موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٨ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

وحدة الطبيعة في الثالوث الأقدس

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
لِنَعبُد هذا السر بما ينبغي له من الإحترام والوقار، ولنجدّد كلّمَا رسمنا إشارة الصليب على وجوهنا فعل إيماننا بالأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس

لِنَعبُد هذا السر بما ينبغي له من الإحترام والوقار، ولنجدّد كلّمَا رسمنا إشارة الصليب على وجوهنا فعل إيماننا بالأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس

 

"فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمم وعَمِّدوهم باسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القُدُس" (متى ٢٨: ١٩).

 

إن هذا السر يكشف لنا حياة الله الخاصة. وما كان لنا أن نطمع بالإطلاع على حياةِ الله، لولا أن السيد المسيح نفسه أراد أن يرفع عنها الحجاب، فنحاول أن نفهم ما يقوى عقلنا البشري القاصر على فهمه من هذه الحياة الزاخرة بالنشاطات والاعمال والهموم...

 

وقد أظهر السيد المسيح موضحًا أن الله ليس كائنًا وحيدًا مُنعزِلاً أو مُختبئًا في سمائه كما توهَمّه الفلاسفة القدماء، لكن الله هو عائلة مؤلفة من ثلاثة أشخاص تجمعهم وتسودهم المحبة ويشد أحدهم إلى الآخر روابط متينة وثيقة لا تقبل الإنقسام والإنفصام، وهؤلاء الأشخاص الثلاثة ندعوهم في لاهوتنا المسيحي "أقانيم"، وهم: الآب والابن والروح القدس.

 

وفي تعاليمه، كثيرًا ما أشار السيد المسيح إلى حقيقة الثالوث الأقدس، فأوضح أنّ الابن له كالآب سُلطانًا على الحياة، لذلك قال: "فكما أن الآب له الحياةُ في ذاتِهِ فكذلك أُعْطَى الابنَ أن تكون له الحياة على ذاتِهِ" (يوحنا ٥: ٢٦). والسيد المسيح لا يعمل إلاّ باسم أبيه، فأثبت لليهود أنه هو المسيح بقوله: "والأعمال التي أعملها باسم أبي تشهد لي" (يوحنا ١٠: ٢٥). وبينه وبين الآب معرفة تامة، ومن المحال والصعبِ جدًا أن يحلم بها أحد من الناس ما لم يمُّنَ عليه بها الآب، فقال يسوع: "ما من أحد يعرف الآب إلاَ الابن ومن شاءَ الابنُ أن يكشِفَه له" (متى ١١: ٢٧). وهكذا تتوالى الشواهد التي أثبت فيها السيد المسيح وجود الأقانيم الثلاثة في الثالوث الأقدس ويتميز الواحد عن الآخر.

 

وحدة الطبيعة في الثالوث الأقدس

 

وحدة الطبيعة لا يعني أنّ هناك ثلاثة آلهة.

 

نعم، هم ثلاثة أشخاص لكنهم إله واحد لَهُ  طبيعة واحدة. وهذا ما عبّر عنه السيد المسيح عندما قال: "فما يصنعه الآب يصنعه الابن على مثاله" (يوحنا ٥: ١٩).

 

وقد شرح القديس اوغسطينوس هذه العبارة فقال: "إن السيد المسيح لم يقل إنّ الابن يصنع بعد الآب"، ولكنه قال: "يَفعَلَهُ الابنُ على مِثالِه". فمهما يفعَلَهُ ذاك يَفْعَلَهُ هذا أيضًا. فهما متساوين في الجوهرِ والقُدرةِ ويتساوى معهما الرُّوح القدس أيضًا.

 

فالابن ينبثق من الآب، والروح القدس من الآب والابن. وقد أشار القديس اثناسيوس إلى هذا السر فقال: "الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، ومع ذلك ليسوا ثلاثة آلهة إنما هم إله واحد. فالآب غير مولود، والابن مولود غير مخلوق ولا مصنوع، والروح القُدُس مُنبَثق من كليهما،  فهو غير مخلوق ولا مصنوع. هكذا يجب أن نُكَرّم وحدة الطبيعة في تثليث الأشخاص وتثليث الأشخاص في وحدة الطبيعة".

 

في الكتاب المقدس نرى أنّ الأقانيم الثلاثة يتدّخلون في عملِ خلاصِ  البشر، فالآب في البشارة أرسل الملاك ليُبشِّر العذراء  مريم  بأن الرُّوح القُدُس يحل عليها، وقوّة العلي تظللها، والمولود منها هو ابن الله (لوقا ١: ٣٥). وفي عماد السيد المسيح حلّ الروح القدس على ابن الله وسُمع صوت الآب من السماء يقول: "هذا هو ابني الحبيب الذي عنه رضيت" (متى ١٧:٣). وختم القديس متى البشير إنجيله بدعوة السيد المسيح رسله للتبشير: "اذهبوا وتلميذوا جَميعَ الأُمم، وعَمِّدوهم باسمِ الآبِ والابنِ والرُّوحِ القدس" (متى ٢٨: ١٩).

 

وعملت الكنيسة بنصيحة مُعَلِّمِها الإلهي، فأوجبت على كل من يتقبل سر العماد أن يُعلْن وبصورة واضحة فعل إيمانه بالأقانيم الثلاثة عند تلاوته "قانون الايمان"، ومنحت هذا السر باسم الثالوث الاقدس، وحثّت المؤمنين على مباشرة أعمالهم وختامها بإسم الاقانيم الثلاثة والتي يذكرون أسماءها عندما يرسمون علامة الصليب المقدس على وجوههم.

 

وهكذا تُعَلِّمنا وتُفَهِّمُنا الكنيسة أنّ هذا السر هو أساس جميع الأسرار المقدسة في الاهوت المسيحي. وقد وضّح البابا لاوون الثالث عشر في تعاليمه حيث قال: "إن سر الثالوث الاقدس هو أكبر جميع الأسرار وينبوعها وأساسها بأجمعِها. فالآباء القديسون يدعونه جوهر العهد الجديد. وما وجِد الملائكة في السماء والناس على الارض إلاّ ليعرفوه ويتأملوه".

 

فلا عجب أن نرى هذا السر صعبًا، وقد شعر القديس اوغسطينوس بصعوبة فهم هذا السر وكان يُجهد نفسه لإكتشافه فأرسل الله إليه ملاك في شكلِ طفلٍ صغير، رآه على شاطىء بحر اوستيا قرب مدينة روما، يُحاول هذا الطفل أن ينقل البحر في صَدَفة ويضعهُ في حُفرةٍ صغيرة حَفرها على الشاطىء. ولما أبدى القديس دهشته من محاولة الصبي السخيفة، قال له هذا الطفل: "سَهلٌ عليّ، أن أنقُلَ البحر إلى هذه الحفرة من أنّ تفهم سر الثالوث الاقدس".

 

لِنَعبُد هذا السر بما ينبغي له من الإحترام والوقار، ولنجدّد كلّمَا رسمنا إشارة الصليب على وجوهنا فعل إيماننا بالأقانيم الثلاثة: الآب والابن والروح القدس.