موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٠ أغسطس / آب ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "الفلس"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
أنا لستُ إلاّ فلسًا يدور ويضيع بين الجماهير، ولا يجد قيمته الحقيقية إلاّ في سجلات الحسابات الأبدية

أنا لستُ إلاّ فلسًا يدور ويضيع بين الجماهير، ولا يجد قيمته الحقيقية إلاّ في سجلات الحسابات الأبدية

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحًا وخاليًا من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقًا واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

طالما ناقش اللاهوتيون موضوع الفضائل، واحتاروا كيف يصنّفونها. إضافةً إلى صعوبة ممارستها، فقد حمّلوا أنفسهم جهدًا مضنيًا في طريقة تعريفها. فضيلة التواضع مثلاً، لم يتّفق اللاهوتيون حتى الآن على تعريفها تعريفًا دقيقًا وصحيحًا. فبعض المدارس اللاهوتية تقول: إن فضيلة التواضع هي أن يكوّن الإنسان فكرةً بائسةً عن نفسه. أن يتلذّذ في إذلالها وتعذيبها وتحقيرها وأنْ يفرح عندما يُسيء الناس إليها.

 

وفريق آخر من اللاهوتيين يُعلن: إن فضيلة التواضع هي أنْ يزن الإنسان جميع الأشياء في ميزان عادلة هي شخصه هو بالذات، وحذارِ أن يَهبَ لنفسه قيمـــةً أكثر مما تستحق ولا أقلّ مما تستحق. وفريق ثالث يرى: إن فضيلة التواضع لا تتعدّى أنْ تكون أنفةً وكبرياءً، تمنع الإنسان من هضم حقوق نفسه والتشكيك في قدراتها أو احتقارها.

 

وبيـن هذا الفريق وذاك، أنّى لي يا سيدي أن أختار التعليم الصحيح؟ وأكتفي فقط بالنظر إلى قطعة نقود معدنية شبيهة في الشكل والحجم بتلك التي جاءكَ بها اليهود يوماً ما ليجرّبوكَ "وهي تحمل صورة قيصر" (متى 18:22). لربما كانت من فئة الدينار أو الربع دينار، أو ربما كانت من فئة الفلس فقط! لا أحد يعلم. والأناجيل لم تذكر لنا ذلك، وقد اختفت جميعها من تداولاتنا وأصبحت مجرد هواية لجامعي المسكوكات القديمة. فالنقود المعدنية منذ أجيال وهي تدور بين أيدي البشر، واليوم بمقدور الأوراق المالية والصكوك والكمبيالات أن تحلّ محلّها أو تبادلها قيمتها. أما قيمتها فهذا أمر لا يتعلق برأيها هي، بل قيمتها موجودة فيها منذ أن وُجِدَتْ يمكن للمرء أن يكوّن عن نفسه فكرة رفيعة أم حقيرة، ولكن هذا لا يؤثّر في سلوكه ولا يدفعه إلى الصلاح. فكم من أناس حطّمـوا معنويات أنفسهم لغرض تدريبها على التواضـع، ولكنهم احتاجوا إلى مَن يعيد الثقـة إلى أنفسهم من أجل مواصلة سيرهم في الحياة، وآخرون رفعوا أنفسهم أكـثر مما ينبغي فبدت فضائلهم الحقيقية منفّرة وعبئاً على الآخرين، .لانّ حقيقتهم مصالحهم فشوّهوا افكارهم مجاناً بسبب سماعهم اكاذيب عن الابرياء.

 

يا رب! أليست فضيلة التواضع هي أن تكون قيمتي الذاتية الحقيقية ثابتة منذ أن خلقتَني؟ لقد قال سقراط: "أعرفْ نفسَكَ!". أفما يجدر بالمسيحيين أن يعرفوكَ أنتَ، ومن خلالكَ يعرفوا أنفسهم؟ إنّ ما أُساويه أنا بالضبط، لا علم لي به مطلقًا. والناس أيضًا مثلي جَهَلَة، فهم يهنّئونني أحيانًا على أعمال قمتُ بها ولكني غير راضٍ عنها، وأحيانًا ينقدونني على أعمال أخرى كنتُ أعتبرها من أعظم الفضائل. إن قطعة النقود المعدنية لا تملك رأيًا عن نفسها. فالفلس لا يساوي أكثر من فلس لأنه يملك فكرةً جيدة عن نفسه، ولا الدينار يساوي أقل من دينار لأنه يملك فكرةً سيّئةً عن نفسه، وجميع الفلوس رغم حقارتها هي ضرورية للتداول من أجل حسم الحسابات بشكل دقيق ومضبوط.

 

ما هي إذن قيمتنا الحقيقية؟ هل إن رأينا عن أنفسنا أو ما يقوله جالسو قصورنا هو الذي يرينا قيمتنا الحقيقية؟ هل الفلس يرفع من قيمة نفسه عندما يعتقد أنه مصنوع من الذهب؟ منذ يوم صِيْغَ الفلس في آلة المسكوكات طبقًا للمواصفات المطلوبة، جمدتْ قيمته وثبتتْ إلى الأبد. والإيمان يقول لنا: منذ خلقْتَنا على" صورتكَ" ( تك1)، ودمغتَنا بخاتم ثالوثكَ في سرّ "المعمودية" (متى 19:28)، أصبحنا مؤهلين للتداول بين كافة البشر، مثل قطعة النقود، بدون زيادة أو نقصان، ومهمّتنا على الأرض ليست في معرفة أو التأكد من قيمتنا الذاتية، بل بكل بساطة أن نتفانى في "خدمتكَ" (لوقا 28:22) وليس أن ندين أبرياءنا.

 

إني أحب " التواضع" (متى 29:11) وعلى مثالك، فهو ينتشلني من الشطط في تقييم ذاتي، هذا الشطط الذي يُتعبني أكثر مما يُفيدني. كما أحب التواضع الذي يحرّرني من الانشغال المستمر في تقييم أثماني وكأني سلعة في سوق المزاد. أنا لستُ إلاّ فلسًا يدور ويضيع بين الجماهير، ولا يجد قيمته الحقيقية إلاّ في سجلات الحسابات الأبدية" (يو 16:3)، والشهادة لحقيقة الحياة  حيث تتمّ الموازنة الحقيقية بين أعمالي وبين نِعَمِكَ المجانية يا سيدي على كفَّتَي ميزانكَ الإلهية في عمليَّتَيْن متلاحمتَيْن تجمعهما محبّتكَ المتدفّقة بغير حدود ولا ثمن "إنه حب عظيم" (يو 34:13). نعم وآمين.