موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٤ يوليو / تموز ٢٠٢٠

والخلائق تسبح بحمده "الصخر"

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
وعزمتَ أن تبني كنيستكَ على "صخرة"

وعزمتَ أن تبني كنيستكَ على "صخرة"

 

نعم، المخلوقات، مهما كانت صغيرة وتافهة، تعكس بطريقة أو بأخرى، حكمة ومحبة ورسالة... وكلما كان الإنسان صالحًا وخاليًا من الأنانية والكراهية، وجد سهولة في فهم المعنى العميق لحوادث الحياة اليومية. فالقلب إذا ما خلا من الأنانية والكراهية، أمتدّ تبصّره إلى عمق أعمق وأبعد، لأنه لا يتوقف عند سطحية الأمور، بل يفحص كل شيء ليصل إلى الغاية المنشودة والتي من أجلها كانت رسالة الله في المسيح الحي، والتي فيها علّمنا ودرّبنا ورسم لنا طريقًا واحدة تقود إليه، وجعل الدنيا وما فيها من أجلنا عبرة ولغة وحقيقة.. وما الحقيقة إلا الله. فها هي المخلوقات تقودنا إلى الأمور العظيمة رغم الحواجز والفشل، وإلى الاستسلام لإرادة الله لأنه الخير الأسمى والعبرة السامية والغاية القصوى. فعبرَ مقالات من "والخلائق تسبح بحمده" أُدرج هنا مخلوقات تعكس لنا ولكم محبة ورسالة وحقيقة.

 

حيثما تتعثر حكمتنا الناقصة بازدواجية الكلام، وضعتَ يا سيدي كثيراً من الحقائق غير المتوقعة في طريقنا.

 

وجوابًا لسؤالك يا سيدي، عندما دعاكَ مار بطرس باسمكَ الحقيقي "ابن الله الحي" (متى16:16)، أجبتَه بأنه الصخر (متى18:16)، وعزمتَ أن تبني كنيستكَ على "صخرة" (متى 18:16) عليه هو، وجعلتَه نائبًا لك، ولكنكَ أبقيتَ على اسمه كما كان في اللغة الآرامية وهو "الصفا". وفي قاموس المنجد، الصفا: جمع الصفاة! لقب بطرس رأس الرسل (والكلمة سريانية معناها الصخرة). وفي المنجد أيضًا: الصخر معناه الحجر العظيم الصلب! يقال: "فلانٌ صخرة" أي ثابت لا يتزعزع، ولكن بعض المناظرات البشرية حاولت إقحام نفسها في تفسير العلاقة بين الصخرة والرئاسة من جهة وبين فضيلة الطاعة من جهة أخرى.

 

دعني يا سيدي أنظر فقط إلى صخرةٍ ما، بكل بساطتها، ومهما كان حجمها وشكلها. إنها توحي إليّ بثبوت الصلابة والجمود، فلا شيء يتحرك فيها. وأسهل ما في الكائنات هو عدم حركتها، ومن بين جميع الفضائل، أسهلها الطاعة العمياء لأنها شبيهة بالصخرة الصمّاء التي لا تتحرك. في صميم الطاعة يوجد نوع من الراحة والطمأنينة والاعتماد على الغير وعدم التعرّض للمسؤولية. كما في الطاعة يوجد نوع من الاستسلام والرضى، نوع من التنازل والاعتزال كما هو الحال في العسكر "نفّذ ثم ناقش" يعني الطاعة اولاً، ويقول عامة الناس: "ما لَنا والرئاسة؟ حسبنا الطاعة! أصدروا لنا أوامركم ونحن ننفّذها بحذافيرها! وهذا ما يضمن لنا راحة البال. جمّدونا في وصاياكم وقوانينكم، وما علينا نحن إلاّ أنْ نطبّقها إذا أردتم أن تنقذوننا من هذا الجدل المتعِب الذي يضايقنا بثرثرته وانتقاداته الكثيرة التي لا طائل تحتها".

 

هنالك طاعة تستمتع بسعادة عزلتها مثل آلة تدور وتنجز أعمالها بدون شعور ولا تفكير. إن نوعاً من الكسل الروحي يطال حتى أعلى مراتب فضائلنا عندما يأخــذ شكل الاعتزال، ونحن نعتبره واهمين أنه نوع من التجرّد أو الزهــد. إن مثل هذه الطاعة تشبه أيضاً نوعاً من التعب الروحي أو الملل، لأننا نريد من غيرنا أن يتحمّل المسؤولية بدلاً عنا، فيأمرنا ونحن فقط نطيع، وبذلك نهبط إلى مستوى الإتّكالية. فنحن لا نريد السلطة، بل نريد زعيماً يتولّى عنا تدبير أمورنا، ويحلّ بدلاً منا مشاكلنا، ويقرر توجّهاتنا، وينقذنا من أعباء المسؤولية. فالطاعة الحقيقية إذن ليست في الخضوع أو الخنوع، بل هي تدفق الإرادة نحو العطاء بحرارة ومحبة وحماس والشهادة للحقيقة الامينة "أنت المسيح أبن الله  الحي" (متى 16:16).

 

حنانيكَ يا الله!، فقد تأخذ الطاعة أيضاً شكل الهزيمة والاستسلام. إن الشعوب المتعَبة والمغلوبة على أمرها، أيضاً تلقي مقاليدها ومقاديرها بين أيدي الطغاة المستبدّين!. لربما ذلك أهون الشرَّيْن، إذا كان الشرّ الأكبر في نظرها هو مجابهة مشاكل الحياة التي فوق طاقتها. ومع ذلك يا سيدي، فإن الفضيلة كانت وما تزال أبداً وليدة المحبة والمغامرة والعطاء، وليست ثمرة التدابير البشرية أو آلية الحاسوب.

 

إن الصخرة التي اتّخذتَها أساساً للكنيسة، هذه حجر الزاوية التي يستند عليها البناء الشامخ كله هو " راس الزاوية حسب قولك" (متى 42:21)، ليست في حقيقة الأمر إلاّ طاعة تمتصّ زخم البناء كله وتسيطر على توازنه. هذه الصخرة الغير المتحركة، المدفونة في أعماق الأساسات، والتي لا تستطيع أنْ تغيّر مكانها أبداً، ولا أن تصنع ما يحلو لها، ولا أن تقوم بأعمال باهرة، ولا أن تحتلّ مكانة الصدارة أمام أنظار الناس، والتي لا تجد مجدها وعظمتها إلاّ في الاختفاء وهي ممدودة كأنها داخل مقبرة، هي الأساس الذي يربط ما بين السلطة والطاعة، لأن كل زعامة في هذا العالم هي خدمة والتزام، وكل طاعة هي تعاون وتآزر. مهما كان دورنا على الأرض، علينا جميعاً أن نخدمَ  كلٌّ من موقعه، ومن كل قلبه وطاقته. فالطاعة إذن هي إخلاص في العمل قبل أن تكون خضوعاً، والمتقدم هو من كان في "خدمة للآخرين" (لوقا 26:22). فقد قلت يا سيدي "انا بينكم مثل الذي يخدم" (لوقا 27:22)، قبل أن يكون استعلاءً وسيطرةً ومصلحةً وكبرياءً وأنانية. فالتعاون إذن يربط بين الرئيس والمرؤوسبين، بين المتقدم والخدام، في انسجام تام، وليس تدمير المرؤوسين أو الخدام بسبب نيّات ومصالح  وغايات المقتدرين  وكبار الدنيا والزمن. فحجر الزاوية داخل أساسات البناء لا تستطيع أن تمنع انهيار البناء بمفردها، ما لم تساندها أجزاء البناء الأخرى، وتساند الأجزاء بعضها بعضاً .لذا يجب أن يهتم الجميع بالخير المشترك، وإلاّ فقد المجتمع توازنه. فلا شيء يهدم المجتمعات البشرية أكثر من الانعزالية الجبانة، حيث يتهرّب كل فرد من الدور الذي عُهِدَ إليه للقيام به بكل رضى والتزام.

 

نعم، آه يا سيدي، إن الطاعة الحقيقية ليست عبودية، ألستَ أنتَ الذي علّمتنا هذا السبيل حينما ناجيتَ الله الآب "لتكن مشيئتكَ" (متى10:6)، فكانت الكلمة بسموّ معناها بل طاعة فائقة الإدراك، لأنكَ علّمتَنا ان نقول الحق بكل صراحة" لانك الطريق والحق والحياة" (يو 6:14)، علمتنا أنْ لا فرق بين عظيم وحقير، ولا بين "كبير وصغير" (لوقا 24:22)، ولا بين "سيد وعبد" (لو 25:22)، ولا بين "متقدم وخادم" (لو26:22)، فهناك أسياد يُطلقون على أنفسهم بأنهم حقراء في تواقيعهم، وما هذه إلا علامة التواضع لله والطاعة له، "فهو الكبير، العظيم والسيد" (يو 12:13). إنها قمة التواضع والطاعة والمحبة وحقيقة الوجود، فالذي يأمر هو مثل الذي يطيع، كلاهما سواسيةً أمام نظرك يا "خالق الأكوان" (يو 16:13)، والسّيد الديّان" (رو 6:3)، وهذا إيماني. نعم يا سيدي، نعم وامين.