موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٨ مايو / أيار ٢٠٢٠

يا سلطانة المعترفين، صلّي لأجلِنا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
إعداد وتحضير: الأب فارس نعيم سرياني، خوري كنيسة سيدة الوردية للاتين في الكرك

إعداد وتحضير: الأب فارس نعيم سرياني، خوري كنيسة سيدة الوردية للاتين في الكرك

 

سنتحدث اليوم عن الطلبة التي فيها ندعو السّيدةَ العذراء: يا سلطانة المعترفين، صلّي لأجلِنا. فمن هم المعترفون؟ ومَن نقصد بهم؟ هل هم المتقدّمون للاعتراف بخطاياهم أمامَ الكاهن في سرّ المصالحة؟

 

من المعروف أنَّ المسيحية ديانة قامت على بطولةِ الشُّهداء الذين قدّموا حياتهم على مذبح الشّهادة، رخيصةً في سبيلِ المسيح رافضينَ إنكارَه وجحود إيمانهم. هؤلاء هم الّذين حقًّا عَدَّوا العالمَ نُفايةً ليربحوا المسيح. ولولا بطولة الشّهداء لاندثرت المسيحية في مَهدِها منذُ نشأتِها. لذللك يقول ترتليانوس، أحدُ آباء الكنيسة، من القرن الثّاني: "دماءُ الشّهداءِ، بِذارُ الكنيسة". فلولا دماؤهم، لما كانت كنيسة ولما كنّا نحن اليوم مسيحيين. فلهم الفضلُ الكبير في وجودِنا اليوم مسيحيين في هذهِ البقعة من الأرض، الّتي ارتوت بدمائهم العطِرة الزّكية. أمّا عددُ الشّهداء، منذ بداية المسيحية وحتّى يومنا فيقدّر بعشرات الملايين، إن لم يكُن بالمئات أيضًا، كما تشهد بذلك كتب التّاريخ والعديد من الدّراسات والشّهادات.

 

كانت أوّل موجة اضطهاد تعرضت له المسيحية من قِبَلِ اليهود؛ إذْ وُلِدَت المسيحية في وسط المجتمع اليهودي الذي رَفض المسيح، واضطهدَ أتباعَه ونكّلَ بهم، بالتّعذيب الجسدي وبالمقاومة الفكرية وبالسّجن وبالقتل أيضًا. وكان أوّل الشّهداء القديس اسطفانوس، الّذي قضى رجمًا بشهادة شاول (بولس) نفسه، ثمّ تَبعه القديس يعقوب. بعد ذلك دخلت المسيحية في مسلسل طويل من الاضطهاد الوحشي العنيف بشتّى أشكاله وأنواعه، وانضمَّت قوافل، تكاد لا تتوقّف، من شهداء الإيمان، جَرّاء الاضطهاد الذي مارسته الإمبراطورية الرومانية الوثنية. حيثُ رفض المسيحيون تأليه الإمبراطور الروماني وعبادته، وتقديم البخور والذّبائح له. كما رفضوا الخدمة العسكرية في الجيش الروماني. لذلك نظرت الإمبراطورية الرومانية إلى المسيحيين على أنهم مجموعة خارجة عن القانون، تهدد سلامة الإمبراطورية.

 

بدأ الاضطهاد الرُوماني على يد الإمبراطور نيرون، حوالي سنة 64 م، حيثُ قام نيرون بحرق مدينة روما، رغبةً منه في إعادة بناء العاصمة. وقد اختارَ المسيحيين ليكونوا كبش فداء، ويلصقَ بهم تهمة اِحراق المدينة. فَألّب الجماهير ضدّهم، وبدأَ مسلسلٌ دامٍ وموجاتٌ عنيفة، بوسائل تُجفِّف الدّمَ في العروق من مجرّد ذكرها، فكيف الأمر لِمَن كانوا يقعونَ ضحيّة لها؟ ومع ذلك كانت طوابير الشّهداء تتقدّم من حتفها المحتّم دون أن تأبه بِه، عالمةً أنّ مع المسيح النّصيب الأفضل الّذي لن ينزعه منهم العالم. واستمرَّ هذا الفصل الشّيطاني مدّة 250 عام تقريبًا، وتناوب على ممارسته 10 أباطرة، كان آخره وأشدّه مع الإمبراطور ديوكلتيانوس.

 

ومع اعتلاءِ الإمبراطور قسطنطين عرشِ الإمبراطورية، طُوِيَ عصرُ الاضطهاد واُسدِلت السّتارةُ عن هذا الفصل الدّرامي الرّهيب. حيثُ أصدر مرسوم ميلانو الشّهير سنة 313م، والذي بموجبه انتهى الاضطهاد، وأصبحت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية الرّومانية.

 

خلال فترة الاضطهاد، تعرّض آلافُ المسيحيين للتنكيل والعذاب، فمنهم من قضى نحبَه وقُتِلَ في سبيل إيمانِه، ومنهم مَن لم يستشهد وَبَقيَ حيًّا. أمّا الّذين قُتِلوا فيطلقُ عليهم مصطلح شهداء، وأمّا الّذين اضطُهِدوا أيضًا من أجل إيمانِهم، ولكنّهم لم يصلوا مرحلة القتل والشّهادة، فهؤلاء ندعوهم (المعترفين).

 

والمعترفون بشكلٍ عام هم المسيحيونَ الذين جاهدوا في سبيل الإيـمان ورفضوا جحوده وانكارَه، وتعرّضوا لأشكال الاضطهاد، وذاقوا صنوفَ الآلامَ وألوانَ العذاب، بسبب إيمانهم القويم المسيح. ولكنَّ عذاباتِهم هذهِ لم تُفضِ بهم إلى الموت الجسدي، أي أنهم لم يموتوا شهداءَ الدّم. ولكنّهم ظلَّوا أحياء جسديًّا بالرّغم من العذابِ الذي لَحقَ بهم، مع أنّهم كانوا مستعدين للموت، توّاقين إلى الشّهادة من أجلِ اسمِ يسوع، لكنّهم لم ينالوها كباقي الشّهداء. ومن أشهر القدّيسين المعترفين القديس مكسيموس المعترف.

 

أمّا سببُ تسميَتِهم بالمعترفين، فهو لأنهم اعترفوا بإيمانهم أمام مُعذّبيهم ومُضطهديهم من حكّام وأباطرة وغيرهم، ولم ينكروا المسيحَ، بل ظلوا ثابتين في إيمانهم، معترفين به، ولكنّهم لم يحظوا بإكليل الشهادة في نهاية الأمر. وللمعترفين كرامة كبيرة ومَنزِلة رفيعة. حيث تضعُهم الكنيسة في منزلةِ الإكرام بعد الشهداء مباشرة. والمعترف في نَظرِ الكنيسة هو الشهيدُ الحيّ، فقد تمنّى الموت لأجل المسيح، دونَ أن ينالَ مُنيتَه ومُشتهاه.

 

تعرّضَ المعترفونَ لعذابات نفسية ومعنوية أيضًا. فكانَ معذِّبوهم يساومونهم على حياتهم أو حياة عائلاتهم وأحبّائهم، بأن يَنجوَ هؤلاء من العذاب والموت، لِقاء إنكارِ المعترفين للمسيح وجحودِهم للإيمان القويم. وكذلك عن طريق إغرائهم بالمال أو بالمناصب الرّفيعة في الدولة. لكنّ المعترفينَ كانوا يرفضون كلّ هذه الإغراءات، مُفضّلين العذاب والموت، على نُكران المسيحِ وخيانةِ الإيمان. ومن الجدير بالذكر أنَّ الشهداء بدورِهم مرّوا بمرحلة الاعتراف، لأنّهم عُذِّبوا كثيرًا قبل أن يحُسَم الأمر ويُجهزَ عليهم بالموت.

 

كانَ للمعترفين أثر كبير في نفوس الوثنيين. فشجاعتهم وصمودهم وبسالتهم، قادت كثيرًا من الوثنين إلى الإيمان بالمسيح. عندما كانوا يُشاهِدون كيفَ كان المعترفون يحتملونَ العذاب المرير من جهة، متمسّكين بالمسيح العذب لا يحيدون عنه، من جهة أخرى. كما كان للمعترفين أثرٌ في نفوسِ أقرانِهم المسيحيين؛ فَثَبتوا في الإيمان أكثر، وتشدَّدوا وتشّجعوا لمواجهة الاضطهاد والعذاب.

 

وعندما يُطلق على مريم أنّها سلطانُة الـمعترفين، فهذا يعني أنَّ إيـمانَها يفوق إيمانَ كلِّ الـمسيحين، وحياتُهـا وإيمانُهـا كانَ القوةَ الدَّافعة لكثيرٍ من القديسينَ وغيرِهم، لتكونَ حياتهم إعلانًا عن قوة إيمانهم تشبهًا بأمِّهم مريم.

 

نسأل الله بشفاعة القديسين المعترفين، أن يمنحنا الثبات في الإيمان، ويمنح جميع المسيحيين المعذبين المضطهدين، جسديًّا ومعنويًّا أيضًا، بسبب إيمانهم ولأجل اسم يسوع، الثبات والرسوخ في المسيح. وأن يمنحنا الشجاعة للدفاع عن إيماننا أمام هجمات الآخرين، دون خوفٍ من عذاب أو فزعٍ من اضطهاد، وألّا ننكر إيمانَنا ومسيحينا في مجتمعنا، وأينما حللنا، وفي أي زمن كنّا، وأمام الصعوبات التي تعترضنا، حتى لو قُضي الأمر علينا بأن نموت شهداء الإيمان وحبّ المسيح.

 

فالحياةُ عندي هي المسيح، والموتُ ربح (فيلبّي 21:1)