موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٦ مايو / أيار ٢٠٢٠

وعد المسيح بالروح القدس

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد السادس للفصح: وعد المسيح بالروح القدس (يوحنا 14: 15-21)

الاحد السادس للفصح: وعد المسيح بالروح القدس (يوحنا 14: 15-21)

         

في خطاب الوداع بعد العشاء الأخير (يوحنا 14: 15-21) وعد سيدنا يسوع المسيح تلاميذه في هذه اللحظات الحزينة والمظلمة والمأساوية ان يبقَ حاضراً معهم بالرغم من رحيله عنهم، وذلك بإرسال الروح القدس تحضيرا لحلوله عليهم يوم العنصرة؛ ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

اولا: وقائع النص الانجيلي (يوحنا 14: 15-21)

  

15 إِذا كُنتُم تُحِبُّوني، حَفِظتُم وَصاياي

 

تشير عبارة " إِذا كُنتُم تُحِبُّوني " الى فعل الشرط، وهو المحبة التي تقود الى طاعة أوامر المسيح، فطاعة الوصايا برهان على محبته، ويؤكد ذلك يوحنا الرسول. " أَنَّ مَحبَّةَ اللهِ أَن نَحفَظَ وصاياه " (1 يوحنا 5: 3). أن يحمل المرء اسم الرّب يسوع المسيح من دون حفظ وصاياه، أليس في ذلك خيانة للاسم الإلهي والتخلّي عن محبته؟ امَّا عبارة " حَفِظتُم " فتشير الى فعل الشرط أي إن كنا نحبّ يسوع نحفظ وصاياه ونعمل بها ونطيعها. والطاعة هي الثقة بكلمة شخص الذي نحبُّه. وهذه الثقة تقود إلى اتباعه. ومن يُحب يُطيع الوصايا، والروح القدس يعطينا الحب كي نحفظ الوصايا.  لذا فإنَّ إرسال الروح من قبل الآب هو تلبية لطلب يسوع ويرتبط برسالته ارتباطا وثيقا (يوحنا 14: 13-14). ومن هذا المنطلق، إن محبتنا تُختبر بحفظ الوصايا وطاعتها. فالمحبة لا تكون بالكلام والعواطف، بل بحفظ وصايا يسوع كما يؤكد الكتاب المقدس "لا تَكُنْ مَحبَّتُنا بِالكلام ولا بِاللِّسان بل بالعَمَلِ والحَقّ" (1 يوحنا 3: 18). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "الله يطلب الحب الذي يَظهر بالأعمال".  هذا هو السبب الذي لأجله يقول يوحنا في رسالته: " مَن قالَ: إِني أَعرِفُه ولَم يَحفَظْ وَصاياه كان كاذِبًا ولَم يَكُنِ الحَقُّ فيه" (1 يوحنا 2: 4). وصايا الله هي إثبات لحبِّه لنا، وإطاعة وصاياه هي تعبيرٌ لحبِّنا له. أمَّا عبارة "وَصاياي" فتشير الى الوصايا العشر (خروج 34: 28). وهي ما نطق به الله في سيناء. وتدعى أيضاً كلمات العهد (تثنية الاشتراع 29: 1)، وهي موجز لكثير من تعاليم العهد القديم.  فالوصايا الثلاث الأولى، تختص بواجبات الإنسان نحو الله، والسبع الأخيرة بواجبات الإنسان تجاه الإنسان. لقد أجَّلّ يسوع الوصايا، وشدَّد عليها ولخَّصها في وصية واحدة هي وصية المحبة، وفسَّرها تفسيراً حقيقياً، وعلم الناس أن غاية الوصايا، إنما هي المحبة الله والقريب (متى 22: 37). وضَّح بولس الرسول أن الإيمان العامل بالمحبة هو تكميل الناموس "في المسيحِ يسوعَ لا قِيمةَ لِلخِتانِ ولا لِلقَلَف، وإِنَّما القِيمةُ لِلإِيمانِ العامِلِ بِالمَحبَّة" (غلاطية 5: 6). وأمَّا يوحنا فقد وسع معنى الوصية وعمقه ودمغها بدمغة المحبة ولذا تكلم عن الوصية الجديدة " أُعْطيكم وَصِيَّةً جَديدَة: أَحِبُّوا بَعضُكم بَعضاً. كما أَحبَبتُكم أَحِبُّوا أَنتُم أَيضاً بَعَضُكم بَعْضاً" (يوحنا 13: 34).  وموجز القول إن المحبة هي أصل الناموس وتتمته.

 

 16وَأَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد

 

تشير عبارة "سأَسأَلُ الآب" الى النتيجة الثانية وهي رفع يسوع صلاته للآب الذي سيهبنا بدوره مؤيدًا آخرًا يكون معنا للأبد mيوحّدنا بالله. فالمسيح يشفع لتلاميذه أمام آبيه كما يقول بولس الرسول "المَسيحُ يسوع الَّذي مات، بل قام، وهو الَّذي عن يَمينِ اللهِ والَّذي يَشفعُ لَنا" (رومة 8: 34). فبدم المسيح وفدائه صار هناك إمكانية لإرسال الروح القدس للإنسان. وهذا يذكِّرنا برئيس الكهنة في العهد القديم الذي كان بعد ان يقِّدِّم الذبيحة يدخل بدمها الى قدس الاقداس ليشفع الى شعب العهد القديم، وكان ذلك رمزا الى ما فعله يسوع في السماء وهو رئيس الكهنة فبشفاعته تُغفر خطايانا وتستجاب صلواتنا. امَّا عبارة " فيَهَبُ لَكم " فتشير الى الآب الذي يمنح الروح القدس ويرسله الى التلاميذ. ولان مجيء الروح القدس يتوقف على موت المسيح وشفاعته، يحق للمسيح أيضا ان يقول انه هو يرسله أيضا "مَتى جاءَ المُؤَيِّدُ الَّذي أُرسِلُه إِلَيكُم مِن لَدُنِ الآب رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 15: 26). ويصح ان يُنسب الروح القدس الى كل من الآب والابن لانهما واحد. امَّا عبارة "مُؤَيِّداً آخَرَ " فتشير الى الروح القدس علما ان المؤيد الأول هو المسيح كونه مع تلاميذه بالجسد (لوقا 2: 25). ويؤكد ذلك البابا فرنسيس بقوله "إن البراقليط الأول هو يسوع المسيح نفسه والأخر هو الروح القدس" (عظة 25/4/5/2014). وتدل لفظة “مُؤَيِّداً" أيضا على المسيح "يا بَنِيَّ، أَكتُبُ إِلَيكم بِهذا لِئَلاَّ تخطَأُوا. وإِن خَطِئ أَحدٌ فهُناك شَفيعٌ παράκλητος لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ على المَسيحُ البارّ (1 يوحنا 2: 1).  إن الشيطان يتهم الانسان ويضع خطيئته في المركز ويعامله كخاطئ غير قادر على سداد الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى إن يسوع المؤيّد اجتاز الموت بسبب خطايا الانسان، وفداه بنفسه ليغفر له. واستعمل يوحنا لفظة مؤيد أربع مرات في الانجيل (لوقا 14: 16، 26؛ و15: 26، و16: 7) ومرة واحدة في رسالة يوحنا الأولى "إِن خَطِئ أَحدٌ فهُناك شَفيعٌ لَنا عِندَ الآب وهو يسوعُ المَسيحُ البار (1يوحنا 2: 1).  أمَّا عبارة " مُؤَيِّداً" في الأصل اليوناني παράκλητος (معناها معزّي والمعنى الحرفي واحد يُدعى الى جانب الشخص) فتشير الى لفظ مقتبس من لغة القانون ويدل على من يسُتدعى لدى المتَّهم للدفاع عنه ليساعده في التحقيق امام المحكمة. فالمعنى الأول هو المحامي والمساعد والمدافع والشفيع (1 يوحنا 2: 1). وبناءً على هذا المعنى، ظهرت معان أخرى كالمُعزي والمُشجّع. فالمسيح عزّى تلاميذه حين كان معهم بالجسد، وإذ يفارقهم بالجسد يُرسل لهم روحه القدوس معزيًا آخر. وهذه اللفظة ترد فقط في كتابات يوحنا الرسول للدلالة على الروح القدس الاقنوم الثالث في اللاهوت لينوب عن المسيح بعد صعوده الى السماء كي يُعين الرسل في التبشير وهداية الناس الى التوبة والايمان، ولكي يتابع عمل يسوع، ويعاون التلاميذ في اتهام العالم لهم.  ووظيفته هي ان يبكت (يوحنا 16: 8) وان يشهد (يوحنا 15: 26) وان يعلّم (يوحنا 14: 26)، ويرشدنا للمسيح الحق " لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه" (يوحنا 16: 14)، فهو يعزي ليس فقط بالمواساة بل أيضا بإعلان طبيعة يسوع وعمله. هذا الروح يبقى معنا، ولا يحل محل يسوع الذي هو معنا حتى انقضاء الدهور (متى 28: 20) ويعمل عمل التقديس في الكنيسة، دون ان يكون له حدود في الزمان والمكان (يوحنا 14: 16 و26، 15: 26 و16: 7). وهذا لا يعني ان الروح القدس لم يكن سابقا في قلوب أتقياء الله مثل يوحنا الممدان (لوقا 1: 15) إنما الآن يظهر بطرق جديدة. أمَّا عبارة " يَكونُ معَكم لِلأَبَد" فتشير الى موهبة الروح الذي تُعطى بلا سقف زمني، وهي تضمن للأبد الاتحاد بالمسيح الذي يهب الروح (يوحنا 18: 20). يبقى الروح القدس مع كل واحد من المؤمنين الى نهاية حياته ومع الكنيسة الى الابد.  ونلاحظ في هذه الآية دلالة على الثالوث: الابن الذي يسأل، وألاب الذي يهب، والروح القدس المُرسل المعزِّي.

 

17 رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه. أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم

 

تشير عبارة "روح الحق" الى الروح القدس أي الاقنوم الثالث من الثالوث الذي يهبه الآب، وسُمِّي بذلك "لأَنَّ الرُّوحَ هو الحقّ (1يوحنا 5: 6)، ولأنه علم تلاميذ المسيح الحق ويرشدهم إليه ويحفظهم من الباطل "فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث " (يوحنا 16: 13)، ولأنه يقود الناس الى المسيح الذي هو الحق، ويشهد له ويجتذب النفوس لقبول إنجيله، والتعرف على أسراره. ويساعد الروح القدس التلاميذ على التقدّم في المعرفة (يوحنا 16:13) وفي تأدية الشهادة له "وأَنتُم أَيضاً تَشهَدون لأَنَّكُم مَعي مُنذُ البَدْء"(يوحنا 15: 27). وروح الحق يتعارض مع روح الضلال (1 يوحنا 4: 5) والكذب المُسيطر على العالم الذي " ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب " (يوحنا 8: 44). وكما ان الروح القدس حق فكذلك الآب حق كما جاء في تصريح يسوع "والحَياةُ الأَبدِيَّة هي أَن يَعرِفوكَ أَنت الإِلهَ الحَقَّ وحدَكَ ويَعرِفوا الَّذي أَرسَلتَه يَسوعَ المَسيح" (يوحنا 3:17) والمسيح أيضا حق " أَنا الطَّريقُ والحَقُّ والحَياة "(6:14)؛ أمَّا عبارة "لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه" فتشير الى رفض العالم للروح القدس كما رفض يسوع المسيح (يوحنا 1: 10)، وذلك لأنّه لا يراه ولا يعرفه. فالعالم لا يملك نظرة اعتبار لكل ما هو إلهي، لذلك لا يُميِّز روح الحق، ولا يستطيع ان يقبله لان العالم يجد ذاته في شهوات الجسد " لأَنَّ كُلَّ ما في العالَم مِن شَهوَةِ الجَسَد وشَهوَةِ العَين وكِبرياءِ الغِنى لَيسَ مِنَ الآبِ، بل مِنَ العالَم" (1 يوحنا 2: 16). فالعالم لا يُدرك سوى المحسوسات كما جاء في تعليم بولس الرسول " إِذا كانَت بِشارتُنا مَحجوبَة، فإِنَّما هي مَحجوبَةٌ عنِ السَّائِرينَ في طَريقِ الهَلاك، عن غَيرِ المُؤمِنينَ الَّذينَ أَعْمى بَصائِرَهم إِلهُ هذِه الدُنْيا، لِئَلاَّ يُبصِروا نورَ بِشارةِ مَجْدِ المسيح، وهو صُورةُ الله "(2 قورنتس 4: 3-4)، فالعام مُصاب بالعمى الروحي وفساد الفكر، فلا يقدر أن يرى روح الحق أو يعرفه.  ويُعلق القديس اوغسطينوس "الحب العالمي (الزمني) ليس له تلك الأعين غير المنظورة بينما الروح القدس لا يمكن أن يُرى إلاَّ بالأعين غير المنظورة". امَّا عبارة " العالَمُ "   فتشير الى  اهل العالم المتكبِّرين الطمَّاعين  الذين اتخذوا الدنيا نصيبا لهم ، فهؤلاء لا يستطيعون قبول الروح القدس معزِّيا لهم ،  ويوضح ذلك بولس الرسول " الإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله فإِنَّه حَماقةٌ عِندَه، ولا يَستَطيعُ أَن يَعرِفَه لأَنَّه لا حُكْمَ في ذلِكَ إلاَّ بِالرُّوح " ( 1 قورنتس 2: 14)؛ أما عبارة " لأَنَّه لا يَراه " فتشير الى سبب عدم رؤية  العالم الروح القدس، لأن انسان العالم لا يرى سوى المحسوس ولا يُسر بالروحانيات، ولا يشعر بحقيقتها ويعتبر ان المسيحيين  هم من اهل الاوهام لانهم يتكلمون على أمور لا ترى إلا  بعين الايمان. امَّا عبارة " ولا يَعرِفُه" فتشير الى عدم ادراك إنسان  العالم  الروح القدس لأنه لا يقبله كي يحصل به على التوبة والإيمان والرجاء والمحبة  ، ويوضِّح بولس الرسول ذلك لأن إنسان هذه الدنيا يعيش بالإثم  "يَتَجَنَّبِ الإِثْمَ مَن يَذكُرُ اسمَ الرَّبّ "  ( 2 طيموتاوس 2: 19)  أمَّا عبارة " أَمَّا أَنتُم فتَعلَمون" فتشير الى  رؤية التلاميذ ومعرفتهم للروح القدس لان المسيح اعدَّهم لذلك ، وهكذا المؤمنون الذين عرفوا الابن يعرفون الروح أيضا كما جاء في رسالة العبرانيين "أَنَّ الطَّعامَ القَوِيَّ هو لِلرَّاشِدين، لأَولئِكَ الَّذينَ بِالتَّدَرُّبِ رُوِّضَت بَصائِرُهم على التَمْييزِ بَينَ الخَيرِ والشَّرّ"(عبرانيين5: 4)؛ أمَّا عبارة " يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم " فتشير الى المؤمنين الذين هم هيكل الروح القدس الذي يُغير قلوبهم ويُقدِّسها ويُقدِّرها على الإتيان بأثماره الروحية "فمَن حَفَظَ وَصاياه أَقامَ في الله وأَقامَ اللهُ فيه. وإِنَّما نَعلَمُ أَنَّه مُقيمٌ فينا مِنَ الرُّوحِ الَّذي وَهَبَه لَنا" (يوحنا 5: 10).  

 

 18 لن أَدَعَكم يَتامى، فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم

 

تشير عبارة "لن أَدَعَكم يَتامى" الى النتيجة الثالثة التي مُنحت لمَن يحبون الربّ يسوع ويحفظون وصاياه.  انه يهبهم حياته ويُدخلهم في العلاقة ذاتها التي تجمعه مع الآب. ويُعزِّي يسوع هنا تلاميذه بعدم تركهم يتامى وكأن لا أب لهم يُسندهم ويَحميهم، ويعتني بهم. فقد كان اليهود يدعون المعلمين آباء والتلاميذ أبناءهم، فغياب السيد المسيح عن تلاميذه يصيرون كمن هم بلا أب؛ ويُعلق البابا فرنسيس "تنقل هذه الكلمات فرح مجيءٍ جديد للمسيح: فهو، قائم من الموت ومُمجَّد، يقيم في الآب وفي الوقت عينه، يأتي إلينا بالروح القدس" (كلمة البابا 21 أيار 2017)؛ أمَّا عبارة " فإِنِّي أَرجعُ إِلَيكم" فتشير الى وعد يسوع لتلاميذه بظهوره بعد قيامته كتأييد لوحدته الجوهرية مع الآب، ويأتي إليهم أيضا بعد صعوده في مجيئه الأخير ليحملهم إلى المجد. وإنه يأتي أيضًا إلينا على الدوام بروحه، الحاضر في قلوبنا، وفي وسطنا. فهو يأتي إليهم ولا سيما حين يصرخ المومئين: "تعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا 22: 20). وفي الواقع، إن لم يعطينا الله الروح، نبقى وحيدين في العالم. لهذا السبب يقول لنا يسوع بأنه لن يدعنا يتامى؛ فبالروح نصبح أبناء الله وبالتالي يصبح الله آب لنا. فالآب شاء ويشاء، والابن تمّم ويتمّم، والرّوح لا يزال يكمّل مشيئة الآب وعمل الابن فينا. هو المعزّي الّذي يحقـِّق استمراريّة إرادة الآب وعمل الابن في حياة المؤمنين، فيوقن التلاميذ أنّهم ليسوا يتامى في العالم، بل يحيوا بالرّوح بعد ارتفاع الابن إلى يمين الآب.

 

 19 بَعدَ قَليلٍ لَن يَراني العالَم. أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون

 

تشير عبارة "بَعدَ قَليلٍ" الى أقل من يوم لأنه قال يسوع ذلك في الليلة السابقة لآلامه وموته . امّا " لَن يَراني العالَم " فتشير الى عجز العالم عن معرفة يسوع القائم من الموت (يوحنا 6: 34 و8: 21). فبعد ان يُصلب يسوع ويموت لا يعود العالم يراه، لا حسب جسده ولا حسب لاهوته؛ لأنّ يسوع أوقف من قبل اليهود، وصُلِب في اليوم التالي، ودُفِن في المساء واختفى بالتالي عن أنظار البشر. وتبقى العلاقة بين يسوع والآب غير مرئية لمَن لا يؤمن ولا يُحبّ. أمَّا عبارة "أَمَّا أَنتُم فسَتَرونَني لِأَنِّي حَيٌّ ولأنَّكُم أَنتُم أَيضاً سَتَحيَون" فتشير الى اختبار التلاميذ بحضور يسوع القائم لمدة أربعين يوما بعد قيامته (أعمال الرسل 10: 41) ومشاركتهم في حياته الجديدة، وكذلك من سيؤمنون بناءً على شهادتهم. وهذه المعرفة وهذه المشاركة في حياة القائم من الموت تمهدان وتستبقيان ما سيتم عند مجي المسيح " نَحنُ مُنذُ الآنَ أَبناءُ الله ولَم يُظهَرْ حتَّى الآن ما سَنَصيرُ إِليه. نَحنُ نَعلَمُ أَنَّنا نُصبِحُ عِندَ ظُهورِه أَشباهَه لأَنَّنا سَنَراه كما هو" (1 يوحنا 3: 1-2)، ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "فقد أبلغهم من خلال هذه العبارة بأنّه سيعود، وبأنّ الافتراق سيكون قصيرًا وبأنّ اللقاء معهم سيدوم إلى الأبد" أمَّا عبارة "أَنتُم فسَتَرونَني " الى رؤية يسوع القائم من بين الأموات وترائيه لتلاميذه (يوحنا 16: 16-22). ولكن هذه الحضور لن يكون حسي محض، إنَّما يرافقه اكتشاف روحي حيث يتضح لهم حضوره فيهم، والتلاميذ يحيون حياة جديدة بيسوع حاضرا فيهم ويعرفون علاقة يسوع بابيه وانهم سوف يرونه مُمجدا في السماء؛ امَّا عبارة " لِأَنِّي حَيٌّ " فتشير الى المسيح الذي لا يزال حياً باعتبار لاهوته لأنه منذ الازل والى الابد هو الله الحي. فالموت الذي اعترى جسده وقتيا لم يؤثر شيئاً في لاهوته، إذ قام حالا من ذلك الموت ولا يذوق الموت ثانية "وقضى على المَوت وجَعَلَ الحَياةَ والخُلودَ مُشرِقَينِ بِالبِشارة" (2 طيموتاوس 1: 10).  أمَّا عبارة " سَتَحيَون" فتشير الى الحياة التي هي الاتحاد بالابن وعن يده بالآب، وهذا التبادل القائم على المعرفة والمحبة المتبادلة مضمون على وجه ثابت ونهائي كما جاء في تعليم بولس الرسول " أَحْيانا مع المَسيح" (أفسس 2: 5)؛ وكما اختبره بولس الرسول نفسه " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ" (غلاطية 2: 20).  حياة المسيح هي عربون حياة تلاميذه "إِنَّ المسيحَ قد قامَ مِن بَينِ الأَموات وهو بِكرُ الَّذينَ ماتوا" (1 قورنتس 15: 20)، وكما ان الكرمة تأكيد لحياة اغصانها، وحياة الراس تأكيد لحياة الأعضاء كذلك قيامة المسيح هي تأكيد لحياتنا وقيامتنا. وهناك التمييز بين التلاميذ والعالم. فالتلاميذ هم الذين يختبرون حضور المسيح القائم من الموت، ويقاسمونه حياته الجديدة. هو يحيا، وهم سيحيون، أمَّا العالم فلا يستطيع ان يُدرك يسوع (يوحنا 7: 34).

 

20 إِنَّكم في ذلك اليَومِ تَعرِفونَ أَنِّي في أَبي وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم

 

تشير عبارة "إِنَّكم في ذلك اليَومِ" الى عبارة مألوفة في العهد القديم للدلالة على مجيء المسيح في آخر الأزمنة (أشعيا 2: 17). وتبتدئ هذه الأزمنة بقيامة يسوع التي يشترك فيها المؤمنون. وتشير العبارة أيضا الى يوم قيامة الرب لما ظهر لتلاميذه حيا في أماكن مختلفة وخاصة الى يوم الخمسين حين أرسل الروح القدس واظهر حياته بهبته الروح القدس. أمَّا عبارة "تَعرِفونَ" فتشير الى تبدُّل تفكير التلاميذ حيث يعرفون العلاقة التي تربط الآب بالابن، والعلاقة التي تربطهم بالابن، وبواسطته بالآب من خلال قيامته والظهور لهم. أمَّا عبارة "أَنِّي في أَبي " فتشير الى الوحدة القائمة بين الآب والابن، وحدة الطبيعة أو الجوهر، وجوهر الله ألوهيته كما اكّده سابق يسوع بقوله "وإِذا كُنتُ أَعمَلُها فصَدِّقوا هذهِ الأَعمال إِن لَم تُصَدِّقوني. فَتعلَموا وتُوقِنوا أَنَّ الآبَ فيَّ وأَنيِّ في الآب"(يوحنا 10: 38)؛ وهذا الامر يؤكد صحة دعوى يسوع انه رسول الله والمسيح المنتظر؛

 

أمَّا عبارة "وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم" فتشير الى العلاقات التي تربط التلاميذ بيسوع وتمكّن من اكتشاف حقيقة العلاقة القائمة بين يسوع والآب. وهذه شركة بيننا وبينه، حيث يهبنا حياته ويشترك معنا في كل عمل، وهو يعمل الاعمال فينا، ويعطينا القداسة، والسلطان على إبليس وعلى الخطيئة، وبهذا يصير لنا سلطان أن نكون أبناء الله (يوحنا 1: 12).  أمَّا عبارة " وأَنَّكم فِيَّ " فتشير الى اتحاد بين جسد المسيح البشري وجسدنا البشري. المسيح هو الله المتأنس الذي تجسَّد، وصار له جسد بشريتنا، أنه أخذ البشرية فيه بتجسده، فأصبحنا مسكن الله. وهذا الاتحاد بالمسيح لا يُمكن الانفصال عنه على مثال الكرمة والاغصان (يوحنا 15: 1-7)، ويحقق للتلاميذ الأمن وقبول الآب إياهم وقداستهم وسعادتهم وحياتهم الأبدية.  أمَّا عبارة " أَنِّي فِيكُم " فتشير الى الشركة في حياة المسيح حيث هو حال في تلاميذه بروحه ليهب لهم النعمة والقوة لكي يشهدوا له امام العالم كما اختبره بولس الرسول " وأَكونَ فيه " (فيلبي 9:3)، يسوع صار فينا، وهكذا نحن ننعم بشركة الطبيعة الإلهية. أخذنا أعضاء جسده، ووهبنا إياه فينا بإقامة ملكوته داخلنا. لم يعد الأمر يقوم فقط على معرفتنا بأن يسوع يعيش في الآب والآب في يسوع. ثمة أمر جديد وعظيم وأَنَّكم فِيَّ وأَنِّي فِيكُم " ويعلق الراهب البندكتاني غييوم دو سان تييري " مسكنك، أيها الرب يسوع، هو الآب، وأنت مسكن الآب. ولكن ليس هذا فقط، فنحن أيضًا مسكنك، وأنت مسكننا". (صلوات تأمّليّة). فهل نحن اليوم ندرك بحسّ الإيمان أنّنا شعب الله في شركة مع الآب ومع يسوع بواسطة الروح القدس؟

 

 21مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي

 

تشير عبارة "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها" الى توجُّه يسوع الى جميع المؤمنين الذين عندهم وصايا المسيح ويعترفون جهرا انهم تلاميذه.  وهذا الامر يدل على معنى مزدوج: عرف وعمل مثل: سمع وحفظ (يوحنا 12: 47) وسمع وآمن (يوحنا 5: 24)، وهذه الطاعة هي التعبير عن المحبة، وتمكّن من معرفة الآب على وجه ظاهر من خلال ظهوره؛ ان محبة المسيح تنشئ الطاعة له.  أمَّا عبارة "حَفِظَها" في الأصل اليوناني τηρέω فتشير الى حفظها في فكره وفي قلبه كوديعة، وعمل بها (يوحنا 12: 47). يتصف الحب الصادق بالخضوع التام لمن يُحبُّه. عندما نحب شخصا نستطيع ان نتخلى بحرية عن وجهة نظرنا الشخصية، للتوافق مع ارادته ورغباته، الحب الصادق هو تعبير عن هبة الذات للآخر، ولا ينفصل حب المسيح عن حفظ وصاياه. نسمع الى صوت يسوع ونحفظه (يوحنا 5: 24) ونسمع له ومؤمن به. فطاعة الرسل لوصايا المسيح بمثابة امتحان محبتهم ودليل وحدتهم معه. أمَّا عبارة "فذاكَ الَّذي يُحِبُّني" فتشير الى الشهادة الحقيقية لحبنا للسيد المسيح بالطاعة لوصيته؛ ويوضِّح يوحنا الرسول شرط محبة المسيح "مَن قالَ إِنَّه مُقيمٌ فيه وَجَبَ علَيه أَن بَسِيرَ هو أَيضًا كما سارَ يَسوع" (1يوحنا 2: 6). أمَّا عبارة " والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه" فتشير الى ثمرة الحب العملي، وهو تمتع المؤمن بحب الآب. فالآب يحب الابن، والابن يُحب مُحبّيه. ان المحبة هي الشرط الذي تنبع منه الطاعة للمسيح، والشركة الروحية مع الله.  والطاعة للمسيح تجعل التلاميذ احباء للآب.  المحبة هي سلسلة من الصداقة تقوم بين يسوع وبين الآب ومحبِّه.  ويعلق البابا فرنسيس "المحبّة هي التي تدخلنا في معرفة يسوع، بفضلِ عملِ "المؤيد" الذي أرسله يسوع، أي الروح القدس. والربّ يدعونا اليوم لأن نتوافق بسخاء مع دعوة الإنجيل إلى المحبّة، واضعين الله محورًا لحياتنا ومكرّسين أنفسنا للإخوة، ولاسيما المحتاجين إلى العون والعزاء. لنتعلّم فنّ المحبّة كلّ يوم"(كلمة البابا 21 أيار 2017). أمَّا عبارة "فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" فتشير الى ظهور يسوع القام من الموت والمُمجد كجزاء طاعة التلميذ لوصايا المسيح حيث يشرق يسوع بنوره على فكر المؤمن وعلى قلبه، ويتمتع باستنارة روحية. ولا يعني الظهور الخارجي للحواس إنما الظهور الداخلية للقوى الباطنية مما ينشئ راحة الضمير والسعادة والرجاء.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21)   

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (يوحنا 14: 15-21)، يمكن ان نستنتج انه يتمحور حول وعد يسوع بحضوره من خلال الروح القدس وحفظ وصاياه.

 

1. حضور يسوع لتلاميذه من خلال الروح القدس

 

ان الروح القدس هو الذي يؤمِّن حضور المسيح بشكل من الاشكال "أَنا سأَسأَلُ الآب فيَهَبُ لَكم مُؤَيِّداً آخَرَ يَكونُ معَكم لِلأَبَد" (يوحنا 14: 16). كان حضور الله الموقت في المسيح على الأرض شيئًا حتميًا، لأن المسيح من حيث انه انسان، ما كان يستطيع أن يبقى على الارض إلى الأبد مع المؤمنين. لكن بالرغم من صعود يسوع بالجسد إلى أبيه، بقي حضوره مستمرًا بطريقة جديدة عن طريق الروح القدس. ويعلق القدّيس العلامة يوحنّا الآبلّيّ، " كما كان الربّ يسوع يَعِظُ، فإنّ الروح القدس يعِظُ الآن؛ وكما كان يُعَلِّم، فإنّ الروح القدس يعلّم؛ وكما كان المسيح يُعَزّي، فإنّ الروح القدس يعزّي ويعطي السرور. ماذا تطلب؟ عمّا تبحث؟ ماذا تريد أكثر من ذلك؟" (العظة رقم 30، الرابعة عن الروح القدس).

 

إن المعزّي، روح الله ذاته، يجيء بعد صعود يسوع للاهتمام بتلاميذه ورعايتهم وإرشادهم. وقد حدث هذا في يوم العنصرة (اعمال الرسل 2: 1-4) حيث قطع الله عهداً جديداً معنا خاتما إياه بسكنى روحه القدوس فينا. وهذا ما اكّده بولس الرسول " أَما تَعلَمونَ أَنَّكُم هَيكَلُ الله، وأَنَّ رُوحَ اللهِ حالٌّ فيكم؟ " (1 قورنتس 3: 16)، فحضور الروح في حياتنا هو تتميم لمخطط الله الخلاصي لنا. قال القديس اثناسيوس الاسكندري: "لقد أصبح الله انسانًا ليجعلنا أهلاً لقبول الروح القدس".

 

وكشف لنا الروح عن ذاته من خلال الصور: "حمامة" في عماد يسوع في الاردناعتَمَدَ يسوع وخَرجَ لِوَقتِه مِنَ الماء، فإِذا السَّمَواتُ قدِ انفتَحَت فرأَى رُوحَ اللهِ يَهبِطُ كأَنَّه حَمامةٌ ويَنزِلُ علَيه (متى 3: 16)، وظهر بصورة "ريح وألسنة نار" يوم العنصرة.  كما جاء الوصف في اعمال الرسل "انْطَلَقَ مِنَ السَّماءِ بَغتَةً دَوِيٌّ كَريحٍ عاصِفَة، فمَلأَ جَوانِبَ البَيتِ الَّذي كانوا فيه، 3 وظَهَرَت لَهم أَلسِنَةٌ كأَنَّها مِن نارٍ قدِ انقَسَمت فوقَفَ على كُلٍّ مِنهُم لِسان، 4 فامتَلأُوا جَميعًا مِنَ الرُّوحِ القُدس" (اعمال الرسل 2: 2-4).

 

وشبّه الانبياء الروح بالذي "يمسح" مختاريه، إنّ الانسان الذي يحصل على هذه المسحة يصبح "ممسوحًا" أو "مسيحًا". نجد هذه الصورة مكتملة فينا عندما نحصل على سر الميرون المقدس (سر التثبيت المقدس)، ويتكلّم القديس بولس عن الروح القدس ويُشبِّهه بختم في علاقتنا مع الله، "ولا تُحزِنوا رُوحَ اللّه القُدُّوسَ الَّذي به خُتِمتُم لِيَومِ الفِداء" (أفسس 4: 3). ويُصبح المعمّد خاصة المسيح عندما يختمنا الرب بروحه. "فيه أَنتُم أَيضاً سَمِعتُم كَلِمَةَ الحَقّ أَي بِشارةَ خَلاصِكم وفِيه آمنُتُم فخُتِمتُم بِالرُّوحِ المَوعود، الرُّوحِ القُدُس" (أفسس 1: 13). فالروح القدس هو "عربون الميراث الآتي وباكورة الخيرات الابدية" (الليتورجيا الالهية). ويدعوه الرسول بولس الروح القدس هو "الضمانة" للحصول على الحياة الابدية: إنه "هو عُربونُ مِيراثِنا إِلى أَن يَتِمَّ فِداءُ خاصَّتِه لِلتَّسْبيحِ بِمَجدِه" (أفسس 1: 14).

 

لن يتركنا الروح القدس بل يبقى معنا الى الابد، ويقودنا الى الحق كله "رُوحَ الحَقِّ الَّذي لا يَستَطيعُ العالَمُ أَن يَتَلَقَّاه لأَنَّه لا يَراه ولا يَعرِفُه"(يوحنا 14: 17)، ويحيا معنا وفينا لأنه في وسطنا وسيكون في داخلنا " تَعلَمون أَنَّه يُقيمُ عِندكم ويَكونُ فيكم" (يوحنا 14: 17)، وهو يُعيننا أن نحيا حسب ما يريده الربّ الإله منّا.  وهو يُعلمنا كل شيء كما قال يسوع " المُؤَيِّد، الرُّوحَ القُدُس الَّذي يُرسِلُه الآبُ بِاسمي هو يُعَلِّمُكم جَميعَ الأشياء"(يوحنا 14: 26)، ويذكّرنا بكل اقوال يسوع المسيح " يُذَكِّرُكُم جَميعَ ما قُلتُه لَكم "(يوحنا 14: 26).

 

والروح القدس هو مصدر كل الحق، لأنه هو "رُوحُ الحَقِّ المُنبَثِقُ مِنَ الآب" (يوحنا 15: 26)، ويقنعنا بخطايانا وبدينونة الله " وهو، مَتى جاءَ أَخْزى العالَمَ على الخَطيئِة والبِرِّ والدَّينونَة "(يوحنا 16: 8)، وهو يشهد للحق أي  للمسيح  كما صرّح يسوع "فهُو يَشهَدُ لي" (يوحنا 26:15)، ويعطينا بصيرة الى أحداث المستقبل " فَمتى جاءَ هوَ، أَي رُوحُ الحَقّ، أَرشَدكم إِلى الحَقِّ كُلِّه لِأَنَّه لن يَتَكَلَّمَ مِن عِندِه بل يَتَكلَّمُ بِما يَسمَع ويُخبِرُكم بِما سيَحدُث" (يوحنا 16: 13)، ويُبيِّن مجد المسيح " سيُمَجِّدُني لأَنَّه يَأخُذُ مِمَّا لي ويُخبِرُكم بِه "(يوحنا 16: 14).

 

وكان الروح القدس عاملا بين الناس منذ بداية الزمان، لكنه بعد العنصرة سكن في المؤمنين (اعمال الرسل 2: 1-13).  إن الروح القدس هو الله داخلنا وداخل كل المؤمنين. يعمل معنا ولأجلنا، وهو يُعيننا ان نحيا كأبناء الله؛ كتب بولس الرسول إِنَّ الَّذينَ يَنقادونَ لِرُوحِ الله يَكونونَ أَبناءَ اللهِ حَقًّا. لم تَتلَقَّوا روحَ عُبودِيَّةٍ لِتَعودوا إِلى الخَوف، بل روحَ تَبَنٍّ بِه نُنادي: أَبًّا، يا أَبَتِ! وهذا الرُّوحُ نَفْسُه يَشْهَدُ مع أَرواحِنا بِأَنَّنا أَبناءُ الله" (رومة 8: 14-16). وبالروح القدس نصبح أبناء للآب وأخوة بعضنا لبعض وللناس كلّهم.

 

والروح القدس قريبٌ منّا، بشكل خاص، في الصلاة. ففي الصلاة نختبر بشكل خاصّ بأنّ "وكَذلِكَ فإِنَّ الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا لأَنَّنا لا نُحسِنُ الصَّلاةَ كما يَجب، ولكِنَّ الرُّوحَ نَفسَه يَشفَعُ لَنا بأَنَّاتٍ لا تُوصَف. والَّذي يَختَبِرُ القُلوب يَعلَمُ ما هو نُزوعُ الرُّوح فإِنَّهُ يَشفَعُ لِلقِدِّيسينَ بما يُوافِقُ مَشيئَةَ الله (روما 8، 26-27). ويُعلق أوريجانوس: " حينما نُصلّي نكون دائماً إثنين: نحن والروح القدس. بواسطة الروح القدس، نحن ندخل في حوار أبديّ مع الآب والابن، ولا يتمّ الاستماع إلى الصلاة بحسب صوتنا، بل بحسب صوت الروح القدس الّذي يُصلّي لنا، وهو الوسيط الدائم لدى الآب والّذي يطلب دائماً ما هو الأفضل لنا".

 

ومن هنا نتساءل: ما هو دور الروح القدس اليوم في حياة كل واحد منا؟ ماذا عملنا بالروح القدس الذي أُعطي لنا يوم عمادنا؟ هل نسمح له أن يعمل في حياتنا؟ هل له أي دور في حياتنا؟ دعونا نطلب من الروح القدس، الروح المعزِّي، أن يأتي ويسكن في قلوبنا فنشعر بحضور المسيح فينا ونتذكر تعاليمه وصلاته ونعمل على حفظ وصاياه.

 

2) حضور يسوع لتلاميذه من خلال حفظ وصاياه

 

يدعونا القدّيس يوحنّا، في بشارته، إلى استقبال كلام المسيح ومن كل قلبنا. وباستقبالنا له، نحن في الحقيقة نجعل المسيح نفسه حاضراً في حياتنا كما قال: "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21). وينشأ رباط وثيق بين يسوع والتلميذ الأمين لوصاياه، إذ يقوم حوار حميم بينه وبين يسوع، فيسوع يُظهر نفسه كما هو.  وحيث ان يسوع لا ينفصل عن الآب، فوجود الواحد لا يُعقل دون وجود الآخر "أَنِّي في الآبِ وأَنَّ الآبَ فيَّ" (يوحنا 14: 10). وعليه ينتهي الوعد بمجيء الآب والابن الى التلميذ “إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23).  فالمسيحي يكون مضيفا وهيكلا للأقانيم الثلاثة.

 

ويؤكد يسوع المسيح لتلاميذه الضمانة بحضور الآب والابن والروح القدس " مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي". (يوحنا 14: 21). هذه الآية تشكّل جواب يسوع لفيليبّس: " يا ربّ، أَرِنا الآبَ وحَسْبُنا" (يوحنا 14: 8). وهذه العبارة تعيدنا الى العهد القديم، إلى سفر الخروج حيث طلب موسى معاينة مجد الرّب قائلاً: "أَرِني مَجدَكَ " (خروج 33: 18)، فكان جواب الله له أن " وَجْهي لا تَستَطيعُ أَن تَراه لأَنَه لا يَراني الإِنْسانُ وَيحْيا " (خروج 33: 20)، فالله الّذي يحيا في النّور الّذي لا يمكن الوصول اليه "الَّذي لَه وَحدَه الخُلود ومَسكِنُه نَورٌ لا يُقتَرَبُ مِنه وهو الَّذي لم يَرَه إِنسان ولا يَستَطيعُ أَن يَراه لَه الإِكرامُ والعِزَّةُ الأَبَدِيَّة. آمين"(1طيموتاوس6: 16)، " ولا يَستَطيعُ أَن يُحِبَّ اللهَ وهو لا يَراه" (1يوحنا 4، 12) لا يمكن أن يُعاين فقط على ضوء العقل والمعرفة الحسيّة. لذلك حضور يسوع القائم يختلف عن الذي كان التلاميذ يحلمون به (يوحنا 14: 8-22).

 

 كما كان الحال في العهد القديم من خلال علامات حسِّيَّة مُبهرة والتي تُثير حماسهم كان يظهر الى موسى النبي "غَطَّى الغَمامُ الجَبَلوحَلَّ مَجدُ الَرَّبِّ على جَبَلِ سيناء" (خروج 24: 15-16)، لكن يسوع أدخل تلاميذه في عالم الايمان. إنسان يطلب أن يرى ليؤمن، والرّب يطلب الإيمان لإظهار ذاته. فحين يطلب الإنسان المعاينة، لا يضحي للإيمان معنى، لأنّ من يعاين لا يعود بحاجة للإيمان. وهذا ما نستشفه من قول يَهوذا، غَيرُ الإِسخَريوطيّ: "يا ربّ، ما الأَمرُ حتَّى إِنَّكَ تُظِهرُ نَفْسَكَ لَنا ولا تُظهِرُها لِلعالَم؟ (يوحنا 14: 22).

 

نجد الرّب يُعلن للتلاميذ أنّهم قادرون على معاينة الله "فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي"، لأنّ الرّب ذاته يُظهر لهم نفسه أي يُعلن الرَّبّ ذاته، ويحل في حياة التلميذ، إذ يجعل من حياته "مقاماً إلهيّاً". وهذه السكنى لا تتم دون توفّر الشَّرطَين: الحبّ وحفظ الوصايا. فشرط المعاينة هي ليست الرّغبة في المعرفة، في اللّمس والفهم والإدراك، بل إنَّ الشرط الوحيد هو الدخول في علاقة حبّ مع الرّب. فقط من يحبّ الله يمكنه أن يُعاين الله، لأنّ الله محبّة ومن يحيا المحبّة يشترك بالنِعمة، لا بالطبيعة، في جوهر الله نفسه. محبّة الإنسان لله ليست محبّة نظريّة، بل محبّة عمليّة، هي في أن نحيا في حياتنا وصايا الرَّبّ يسوع.

 

الإيمان هو عمل حبّ لا عمل معرفة عقليّة، والحبّ الّذي يدخلنا في المعرفة الإلهيّة يكون السَّبيل إلى المعرفة العقليّة بالقدر الّذي يُمكن لعقلنا من الوصول إليه. وحفظ الوصايا هو التطبيق العملي للحبّ الإلهيّ، يجب أن نؤمن أوّلاً بالربّ، ثمّ أن نستسلم بدون تحفّظ لوصاياه. ونعتمد الايمان عنوانا لمحبتنا. الإيمان يأتي أولاً ثم المحبة كما قالت القديسة تريزا دي كالكوتا " ثمرة الايمان الحب"، فمن يؤمن يرى المسيح. ومن يرى المسيح يُحبُّه. ومن يحب المسيح يطيع الوصايا، والروح القدس هو الذي يُعطينا الحب لنحفظ الوصايا كما جاء في تعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية " أن المحبة التي هي ثمرة الروح وكمال الناموس تحفظ وصايا الله ومسيحه " (رقم 1824). فالوصية تأتي دائماً من الخارج، تُعطى لنا من قبل آخر. بينما الحبّ، على العكس يأتي من أعماقنا.  

 

المحبة هي التزام وسلوك أكثر من كونها كلمة لطيفة. المحبة هي التزام بالآخر وليست نزوة...هي مسؤولية تجاه النفس والآخرين وليست أنانية... ويصفها بولس الرسول "هي تَعذِرُ كُلَّ شيَء وتُصَدِّقُ كُلَّ شَيء وتَرْجو كُلَّ شيَء وتَتَحمَّلُ كُلَّ شيَء" (1 قورنتس 13: 7)، وتصحّح وتغفر، تلتزم بالحقّ وتدافع عن العدل، تنتبه إلى الفقير وتشفق على الضعيف، لا تبحث عن الغنى والجاه والتقدير، بل في كلّ شيء تبتغي خدمة الله وتمجيده وإعلان اسمه القدّوس.

 

  فمن تبع يسوع يُظهر محبته له بطاعة وصاياه.  والوصايا هي ليست مجموعة من الأنظمة والقوانين، والأوامر والنواهي المفروضة من الخارج، بل هي برنامج حياة؛ نحن أحياناً نختار أن نرى الوصايا بأنها قيود. قد نشعر أحياناً أن قوانين الله تقيد حرية اختيارنا الشخصية وتسلب منا حريتنا وتحد من إمكانية نمونا. لكن عند سعينا لفهم أكبر وعند سماحنا لأبينا السماوي بأن يُعلّمنا، سنبدأ برؤية بأن وصاياه هي إثبات لحبه لنا، وان إطاعة وصاياه هو تعبير لحبنا له. الوصايا هي ان يدخل الانسان مع المسيح في شركة حب وحياة، وذلك ان يكون تلميذا وشاهداً ورسولا.  فإن أردنا أن يجعل الربَ له مقاماً عندنا، فيجب علينا أن نحفظ وصاياه، فحفظ وصايا الرب هي الدليل على محبتنا له ورغبتنا باستقباله في حياتنا. فمن يحبّ الله يمكنه أن يُعاين الله، لأنّ الله محبّة ومن يحيا المحبّة يشترك بالنعمة في جوهر الله نفسه. والعلامة الحسيّة لهذه المحبّة هي في عيش الوصايا. وصاياه هي إثبات لحب الله لنا وحفظ وصاياه هو تعبير لحبنا له.

 

وعد المسيح التلميذ الذي يحب ويحفظ الوصايا بحضور الآب والابن والروح القدس. ولكن هذه الحضور يتطلب الطاعة والمحبة اللتين كان الله يطلبهما في العهد القديم (تثنية الاشتراع 6: 4-9) كما يصرّح السيد المسيح " إذا أَحَبَّني أَحَد حَفِظَ كلامي فأحَبَّه أَبي ونأتي إِلَيه فنَجعَلُ لَنا عِندَه مُقاماً" (يوحنا 14: 23). فحضور المسيح في حياتنا وفي عالمنا يُقلب كل الموازين. لا يكفي احترام الوصايا وتطبيقها، لكن الأهم هو أن يقبل كل واحد أن يعيش من حب الله، الآب والابن والروح القدس. وإذا قبلنا أن نعيش من هذا الحب، فهذا سيغير كل حياتنا. فيصبح المسيح في قلب حياتنا اليومية ونكون شهوداً له في عالم اليوم.

 

 ما قيمة الحب إذا لم يقترن بأعمال ومبادرات فعلية؟ ما قيمة الحب إن لم أحترم الآخر؟ فحفظ التلميذ للكلمة وأمانته لها، يضمنان له حياة صداقة وعلاقة حميمة مع الله الذي كشف عن ذاته في عمق حياته الثالوثية (ثلاثة أقانيم في إله واحد). وعندئذٍ تتحقق نبوءة حزقيال "أَقطَعُ لَهم عَهدَ سَلام. عَهدٌ أَبَدِيّ يَكونُ معَهما، وأَجعَلُ مَقدِسي في وَسطِهم لِلأبد" (حزقيال 37: 26).  فالمحبة هي العلامة الاساسية لحضور الروح فينا وهي تُضفي على كل عمل مسيحي صفته الشرعية، ويجعل فقدان المحبة ذلك العمل ناقصًا.

 

الخلاصة

 

نستنتج ان رحيل يسوع الجسدي هو ليس النهاية، بل هو بداية حضوره وبقاءه النهائي والمستمر للإله الثالوث في قلب وحياة المؤمن. والمؤمن الحقيقي هو الذي يعيش ويُطبِّق بمحبة كلام يسوع وتعليمه "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي" (يوحنا 14: 21).

 

دعاء

 

أيها الاب السماوي، اننا نضع ثقتنا في ابنك يسوع الذي قال "مَن تَلَقَّى وَصايايَ وحَفِظَها فذاكَ الَّذي يُحِبُّني والَّذي يُحِبُّني يُحِبُّه أَبي وأَنا أَيضاً أُحِبُّه فأُظهِرُ لَهُ نَفْسي." ضع فينا روحك القدس فنحبك ونحفظ وصاياك فنحافظ على حضورك فينا فنظل ثابتين في الربّ واثقين وآمنين لمُستقبلنا. آمين.