأساسي هو الموقف الذي يقفه الناس إزاء الإنجيل، وإزاء القريب، على حد سواء: سيُدان كل واحد طبقاً للدينونة التي يكون قد دان بها القريب "فكَما تَدينونَ تُدانون، ويُكالُ لكُم بِما تَكيلون "(متى 7: 2).

 

وقد وصف القديس يوحنا الإنجيلي يسوع، ابن الإنسان، الذي أقيم من الآب ديَّاناً في اليوم الأخير (يوحنا 5: 26-30). إلاَّ أن الدينونة في الواقع ستحقق منذ اللحظة التي يرسل فيها الآب الابن إلى العالم. وهذا لا يعني أنه قد أرسل ليدين العالم: إنه بالعكس يأتي ليخلصه (يوحنا 3: 17، 8: 15-16). ولكن تبعاً للموقف الذي يختاره كل واحد تجاهه، تتم الدينونة فوراً: مَن آمَنَ بِه لا يُدان ومَن لم يُؤمِنْ بِه فقَد دِينَ مُنذُ الآن لِأَنَّه لم يُؤمِنْ بِاسمِ ابنِ اللهِ الوَحيد"(يوحنا 3: 18 -20). ونستنتج من ذلك ان الدينونة هي كشف خطايا القلوب البشرية، أكثر منها حكم إلهي. فالقوم الذين أعمالهم شريرة، يفضّلون الظلام على النور (يوحنا 3: 9-20). إن الدينونة الأخيرة تُظهر علناً ما قد تمّ منذ الآن من تفريق من حيث خفايا القلوب.

 

وتُعلن الكرازة الرسولية في الجماعة المسيحية الأولى ان الله حدَد يوماً ليدين العالم فيه بعدل بالمسيح الذي أقامه من بين الأموات (أعمال 17: 31). وان الدينونة ستبدأ في بيت الله، قبل أن تمتد إلى الأشرار (1 بطرس 4: 17)، وسيُدين الله كل واحد بحسب أعماله، دون محاباة للوجوه (1 بطرس 1: 17). والمسيح هو الذي سيقوم بوظيفة ديَّان للأحياء والأموات (2 طيموتاوس 4). وأخيراً فإن جميع البشر، في آخر الزمن، سيمرُّون بالنار التي ستمتحن قيمة أعمالهم كما جاء في تعليم بولس الرسول “سيَظهَرُ عَمَلُ كُلِّ واحِد، فيَومُ اللّه سيُعلِنُه، لأَنَّه في النَّارِ سيُكشَفُ ذلِك اليَوم، وهذِه النَّارُ ستَمتَحِنُ قيمةَ عَمَلِ كُلِّ واحِد" (1 قورنتس 13:3).

 

وقاعدة الدينونة هي "الشريعة الموسوية" المفروضة على من يلتمسون هذه الشريعة (رومة 2: 12)، والشريعة المكتوبة في الضمير هي قاعدة الدينونة إلى من لم يعرفوا غير هذه الشريعة (رومة 2: 14-15)، وشريعة الحرية هي قاعدة الدينونة إلى من قبلوا الإنجيل (يعقوب 2: 12). ولكنّ الويل لمن يكون قد أدان القريب (رومة 2: 1-3). إنه سيُدان هو نفسه طبقاً للمقياس الذي طبّقه على الآخرين كما أوضح يعقوب الرسول "التَفتُّم إِلى صاحِبِ الثِّيابِ البَهِيَّة وقُلتُم له: ((اِجلِسْ أَنتَ ههُنا في الصَّدْر))، وقُلتُم لِلفَقير: ((أَنتَ قِفْ)) أَو ((اِجلِسْ عِندَ مَوطِئِ قَدَمَيَّ)) "(يعقوب 2: 3).

 

ويجيب يسوع عن موضوع الدينونة بقوله " فيُجيبُهُمُ المَلِك: الحَقَّ أَقولُ لَكم: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40).  ان المسيح يُحسب ما صُنع من المعروف لتلاميذه إكراما له، انه صُنع له بدليل قوله "مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني.  ومَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن." (متى 10: 40، 42)). وقول المسيح لشاول وهو يضطهد الكنيسة "شاوُل، شاوُل، لِماذا تَضطَهِدُني؟ " (اعمال الرسل 9: 4). وهذا دليل على شدة الاتحاد والشركة في الشعور بين المسيح وشعبه حتى انه يحضر معهم حيث كانوا ويشاركهم في فقرهم وضيقهم واضطهادهم؛ ألم يقلْ بولس الرسول "أَنَّ المسيحَ رَأسُ الكَنيسةِ الَّتي هي جَسَدُه وهو مُخلِّصُها" (أفسس 5: 23).  ان المسيح عندما يجازي الابرار لا يقتصر على اعتبار أعمالهم بل يلاحظ غاياتهم من تلك الاعمال.   وان الفضيلة المسيحية التي جُعلت عنا علامة الايمان الصحيح هي المحبة لأنها أعظم الفضائل بدليل قول بولس الرسول "فالآن تَبقى هذه الأُمورُ الثَّلاثة: الإِيمانُ والرَّجاءُ والمَحَبَّة، ولَكنَّ أَعظَمَها المَحبَّة" (1قورنتس 13: 13، ولأن المحبة اكليل صفات الله فانه تعالى محبة " اللّهَ مَحبَّة." (1 يوحنا 4: 8) فاذا وجدت المحبة في الانسان وجدت فيه سائر الفضائل وان فقدها فقد الكل، "المَحبَّةُ كَمالُ الشَّريعة" (رومة 13: 10)"وإنَّها رِباطُ الكَمال"(قولسي 3: 14).    

 

2) ما هي أعمال الرحمة التي سيُديننا عليها يسوع الملك في يوم الدينونة؟

 

إن انتظار عودة المسيح كديّان للأحياء والأموات هو جزء لا يتجزأ من قانون الإيمان المسيحي: "أؤمن بربٍ واحدٍ يسوع المسيح ... سياتي بمجد عظيم ليدين الاحياء والاموات". يصف انجيل متى تصويرا نبويا للدينونة الأخيرة كأنه يراها بعينيه على ضوء كلام الله. يأتي ابن الانسان كديَّان في نهاية الأزمنة، وهو يأتي من السماء ليدين لا الشعب المختار فحسب إنما الأرض كلها (مرقس 14: 62). الرب يسوع يأتي في مجده (متى 16: 27) كالمَلك فيدين جميع الشعوب كما وصفها صاحب الرؤية "رَأَيتُ الأَمواتَ كِبارًا وصِغارًا قائِمينَ أَمامَ العَرْش. وفُتِحَت كُتُبٌ، وفُتِحَ كِتابٌ آخَرُ هو سِفرُ الحَياة، فحوكِمَ الأَمواتُ وَفقًا لِما دُوِّنَ في الكُتُب، على قَدرِ أَعْمالِهم"(رؤية 20: 12). يُحشر الناس في يومه لدى عرشه المجيد ليدينهم على أعمال الرحمة.

 

الرحمة هي فضيلة تؤثر على إرادة الشخص فتجعله يشعر بالتعاطف مع الآخرين فيّخفف شدتهم. ويُعلق البابا فرنسيس "حيث تغيب الرحمة يغيب العدل، وشعب الله يعاني اليوم من العدالة الخالية من الرحمة.  ويعدد التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية "أعمال الرحمة هي اعمال المحبة التي تساعد بها القريب في ضروراته الجسدية والروحية. التعليم، والنصح، والتعزية، وتقوية العزم هي اعمال رحمة روحية مثل المغفرة والاحتمال بصبر. وتقوم اعمال الرحمة الجسدية خصوصا على إطعام الجياع، وايواء من ليس لهم منزل، واكساء ذوي الثياب الرثة، وعيادة المرضى وزيارة السجناء ودفن الموتى. (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2447).  وسمّت الكنيسة هذه التّصرّفات "أعمال الرّحمة الجسديّة" لأنّها تُنقذ الأشخاص في حاجاتهم الماديّة". ويعلق البابا فرنسيس " إّن أعمال الرّحمة هذه هي ملامح وجه يسوع المسيح الّذي يعتني بإخوته الصّغار ليحمل لكلّ واحد منهم حنان الله وقربه" (مقابلة 12/10/2016).

 

الأساس الانجيلي لأعمال الرحمة ما علمه عن الدينونة الأخيرة وكيف أن الله سيحاسبنا على تعاملنا مع اخوته: يقف كل إنسان بين يدي الرب يسوع الملك ليؤدِّي له حساباً. ولا يسال الناس عن أديانهم، ولا عن طوائفهم، ولا عن أموالهم، ولا عن بنوكهم، ولا عن قصورهم، وعلى عن مناصبهم، ولا عن بطولاتهم، ولا عن تكنولوجيَّاتهم، إنما يسألهم عن موقفهم تجاه الفقراء والمساكين. يسألهم عن اعمال الرحمة التي مارسوها او لم يمارسوها تجاه المحتاجين من جياع وعطاش وغرباء ومرضى وسجناء. "يَقولُ الملِكُ لِلَّذينَ عن يَمينِه: تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني، وكُنتُ غَريباً فآويتُموني وعُرياناً فَكسَوتُموني، ومَريضاً فعُدتُموني، وسَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ"(متى 25: 34-35).  ومن هذا المنطلق يذكر النص الانجيلي أعمال الرحمة التالية: 

 

1. إطعام الجائعين: "جُعتُ فأَطعَمتُموني،

 

أوصى الله بالفقير قائلا: "اِفتحْ يَدَكَ لأَخيكَ المِسْكينِ والفَقيرِ الَّذي في أَرضِكَ" (تثنية 15: 11) ، "ومَن كانَ عِنَده طَعام، فَليَعمَلْ كَذلِك" (لوقا 3: 11) "إذا أَقَمتَ مَأَدُبَة فادعُ الفُقَراءَ والكُسْحانَ والعُرْجانَ والعُمْيان.  فطوبى لَكَ إِذ ذاكَ لِأَنَّهم لَيسَ بِإِمكانِهِم أَن يُكافِئوكَ فتُكافَأُ في قِيامَةِ الأَبرار" (لوقا 14: 13-14) ويُعلق القديس كبريانس "كيف يمكنه أن يحُثُّنا على أعمال البرّ والرحمة أكثر من قوله إن ما نعطيه للفقراء والمحتاجين إنّما نقدّمه له هو نفسه".  ومن أمثلة إطعام الجياع ما جاء في سفر الملوك، إذ أطعم إيليا النبي ارملة صرفت (1ملوك 17: 10-15)؛ وأطعم بوعز صاحب الحقول وراعوتُ الموآبِيَّةُ "لَمَّا كانَ وَقتُ الأَكْل، قالَ لَها بوعَز: هَلُمِّي إِلى ههُنا وكُلي مِنَ الخُبزِ واغمِسي لُقمَتَكِ في الخَلّ " (راعوت 2: 14-17).  ولا ننسى ما جاء في الوحي "مَن يَرحَمِ الفَقير َيُقرِضِ الرَّبّ فهُو يُجازيه على صَنيعِه" (أمثال 19: 17). ويعلق القدّيس أوغسطينوس " الذين أظهروا الرحمة، سيُحكمون بالرحمة (لوقا 6: 37). لأنّه يَنسب لهم أعمال الرحمة، "لأَنِّي جُعتُ فأَطعَمتُموني، وعَطِشتُ فسَقَيتُموني" (متى 25: 41) " (حديث عن المزمور 96: 14-15).

 

2. سقي العطاش: عَطِشتُ فسَقَيتُموني"

 

عمل الرحمة الثاني "عَطِشتُ فسَقَيتُموني" ومن الأمثلة على ذلك قول المسيح "مَن سَقى أَحَدَ هَؤلاءِ الصِّغارِ، وَلَو كَأسَ ماءٍ باردٍ لأَنَّه تِلميذ، فالحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ أَجرَه لن يَضيع " (متى 10: 42). إذ "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). لذا يوصينا القديس أمبروسيوس بقوله "اخدموا الفقراء تخدمون المسيح".  ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " الاحسان الى الفقراء (طوبيا 4: 5-11) هو من الدلالات الرئيسة على المحبة الاخوية: وهو ممارسة للعدالة ترضي الله (متى 6: 2-4)" (بند 2447).

 

3. إيواء الغرباء: "كُنتُ غَريباً فآويتُموني"

 

الغريب حسب الانجيل هم الوثنيون، السامريون، العشارون، البرص، الزناة... أي شخص غير يهودي كان غريباً. وإن الغريب في كل الثقافات هو مصدر خوف، لأنه مختلف عنا في التفكير، غريب في اسلوب الحديث، غريب في أسلوب إقامة العلاقة. وأول ما نصادف شخصاً هكذا، نقول: "لا"، وممكن أن ننتقد، نتذمر، نتجنب ونهرب.  لكن يسوع يقول لنا هنا ان ناوي الغريب: " مَن قَبِلَكم قَبِلَني أَنا، ومَن قَبِلَني قَبِلَ الَّذي أَرسَلَني.  مَن قَبِلَ نَبِيّاً لأَنَّه نَبيٌّ فَأَجرَ نَبِيٍّ يَنال، ومَن قَبِلَ صِدِّيقاً لأَنَّه صِدِّيقٌ فَأَجرَ صِدِّيقٍ يَنال " (متى 10: 40-42) " كُونوا لِلقِدِّيسينَ في حاجاتِهِم مُشارِكين وإِلى ضِيافةِ الغُرَباءِ مُبادِرين" (رومة 12: 13)، "لا تَنسَوُا الضِّيافَة فإِنَّها جَعَلَت بَعضَهم يُضيفونَ المَلائِكَةَ وهُم لا يَدْرون" (عبرانيين 13: 2كما حدث في ضيافة أبانا ابراهيم الى ثلاث رجال حلوّا عليه ضيوفا في خيمته في ممر الخليل. (التكوين 18: 2-5)، وضيافة لوط الى الرجال الذين حلُّوا عليه في سدوم (التكوين 19: 1-3). وكيف نستقبل الضيوف وتجيب القديسة تريزا للطفل يسوع: إن أتى أحد إليك، لا تدعه يتركك إلاّ وهو أفضل حالاً، وأكثر سعادة ممّا كان عليه قبل زيارتك. يكن التعبير الحيّ عن محبة اللهفي وجهك، في عينيك، في ابتسامتك، وفي ترحابك الحارّ".

 

4. إكساء العراة: " كُنتُ عُرياناً فَكسَوتُموني"

يوضَّح يوحنا المعمدان عن إكساء العراة بقوله "مَن كانَ عِندَه قَميصان، فَليقسِمْهُما بَينَه وبَينَ مَن لا قَميصَ لَه" (لوقا 3: 11)، وفي موضع آخر يقول الانجيل " فتَصَدَّقوا بِما فيهِما، يَكُنْ كُلُّ شَيءٍ لكُم طاهِراً" (لوقا 11: 41) ويشدد يعقوب الرسول على العمل لا على الكلام بقوله: " فإِن كانَ فيكُم أَخٌ عُريانٌ أَو أُختٌ عُريانَةٌ يَنقُصُهما قُوتُ يَومِهِما، وقالَ لَهما أَحدُكم: ((اِذْهَبا بِسَلام فاستَدفِئا واشبَعا)) ولم تُعطوهما ما يَحتاجُ إِلَيه الجَسَد، ماذا يَنفَعُ قَولُكُم؟"  (يعقوب 2: 15-16).  ومن أمثلة ‘كساء العريان ما قامت به طابيثة للأرامل في يافا، إذ لما وَصَلَ بطرس اليها "أَقبلَت علَيه جَميعُ الأَرامِل باكِياتٍ يُرينَهُ الأَقمِصَةَ والأَردِيَةَ الَّتي صَنَعَتها ظَبيَةُ إِذ كانَت معَهُنَّ" (عمال الرسل 9: 39).

 

5. زيارة المرضى: " كُنتُ مَريضاً فعُدتُموني

 

لا تعني زيارة المرضى تعزيتهم فقط، بل الاعتناء بهم وخدمتهم ومساعدتهم؛ فلا عجب ان يوصي يعقوب الرسول "هل فيكُم مَريض؟ فلْيَدْعُ شُيوخَ الكَنيسة، ولِيُصَلُّوا عليه بَعدَ أَن يَمسَحوه بِالزَّيتِ بِاسمِ الرَّبّ" (يعقوب 5: 14).  والامثلة على ذلك ما فعل السامري الرحيم "وَصَلَ إِلَيه سَامِرِيٌّ مُسافِر ورَآهُ فأَشفَقَ علَيه، فدَنا منه وضَمَدَ جِراحَه، وصَبَّ علَيها زَيتاً وخَمراً، ثُمَّ حَمَلَه على دابَّتِه وذَهَبَ بِه إِلى فُندُقٍ واعتَنى بِأَمرِه.  وفي الغَدِ أَخرَجَ دينارَيْن، ودَفَعهما إِلى صاحِبِ الفُندُقِ وقال: ((اِعتَنِ بِأَمرِه، ومَهْما أَنفَقتَ زيادةً على ذلك، أُؤَدِّيهِ أَنا إِليكَ عِندَ عَودَتي" (لوقا 10: 33-35)، ومثال آخر على ذلك فرنسيس الأسيزي، الذي أحتضن الأبرص وقبّله، وأبدى له الرحمة؛ وبعد القيام بذلك، وأدرك مدى حضور الرب في ذلك الشخص الذي غيّر حياته. ومن يقدر أن ينسى كلمات الأم تريزا حيث قالت: "في المناولة نقابل يسوع تحت شكلي الخبز والخمر، بينما في شوارع كالكوتا فإنّنا نلمس جسده في المرضى".

 

6. زيارة المسجونين: " كُنتُ سَجيناً فجِئتُم إِلَيَّ"

 

لا تنحصر زيارة المسجونين فقط بتوجيه كلمات التعزية والمواساة لهم، بل افتقادهم في حاجاتهم واتخاذ الوسائل المشروعة إذا كانوا ابرياء لتخلية سبيلهم من السجون كما وصّى بولس الرسول" أُذكُروا المَسْجونينَ كأَنَّكم مَسْجونونَ مَعَهم" (عبرانيين 13: 2).  ومن أمثلة زيارة المسجونين هي زيارة  المَلِكُ صِدقِيَّا  الى ارميا الذي كان في جب أَمَرَ المَلِكُ عَبدَ مَلِكَ الكوشيَّ قائِلاً: (( خُذْ مِن هُنا ثَلاثينَ رَجُلاً تَحتَ يَدِكَ وأَخرِجْ إِرمِيا النَّبِيَّ مِنَ الجُبِّ قَبلَ أَن يَموت" (ارميا 38: 7-13)؛  وزيارة بولس الرسول الى  أُونِسِفورُس الذي كان في السجن  في روما فعبَّر بولس عن زيارته "فإِنَّه شَرَحَ صَدْري مِرارًا ولَم يَستَحْيِ بِقُيودي" (2 طيموتاوس 1 : 16-17), فعلمنا المسيح أن نمارس أعمال الرحمة لجميع المتضايقين والمتألمين الذين  نلتقي بهم على دروب هذه الحياة. والعالم بحاجة الى قلوب تنبض محبة وعطفاً على من يحتاجون إلى خدمة القريب التي علّمنا إياها المسيح، هي الحل الوحيد للمشاكل العالمية. إنّها الخدمة التي تشفي العالم من الأنانية، والبغضاء والظلم. الخدمة التي تجمع ما تفرّق، وتبني ما تهدّم، وترفع من عثر وسقط. الخدمة التي تعيد الأمل والرجاء إلى اليائسين، وإلى الذين طعنتهم الأيام بحرابها ومزَّقتهم بنصالها.

 

وتبرهن أعمال الرحمة على صدق محبتنا كما يقول يوحنا الرسول " لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ " (1 يوحنا 3: 18)، وهذا ما أوصى به طوبيا البار لابنه: "تَصَدَّقْ مِن مالِكَ ولا تُحَوِّلْ وَجهَكَ عن فَقير، فوَجْهُ اللهِ لا يُحوَّلُ عنكَ. تَصَدَّقْ بِما عِندَكَ وبِحَسَبِ ما يَتَوفَّرُ لَكَ. إِن كانَ لَكَ كَثير فآبذُلْ كَثيراً، وإِن كانَ لكَ قَليل فآبذُلْ قليلاً، ولكِن لا تَخَفْ أَن تَتَصَدَّق. فإِنَّكَ تَذَّخِرُ لَكَ كَنْزاً حَسَناً إِلى يَومِ العَوَز. لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تُنقِذُ مِنَ المَوت ولا تَدَعُ النَّفْسَ تَصيرُ إِلى الظُّلمَة" (طوبيا 13: 6-10). فالرب يسوع يطلب منا الاهتمام الشخصي والعناية باحتياجات الآخرين "أَلَيسَ هو أَن تَكسِرَ للجائِعِ خُبزَكَ وأَن تُدخِلَ البائسينَ المَطْرودينَ بَيتَكَ وإذا رَأَيتَ العُرْيانَ أن تَكسُوَه وأَن لا تَتَوارى عن لَحمِكَ؟" (أشعيا 58: 7).

 

7. دفن الموتى

 

ذكر المسيح ستة اعمال فعلها الابرار وأظهروا بها رحمتهم واستعدادهم ببذل أموالهم واوقاتهم وقواهم وراحتهم في سبيل اخوة المسيح لأجل المسيح. ولم يذكر دفن الموتى. فهذا هو واجب طبيعي وبديهي على كل انسان وفي جميع الشعوب والديانات والحضارات. ونظراً الى أهمية هذا الواجب الايمانية أصبح عملاً من أعمال الرحمة، إذ يكمن في الايمان في كرامة الشخص حتى لو كان ميتاً.  ويُقدّم لنا الكتاب المقدس بعض النماذج في كيفية دفن الموتى، وذلك في دفن ابراهيم خليل الله بكل محبة واحترام (التكوين 25). ومثال آخر في طوبيا الذي أصبح مثالا في هذا العمل الذي يتطلب احياناً شجاعة وبطولة كما جاء في سفره: "ولَمَّا غَرَبَتِ الشَّمسُ، ذَهَبتُ فحَفَرتُ حُفرَةً ودَفَنت الجُثَّة. وكانَ جيراني يقولونَ ساخِرين: لم يَعُدْ يَخاف، فقَد سَبَقَ أَن سَعَوا إِلى قَتلِه بِسَبَبِ مِثلِ هذا الأَمرِ، فهَرَب خُفيَةً، وها هوذا يَعودُ إِلى دَفْنِ المَوت... فحينَ كُنتَ تُصَلِّي أَنتَ وسارة، كُنتُ أَنا أَرفعُ ذِكْرَ صَلاتِكُما إِلى حَضرَةِ مَجْدِ الرَّبّ، وكذلك حينَ كُنتَ تَدفِنُ المَوتى" (طوبيا 2: 3-4). وفي الانجيل المقدس أروع قدوة في هذا العمل، هو قدوة النساء التقيات، حاملات الطيب، ويوسف الرامي ونيقوديموس الذين قاموا بدفن جسد السيد المسيح "في قبر جديد وبالطيب...اللفائف والكتّان"، (يوحنا 19: 41) أي بكل ايمان ومحبّة ورجاء فصحي.

 

ويعلق التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية "يجب معاملة أجساد الموتى باحترام ومحبة، في الإيمان ورجاء القيامة. ودفن الموتى من أعمال الرحمة الجسدية، لإكرام أولاد ألله، هياكل الروح القدس" (بند 2300). ولا عجب إذا أدخلت الكنيسة في قانون الايمان نفسه ذكر دفن السيد المسيح وجعلته جزءا لا تجزأ من نواة الكرازة الرسولية الأساسية: “سَلَّمتُ إِلَيكم قبلَ كُلِّ شيَءٍ ما تَسَلَّمتُه أَنا أَيضًا، وهو أَنَّ المسيحَ ماتَ مِن أَجْلِ خَطايانا كما وَرَدَ في الكُتُب، وأَنَّه قُبِرَ وقامَ في اليَومِ الثَّالِثِ كما وَرَدَ في الكُتُب" (2 قورنتس 15: 3-4).

 

يعبّر عمل الرحمة في دفن الموتى خاصة عن الحقيقة الحاسمة: ليست للموت الكلمة الأخيرة: " فأَينَ يا مَوتُ نَصْرُكَ؟ وأَينَ يا مَوتُ شَوكَتُكَ؟ ... فالشُّكرُ للهِ الَّذي آتانا النَّصْرَ عَن يَدِ رَبِّنا يسوعَ المسيح" (1 قورنتس 15: 55-57). وبينما نرافق اخوتنا وأخواتنا المتوفّين الى مقرّ الراحة نملأ قلوبنا برجاء القيامة: " غَيرَ أَنَّنا نَنتَظِرُ، كما وَعَدَ الله، سَمَواتٍ جَديدةً وأَرضًا جديدةً يُقيمُ فيها البِرّ" (2 بطرس 3: 13).

 

ونستنتج مما سبق ان الرب سيحاكمنا بموجب علاقتنا معه من خلالهم. انه يتقمص نفسية هؤلاء الصغار والفقراء "كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). ويعلق البابا فرنسيس في أول يوم عالمي للفقراء 2017: "هؤلاء الأخوة الصغار المفضّلون لدي يسوع، هم الجائع والمريض، الغريب والسجين، الفقير والمتروك، والمتألم الذي لا يتلقى المساعدة، والمُحتاج المهمّش. وأشار أيضا إلى أنه عن طريق الفقير يقرع يسوع باب قلبنا" (عظة 62/2/2016).  يسوع قريب من كلِّ واحدٍ، ويقابل كلَّ واحد. هو ليس فقط فوقنا في سمائه البعيدة. بل بيننا، على شوارعنا المُغْبَرَّة، وفي سجوننا وفي مستشفياتنا، ساكنا بين الّذين لا سُكنى لهم، يرافق النّازحين والمطرودين من بلادهم، لذلك لا داعي للمسيحي ان يخاف يوم الحساب لان المبدأ الذي يجري يسوع حسابه عليه هو أفعال الرحمة التي يفعلها بالبشر. وهي تحسب انها فعلت بالمسيح، وهذا خير اطمئنان له.

 

 ولا يدين يسوع الملك المؤمنين فقط، بل يدين جميع البشر انطلاقا من هذه المحبة العملية المترجمة في أعمال الرحمة.  والدينونة هي عاقبة أدية تقرِّرها الاعمال، لن يحكم يسوع الملك علينا بموجب نياتنا الصالحة، ولا بموجب عواطفنا السامية، بل بموجب المساعدات المادية والخدمات الإنسانية التي قدمناها لإخوتنا، في فقرهم المدقع. فإن أردْتَ أن تنالَ رحمةً كُنْ أنتَ رحيمًا قبلَ أن يأتيَ الرب الديان. ومن هذا المنطلق تأخذ جميع الأشياء الارضية أبعادا جديدة. العالم بحاجة إلى المسيح الإنساني، المسيح الفقير، المسيح المتألم، المسيح المُشرّد المسيح، المصلوب، إنّ ابن الإنسان يقابلنا في كل محتاج. ولذلك فإن خدمة القريب هي خدمة لله.

 

 تتمُّ الدينونة اليوم على المحبة التي نكنَّها لإخوتنا من خلال أعمال الرحمة. يسوع الديان الذي يظن الناس انه سيرونه يوم مجيء المجيد، لقد التقوه به في الواقع من زمن طويل وطوال حياتهم اليومية، ان الانسان على صلة بالديَّان كلما كان امام قريبه، والحقيقة ان الدينونة تتم ومصير كلا واحد يُبتُّ فيه منذ الآن. فاللحظة الحاضرة هي حاسمة. وهذه اللحظة تتسم بخطورة لامتناهية، لأنها ابن الانسان والله نفسه في الانسان الذي امام الله، وسوف يدخل الذين حفظوا إنجيله في الحياة، الى حياة لا يكون للموت عليها من سلطان، فالرحماء يُرحمون.  فصانع الرحمة للآخرين من أي دين كان، إنما هو صانعها للمسيح: كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40).

 

وأمَّا الحكم على الملاعين أي الأشرار (متى 25: 41-46) فعلَّتهم هي التقصير أي الإهمال؛ إن التقصير كان بسبب عدم وجود محبة في حياتهم.   فقد رفضوا ان يُعينوا إخوتهم في الشدَّة؛ من لا يحب كان في البغض كما قال يوحنا الرسول "نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا انتَقَلْنا مِنَ المَوت إِلى الحَياة لأَنَّنا نُحِبُّ إِخوَتَنا. مَن لا يُحِبُّ بَقِيَ رَهْنَ المَوت.  كُلُّ مَن أَبغَضَ أَخاه فهو قاتِل وتَعلَمونَ أَنْ ما مِن قاتلٍ لَه الحَياةُ الأَبدِيَّةُ مُقيمَةٌ فيه"(1 يوحنا 3: 14-15). فقد كتب القدّيس أوغسطينوس، "لست أتكلّم، عن الفاسدين الّذين يجدّفون ضدّ المسيح. والواقع قليلون هم الذين يجدّفون بالفم، غير أنّ من يجدّفون بسلوكهم فهم كثيرون".

 

لا بد لنا جميعنا من الوقوف يوم الدين عن يمين الديَّان اوعن شماله، فلنا الآن ان نختار الموقف الذي نحبه، إذ لا اختيار لنا في ذلك اليوم؛ ولا بدّ من ان جميعنا من السماع إما قوله: تعالوا الي" إمّا قوله " اذهبوا عني ". ولنا ان نختار سماع الصوت الذي نحبهَّ.  ولا بد من جميعنا من النيل إما الحياة الابدية وإمَّا العذاب الابدي. فحياتنا الزمنية ووسائط النعمة وُهبت لنا من الله لكي نتمسك بالحياة الابدية والاَّ نعرض نفوسنا للموت والهلاك.

 

إنجيل اليوم هي دعوة ملحَّة الى مدِّ يد المساعدة الى جميع اخوتنا الفقراء المعوزين. إن ملكوت الله موجود، ولكن يجب البحث عنه في الأخرين الذين لا يذكرهم التاريخ، وتحديداً في أولئك الّذين طوّبهم يسوع في بداية كرازته: الفقراء والودعاء والجياع والعطاش والغرباء والذين بلا مأوى، والعريان والمرضى والمساجين، والمضطهدين والمشردين والغرباء هم أعضاء مملكته (متى 5: 1-12). ويعلق بيّوس الحادي عشر " المسيح الملك "لم يأتِ لِيُخدَم، بَل لِيَخدُمَ" (متى 20: 28)، وقد أعطى نفسه مثالاً عن التواضع وجعل من التواضع، في صلته بمبدأ المحبّة، قانونه الرئيسيّ " (الرّسالة العامّة: في البَدءِ (Quas Primas)، سنة 1925). 

 

سفك يسوع دمه حبا لنا، كي نحبّ الآخرين كما أحبنا، وان نضحّي، كما ضحّى بحياته على الصليب من أجلنا، وان نحب جميع الناس ونخدم كل إنسان حسبما نستطيع، فهذه المحبة للآخرين تمجِّد الله لأنها تعكس محبتنا له وعليه نُدان. ويعلق القديس خوسيه ماريا" إعطاء حياتنا للآخرين، هذه هي الوسيلة الوحيدة الّتي نمتلكها لنعيش حياة يسوع المسيح، ونتّحد به" (درب الصليب"، المرحلة 14). في حين من لا يقوم بالرحمة تجاه الآخرين لن يجلس عن يمين الله.

 

الخلاصة

 

علم يسوع تلاميذه بمثل العذارى العشر وجوب السهر وبمثل الوزنات وجوب الاجتهاد ويعلمهم الآن اظهار اعمال الرحمة للمساكين والمصابين استعداد لمجيئه الثاني. فيسوع ملك الكون والتاريخ سيعودُ ثانية دياناً في آخر الأزمنة لكي يُحاسب الناس أجمعين ويعطي كل واحد ما يستحقهُ جزاء أعمالهِ، خيراً كان أم شراً في الدينونة العامة. إنَّ تلك الدينونة ستفاجئ الجميع: " كنتُ جائعاً فأطعمتموني " " كُلَّما صَنعتُم شَيئاً مِن ذلك لِواحِدٍ مِن إِخوتي هؤُلاءِ الصِّغار، فلي قد صَنَعتُموه" (متى 25: 40). لا يمكننا أن ندخل الملكوت الذي أعلن عنه الرّب يسوع المسيح إلاّ من اعمال الرحمة للقريب.   

 

ويوم الدينونة فقط، سيعرَفُ أن كل إنسان هو أخ ليسوع، وكل عمل محبةٍ أعطي أو رُفضَ لهذا الأخ، أعطي او رُفض ليسوع نفسه. وإن حب المسيح اللامتناهي للإنسان هي حقيقة مذهلة لن تبقَ إلى آخر الأيام، بل على العكس، يُظهر قيمتها وأهميتها، لنا ألان حتى نعرفها في وقتٍ لا يُمكنُ فيه العودة إلى الوراء.

 

إن بإتمامنا بأعمال الرحمة يملك الله على قلوبنا وافكارنا واجسادنا فتصبح حياتنا مُلكاً له في الدنيا وفي الآخرة، لأننا أحببناه في الآخر كما هو أحبَّنا وضحى بحياته على الصليب من أجلنا. ومن هذا المنطلق فإن أنجيله دعوة ملحة الى مدِّ يد المساعدة الى جميع اخوتنا الفقراء المعوزين من أجل المسيح الملك، وبذلك يُفسح لنا المجال للدخول الى الملكوت الابدي، ملكوت يسوع المسيح ربنا

 

الدعاء                                                      

 

أيها الاب السماوي، انت الذي أرسلت لنا ابنك يسوع، ملك الكون، وسيد الازمان، وديان العالمين، لا ليُدينَ العالم بل ليُخلِّص به العالم، اجعلنا ان نراه في اخوتنا الصغار، من الفقراء والمساكين والمشرَّدين والمرضى والمنبوذين والمهمّشين ونكون رحماء تجاههم في شدتهم فنستحِقَّ أن نسمع يوم الدين تَعالَوا، يا مَن بارَكَهم أَبي، فرِثوا المَلكوتَ المُعَدَّ لَكُم مَنذُ إِنشاءِ العَالَم ".  فارحمنا ايها المسيح، ملم الملوك ورب الرباب الذي صار انساناً وحلَّ فينا. آمين

 

قصة

 

سأل أحدهم الأم تيريز دي كالكوتا: "لماذا تقومين بهذه الخدمات للفقراء والمساكين؟"

 وكانوا يتوقعون إجابتها: أعملهم من أجل الله، أو حبا بالله.

لكنها ابتسمت وقالت: "لأني أحب".

"فاستطرد السائل قائلاً: لأنك تحبين الله، من أجل الله.

فأجابت: لا، " لأن آلامهم تلمس قلبي".

فسألها من جديد. ولو لم يكن موجود الله؟

فأجابت، لا أحبهم من أجل الله، أحببت دائما من هو أمامي" وبما أن في الإنسان موجود الله، فأنت تحب الله من خلال حبك للإنسان. ثم اختتمت قائلة: "أنا لا أعرف إذا كان أولئك الذين يقولون إنهم يحبون الله، هم يحبونه حقاً، لكنني أعرف تماماً أنّ مَن يحب الإنسان فهو يحب الله بالتأكيد".