موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

يا معلّم! ما أعظم الوصايا في الشريعة؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الثلاثون (الإنجيل متى 22: 34-44)

 

حياتنا اليومية من الميلاد وحتى الممات، محاطة بالقوانين، الإيجابية والسلبيّة. فهل نحن بحاجة لكل هذه الوصايا؟ أما قال القديس أغسطينوس: أحبب واعمل ما تريد! وقال أيضا: لو عاش النّاس حسب وصية يسوع الوحيدة: أحبب إلهك وقريبك، فتُغفر لك جميع خطاياك، لما احتجنا لا لجيوش ولا لسلاح ولا لسجون. لكن هيهات كم نحن بعيدون عن هذه التوصية.

 

لكل شعب كتاب قانونه ووصاياه، التي تزداد من جيل إلى جيل. عند الشعب الإسرائيلي، خاصة بعد تحريرة من العبودية البابيلونية ورجوعه إلى أورشليم، قد استلم الفريسيون والكتبة ورؤساء الكهنة، قيادة الشعب، وراحوا يُهيمنون عليه بكثرة الشرائع والوصايا التي وصلت إلى 614 وصية منها 365 وصية تحريم أي وصية لكل يوم، هذا وكان لكل مخالفة وصية قصاص واضح. ومن أصر على المخالفة كان أصحاب الشرائع يعطونه شهادة أنه لن يدخل الجنة مع أبناء إبراهيم. فكان الناس مراقَبين ليل نهار، حتى لا يتكبّروا على حكامهم. الوصايا، بحدّ ذاتها جيدة، وهي، إن صحَّ التعبير، كإشارات السير على الطرقات، ترينا أي اتجاه نأخذ، حتى نصل الهدف. لكن طبقة الكتبة منهم، أكثروا من تضييق الخنّاق حول الشعب طالبين منه طاعةً عمياء، لإظهار سلطتهم عليه. فلو انتبهوا وحافظوا على ما جاء في التوراة، وهي وصية المحبة العظيمة، لما كانوا احتاجوا لكثرة هذه الوصايا.

 

أحد ملوك إسرائيل أرسل هدية ثمينة، لأحد روؤساء الكهنة، وهي عبارة عن حجر كريم غالي الثمن، في علبة ذهبية هي أيضا غالية الثمن، مع الطلب منه، بعد معاينته لهذه الهدية، أن يُرسل هو أيضا لملكه هدّية بالمقابل، تكون أيضا ثمينة. فأرسل الكاهن مِلفّاً من ورق البردي (البابيروس) وهو أغلى الورق الذي استعمله البشر لمدة طويلة للكتابة قبل ما يعرفوا اختراع الورق، مكتوب عليه نص من العهد القديم، وضعه في صندوق خشبي رخيص الثمن. فاستغرب الملك عند مشاهدته لهذا الصندوق الذي لا قيمة له وقال: أنا بعثت له حجرا كريما في صندوق ذهبي، وهو يبعث لي ورقة في صندوق لا قيمة له؟ لكنه استغرب حينما فتح الصندوق، ووجد فيه رسالة من الكاهن يقول فيها: هديتي وهديتك لا تتشابهان. أنت بعثت لي هديّة، يجب أن أحتفض بها، لكنني أبعث لك هدية، هي يجب أن تحفضك. ولمّا فتح الملك الملف، كان مكتوبا عليه: "إسمع يا إسرائيل! الرّبُّ إلهنا ربٌّ واحد. فاحبب الربَّ إلهك من كلِّ قلبِكَ ومن كلِّ نفسك ومن كلِّ قوّتك. ولتكن هذه الكلمات، الّتي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك، وقُصَّها على أولادك وتكلَّم بها حين تجلس في بيتك، وحين تمشي في الطّريق، وحين تنام وحين تقوم، واربطها علامةً على يدك، ولتكن عصائب بين عينيك، واكتبها على قوائم أبواب بيتك وعلى أبوابك"(تثنية 5: 5-9).

 

من آلاف السنين في كل تاريخهم، وعلى مدخل كل كينيست أي بيت صلاة، وبالأخص عند حائط المبكى في أورشليم، يُمضي المُصلون اليهود وقتا لا يُستهان به قبل بداية الصّلاة، بربط المعصم والجبين بهذه الملفات المكتوبة عليها الآيات المذكورة. وهم يُعبّرون بذلك عن إيمانهم بإلههم يهوى، الذي هو سند حياتهم، في كل ما ذاقوا من اضطهادات ومنفى وعذاب. أحبب إلهك بكل قلبك وأحبب قريبك.

 

عام 1993 انتهى العمل من تأليف كتاب مهم للكنيسة الكاثوليكية، ألا وهو كتاب التعليم المسيحي العام، وهو كمرجع فقط، لمحتوى تعليم الكنيسة الكامل، لا شبيه له في التاريخ، بين كل الكتب، التي كانت في أيدينا، من كتب التعليم القديمة. مَن لا يذكر كتاب التعليم القديم، الذي أصدرته الكنيسة بعد انفصال لوثر عنها، والذي هو أيضا، ألّف كتاب تعليمه الخاص والذي لا يزال ساري المفعول إلى اليوم في الكنيسة البروتستانتية. فردّاً عليه، ألّفت الكنيسة كتابها اللاهوتي الذي كان يُفرَض علينا جفظه غيبا. إذ كان كله سؤال جواب، سؤال جواب.

 

كتاب التعليم الجديد هذا، اعتمد على الشرح المُبسّط، لكل حقائق الدين. وقد أَشْرَف على تأليفه آنذاك اللاهوتي النادر، الكردينال جوزيف راتسنجر، الذي كان يدير جمعية نشر الإيمان في العالم، قبل أن يصبح البابا بندكتس السادس عشر. وبتقديم هذا الكتاب، قال راتسنجر: مرجع هذا الكتاب الأوّل، هو التوراة. لذا فأكثر مقاطعه تشرح الإيمان الواحد بلغة مشتركة، وإذ ساهم في تأليفه، خبراء من جميع أنحاء العالم الكاثوليكي، فهو في نسخته المنقّحة الآخيرة، يحتوي على أصوات الكنيسة الواحدة، وككتاب نهائي، حاوٍ كسمفونية موسيقية، عدة ألحان متطابقة.

 

بين يدي الكتاب، لقد أصبح كتابا ضخما، يحتوي بين دفّتيه، ولأوّل مرة، على كل حقائق إيمان الكنيسة، جملة وتفصيلا، التي كانت مُبعثرة هنا وهناك، وفي كتب عديدة أُخرى، على مدى التّاريخ، إذ إيمان الكنيسة ما كان ثابتا وواضحا ومعروفا مثلما نعرفه اليوم، ومثلما هو في قانون الإيمان. وحسب الحِقَب التّاريخيّة، كانت كتب الدّين  التي تصدر، تهتم بشرح حقائق الدّين حسب الظروف التي كانت تمرُّ بها.

 

محور وموضوع كتاب التعلبم الجديد الأساسي، هو المسمّى يسوع، ابنُ الله ومخلِّصُ البشر. لذا فقسم كبير منه، يُخبر، ويَسرُد عن حياة يسوع، وعلاقته مع البشر نثرا. فالمعلّم بحاجة له، والمبشّر بحاجة له، والواعظ بحاجة له. ولأننا مقتنعون، أنه بشرحه يبقى مطابقا لإيمان الكنيسة، فنجد فيه حلّاً لمشاكل النّاس أجمعين. أول الّذين أمنوا به وتبعوه كانوا تلاميذُه. هؤلاء لم يكن عندهم لا قوانين، ولا تعليمات خاصة يحافظون عليها ويطبّقوها بحياتهم اليومية، حتى يُبرهنوا أنهم مسيحيّون، كما كان الحال مع اليهود حواليهم، حيث كانت حياتهم مُحاطة بالوصايا والقوانين: لماذا لا يصوم تلاميذك؟ لماذا لا يغسلوا أيديهم قبل الأكل؟ سيدهم كان أعطاهم تعليما بسيطا لحياتهم وهو: أحبب الربّ الهَكَ، بكل عقلك وقلبك وأحبب قريبك كنفسك. هذه هي العلامة الفارقة التي تُعرِّف عليهم، أنّهم من أتباعه، وتُميِّزهم عن غيرهم في حياتهم اليومية، وفي مُجتمع، ما كان يفهم تحت القرابة، إلا القرابةَ الدّموية، والإنتسابَ إلى ذرّية إبراهيم. المَحبّة كالنّار، إن أَضَفْتَ عليها حطباً، زادت حرارتها في الجالسين حولها، وإن لم تعطها حطباً، خفّت حرارتُها، إلى أن تخمَد وتنطفئ تماما. النّار هنا هي رمزٌ للإيمان، إنْ مارسناه في حياتنا، شهد لنا بأعمالنا، أننا حقّاً من تلاميذ يسوع. ومَن لا يخطر على باله في هذا المجال، موقِفَنا أمام الدّيان العادل، حيث سيُعدِّدُ لنا ما قمنا به أو أهملناه تجاه قريبنا. حيث سنسمع: كلَّ ما فعلتموه لأَحد من هؤلاء الصّغار فلي فعلتموه. وللأسف، إن علامة التّعرّفِ علينا، أي المحبة، قد خمد لهيبها في قلوبنا وأعمالنا. فأين ومتى، ولمن نُقدِّم نار حُبِنا، حتى يعرف النّاس أننا تلاميذُه ويُمجِّدوا أباكم السّماوي.

 

محبة القريب تعني، قبولَه كما هو، ومن أي دين أو أمّةٍ كان، لا أعرفه ولا يعرفني عن قُرْب، هو مختلف عنّي، إذ هو هو، وأنا أنا، لكنَّ وصية يسوع لا تأمُرُني، أنْ أعملَ من الأنا هو، ومن الْهُوَ أنا، بل أن يبقى كلٌّ منّا ما هو، لكنّه يوصينا، ألاّ نَكُنَّ لبعضنا البعض، إلاّ الحبَّ والتسامح والقبول، كما يقول بولس: "لا تكونوا مديونين لبعض بشيء، إلاّ بأن يُحبَّ بعضُكم بعضاً. لإنَّ من أحبَّ غيرَه فقد أكمل النّاموس" (روم 13: 8). والمحبّة هي أكبر الفضائل. الإيمان والرّجاء يزولان وأمّا المحبّة فلا تزول. أما قال يعقوب الرّسول: الله محبة، ولأن الله أحبّنا علينا أن نُحبّ الإخوة؟. المسيحي لا يقدر أن يعمل كما كان الفريسيون يعملون أي أحبب قريبك وابغض عدوّك، ولا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض. مطران بادربورن السابق (J.J. Degenhard) قال: الوصيتان أحبب إلهك وأحبب قريبك، هما الوجهان للإيقونة الواحدة، فلا يمكن ممارسة الواحدة دون ممارسة الثانية، تماماً كما أنّه لا يمكن للإنسان أن يعيش بنصف رأس أو نصف وجه، فالوصيتان مرتبطتان مع بعضهما، ولا يمكن فصلُهما، وهذا ما يمكن توضيحه، لأن الكثيرين ينسون ذلك.(من لا يتذوق المحبة في صغره لا يعرف أن يحب في كبره)

 

فجواب يسوع للذي سأله: يا معلِّم! ما اعظم الوصايا؟؟ واضح ولا تردُّد فيه. وما علينا إلا أن نتأمل فيه ونمارسه، في أوقات أصبح الغرباء بسبب الظروف التي تمرُّ فيها البلاد بل العالم كلُّه، جيرانا لنا، تظهر فيه علامات العداوات اليومية في الحي أو الشارع أو البلد، الذي سكنوا فيه. إن كلمات يسوع هي مرآة، منصوبةٌ أمامنا، لنشاهد فيها، ليس وجهنا فقط، بل ووجه قريبنا أيضا. أحبب الرب إلهك وأحبب قريبك كنفسك. آمين