موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ يوليو / تموز ٢٠٢٠

مَن يسمعُ كلامي ويعمل به كمثل رجل عاقل

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كنيسة سيدة الوردية - الكرك

كنيسة سيدة الوردية - الكرك

 

كرزة الأحد الخامس عشر من زمن السنة - أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأعزّاء في المسيحِ يسوع. خلالَ أسابيعِ الحجرِ القَسريَ الطوّيل، الّذي اختبرناه في الأشهرِ الماضية، جرّاء جائِحة كورونا الّتي عصفت بنا وبالعالم أَجمع، لا بدَّ أنّ كثيرين استَغلّوا أوقاتهم في أمورٍ مفيدة، وفي ممارسة هواياتٍ وتنميةِ مواهب، ربّما لم يجدوا لها وقتًا في السّابق، نظرًا لتزاحُم الأشغالِ وكثرة الأعمال.

 

أمّا أنا، على الصّعيد الشّخصي، فقد أَشغلتُ نفسي وملأتُ وقتي بالتّعلمِ عن أمورِ الزّراعة والبَستنة، وكيفيّة العناية بالنّباتات. فتكوّنَ لديّ خبرة أَصِفُها بأنّها جيّدة إلى حدٍّ كبير، وعِشقٌ إلى هذا العالمِ الأخضرِ الجميل المفعمِ بالسّلام.

 

واليوم في هذا الأحدِ الخامسِ عشر من زمن السّنة، نقرأُ عن مثلِ الزّراع. هو ليسَ مثلًا من الفضاء الخارجي، ولا هو قصّة من قِصص الخيال، حتّى يَصعبَ علينا أن ندركَها. إنّما هو مثلُ جدّي وجدّك، أبي وأبيك، الّذينَ كانوا يُبكّرون في كلِّ صباح، يحرثونَ الأرض ويُسوّونها، ثمّ يَبذِرونَ الحَبَّ في تِلامِها، ينتظرونَ حصادَ ما بذرت أيديهم، وجنيَ ما زرعت سواعِدُهم. ((فَأبي حَصّادٌ مِن جِلعَاد، يَصحو والشّمسُ عَلى ميعاد، وَيُغنّي المنجلُ بَين يديِهِ، ويُعطي آلافَ الأعياد)).

 

يسوعُ كانَ ابنَ الأرض، من طِينتها، لم يكُن مُغترِبًا عنها، إنّما كانَ عالمًا بثقافة أهلِها، ممارِسًا لعاداتِهم، يحترمُ تقاليدَهم. لذلكَ، نراه يضرِبُ لنا أمثلةً من واقِعِنا اليوميّ المُعَاش، لِيُخبِرَنا عن أمورِ الملكوتِ، ويكشفَ لنا أسرارَ الخلاص. فيسوعُ هو الزّارِع، ونحنُ الأرض، وكلمتُهُ هي الحَبُّ الّذي خرجَ لكي يبذِرَه فينا، يُلقيه في حقولِنا، ينثرُهُ في أراضينا. فيُثمِرُ الحَبُّ جِنانًا ورياضًا، تزدانُ بالنّعم والبركات، وتزخرُ بالفضائل والخيرات وأزكى الثّمرات.

 

وَلَكِنَّنا في الواقع، نعلمُ أنّنا أراضٍ غير صالِحة مئة بالمئة، بل فينا أمور تجعلُ من زراعة كلمة الله وإثمارِها شيئًا عقيمًا. ففينا حجارة يجبُ أن تُزال، وفينا أشواكٌ يجبُ أن تُقلَع. لذلك نحتاجُ إلى إصلاحٍ دائِم وإلى تأهيل مُستمِر. فلكي تُثمِرَ فينا كلمةُ الله، الّتي تُلقى إلينا في مختلف المناسباتِ والأوقات، يجبُ أن نُزيلَ ما فينا مِن خطايا مكوّمة ومُتراصّة، أن نَقلَع ونُقلِعَ عن الشّر المتجذّر فينا، المستوطِن في نفوسِنا، المتأصّل في طبيعتِنا وطِباعِنا وردّاتِ أفعالِنا.

 

هناك كثيرٌ من العادات المكدَّسَة فينا كالأرضِ الحَجِرة. ربّما لا نُعيرُها اهتمامًا، ونعتبِرها أمورًا عاديّة أو مُسلّمات. لذلك لا نبذل أدنى جهد لِتَحطيمِها وإزالتِها من حياتِنا. فتعملُ، دون أن نشعر، على إحراقِ الكلمةِ من أصولِها، لأنّها لم تجد أصلًا تنمو فيه، فأرضُنا حَجرة قاسية صلبة غَليظة.

 

تَقولُ الحِكمة: ((مُعظمُ السّيئين لا يَشعرونَ أَنّهم سَيئون. فَالبَخيلُ يَرى أَنَّهُ مُقتَصِد، والوقحُ يَرى أَنّه صَريح، والنَّمامُ يرى أنّه نَاصِح، والمغرورُ يَرى أنّه واثقٌ من نفسِه)). هكذا هم الكثيرون، قُساةٌ لا يشعرون، غِلاظٌ لا يُدرِكون، كالحجارةِ على زلّاتِهم جاثِمون.

 

وإن كانت الكلمةُ قد زُرِعت فينا، وَنمت بعضَ الشّيء وَبِنسب متفاوتة بينَ الأشخاص، إلّا أنّها تبقى مُهدّدة بعوامل عِدّة. فهي لم تنمو بعد بالقدرِ الكافي، وربّما هَلَكَ بعضُ الحبِّ ويَبِسَ قبل أن يَكبُرَ ويُعطي ثمرًا. فأرضُنا كما قُلنا آنِفًا، غيرُ صالحة بشكل كامل. وكما أنَّ حجارةً فيها، ففيها أيضًا نَمَت أعشابٌ ضارّة وآفاتٌ وخيمة، تضرُّنا وتؤذينا. فكم من الأمورِ تمتصُّ خصوبَتَنا، وتسحبُ رطوبَتنا، وتثقِلُنا وتُرهِقُنا وتشغلُنا وتكادُ تخنقُنا، كالشّوك الّذي ارتفعَ فخنق الزّرع لمّا نما!

 

تذكرون ساعةَ أَنّب المسيحُ مرثا، قائِلًا لها: إنّك في همٍّ وارتِباكٍ بأمورٍ كثيرة" (لوقا 41:10). على سبيل المثال، ومن واقع حياتِنا اليومية، عندما نأتي إلى القدّاس، ألا يبقى ذِهنُنا شاردًا، وفكرُنا سارحًا في أشياءَ كثيرة، ما عَدا الله، تجعلُنا مهمومينَ مغمومين؟! الكثيرون سيجيبونَ بنعم. لذلك وَصَفَت القدّيسةُ تريزا الأفيلية، إن لم أكن مخطئًا، المخيلة بِ "مجنونة البيت". يأخذنا خيالُنا هُنا وهُناك، لنجِدَ أنفسَنا قد فَكّرنا بكلِّ شيء، وأهملنا التّفكير بالله ومع الله. "مع أنَّ الحاجةَ إلى أمرٍ واحد" (لوقا 42:10) "فاطلبوا أوّلًا ملكوتَ الله وبرَّهُ، تُزادوا هذا كُلَّه" (متّى 33:6).

 

مِثال آخر: نأتي إلى القدّاس وتُلقى إلينا الكلمة، من خلال القراءات. ثمَّ يأتي دورُ العِظَة. والبعضُ قد يَجِدُها فرصةً للنّوم، ولا أحكمُ على أحد، فانشغالاتُه وهمومُه كثيرة، فلا يجد أفضلَ من الكنيسةِ مكانًا للنّوم والاسترخاء. وربّما بعضُ الكهنة والأساقفة مُمِلّونَ أسلوبًا ومضمونًا. وربّما البعضُ لا يريد الاستماعَ من الأساس، فعلومُه الّلاهوتية والإيمانيّة قد اكتملت ولا حاجة له للمزيد. على كلّ حال، هذا ليسَ محورُ حديثِنا.

 

فبعدما سمِعنا الكلمة وَأَصغَينا إلى العِظة، خصوصًا إذا كانت مُحضّرة بشكل جيّد. كَم منّا تُثمِرُ فيهم هذهِ الكلمة؟ تُحدِثُ عندَهم تحوُّلًا وتبدُّلًا نحو الأفضل، تُخصِبُهم بالفضائِل وتزيدُهم نموًّا بالنّعمة؟ وكم مِنّا يخرجونَ كَمَا دَخلوا إن لم يكن أسوأ؟! ألا نكون من فئة الّذين: "يسمعونَ سماعًا ولا يفهون، فقد غلُظَ قلبُ هذا الشّعب وأَصمّوا آذانَهم، لئلّا يسمعوا ويفهموا ويرجعوا" (متّى 14:13-15)

 

أمثلة على ما أقول: نسمعُ السّيد يُخاطِبُنا: "أحبّوا أعداءَكم، وصلّوا مِن أجل مُضطهديكم" (متّى 44:5). هل نحنُ قادرون فعلًا على محبّةِ من أساءَ إلينا وَعَادانا، أم نحنُ ثأرِيّون اِنتقاميّون، كما نُعبّر في أهازيجنا الشّعبية الفارغة المعنى: (يا ويل اللي يعادينا، بالسّيف نقطع شاربه؟!). نسمعُه يقول: "أُعفوا يُعفَ عنكم" (لوقا 37:6). هل نحن قادرون على المغفرة، ونملكُ القوّةَ لنُسامِح، أم قلوبُنا سوداء مُستَعِرَة بنارِ البُغضِ والنّقمة؟! نسمعُه يقول: "اِحمِلوا نيري وتَتلمذوا لي، فإنّي وديعٌ متواضعُ القلب" (متّى 29:11). فهل نحن ودعاءُ متواضعون طَيّبون مُسالِمون، أم ممتلِؤون كبرياءً أعمى ومجدًا باطِل، نحتقِر سائِر النّاس، نعتقد أنّنا أفضل منهم، نسبُّهم ونشتمهم، ونعيبُهم بِأسوأ العبارات ونقذفهم بأقبحِ الأوصاف، عيونُنا تقدحُ نارًا ونظراتُنا شَزْرًا؟! أخافُ أن يَنزلَ أولئِكَ إلى بيوتِهم مبرورين، أما نحن فلا! (لوقا 14:18). وقِس على ذلك الكثير، مِمّا وردَ على لسانِ المعلّم.

 

علاقتُنا مع كلمة الله، في كثيرٍ من المواقِف والأحداث، هي كعلاقة الخادم القليل الشّفقة (متّى 23:18-35). الّذي تعامل بمنتهى الّلؤمِ وبِقمّةِ الحقارة مع صاحبِه. فذاكَ الخادم الدّنيء، بعد أن توسّل إلى سيّده جاثيًا، أعفاهُ سيّدُه من جميعِ دَينِه، مُشفِقًا وراحِمًا. ولكنّ ذاك الخادم الهجين، لم يَعتَبِر من سيّده، بل أَخذَ بُعنق صاحبِه ذاك، يخنقُه لكي يؤدّي كلَّ دينه، دونَ رحمة وبلا شَفقة!

 

نطلبُ من الله أن يغفرَ لنا زلّاتِنا، ونحنُ مُصِرّون على العداوة ولو بعد قرن. نطلبُ من الله أن يرحمَنا، ونحن نرفضُ منح الرّحمة والمغفرة. نطلبُ من الله أن يعفو عنّا، ونحن لا نجرئ أن نعفو عن صرصور يمشي على الأرض. نطلب من الله التّوفيق والنّجاح لنا ولعيالِنا، ونحن نلعن ونطعنُ بفلان وندعو بالويلاتِ والضّرباتِ على فُلانة. نطلبُ من الله أن يحمينا من الشّر والأذيّة، ونحنُ نلقي شرّنا على الضّعفاء ونَتبلّى عليهم زورًا وكذِبًا ونتّهمهم جُزافًا وبُهتانًا. نطلب من الله أن يُعطينا ويرزقَنا، ونحنُ متسربِلونَ بالبُخل والإمساك.

 

لذلك، كثيرة هي الأشواكُ الّتي تخنقُ الكلمة فينا، وضخمةٌ هي الحجارةُ الّتي تمنعُها أن تتأصّل فينا. فالإنسانُ القديم لا يزال مُعشِّشًا ومُسيطرًا علينا، وعلى تصرُّفاتِنا وأفكارِنا، وردّاتِ فعلنا. لذلك يبقى البون واسعًا والفرق شاسِعًا والتّجانسُ مُختلًّا بينَ الكلمة وبين الأرض. فإن احترَقت الكلمة فالعيبُ ليس منها، وإن اختَنَقت فالشّائِبةُ ليس فيها.

 

نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا

وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا

وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ

وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا