موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٠ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

يا ربَّ القوّاتِ كُن معنا

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
"يَا شَعبي ماذا صنعتُ بِكَ، وبِمَ أسأمتُكَ؟ أَجِبني" (ميخا 3:6)

"يَا شَعبي ماذا صنعتُ بِكَ، وبِمَ أسأمتُكَ؟ أَجِبني" (ميخا 3:6)

 

أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. عُدنا إلى مَسيرةِ الزَّمنِ العَادي، وسلسِلَةِ الآحاد الأربعة والثّلاثين، الّتي تُرافِقُ مسيرتَنا خلالَ العام، خَارجًا عن إطار الأزمنة الكُبرى، أي المجيء والميلاد، ثمَّ الأربعيني والفصحي. تلكَ الآحاد الّتي نتوِّجُها بِالأحدِ الرّابع والثّلاثين، عيدِ يسوع المسيح، مَلِكِ الكون والكائِنات.

 

في هذا الأحد الثّاني عشر من زمنِ السّنة، تَأمُّلُنا يدور حولَ ما وردَ في القراءةِ الأولى من سفرِ إرميا النّبي، وما جاءَ أيضًا في المزمورِ الثّامنِ والسِّتين. سنتحدّث حولَ موضوع مِحوَري وواقِعي في الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد. سنتحدّث عن اضطهادِ البار، وتألُّمِ الصّالح، وما يُنزَلُ بالخيّرينَ من مذمّةٍ ومَهانةٍ، واتّهاماتٍ لاذِعة وانتِقاداتٍ لاسِعة، وما ينجمُ عنها من مَساوِئَ نَفسية وآثارٍ معنوية سلبية. ولا ذنبَ للبار سوى أنّه بار، ولا خطيئةَ للصّالح سوى أنّه صالح، ولا إثمَ للخيِّرِ سوى أنّه جانبَ الشَّرَ وَصَنعَ الخير.

 

إذا عُدنا إلى سفر الحِكمة، الفصل الثّاني، نقرأ: "لِنَكمُنْ لِلبَارِّ فإِنَّه يُضايِقُنا. صارَ لَومًا على أفكارِنا، وحتَّى مَنظَرُهُ ثَقُلَ عَلينا. إِن كانَ البار اْبنَ اللهِ فهو يَنصُرُه وُينقِذُه مِن أَيدي مُقاوِميه. فلنمتَحِنْه بالشَّتْمِ والتَّعْذيب. وَلنَحكُمْ علَيه بِمِيتَةِ عار، فإنَّهُ سيُفتَقَدُ بِحَسَبِ أَقْواله" (حكمة 12:2-20). أمّا في سفر إرميا النّبي فَنَقرأ: "هلُمُّوا نتَآمَرُ على إرْمِيا. هَلُمُّوا نَضرِبُه بِاللِّسانِ، ولا نُصْغي إِلى جَميعِ كَلِماتِهِ" (إرميا 18:18).

 

فلِماذا ينالُهم الهَمزُ والَّلمزُ، والمذمةُ والملامةُ، والتّشهيرُ والتّعيير؟! أَعَدلٌ أن يتألمَ من أَمضى عُمرَهُ يصنعُ الخيرَ للآخرين؟ أَحقٌّ أن يُضطهَدَ مَن أَمضى سِنيه مُضحِّيًا في سَبيلِ منفعةِ غيره؟ بل في أيِّ شرعٍ يجوزُ أن يُقاسي مَن كان يخدمُ بمجانيّة، ويبذِلُ بلا حِساب، ويُفرِّقُ هنا وهُناك، دونَ أن تعلمَ شِمالُه ما صَنَعت يمينُه، ويحرقُ نفسه كالشّمعةِ في صالحِ الآخرين؟ ثم لا يطالُه سِوى قبيحُ الكلامِ وإطالةُ الّلسان؟!

 

يقول إرميا النّبي: "قد سمعتُ مذمّةً من كثيرين، والهولُ أحاطَ بي". فَماذا صنع إرميا، وهو رجلُ الله ومُرسَل العَلي، حتّى يحصلَ به كلُّ هذا؟!

 

الجوابُ بسيط: إن اضطهادَ الرّسول هو اضطهادٌ للمُرسِل، وإزهاقَ الحقيقة هو اجهاضٌ للحَق، ونبذَ النّور هو تفضيلٌ للظُّلمة، وإقصاءَ البار هو دحرٌ لله نفسِه. دونَ أن نَنسى أنَّ يسوعَ نفسَه قد عَانى مِن هذا كلِّه، وكَذلِكَ أَنذَرَنا من كِّل هذا، قبل حدوثِه لنا نحنُ أيضًا: "إذا أبغَضَكم العالم، فأعلموا أنّه أبغَضني قبلَ أن يُبغِضَكم. إذا اضطهدوني، فسيضطهِدونَكم أنتم أيضًا" (يوحنا 18:15-20) كلامُ المسيحِ واضح وصريح: اضطهادُ البار هو جزءٌ أساسيٌّ من رسالته، لأنّه كمعلِّمِه ومُرسِلِه، آيةٌ معرّضةٌ للرّفض، فالعالم لا يقبلُ مَن لم يُشاكِلهُ (يوحنا 19:15).

 

كثيرونَ مِنّا اختبروا هكذا مواقِف ومروّا بهكذا ظروف: نُكران جميل، مَذمّة، إجحاف، تهميش، تجريح، سوء فهم، مكائِد، كمائِن، حيل، تبخيس قيمة العمل، سرقة إنجاز، عَض الأيدي الممدودة، البصق في الصّحن، شتائِم، استهزاء، سُخرية... وقِس على ذلك كثير من ردود فعل سلبية ومُقيتة، جَزاء الخير الّذي صَنَعناهُ هُنا وهُناك.

 

دعونا نعود إلى سفر المزامير، تحديدًا إلى المزمور الرّابعِ والثّلاثين لنسمعَ ماذا يقول لنا: "اِلتَمَستُ الرَّبَّ فأجابَني ومِن جَميعِ أهْوالي أَنقَذَني/ الأَبرارُ صَرَخوا والرَّبُّ سَمِعَهم ومِن جَميعِ مَضايِقِهم أَنقَذَهم/ البارُّ كثيرةّ مَصائبُه والرَّبُّ مِن جَميعِها يُنقِذُه/ الشَرْيرُ بشَرِّه يَموت ومبغِضو البارَ يُعاقَبون/ يَفتَدي الرَّبُّ نَفوسَ عَبيدِه وجَميعُ المُعتَصِمينَ بِه لا يُعاقَبون".

 

نعم، كثيرةٌ هي مصائِبُ البار، كثيرون من يُريدونَ بِهِ شرًّا. كثيرون من يكيدون له المكائِدَ وَينصبونَ المصائِد. كثيرون من يَطلبونَ له الأذى والهلاك، ويترصّدونَه على هفوةٍ أو سقطة، لينقضّوا عليه كالضّباعِ الضارية في السّفاري الأفريقيّة.

 

أن تكونَ بارًّا، قد لا يعني ذلك بالضّرورة أن تَنعمَ بحياة هادئة مطمئنّة خالية من المشاكل. بل على النّقيض من ذلِك تمامًا، قد تكثُرُ مَصائِبكَ وتزيد مشاكِلُك. ولكنَّ البّار بالرّبِّ يعتصِمُ ويثِقُ بأنَّ القديرَ قادرٌ أن يُخلِّصَه ويُنقِذَه منها جميعًا. وهذا هو مصدر قوّة الأبرار، الّذين بالرّغم من كلِّ ما يُصيبُهم، يَستمرّون في عمل الخير، ولا ينكسِرون ولا يضعفون ولا يخنعون ولا يركعون، لِمُدبّري المكائد، وواضعي الفِخاخِ في الطّريق، والعُصيِّ في الدّواليب.

 

مِثالُنا في ألمِ البار واضطهادِ الصّدّيق هو المسيحُ نفسُه. البارُ الصّدّيق، الكامِلُ الأكمل، الّذي لم يصنع سوءًا ولَم يرتَكِب إثمًا، ولم يوجد في فمِه مَكرٌ أو غِشٌّ أو خِداع. صنعَ الخير، أَجرى الآيات، شَفى المرضى، طَردَ الشّياطين، أَطعمَ الجياع، أَعادَ البصر، طَهّرَ البُرصَ، أقامَ الموتى. ثمَّ كيفُ كُوفِئَ؟! تألّم كثيرًا، اضطُهِدَ كثيرًا، رُفِضَ كثيرًا، وأُسيءَ إليه كثيرًا، شُتِمَ ولُطِم ومُلِء بُصاقًا، إلى أن جُلِد وكُلِّلَ بالشّوك وعُلِقَ مصلوبًا!

 

"يَا شَعبي ماذا صنعتُ بِكَ، وبِمَ أسأمتُكَ؟ أَجِبني" (ميخا 3:6) كلُّنا نعرفُ هذهِ الآيات جَيِّدًا، فَقَد دَأَبنا على إنشادِها يومَ الجمعة العظيمة. فيها اللهُ يُعاتِبُ شَعبَه: ماذا صنعتُ بك، بِمَ أحزنتُك؟ أخرجتُك، سِرتُ بك، قُتُّكَ بالمن، سَقيتُك من الصّخرةِ ماءً... وأنتَ أَسلَمتَني، لَطمتَني، جَلَدتني، كَلَّلتَني بالشّوك وبقصبة ضربتني، علّقتني مصلوبًا، سَقيتَني خلًّا، طِعنتني بحربة! لم أصنع لك سوى كلّ خير، وأنت قابَلتَني بكلِّ شر!

 

المسيح لَم يتّقِ شَرَّ من أَحسنَ إليهم! مع أَنَّهُ كانَ يعلمُ أفكارَهم، كان يعلمَ أنّهم يُريدون به شرًّا مُميتًا وعذابًا مُبيدًا وألمًا مُهلِكًا. ومع ذلك استمرَّ في التّجوال والتّرحال، يصنع الخيرَ بمجانية لكلِّ مَن يسأل، حتّى لو كان الثّمنُ لذلك الخير، هو شرٌّ وعذاب ومهانة!

 

إذا يا أحبّة، ماذا نَعمل؟ أَنَتوقّفُ عن صُنعِ الخير كردّة فعلٍ على سُوء ظَنِّ البعض؟ على افتراءاتِ البعض؟ على شَتيمة البعض؟ على مَذَمّة البعض؟ على إجحافِ البعض؟ على سُخرية البعض واستهزائِهم؟ كلّا.

 

المسيح لم يأخذ رَدّة فعلٍ مِن الّذين أَذوه. وبّخهم نَعم، أجابَهم نعم، لم يُذعِن لشرّهم نعم، لم ينكسِر أمامَهم نعم. ولكنّه ظَلَّ يعتبرهم خرافًا ضالّة، تَاق إلى عودتِها للحظيرة الواحدة، فمنهم من عاد طائِعًا كنيقوديمس ويوسف الرّامي، ومنهم من تَصلّب وعاندَ كحنّان وقيافا. وكلٌّ يَجني ثمارَ أعمالِه واختياراتِه.

 

إلى كلِّ بارٍّ صالِح، إلى كلِّ فاعل خير، إلى كلِّ مِعطاءٍ سَخي، إلى كلِّ وديعٍ متواضِع: لا تجعل لؤمَ الآخرين يجعلُك لَئيمًا. لا تَجعل شراسَتهم تُحوِّلُك ذِئبًا، ولا قُبحهم يُحوِّلُك مَسخًا. لا تَسمح لِحُموضَتِهم أن تُذيبَ معدَنك الغالي الأصيل. لا تَسمح لمُخلَّفَاتِهم الضّارة أن تُلوِّث عذوبَتَكَ، ولا لانبعاثاتِهم السّامة أن تُلطِّخَ صفاءَكَ.

 

مهما قابلت من ردود فعل، إيّاك أن تتوقّفَ عن عملِ الخير وإتيانِ البِر، فإنّهُ "خيرٌ لنا أن نتألَّمَ ونحنُ نعملُ الخير، مِن أن نتألَّمَ ونحن نعملُ الشّر" (1 بطرس 17:3). وكَما صَنعَ المسيح نصنعُ نحن أيضًا، فإنّه: "إذا جاعَ عَدُوُّكَ فأطعِمه، وإذا عَطِشَ فاسقِه. لا تَدعِ الشّرَّ يغلِبُك، بل اِغلب الشّرَّ بالخير" (رومة 20:12-21).

 

إبراهيم البار، خليلُ الله، تَشَفَّعَ في حضرة الله لأجلِ أهلِ سدومَ، عَلَّهُ يجدُ عشرةَ أبرار، فلا يُدمِّرُ الرّبُّ المدينة. ولكنّه لم يجد! (تكوين 16:18-33) الحمدُ لله نحن لسنا كسدوم، وَحَالُنا ليست كحالِ أهلِها، وخطايانا لَم تَعظُم كخطاياهم لغايةِ الآن. لذلك لا نتوقف عن صُنعِ الخير والتَّشفُّعِ في الآخرين، لأنَّ أبرارًا كُثر في المدينة بحاجة لنا، لإغاثتِنا، لمعونَتِنا، لِنَجدَتِنا... وليس من العَدل أن يذهبَ الأبرارُ ضحيّة في عُروة الأشرار.

 

أمّا الأشرار، فَكإرميا، فوّض أمرَهم إلى الرّب، رافِعًا إليه قَضِيَّتَكَ، وهو كفيلٌ بِعاقِبَتِهم وأعلمُ بجزائِهم. لأنَّ البار لا يَنتَقِمُ لنفسه، بل إلى الرّبِّ يُفوّضُ أمرَهُ، طالِبًا مُستَصرِخًا عدالة السماء، لِمَن تَجنّى وافترى وَظلمَ وأَذى. "أَصْغِ يا رَبُّ إِلَيَّ، وَاَسمعْ أَصواتَ خُصومي. أَيُجازى الخَيرُ بِالشَّرّ؟ فإِنَّهم حَفَروا حُفرَةً لِنَفْسي. أُذْكُرْ أَنِّي وَقَفتُ أَمامَكَ، لِأَتَكَلَّمَ مِن أَجلِهم بِالخَير." (إرميا 19:18-23).

 

(يُروى أنَّ أعرابيًا سألَ معاوية بِن أبي سفيان: كَيفَ حَكَمتَ الشّام أربعينَ سنةً ولَم تَحدُث فتنة؟! فقال معاوية: إني لا أَضعُ سيفي حيثُ يَكفيني سَوْطي، ولا أضعُ سَوْطي حيثُ يَكفيني لساني؛ ولو أَنَّ بَيني وبيَن النّاسِ شَعرةً ما انقطعت! كانوا إذا مَدُّوها أَرخَيتُها، وَإذا أَرخُوهَا مَدَدتُها).

 

يا أحبّة، شعرةُ معاوية هي مبدأ نافع وأسلوبٌ ناجِع في تعامُلِنا مع النّاس من كافة الأطياف والأجناس. نحاول قَدر الإمكان أن نُسالِمَ جميع النّاس، وأن نُحافِظ على شعرةِ علاقة مع الجميع، باختلافاتِهم، حتّى مع المسيئين إلينا. نُرخي عند الحاجة ونشدُّ عند الحاجة، دونَ أَن نَقطَعَها. وإن حَدَثَ القَطعُ والقطيعة من الطّرفِ الآخر، تكون أَيدينا دومًا ممدودةً للصُّلحِ، وقلوبنا جاهزة للصَّفحِ، لأنَّ الصّفحَ من شيمِ الكِبار، والمغفرةَ قوّةٌ للأبرار.