موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٠ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

مَثَل وَليمة المَلِك ورفضُ الدَعوة والتغيير

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد السابع والعشرون من السنة

الاحد السابع والعشرون من السنة

 

النص الإنجيلي (متى 22: 1 -14)

 

1 وكَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ مَرَّةً أُخْرى قال: 2 ((مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثَلِ مَلِكٍ أَقامَ وَليمةً في عُرسِ ابنِه. 3 فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ إِلى العُرْس فأَبَوا أَن يَأتوا. 4 فأَرسَلَ خَدَماً آخَرين وأَوعَزَ إِلَيهم أَن ((قولوا لِلمَدعُوِّين: ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إِلى العُرْس)). 5 ولكِنَّهم لم يُبالوا، فَمِنهُم مَن ذَهبَ إِلى حَقلِه، ومِنهُم مَن ذَهبَ إِلى تِجارتِه. 6 وأَمسَكَ الآخَرونَ خَدَمَه فَشَتَموهم وقَتَلوهم. 7 فَغَضِبَ الملِكُ وأَرسلَ جُنودَه، فأَهلَكَ هؤُلاءِ القَتَلَة، وأَحرَقَ مَدينَتَهم. 8 ثُمَّ قالَ لِخَدَمِه: ((الوَليمَةُ مُعَدّةٌ ولكِنَّ المَدعوَّينَ غيرُ مُستَحِقِّين، 9 فَاذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إِلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه)). 10 فخرَجَ أُولَئِكَ الخَدَمُ إِلى الطُّرُق، فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار، فامتَلأَت رَدهَةُ العُرْسِ بِالجالِسينَ لِلطَّعام. 11 ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام، فرَأَى هُناكَ رَجُلاً لم يَكُنْ لابِساً لِباسَ العُرْس، 12 فقالَ له: ((يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إِلى هُنا، ولَيسَ عليكَ لِباسُ العُرس))؟ فلم يُجِبْ بِشَيء. 13 فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان)). 14 لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون)).

 

المقدمة

 

يُسلط إنجيل هذا الاحد الأضواء على آخر أمثال يسوع في انجيل متى، وهو مَثَل وَليمة مَلِكٍ في عُرسِ ابنِه (متى 22: 1 -14). ويوضح هذا المثل دعوة الجميع الى ملكوت المسيح ومتطلباته حيث لا يُشدِد على خطورة رفض الانسان لهذه الدعوة الإلهية، فحسب إنما ايضا على لبس ثوب البر والالتزام مع نعمة الدعوة. وهذا الامر يمس مصير الانسان ومستقبله. ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي

 

1 وكَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ مَرَّةً أُخْرى قال:

 

تشير عبارة "كَلَّمهُم يسوعُ بالأَمثالِ" الى استعارة يسوع التكلم بالأمثال من معلمي زمانه وهم الكتبة.  وقد روى يسوع ثلاثة وأربعين مثلا مختلفا. أمَّا عبارة " الأَمثالِ " في الأصل اليوناني παραβολαῖς فتشير الى صورة رمزية ينبغي التفتيش عن معناها خارجا عنها، حيث يوجد فيها عنصر المفاجأة وتدعو الى التفكير.

 

2 مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثَلِ مَلِكٍ أَقامَ وَليمةً في عُرسِ ابنِه.

 

تشير عبارة "مَلكوتِ السَّمَواتِ" الى بركات الانجيل التي بشّر بها يسوع المسيح. امَّا عبارة "مَلِكٍ" في الأصل اليوناني ἀνθρώπῳ βασιλεῖ (معناها انسان ملك) فتشير الى أحوال انسان واعماله حيث وتقوم تلك المشابهة بالاستعدادات والدعوات وقبول كل من المدعوّين او رفضها وفرح كل من قبل الدعوة. اعتاد العهد القديم ان يتكلم غالبا على الله بصورة ملك (متى23:18)، ويدشّن هذا الملك العهد المسيحاني.  ويعبّر عن هذا التدشين بصورة العُرس.  ويشبه هذا المثل في بعض اموره المثل الذي ضربه يسوع في إنجيل لوقا مثل المَدعُوِّينَ لمتخلِّفين عن الدعوة (لوقا 14: 15-24). وهذا ليس بذاك، لان ذاك ضرب في بيريه في بيت فريسي، وهذا ضرب في هيكل أورشليم. وقصد المسيح في ذاك دعوة الناس اليه.  وقصده في هذا المثل دينونتهم على رفضه.  والفرق بين المثلين: ان الله في المثل الأول طلب ثمار البر، وفي المثل الثاني عرض على الناس البركات، وفي الأول خاطب اليهود كأمَّة، وفي الثاني خاطبهم افرادا. وفي الأول رُمز للمسيح بابن رب الكرْم، وفي الثاني بملك ابن ملك. أمَّا عبارة " أَقامَ وَليمةً " فتشير الى العادة الشرقية لاحتفالات العرس ان تعقد في بيت العريس وليس في بيت العروس، وتمتد مدة الوليمة سبعة أيام. وهذه الوليمة تدلنا على سر الملكوت وعلى متطلباته. أمَّا عبارة "وَليمةً" فتشير الى صورة مُسبقة عن "المائدة السماوية" (متى 29:26؛ رؤية 7:19، 9) حيث يجتمع المختارون حول الآباء والانبياء في ملكوت الله (لوقا 16: 22). فالوليمة علامة المشاركة حيث الله يدعو الجميع الى الامل والرجاء كما جاء في نبوءة أشعيا "سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ" (أشعيا 25: 6). أمَّا عبارة " عُرسِ" فتشير في الكتاب المقدس الى الاتحاد النهائي في الفرح بين الله وشعبه (متى 25: 1-12). وهكذا، العهد بين الله وشعبه يصوّر بشكل عرس، ويسوع هو العريس.  ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير: "يمكننا القول إن الآب هيأ للملك ابنه العُرس من خلال سرّ التجسّد، حيث التصقت به الكنيسة المقدّسة"(عظات عن الإنجيل).  وكثيرا ما يُشبّه الكتاب المقدس بركات العهد القديم بالعرس (أشعيا 15: 6، وهوشع 2: 19). أمَّا عبارة "عُرسِ ابنِه " فتشير الى الابن يسوع المسيح الذي شبّهه إنجيل متى بالعريس قائلا: " أَيَسْتَطيعُ أَهْلُ العُرسِ أَن يَحزَنوا ما دامَ العَريسُ بَيْنَهُم؟ ولكِن سَتَأتي أَيَّامٌ فيها يُرفَعْ العَريسُ مِن بَيْنِهم، فَحينَئذٍ يَصومون"(متى 15:9)؛ ويسوع يُقدّم نفسه كالعريس المنتظر ويربط عالم البشر بعالم الله كما جاء في تعليم بولس الرسول "أَحِبُّوا نِساءَكم كما أَحَبَّ المسيحُ الكَنيسة وجادَ بِنَفسِه مِن أَجْلِها"(أفسس5: 25). فعُرسِ ابنِه صورة ترمز الى اتحاد يسوع بالطبيعة البشرية، إنه العروس الروحي. لقد بدأ السيِّد المسيح خدمته بدخوله عرس قانا الجليل ليقدّسه معلنًا أن رسالته تنطلق بدخوله إلينا ليقيم عرسنا الداخلي متقدّما كعريس أبدي، قادر وحده أن يتّحد بنا ويُقدّسنا ويكشف لنا أسراره الإلهيّة الفائقة؛ باختصار، تعبّر الآية عن الاشتراك في الوليمة المسيحانية، الا ان المثل لا يُشدِّد على الابن، بقدر ما يشدِّد على المَدعُوِّينَ الذين رفضوا دعوة الملك.

 

3 فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ إِلى العُرْس فأَبَوا أَن يَأتوا.

 

تشير عبارة "فأَرسَلَ خَدَمَه لِيُخبروا المَدعُوِّينَ" الى الدعوة على الطريقة الشرقية. فكانت التقاليد تقتضي عند إقامة الولائم صدور دعوتين: الاولى دعوة الضيوف للحضور، وهذه العادة ما زالت متبعة حتى الآن في فلسطين؛ والدعوة الثانية هي إعلان ان كل شيء مُعدٌّ. وهنا نجد ان الملك دعا ضيوفه ثلاث مرات، وفي كل مرة رفضوا دعوته. أمَّا عبارة "خَدَمَه" فتشير أولا الى الآباء الأوّلين: ابراهيم واسحق ويعقوب الذين نالوا الوعد، وهم خدّام الله الأوّلون، حتى قال السيِّد المسيح " إِبتَهجَ أَبوكُم إِبراهيم راجِياً أَن يَرى يَومي ورآهُ فَفَرِح" (يوحنا 8: 56). لكن اليهود لم يسمعوا لهم فوبّخهم السيد المسيح: " لَو كُنتُم أَبناءَ إِبراهيم، لَعَمِلتُم أَعمالَ إِبراهيم " (يوحنا 8: 39). وتشير ثانيا الى أنبياء العهد القديم وصولا ليوحنا المعمدان، الذين ارسلهم الله لإحياء الايمان في وعوده لمجيء ملكوت المسيح المُخلص (متى 21: 34)؛ فيتضح من ذلك ان دعوة يسوع ليست جديدة بل تكملة للدعوة الأولى. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " أرسل إذًا خدّامه ليدعو أصدقاءه إلى العرس. أرسلهم مرّة أولى وثانية، أي الأنبياء أوّلاً ثمّ الرّسل ليعلنوا تجسّد الربّ" (عظات عن الإنجيل) أمَّا عبارة " لِيُخبروا " في الأصل اليوناني καλέσαι (معناها يدعو) فيشير الى دعوة رائعة للمشاركة في حياة آخر وذلك بحضور مأدبة عرس.   وقد تكرّر هذه الفعل في هذا النص ست مرات، دلالة على أهمية الدعوة.  أمِّا عبارة " المَدعُوِّينَ " فتشير الى البشر وأولهم الأمَة اليهودية. والمَدعُوِّونَ هم أبطال الرواية، وليس العروسين. إذ يتحدث المثل بأكمله عنهم، وعن الاهتمام بهم، وعن رفضهم أو قبولهم الدعوة.  أمَّا عبارة " أَبَوا أَن يَأتوا " فتشير الى رفض المدعوِّين الأول الذي لا مبرِّر له.  فكلمة “أبوا" في الأصل ليوناني οὐκ ἤθελον (معناها لم يريدوا)، وهي تدل على فعل ارادة مع النفي الذي يدلُّ على نيّة سيئة ورفض، لا على اهمال فقط.  وفي هذا المثل، هناك تشديد على الرفض الذي أجاب به المدعوُّون الاولون الى الدعوة. ويُعلق القديس غريغوريوس الكبير أنّ "المدعوّين الأوّلين" الّذين رفضوا الدّعوة لحفلة ملوكية مجانية ونكّلوا بمُرسلي الملك كانوا العبرانيّين رافضي المسيح"(عظات عن الإنجيل). من الغريب ان المَدعُوِّينَ يرفضون مثل هذه الدعوة الشريفة المُبهجة. فرفضهم دعوته إعلان بغضهم وعصيانه له وعدم قبول دعوته للخلاص كما جاء في إنجيل لوقا "لا نُريدُ هذا مَلِكاً علَينا" (لوقا 19: 14). يدعونا الربّ يسوع إلى الاتحاد به في ملكوته السماوي، حيث السلام والبرّ. فهل نلبِّي دعوته؟

 

  4 فأَرسَلَ خَدَماً آخَرين وأَوعَزَ إِلَيهم أَن ((قولوا لِلمَدعُوِّين: ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إِلى العُرْس)).

 

تشير عبارة " خَدَماً آخَرين " الى تجديد الملك دعوته عن طريق الرسل يُعلنون لليهود العرس الذي تحدّث عنه أنبياؤهم، لكنهم رفضوهم، وجاء تلاميذهم وغيرهم من المُبشِّرين الذين نادوا بالإنجيل بعد صلب يسوع وصعوده منذ يوم الخمسين (يوم العنصرة)، مثل إسطفانس وبرنابا وبولس الرسول وامثالهم، ممن نادوا بيسوع والقيامة. وتكرار الدعوة دلالة على طول أناة الرب ورغبته في خلاصهم.  أمَّا عبارة " قولوا لِلمَدعُوِّين " فتشير الى دعوة عامة شاملة لكل البشر كقوله " مَن شاءَ فلْيَستَقِ ماءَ الحَياةِ مَجَّانًا" (رؤيا 22: 17). امَّا عبارة " ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي" فتشير الى البركات الروحية من السلام والمسرَّة بالمسيح مما يذكرنا بنبوءة أشعيا "وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق" (أشعيا 6: 6).  أمَّا عبارة "أُعِدَّ كُلُّ شَيء " فتشير الى المدعوِّين الذين سبق ان أُعْلموا بالأمر، لكن صاحب الدعوة أرسل إليهم بعض خَدَمه ليأتي بهم ويرافقونهم (استير 5: 8). وهذا يُمثل رسالة الانجيل لشعب اليهود كما نطق بها يوحنا المعمدان ويسوع ورسله (متى 3: 1-2, 4: 17، 10: 7). وأوضح بطرس الرسول في خطابه يوم الخمسين بقوله "أُعِدَّ كُلُّ شَيء" (اعمال الرسل 2: 14-35). نحن هنا أمام دعوة إلى الفرح (أمثال 9: 2-3) حيث تكمن غاية حياة الانسان في علاقته مع الله: ان نحب الله وان نُحب. اللُه يحُبنا، وكل انسان مدعو لكي يُجيب عن هذا الحب بحبِّه. ابتدأ الاستعداد للوليمة الانجيلية من خلال الشريعة وذبائحه وأعياده " ظِلِّ الخَيراتِ المُستَقبَلَة " (العبرانيين 10: 1). وأشار يوحنا الانجيلي الى ما في هذه الوليمة من قوت النفس " مَن يأكُلْ هذا الخُبْز يَحيَ لِلأَبَد " (يوحنا 6: 58). أمَّا عبارة "فتَعالَوا إِلى العُرْس " فتشير الى تجديد الملك لقبول الدعوة. ويذكر لوقا الإنجيلي هذه المثل ذاته ويضيف " قد أُجرِيَ ما أَمَرتَ به ولا يَزالُ هُناكَ مَكانٌ فارغ " (لوقا 14: 22). وهذا إشارة الى ان المَدعُوِّينَ ليسوا يهود فقط بل تُعمَّم الدعوة الى الامم لقبول الانجيل.

 

5 ولكِنَّهم لم يُبالوا، فَمِنهُم مَن ذَهبَ إِلى حَقلِه، ومِنهُم مَن ذَهبَ إِلى تِجارتِه.

 

تشير عبارة "لم يُبالوا" في الأصل اليوناني ἀμελήσαντες (معناها تهاونوا) الى جواب المَدعُوِّينَ الذي يعبّر عن الاهمال واللامبالاة. هل نتغيّب عن حفلة مُلوكية مجّانيّة، نُدعى لها شخصيّا؟ أمَّا عبارة "فَمِنهُم مَن ذَهبَ إِلى حَقلِه" فتشير الى أهل الريف الذين فضّلوا الاهتمام بحقولهم ومزارعهم على المشاركة في وليمة العيد، وقد ارتبط هؤلاء بالأرض وهم يظنُّون انها باقية لهم إلى الأبد. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "الخروج إلى الحقل يمثّل التكرّس للأعمال الأرضيّة" (عظات عن الإنجيل). أمَّا عبارة "ومِنهُم مَن ذَهبَ إِلى تِجارتِه" فتشير الى أهل المدينة الذين فضّلوا الاهتمام بالبيع والشراء والتجارة على المشاركة في وليمة العيد. فقد حُرم من الوليمة من أجل تجارتهم فتحوّلت العبادة إلى بيع وشراء.  فصدق القول "لا يدخل التجّار والباعة إلى موضع (بيت) أبي" (نحميا13: 20). ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير "والانصراف إلى التجارة يمثّل التفتيش بشراهة عن المصلحة الخاصّة في الأمور الأرضيّة" (عظات عن الإنجيل). إن انشغالنا بالأشياء المنظورة، تُنسينا الأشياء غير المنظورة وتمنعنا عن الأمور الأفضل. في هذه الآية نجد قسم من العالم يتعاملون مع الانجيل بهذه الصورة: انهم لا يبالون بالأمور الروحية وينهمكون بالأمور الدنيوية، فإثمهم أنهم اكتفوا بها ولم يلتفتوا الى الروحيات. وامثال هؤلاء ديماس الذي يترك بولس الرسول كما قال فيه بولس: "ديماسَ قد تَرَكَني لِحُبِّه هذِه الدُّنْيا" (2 طيموتاوس 4: 10).  هؤلاء لم يقترفوا أيّ شر، وكل ما في الأمر أنّهم يواصلون القيام بما يقومون به دون أن يُدركوا بأن ساعة الوليمة قد حانت، ودون التعرف على الهبة الكبرى، والكرامة الخاصة التي تأتيهم من كونهم مَدعُوِّينَ. وتُصبح انشغالهم بأعمالهم اليومية الدنيوية أولوية مطلقة لهم. لقد استخفّوا بطلب الملك لأنّهم وضعوا مصالحهم الشخصيّة فوق مصلحته. وبهذا الامر لم يكتفوا بإهانة الملك بل وريث العرش أيضاً. هل ننشغل كثيراً بأمور هذا الزمان حتّى ننسى أمور الأبديّة؟

 

6 وأَمسَكَ الآخَرونَ خَدَمَه فَشَتَموهم وقَتَلوهم.

 

تشير عبارة "أَمسَكَ الآخَرونَ" الى الرؤساء اليهود الذين رذلوا خَدَم الله ورفضوا علاقتهم مع الملك، وذلك برفضهم خَدَمه؛ أمَّا عبارة "خَدَمَه" فتشير الى مرسلي الله إلى شعبه في كل تاريخه. لكن الشعب اضطهد هؤلاء المرسلين ورذلوهم كما صرّح يسوع المسيح بقوله: "أُورَشَليم أُورَشَليم، يا قاتِلَةَ الأَنبِياء وراجِمَةَ المُرسَلينَ إِليَها" (متى 23: 36-39). أمَّا عبارة "شَتَموهم وقَتَلوهم" فتشير الى تطبيق كلام يسوع على عمل اليهود تجاه المَدعُوِّينَ الأوائل للملكوت وهم الأنبياء في درجة أولى (متى 21: 35). دعا الله اليهود عن طريق الأنبياء فقتلوا الأنبياء.  ودعاهم عن طريق يوحنا المعمدان فقطعوا راسه، ودعاهم عن طريق ابنه الحبيب، فقتلوه على الصليب. ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " والأخطر من ذلك هو أنّ البعض لم يكتفوا باحتقار نعمة الذي يدعوهم، بل اضطّهدوه... " (عظات عن الإنجيل). وهؤلاء القتلة هم الذين حُرموا من العرس بسبب حبّهم للشر، فقابلوا المرسلين إليه للدخول إلى الوليمة بالمسبَّات والشتم بل بالقتل. وكان إسطفانس ويعقوب من الأوائل الذين شتموا وقُتلوا.   وفي هذه الآية نجد قسم من العالم يتعاملون مع الانجيل بهذه الصورة: انهم يقامون الانجيل، لأنه يُقاوم كبرياءهم وبرهم الذاتي وأرباحهم وتعصبهم وامثال هؤلاء "الكَهَنَةُ وقائدُ حَرَسِ الهَيكَلِ والصَّدُّوقِيُّون، الذين اقبلوا على بُطرُسُ وهُم مُغتاظونَ لأَنَّهما كانا يُعَلِّمانِ الشَّعْبَ ويُبَشِّرانِ في الكَلامِ على يَسوعَ بِقِيامَةِ الأَموات. فبَسَطوا أَيدِيَهم إِلَيهما ووَضعوهُما في السِّجنِ " (اعمال الرسل 4: 3)، و "عَظيِمُ الكَهَنَةِ وجَميعُ حاشِيَتِه مِن مَذهَبِ الصَّدُّوقِيِّين، وقدِ اشتَدَّت نَقمَتُهُم، فبَسَطوا أَيدِيَهُم إِلى الرُّسُلِ وَوَضَعوهم في السجنِ العامّ" (اعمال الرسل 5: 18). ويُذكر هذا الامر بنبوءة يسوع للكتبة والفريسيين عندما كان يُعنِّفهم قائلا: " هاءَنَذا أُرسِلُ إِلَيْكُم أَنبِياءَ وحُكَماءَ وكَتَبَة، فَبَعضَهم تَقتُلونَ وتصلِبون، وبَعضَهم في مَجامِعِكم تَجلِدون ومن مَدينَةٍ إِلى مَدينَةٍ تُطارِدون، حتَّى يَقَعَ عَليكم كُلُّ دمٍ زَكِيٍّ سُفِكَ في الأَرض، مِن دَمِ هابيلَ الصِّدِّيق إِلى دَمِ زَكَرِيَّا بْنِ بَرَكْيا الَّذي قَتَلتُموه بَينَ المَقدِسِ والمَذبَح. الحَقَّ أَقولُ لَكم: إِنَّ هذا كُلَّه سيَقَعُ على هذا الجيل (متى 23: 34 -36).

 

7 فَغَضِبَ الملِكُ وأَرسلَ جُنودَه، فأَهلَكَ هؤُلاءِ القَتَلَة، وأَحرَقَ مَدينَتَهم.

 

تشير عبارة "فَغَضِبَ" الى سَخِطَ وعدم رضى واستياء. يفرق الكتاب المقدس بين غضب الرب وغضب الإنسان. فغضب الرب لصالح الإنسان. لأنه سخْط على الشر كما ورد في نبوءة ارميا " صُبَّ غَضَبَكَ على الأُمَمِ الَّتي لم تَعرِفْكَ وعلى العَشائِرِ الَّتي لم تَدعُ بِآسمِكَ " (ارميا 10: 24) وسخْط على الخطيئةفلَمَّا سَمِعت شَكْواهم وهذه الكَلِمات، غَضِبتُ غَضَباً شديداً (نحميا 5: 6). إلا أن غضب الله مقرون بالعدل والشفقة والرحمة، وهي صفات إلهية تجعل من غضب الله رحمة للبشر، فالله "دّيَّانٌ بارّ كُلَّ يَومٍ يَتَوَعَّدُ " (مزمور 7: 12). أمَّا غضب الإنسان فهو خطيئة، لأن الإنسان خاطئ، غير كامل، وتحق عليه الدينونة، والله يكره الغضب في الإنسان " كُفَّ عنِ الغَضَبِ ودعَ السّخْطَ لا تَسْتَشِطْ، فما هذا إِلاَّ سوء " (مزمور 37: 8). اما عبارة " جُنودَه " فتشير الى عساكر الرومانيين. ولعل المراد بجنود ه هم ملائكته غير منظورين الذين يُجرون نقمته. امَّا عبارة "أَحرَقَ مَدينَتَهم" الى خراب اورشليم في السنة 70 على يد الرومانيين؛ كانت اورشليم أولا مدينة الملك العظيم لكن بعد ما رفض اليهود يسوع صارت مدينتهم (لوقا 13: 34-35)، وهذا يعني ان الجماعة أعادت قراءة هذا المثل على ضوء الاحداث التي حصلت للمدينة المقدسة، حين حاصرها الرومان بقيادة القائد طيطس والامبراطور الروماني تيتوس فلافيوس قيصر فسبازيانوس أوغسطس المعروف باسم فسبازيان (9-79م). لكننا لا نجد هذا التمليح في رواية لوقا الموازية (لوقا 14: 21)، وذلك لسببين: فإما ان الآيتين 6 و7 في انجيل متى أُضيفتا الى المثل بعد خرا ب اورشليم، وإما أن المثل كله أتخذ صيغته النهائية بعد السنة 70م. هذا هو الرّد على رفض الدّعوة، وتحذير، ليس فقط للمسيحيين في ذلك الزمان، بل ولنا اليوم، لأن دعوة الله سارية المفعول، وإلى الأبد.

 

8 ثُمَّ قالَ لِخَدَمِه: الوَليمَةُ مُعَدّةٌ ولكِنَّ المَدعوَّينَ غيرُ مُستَحِقِّين،

 

تشير عبارة "الوَليمَةُ" الى ضيافة حافلة يسودها الكيف والطرب (دانيال 5: 1)، الذي تُقام في مناسبات خاصة لتكريم الضيف (تكوين 18: 5-8). وفي الأفراح (الجامعة 10: 19) وكان الأشراف يُقيمون ولائم فاخرة يدعون إليها بواسطة عبيدهم (متى 22: 3). وقضت واجبات الضيافة بغسل أرجل الضيوف (لوقا 7: 44)، ودهن شعر الرأس بالطيب (لوقا 7: 46)، وتقبيلهم (لوقا 7: 45)، واجلاس كبار المَدعوَّينَ في أماكن الشرف (لو 14: 7-11). وكان للوليمة رئيس يدير أمورها (يوحنا 2: 8 -9). ويمتحن كل ما يقدم للضيوف. وذكرت بعض الولائم في العهد الجديد مثل: وليمة هيرودس انتيباس في مناسبة عيد ميلاده (مرقس 6: 21). وليمة عرس قانا الجليل التي حضرها يسوع وتلاميذه (يوحنا 2: 1-11). الوليمة التي أقامها لاوي تكريما ليسوع (لوقا 5: 29)، الوليمة التي حضرها يسوع في بيت سمعان الفريسي (لوقا 7: 36-48)، الوليمة التي أقيمت في بيت واحد من رؤساء الفريسيين وحضره يسوع (لوقا 14: 1). ثم حضر يسوع وليمة في بيت عنيا (يوحنا 12: 1-7). ويحتفل في وليمة عرس الحمل (رؤيا 19: 9). وكان المسيحيون الأولون يقرنون ولائم المحبة بالعشاء الرباني (2 بطرس).  أن مجمع لادوكية نهى عنها سنة 320 م.  اما عبارة "الوَليمَةُ مُعَدّةٌ" الى الفرح والابتهاج وتمجيد الله كما ورد في سفر الرؤية " لِنَفرَحْ ونَبتَهِجْ! ولْنُمَجِّدِ الله، فقَد حانَ عُرسُ الحَمَل، وعَروسُه قد تَزَيَّنَت " (رؤيا 19: 7)؛ أمَّا عبارة " المَدعوَّينَ غيرُ مُستَحِقِّين " فتشير الى رفض متعمّدٍ، وليس عن خطأ وجهل. كل شيء مُعد ما عدا المَدعُوِّينَ. الناس دُعوا إلى الوليمة، ففضَّلوا ان يقولوا: كَلآّ. لقد دعا الله شعبه من البداية للخلاص، لكنهم لم يُقدِّروا قيمة هذه الدّعوة، " جاءَ إِلى بَيتِه. فما قَبِلَه أَهْلُ بَيتِه" (يوحنا 1: 11). نعم لقد وضع المدعوّون مصالحهم الشخصيّة فوق مصلحة صاحب الدعوة. فرفضوا أن يقدّموا للملك الشرف الّذي يستحقّه في عرس ابنه.  هم اثبتوا في أنفسهم انهم غير مستحقين، لأنهم لم يقبلوا الدعوة وأصبح الباقون مستحقين، لأنهم قبلوها كما صرح "بولُسُ وبَرْنابا بجُرأَة: ((إِلَيكمِ أَوَّلاً كانَ يَجِبُ أَن تُبَلَّغَ كَلِمَةُ الله. أَمَّا وأَنتُم ترفُضونَها ولا تَرَونَ أَنفُسَكم أَهلاً لِلحَياةِ الأَبَدِيَّة، فإِنَّنا نَتَوجَّهُ الآنَ إِلى الوَثَنِيِّين " (أعمال الرسل 13: 46). وظلت القاعة فارغة، ولكن لم يئس الملك من مدعوِّيه.

 

9 فَاذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إِلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه

 

تشير عبارة "مَفارِقِ الطُّرق" الى المنبوذين في إسرائيل، وهم العشارون والخطأة؛ وهذا الامر يُذكّرنا أن دعوة الربّ هي دعوة مجانيّة، فالّذين كانوا في الطرق والساحات لا حقوق لهم عند الملك على الإطلاق، ولم يكن يخطر ببالهم أبداً أن ينالوا هذا الشرف، ولم يكونوا يستحقّونه أبداً. لكنّ كرَم الربّ ورضاه ونعمته هي الّتي فتحت أمامهم هذا الباب. فالنعمة هي صاحبة الدعوة، والنعمة هي الّتي جذبت الناس إلى الملكوت. أمَّا عبارة "اذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إِلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه " فتشير الى دعوة من سلسلة ثانية من الذين يحلِّون محل المَدعوَّينَ المتخلفين حيث يأمر الملك الإتيان بهم من مفترق الطرق أي من اليهود المنبوذين والخاطئين (الخراف الضالة في إسرائيل (متى 10: 6). لقد غيّر الملك برنامجه: "حَطَّ الأَقوِياءَ عنِ العُروش ورفَعَ الوُضَعاء" (لوقا 1: 52)، ولم يُلغِ الملك الحفلة التي كان هيّأها لابنه وولِيِّ عرشه. أمَّا لوقا الإنجيلي فأن الملك يأمر بالإتيان بهم من الطرق والاماكن المسيجة أي من العالم الاممي الوثني ويُرغمهم على الدخول (لوقا 14: 23)، أي حثهم على الدخول، وذلك باستخدام وسيلة الاقناع لا القهر والعنف، وسيلة التخجيل كما يحدث في الضيافة الشرقية وليس الاكراه. ومن أمثال هؤلاء الخدم هم فيلبس وبطرس وبولس: "فنزَلَ فيليبُّسُ مَدينةً مِنَ السَّامِرَة وجعَلَ يُبَشِّرُ أَهلَها بِالمَسيح" (اعمال الرسل 8: 5)، وبشّر بطرس قرنيليوس الروماني أَقارِبَه وأَخَصَّ أَصدِقائِه وعمَّدوهم (اعما ل الرسل 10: 24-31)؛ ونادى بولس الرسول لأهل أثينا " يُعلِنُ الله الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان" (اعمال الرسل 17: 30).  أمَّا عبارة "وَادعُوا إِلى العُرسِ كُلَّ مَن تَجِدونَه " الى دعوة شاملة؛ بما ان اليهود رفضوا عمداً دعوة الله، دعا الله الاممِّيين الوثنيين، فآمنوا ولبّوا دعوة المسيح ودخلوا الى الكنيسة. امَّا عبارة "كُلَّ " فتشير الى تكرارها مرتين في النص (متى 22: 10) دلالة على جميع الناس الذين هم مدعوين الى وليمة العرس. لم تعُد الوليمة مُخصّصًة لعدد قليل من المقرَّبين.  فالدعوة أصبحت مُتاحة ليس فقط لبعض الناس، بل للجميع. فهذا هو الله، يدعو الكل للخلاص.

 

10 فخرَجَ أُولَئِكَ الخَدَمُ إِلى الطُّرُق، فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا مِن أَشْرارٍ وأَخيار، فامتَلأَت رَدهَةُ العُرْسِ بِالجالِسينَ لِلطَّعام.

 

تشير عبارة " فجمَعوا كُلَّ مَن وجَدوا" إلى جمع الناس حول الملك. ان الله يدعو الى فرح الملكوت جميع الناس؛ الدعوة مفتوحة للجميع، لان الله "يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1طيموتاوس2: 4)، جمع خدم الملك الأبرار والأشرار مختلطين في الملكوت قبل الدينونة الأخيرة (متى 13: 49). وأمَّا في انجيل لوقا فإن الخدم قد جمعوا " الفُقَراءِ والكُسْحانِ والعُمْيانِ والعُرْجان" (لوقا 14: 21)، وهم مساكين إسرائيل (لوقا 6: 20) كما جَمعَ الناس من " الطُّرُقِ والأَماكِنِ المُسَيَّجَة " أي الوثنيين (لوقا 6: 23). وهذا ما أكده يسوع بقوله " أقولُ لَكم: سَوفَ يَأتي أُناسٌ كَثيرونَ مِنَ المَشرِقِ والمَغرِب، فَيُجالِسونَ إِبراهيمَ وَإِسحقَ ويَعقوب على المائِدةِ في مَلَكوتِ السَّمَوات " (متى 8: 11).  أمَّا عبارة " أَشْرارٍ وأَخيار" فتشير الى هوية المدعوين. وهؤلاء، بغض النظر عن حياتهم الأخلاقية، وبغض النظر عن إيمانهم، يصبحون مستحقين للمشاركة في وليمة العرس. فالمستحق هو ذاك الّذي يقبل الدعوة، أي ذاك الذي يتخلَّى عن تحقيق أهدافه الشخصية وينفتح على وليمة الرب. فان خيار الله مجانيّ ورحمته ومحبّته لجميع البشر سواء كانوا ابرارا ام اشراراً كما صرّح يسوع "لِتَصيروا بني أَبيكُمُ الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار."(متى 5: 45)؛ الأبرار والأشرار هم حاضرون في الكنيسة قبل الدينونة الاخيرة كما في الشبكة التي جمعت من كل جنس (متى 13: 37-43).  لعل الأشرار هنا الذين رذائلهم ظاهرة للناس كالمرأة الخاطئة التي غسلت قدمي يسوع بدموعها (لوقا 7: 38)   وهو يُعلِنُ الآنَ لِلنَّاسِ أَن يَتوبوا جَميعًا وفي كُلِّ مَكان، والاخيار هم الفاضلون ظاهرا كنتنائيل وقرنيليوس.  فقبل الاشرار الدعوة ليكونوا من الابرار، وقبلها الابرار في عيون الناس ليكونوا ابرار في عيني الله. فالكنيسة المنظورة تتكوّن من كليهما. ودعوة الملك لا تستبعد أحداً بمن فيهم الخطأة أنفسهم "فإِنِّي ما جِئتُ لأَدعُوَ الأَبْرارَ، بَلِ الخاطِئين (متى 9: 13).  الشرط الوحيد هو الايمان بأنَّ يسوع هو المسيح.  لكن ليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها. لا يدعونا الرب لكوننا صالحين، ولكن، بدعوته لنا يجعلنا صالحين.  أمَّا عبارة " فامتَلأَت " فتشير الى ما يهم الملك هو أن تملأ ردهة العرس.  إن رفض اليهود للمسيح لم يبطل مقاصد الله من اظهار كثرة رحمته وبهاء مجده.  ويُعلق القدّيس غريغوريوس الكبير " لأنّ كلمة الربّ التي تبقى حتّى الآن غير معروفة من الكثيرين، ستجد يومًا ما مكانًا ترتاح فيه" (عظات عن الإنجيل). أمَّا عبارة " رَدهَةُ العُرْسِ " فتشير الى البيت الكبير العظيم الذي تقام فيه الوليمة.

 

11 ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام، فرَأَى هُناكَ رَجُلاً لم يَكُنْ لابِساً لِباسَ العُرْس،

 

تشير عبارة " ودَخَلَ المَلِكُ لِيَنظُرَ الجالِسينَ لِلطَّعام " الى الملك نفسه لا الخدم الذي يُميَّز بين المستحق وغيره من الجالسين للطعام دلالة على ان الله وحده يعرف قلوب الناس ويُميِّز بين المُخلصين والمرائين. لا شك ان الوقت المُعيَّن للفحص العظيم هو نهاية العالم (متى 13: 39). امَّا عبارة " رَجُلاً " الى الانسان الوحيد الذي وُجد غير اهل لان يكون من جملة الجالسين على الطعام، امَّا عبارة " لِباسَ العُرْس " فتشير الى عادة منتشرة منذ عهد حمورابي، وهو أول ملوك الامبراطورية البابلية، حيث كان الملوك إذا دعوا الى وليمة، يقدِّمون للمدعويّن ثوباً خاصاً يدخلون به الى الوليمة. وهي عادة بقيت قائمة عند سلاطين القسطنطينية لعهد قريب. وكان صاحب العُرْس يُجهّز اللباس اللائق لوليمة العُرْس لكل ضيفٍ. ولباس العُرْس يرمز إلى الايمان وفرح الخلاص والى البِر والاعمال الصالحة والمحبة (مزمور 132132: 16و أشعيا 61" 10 ورؤيا 3: 4). وهي القداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب (العبرانيين 12: 14). ورأى بعضهم ان المراد بلباس العرس بر المسيح، وآخر تقديس الروح القدس. لان الدعوة الى العرس تتضمن ان يأتي المدعو لابسا الثوب اللائق بالعرس. وكان من عادة الملوك والاعيان ان يهبوا لأصدقائهم الثياب الفاخرة علامة مسرَّتهم بهم. وكان من لا يقبل تلك الهبة يُعد من محتقري واهبها. والأرجح ان الملك في المثل وهب لباس العرس لكل المَدعوَّينَ (1صموئيل 18: 4) ولولا ذلك لم يسكت الذي ليس عليه لباس العرس (التكوين 41: 42، دانيال 5: 4).  ان الله اعدّ لنا " ثيابا بيضا" (رؤيا 3: 5)، تلبية الدعوة ليست مجرد مسألة مشاركة في وليمة، بل هي مسألة الدخول في الحياة الحقيقية.

 

12 فقالَ له: ((يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إِلى هُنا، ولَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس))؟ فلم يُجِبْ بِشَيء.

 

تشير عبارة " يا صديقي " في الأصل اليوناني   Ἑταῖρε الى كلمة لطف موجهة من شخص اعلى الى أدنى، من مناداة الملك الى ذاك "الانسان" الذي لم يَكُنْ لابِساً لِباسَ العُرْس. وتدلّ هذه اللفظة عند متى الإنجيلي على توبيخ يوجّه إلى شخص أخطأ كما ورد في حدث العمّال في الكرم (متى 20: 13)، وخيانة يهوذا (متى 26: 50). وهنا تلمح انه لا يستطيع أحد دخول ملكوت الله الاّ بحلة من النعمة، ورداء من البرِّ. فلا يجوز الاستهتار بدعوة المسيح فقد قال بولس الرسول "لا تَضِلُّوا فإِنَّ اللّهَ لا يُسخَرُ مِنه" (غلاطية 6/7). لا يكفي على الانسان ان يقبل الدعوة، بل عليه أيضاً ارتداء ثوب العُرْس، أي يتجدد من خلال اعماله الصالحة؛ أمَّا عبارة "لَيسَ عليكَ لِباسُ العُرْس" فتشير الى اعتبار دخول أحد المَدعوَّينَ الى الوليمة بغير هذا الثوب مُخلا بآداب الولائم، ومذنباً بحق من دعاه، لعدم اكتراثه بأهمية الدعوة، وعدم تقديره لصاحب الدعوة، وهذا لا يليق بكرامة صاحب الوليمة. إذ كان يُرتدى ثوب العُرْس تكريمًا للعروس والعريس. فثوب العُرْس يرمز هنا الى الاعمال الصالحة كما جاء في سفر الرؤية "عَروسُه قد تَزَيَّنَت وخُوِّلَت أَن تَلبَسَ كَتَّانًا بَرَّاقًا خالِصًا. فإِنَّ الكَتَّانَ النَّاعِمَ هو أَعْمالُ البِرِّ الَّتي يَقومُ بها القِدِّيسون" (رؤية 19: 8)؛ ويُشدِّد متى الانجيلي دائما على أهمية الاعمال الصالحة (متى 5: 16-20). فإنَّ الدعوة الله مجانية، لكن لها متطلباتها، حيث يوضح بولس الرسول ذلك بقوله انه علينا ان "نلبس المسيح"، " إِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح "(غلاطية 3: 27) وان نصبح الانسان الجديد "الذي خُلق على صورة الله في البر وقداسة الحق" (أفسس 4: 24). وإذا لم يتجاوب الانسان مع دعوة الله ونعمه وعطاياه، يبقى خارج العُرْس كما حدث مع العذارى الجاهلات اللواتي لم يكن معهن زيت رمز الاعمال الصالحة بقين خارج العُرْس وسمعن الحكم القاسي "لا اعرفكن"؟ إنّ النعمة هبة مجانيّة، لكنّها مسؤوليَّة ومتطلبة. أمَّا عبارة " فلم يُجِبْ بِشَيء " فتشير الى جواب الصمت الذي يدل على الرضى وعدم وجود عذر مقبول، الامر الذي استثار غضب الملك. وفي هذا الصدد يقول صفنيا النبي: وقد أَعَدَّ الرَّبُّ ذَبيحَةً وقَدَّسَ مَدعُوِّيه فيَكونَ في يَومِ ذَبيحَةِ الرَّبّ أَنِّي أُعاقِبُ الرُّؤَساء وبَني المَلِك وكُلَّ لابِسٍ لِباساً غَريباً" (صفنيا 1: 7-8). ويُعلق العلامة أوريجانوس "من يخطئ ولم يتجدّد ولم يلبس الرب يسوع المسيح ليس له عذر، لذلك قيل "لم يُجِبْ بِشَيء". سؤال الملك وسكوت المسؤول يدلان على ان الملك اعدَّ لباسا لكل مدعو. ولذلك لم يكن لذلك الانسان عذر. ان يسوع يدعونا ان نأتي اليه بما نحن عليه، ولكن إن أتينا إليه لا يمكن ان نبقى على ما نحن عليه بلا تغيير.

 

13 فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان)).

 

تشير عبارة" لِلخَدَم" الى الملائكة الوارد ذكرهم سابقا (متى 13: 41، 49)، وهم غير الخَدم الذين دعوا الناس الى الوليمة. فهؤلاء الخَدَم هم المُبشِّرون بالإنجيل. امَّا عبارة “شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه" Δήσαντες (معناها اربطوا) فتشير الى ربطه مثل سجين في حبس؛ وأمَّا عبارة "أَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة" فتشير الى طرده خارج وليمة الملكوت، عقاب الهالكين في جهنم. وهو العقاب الأخير، أمَّا عبارة " الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة " فتشير الى خارج قصر الملك حيث الظلمة والجوع والحزن، في حين داخل قصر الملك نور وشبع وفرح. والظلمة الخارجية يُقصد بها شقاء النفس والياس، وهي نتيجة منع الأثيم من حضرة الله. فالظلمة هي المكان الذي سيُعاقب فيه الكفار. وكان يعتقد أنه تحت الأرض، أمَّا هنا فهو خارج عالم الاحياء (متى 25: 30)، وهو رمز الى الهلاك، الموت الثاني.  إنه "موت" كونه انفصال عن الله، مانح الحياة؛ ويسمى "الثاني" لأنه يأتي بعد الموت الجسدي. وشرح سفر الرؤيا الموت الثاني بكل بوضوح: "وَأَمَّا الْخَائِفُونَ وَغَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ وَالرَّجِسُونَ وَالْقَاتِلُونَ وَالزُّنَاةُ وَالسَّحَرَةُ وَعَبَدَةُ الأَوْثَانِ وَجَمِيعُ الْكَذَبَةِ فَنَصِيبُهُمْ فِي الْبُحَيْرَةِ الْمُتَّقِدَةِ بِنَارٍ وَكِبْرِيتٍ، الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الثَّانِي" (الرؤيا 21: 8).  أمَّا السماء فهو نور. أن الله يدعو كل إنسان إلى ملكوته، ولكن الذين يرفضون دعوته فإنه يُعاقبهم نتيجة عصيانهم وعدم تلبيتهم الدعوة الإلهية. أمَّا عبارة "البكاء وصريف الاسنان" فتشير الى صاحب المزامير " الشَريرُ يَرى فيَغضَب ويَصرِفُ أسْنانَه ويَذوب وبُغيَةُ الأشْرارِ في زَوال" (مزمور 112: 10).  ويعُلق القديس ايرونيموس "أمَّا البكاء وصرير الأسنان فتشير الى اشتراك الجسد مع النفس في مرارة الظلمة الخارجيّة لدى قيامة الجسد". أمَّا عبارة " فهُناكَ البُكاءُ " فتشير الى استياء الكفار الأشرار وصرختهم اليائسة؛ أمَّا " صَريفُ الأَسنان " فتشير الى حسدهم وغضبهم امام سعادة الابرار (ايوب16: 9). فالظلمة هي عكس النور، والنور هو والسماء. هنا نتذكر العذارى الجاهلات اللواتي لم يكن معهنَّ زيت (أي الاعمال الصالحة) فبقينَ خارج وليمة العُرْس وسمعن الحكم القاسي" وجاءَت آخِرَ الأَمرِ سائرُ العذارى فقُلنَ: ((يا ربّ، يا ربّ، اِفتَحْ لَنا)). فأَجاب: ((الحَقَّ أَقولُ لَكُنَّ: إِنِّي لا أَعرِفُكُنَّ" (متى 25: 11).

 

14 لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون)).

 

تشير عبارة "جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون" الى المبدأ الاساسي في المثل؛ أمَّا عبارة " مَدْعُوُّون" فتشير الى الذين لبَّوا الدعوة ودخلوا الكنيسة لكنهم رفضوا اكثرهم نعمة الله، أمَّا عبارة "المُخْتارون" فتشير الى الذين لم يلبُّوا الدعوة فقط بل استحقُّوا النعمة وأصبحوا ابراراً في الملكوت، لأنهم قبلوا نعمة الدعوة وافسحوا المجال لهذه النعمة ان تغيّر حياتهم. ليست هذه الآية تلميحا الى اليهود الذين دُعوا الى الخلاص، فأبعدوا الآن بعد ان رفضوا المسيح، بقدر ما قد تكون موجّهة إنذارا للذين يسيئون استعمال دعوة الله المجّانية، فيُطرحون في آخر الآمر خارج الملكوت. ويعلق العلامة أوريجانوس "كثيرون هم الذين يأتون إلى العُرْس، وقليلون هم الذين يجلسون على المائدة". فالمراد بذلك ان كثيرين يتبعون المسيح ولكن قليلين يخدمونه بالتواضع حبا له. هذه الآية هي خلاصة المثل كله.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 22: 1 -14)

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 22: 1 -14)، نستنتج انه يتمحور حول دعوة الله لجميع الناس لحضور وليمة عرس الملكوت، والجواب الشخصي المطلوب من كل واحد.  ومن هنا نتساءل ما هي هذه الدعوة وماهي تطبيقاتها؟

 

1) ما هي الدعوة الالهيّة؟ " فتَعالَوا إِلى العُرْس" (متى 22: 4)

 

الدعوة في المثل تمثل دعوة إلهيّة: " فتَعالَوا إِلى العُرْس " (متى 22: 4)، وهذه الدعوة تحمل قوّة تقدر أن تجتذب القلب إلى العريس ليتَّحد معه ويكون معه واحدًا، لكن دون إلزام أو إجبار. وقد دفع العريس ثمن الدعوة بقوله: "ها قد أَعدَدتُ وَليمَتي فذُبِحَت ثِيراني والسِّمانُ مِن ماشِيَتي، وأُعِدَّ كُلُّ شَيء" (متى 22: 4). فتكلفة الدعوة هي حياته التي بذلها لمصالحتنا مع أبيه السماوي صاحب الدعوة، مقدّمًا لنا جسده ودمه المقدّسين طعامًا وشرابًا روحيًا لوليمة الملكوت الجديد. لقد صار كل شيء مُعَّدًا لدخولنا إلى الوليمة المقدّسة التي هي في جوهرها ارتفاع إلى الحياة السماويّة،

 

وأرسل لنا روحه القدّوس في كنيسته، لكي ينطلق بكل نفس خلال التوبة إلى الحضرة الإلهيّة، لتشارك الملائكة تسابيحهم وتتقبّل عريسها في داخلها. ويُعلق العلامة أوريجانوس" أن هذه المائدة الإلهيّة هي كلمة الله، فالثيران المذبوحة إنّما هي منطوقات الله العظيمة المُعدة لنا كطعامٍ روحيٍ، والمُسمَّنات هي كلماته العذبة الشهيَّة. كأنه بمجيء الكلمة المتجسّد وارتفاعه على الصليب دخل بنا إلى سرّ الكلمة لنكتشف عظمتها ودسمها". هكذا ينشغل الثالوث القدّوس بهذا العُرْس، فالآب هو صاحب الدعوة، والابن هو العريس الذي يدفع تكلفة العُرْس، والروح القدس هو الذي يعمل فينا ليهيئنا للعرس. وأمَّا ثوب العُرْس فكما يقول القديس هيلاري أسقف بواتييه" هو نعمة الروح القدس والبهاء الذي يُضيء المؤمن فيصير بلا دنس ولا عيب إلى اجتماع ملكوت السماوات".

 

نستنتج مما سبق ان للدعوة دورٌ خاص في وحي الله وخلاص الانسان، انها حوار بين الله في عظمته وسرّه من ناحية، وبين الانسان الذي يظهر على حقيقته بما فيه من ضعف وقدرته على الرفض والتقبل، من ناحية أخرى. الدعوة نداء يوجّهه الله للإنسان الذي اختاره لذاته، والذي يخصّه لعمل معيَّن في تدبير خلاصه وفي مصير شعبه. وهذا النداء هو نداء شخصي موجّه الى أعماق ضمير الانسان، وينتظر الله جوابا، أي موافقة واعية تعبّر عن الايمان والطاعة، فإذا لبَّى الانسان الدعوة، فهذه الدعوة تقلب أوضاع كيانه، لا في ظروفه الخارجية فقط، ولكن حتى في عمق قلبه، فتجعل منه شخصا آخر.

 

إنها دعوة للعِطاش إلى الحكمة، تقدَّم لا للحكماء المتَّكلين على فهمهم، وإنما للذين هم في الشوارع والطرقات كما جاء في سفر الأمثال "الحِكمَةُ بَنَت بَيتَها ونَحَتَت أَعمِدَتَها السَّبعَة.  ذَبَحَت ذَبائِحَها ومَزَجَت خَمرَها وأَعَدَّت أَيضًا مائِدَتَها. أَرسَلَت جَوارِيَها تُنادي على مُتونِ مشَارِفِ المَدينَة: ((مـن كانَ ساذِجًا فليَملْ إِلى هُنا)) وتَقولُ لِكُلِّ فاقِدِ الرُّشْد: ((هَلُمُّوا كُلوا من خبْزي واْشرَبوا من الخَمْرِ الَّتي مزَجتُ. اترُكوا السَّذاجَةَ فتَحيَوا اسلُكوا طَريقَ الفِطنَة" (أمثال 9: 1-6).

 

إنها دعوة للخطأة التائبين الراجعين، الذين ينعمون بها أكثر من هؤلاء الذين يظنّون في أنفسهم أنهم أبرار كما حدث مع وليمة للابن الضال " فقالَ الأَبُ لِخَدَمِه: أَسرِعوا فأتوا بِأَفخَرِ حُلَّةٍ وأَلبِسوه، واجعَلوا في إِصبَعِه خاتَماً وفي قَدَمَيه حِذاءً، وأتوا بالعِجْلِ المُسَمَّن واذبَحوه فنأكُلَ ونَتَنَعَّم، لِأَنَّ ابنِي هذا كانَ مَيتاً فعاش، وكانَ ضالاًّ فوُجِد " (لوقا 15: 22-24)، ويعلق القديس هيلاري أسقف بواتييه "انها دعوة لغفران كل الخطايا الماضية التي سقطت فيها البشريّة. إنها دعوة للجميع ولمغفرة كل الماضي!".  ولا يزال الربّ يسوع الّذي قدّم حياته كأضحية كفاَّرة عن خطايانا، والّذي يملك الآن كملك الملوك وربّ الأرباب يدعونا إلى أن نشترك معه في وليمته الأبديّة، ولهذا فهو يُرسل لنا الدعوة تلو الدعوة " يقولُ الرُّوحُ والعَروس: ((تَعالَ!)) " (رؤيا 22: 17).

 

وباختصار، حياة المسيحية دعوة، لان الكنيسة جماعة المَدعوَّينَ، هي نفسها المدعوَّة كما تشير لفظة كنيسة في اليونانية (ἐκκλησία ) (أي المدعوّة) مثلما هي المُختارة " ( 2 يوحنا 1 :1)،  فكل الذي من خلالها ، يسمع نداء الله ،ويًجيب ، كل في مكانه، على دعوة الكنيسة الواحدة التي تسمع صوت العريس وتجيبه "  تَعالَ، أَيُّها الرَّبُّ يَسوع" (رؤيا  22: 20).

 

2) ما هي تطبيقات الدعوة الإلهية؟

 

للدعوة بحسب ما وردت في مَثَل وَليمة المَلِك ثلاثة تطبيقات تاريخي ولاهوتي وروحي.

 

أ) التطبيق التاريخي للنص الانجيلي

 

لمَثَل وَليمة المَلِكٍ تطبيق تاريخي حيث ان يسوع يدعو الشعب اليهوديّ في شخص ممثّليه الرسميين إلى وليمة العرس، الى عيد الخلاص وما سيحمل معه من فرح. فرفض، فجرّ عليه رفضُه الكارثة. إذ يروي هذا المثل رداً على الشكوك التي أثارتها مخالطته للخطأة والعشارين لدى الفريسيين (الأتقياء) والكتبة (اللاهوتيون) ورؤساء الشعب الدينيّون (الكهنة)، فهؤلاء لم يدركوا أهمية دعوة الله فلم يلبُّوا الدعوة. وكشف المثل ان الرفض يمنع النعمة عن الابرار. عندئذ قبل الله، بدلاً منهم، العشارين والخطأة والزناة والوثنيين، لأنهم انفتحوا على نداء يسوع وتبعوه طوعًا (لوقا 15: 1-2).  ومن هنا تتعدّى دعوة الله كل الحدود الاجتماعية والدينية. كلنا مدعوون الى وليمة الرب، كل الذين على ملتقى الديانات والحضارات، كل الاشرار والاخيار كما جاء في نبوءة أشعيا: " وفي هذا الجَبَلِ سيَضَعُ رَبُّ القُوَّات لِجَميعِ الشُّعوبِ مَأدُبَةَ مُسَمَّنات مَأدُبَةَ خَمرَةٍ مُعَتَّقَة مُسَمِّناتٍ ذاتِ مُخٍّ ونَبيذٍ مُرَوَّق" (أشعيا 25: 6).

 

حينئذ امتدت الدعوة إلى عابرين لم يكن شيء يهيّئهم لمثل هذا الامتياز. يمثّل هؤلاء العابرون صغار القوم داخل الشعب اليهوديّ (الخطأة، العشّارون). كما يمثلون المسيحيين الذين دعوا كلهم لكي يدخلوا إلى الملكوت. نجد في هذا النصّ سخاء الربّ وبرّه وتأكيدًا مطلقًا لمجانيّة عطائه تجاه تفكير الخصوم الذين يستندون إلى استحقاق أعمالهم. وإن التضاد بين المدعوين المتوقَّع ان يأتوا ويرفضون تلبية الدعوة، والمدعوين غير متوقع ان يأتوا ويلبُّون الدعوة؛ وهذا الامر ينطبق على كل تاريخ بني إسرائيل. وهذا التضاد لا يقوم في داخل فئات شعب بني إسرائيل فقط، بل أيضا بين بني إسرائيل والشعوب الأخرى. ويحكم هذا المثل بشكل ضمني على رؤساء الشعب وأحبار اليهود، لأنهم رفضوا دعوة المسيح فتوجهت البشارة الى الوثنيين.

 

والتعليم الثاني يُوجّه يسوع إلى مجموعة تلاميذه: يحذرّهم النصّ من أن يفكّروا أنه يكفي أن يكونوا مدعوّين ويقولوا "نعم" (على مستوى الكلام لا العمل) لكي يتأمّن لهم الخلاص والمشاركة في وليمة العرس. أجل، لا يكفي أن نعترف باسم المسيح، أن نكون جزءًا من جماعته (ندخل بالمعموديّة إلى قاعة العرس)، بل يجب أيضًا أن نلبس حلّة العرس، أن نتمّ الأعمال التي يفرضها البر الجديد (متى 7: 21)، أن نحبّ بالعمل والحقّ. وإلاّ، قد نطرح خارجًا، ونستبعد عن الملكوت إلى الأبد، حتى لو دخلناه كما دخله عابرو الطريق. لأنه يقال لنا في تلك الساعة: "يا صاح، كيف دخلت إلى ههنا"؟

 

ب) التطبيق اللاهوتي للنص الإنجيلي

 

للمثل أيضا بُعد لاهوتي، إذ يشرح المثل موضوع الدعوة والدينونة. لا يقف المثل عند رفضُ السلطات اليهودية والشعب اليهودي ليسوع بل إنه ايضا دعوة عامة بأن الساعة قد أتت وكل شيء مُعدّ "وأُعِدَّ كُلُّ شَيء فتَعالَوا إِلى العُرْس" (متى 22: 4). دعوة سخية، ومجانية ومبهجة حيث الفرح، الأكل، الشرب، لقاء الأحباء.  وهنا لم تكن دعوة الى وليمة عرس عادي، إنما وليمة عرس ملكي. فهي وليمة الملك. ولكن رغم كل هذا نجد في هذا المثل رفض من قبل المَدعوَّينَ! ويتحدث الإنجيل عن ثلاثة أنواع من الرفض. البعض، ببساطة، " فأَبَوا أَن يَأتوا " (متى 22: 3). والبعض الآخر "لم يُبالوا" (متى 22: 5) وذهب إلى أعمالهم. والبعض الآخر، كان رفضهم بعنف " فَشَتَموهم وقَتَلوهم (متى 22: 6).

 

كل واحد منا مدعو الى الجواب شخصياً على دعوة الرب المجانية، مدعو لينفتح على كلمة الله، على نداءات ضميره، فما هو رد فعلنا؟ فهل هناك مجال الى التردد تجاه دعوة الإنجيل؟ وهل هناك ما هو أهم من تلبيتها. فلا بد من اتخاذ القرار.  "يا رب من هو الإنسان حتى ينال هذا الشرف الرفيع".

 

 وليس المثل هو بمثابة دعوة بل هو أيضاً بمثابة إعلان دينونة الله. إنها دينونة قاسية لا يفلت منها أحد: لا تخص الدينونة فقط مدعوي الدفعة الأولى، بل تمتد إلى مدعوي الدفعة الثانية أيضاً، الذين قد يعتقدون أنهم بتلبيتهم للدعوة أصبحوا في مأمنٍ من الدينونة.  فقد قال الملك واضحا " إنَّ المَدعوَّينَ غيرُ مُستَحِقِّين" (متى 22: 8).

 

وتطال دينونة الله كل إنسان، لان الجميع مدعوًّون، ولكن ليس الجميع مختارون. لآنَّ دخول الردهة تتطلب أن يتغيّر الانسان ويسهر ويكون في موقف طاعة دائمة. إنّ باب الردهة مفتوح، لكنّه ليس مفتوحاً ليدخل فيه الخاطئ ويظلّ على خطيئته، بل ليدخل الخاطئ فيصير قدّيساً.  لذلك طالت الدينونة على بني إسرائيل وتطال أيضاً المسيحيين. هذا ما يعنيه الانجيل لباس ثوب العُرْس.

 

ج) التطبيق الروحي للنص الإنجيلي

 

يتناول المثل ايضا البعد الروحي على صعيد الدعوة وثوب العُرْس. أمَّا على صعيد الدعوة فهي دعوة خلاص فالله يريد خلاص جميع الناس كما قال الملك لخدامه "َاذهَبوا إِلى مَفارِقِ الطُّرق وَادعُوا إِلى العُرْس كُلَّ مَن تَجِدونَه (متى 22: 9) وقد أكد ذلك بولس الرسول بقوله "الله يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ " (1 طيموتاوس 2: 4)، والله يدعو الجميع إليه من جميع الاجناس والطبقات، الابرار والاشرار، القديسين والخاطئين. فإن دعوة الملك لا تستبعد أحداً بمن فيهم الخطأة أنفسهم (متى 9: 9-13). ومن هذا المنطلق، نستنتج أنَّ الله لا يهمل شعبه، بل الشعب هو الذي يرفض إلهه. الجميع مدعوون الى الكنيسة كما في الشبكة التي جمعت من كل جنس (متى 13: 37-43).

 

كما دعا يسوع اليهود كذلك دعانا جميعًا، فإنه لا يملُّ من إرسال عبيد لدعوتنا لهذا العُرْس بكل طريقة لكي نقبَّله عاملًا فينا. وهو يدعونا من خلال خدّمَه وإنجيله والأحداث المحيطة بنا، ويتّكلم بروحه فينا. إنه "واقف على الباب يقرع" كما ورد في سفر الرؤية " هاءَنَذَا واقِفٌ على البابِ أَقرَعُه، فإِن سَمِعَ أَحَدٌ صَوتي وفَتَحَ الباب، دَخَلتُ إِلَيه وتَعَشَّيتُ معه وتَعَشَّى معي" (رؤية 3: 20)، ينتظر أن ندخل به إلى قلبنا، وننعم بالاتّحاد معه!

 

المثل يدعونا الى الاستجابة الى نداء الله في حياتنا كما الى وليمة، فلا نتذرع بأعذار مختلفة من مشاغل الحياة (العمل، المصالح، العائلة) لرفض الدعوة الملكية. وما هي هذه الاعذار الاَّ مزاعم تخفي تحتها عدم رغبتنا لقبول الدعوة؛ وكأن الدين شيء حسن لمن ليس لهم شيء أفضل يُشغلهم عنه؛ والواقع ترفض النفس الفرح لتعيش في غمٍ نابع لا عن ظروف خارجيّة، وإنما عن قلب مغلق لا يريد أن ينفتح للرب الذي يهب السلام والفرح. ولنسأل نفوسنا: ما الذي يأخذ مكان الله في حياتنا؟  هل نحن نفضل "العمل" على "العيد"؟  كيف يمكن لنا ان نشارك في "وليمة الله بدل ان نهتم أولا بشؤوننا وعملنا اليومية؟

 

أمَّا على صعيد لِباس العُرْس فليس الكل يقبل نعمة الله التي تقدّسه، بل قليلون هم الذين يقبلونها ويتجاوبون معها ويلبسون ثوب العُرْس كما ورد في الكتاب المقدس "لأَنَّ جَماعَةَ النَّاسِ مَدْعُوُّون، ولكِنَّ القَليلينَ هُمُ المُخْتارون" (متى 22: 14)؛ ولباس العُرْس الذي يُطلب من الجميع هو البرّ الذي يتحدّث عنه متى الإنجيلي " إِن لم يَزِدْ بِرُّكُم على بِرِّ الكَتَبَةِ والفِرِّيسيِّين، لا تَدخُلوا مَلكوتَ السَّموات" (متى  5: 20)، فلباس العُرْس هو ان نعمل إرادة الآب لكي نشارك في العيد، وهو بمثابة  نداء إلى الايمان والعمل، ويُعلق القديس يوحنا الذهب الفم " ثوب العُرْس هو الحياة الداخليّة المقدّسة والمُعلنة خلال التصرّفات العمليّة". لا يمكننا دخول الى الوليمة ونبقى كما كنا، كما لو لم يحدث شيء؛ فإن الشخص الذي يدخل الى الوليمة ولا "يتكيف" مع الحياة، هو في الواقع مساو لمن يرفضون الدعوة. فلا له من لباس التوبة المتواضعة، ولباس الإيمان، ولباس الاحترام – كلّها ضروريّة لنلبسها ونحن نقترب من الربّ. إنّ نعمة دخول الى ردهة العرس هبة مجانيّة، لكنّها مسؤولية تتطلب التغيير.

 

لا يكفي أن نكون مدعوّين ونقول "نعم" على مستوى الكلام لكي يتأمّن لنا الخلاص والمشاركة في وليمة العُرْس، بل لا بدَّ من العمل والعيش بحسب المتطلّبات التي يفرضها هذه الدعوة. فلا يكفي أن نكون معمّدين لكي نكون جزءًا من الجماعة التي تلتئم يوم الأحد: بل يجب أن نعمل إرادة الآب لكي نشارك في العيد الأخير، عيد الخلاص.

 

ولا يجوز لنا ان نكون في داخل ردهة العُرْس، وقلبَنا في الخارج. لهذا يقول القديس ايرونيموس “ثوب العُرْس هي وصايا الرب والأعمال التي تتمِّم الناموس والإنجيل"؛ فالمطلوب ان نجعل وصايا الله معطفنا المطلوب الظهور به أمام العرش السماوي. ويُعلق القديس اوغسطينوس "من يأتي إلى وليمة العُرْس بدون ثوب العُرْس إنّما هو ذاك الذي له إيمان بدون حب "، فلا عجب ان يوصينا بولس الرسول انه علينا ان نلبس المسيح: " فإِنَّكم جَميعًا، وقَدِ اعتَمَدتُم في المسيح، قد لَبِستُمُ المسيح" (غلاطية 3: 27)، ويضيف بولس الرسول قائلا ان نلبس الانسان الجديد: "فَتَلبَسوا الإِنسانَ الجَديدَ الَّذي خُلِقَ على صُورةِ اللهِ في البِرِّ وقَداسةِ الحَقّ"(أفسس 4: 24). فالخلاص ليس عملية تلقائية قائمة بذاتها، انما تتطلب لبس ثوب العُرْس أي التجاوب مع نِعّم الله وعطاياه.  وهذا الامر اوصاه بولس الرسول " البَسوا فَوقَ ذلِك كُلِّه ثَوبَ المَحبَّة فإنَّها رِباطُ الكَمال" (قولسي 3: 14).

 

نستنتج مما سبق انه لا يكفي أن نعترف باسم المسيح، كي نكون جزءًا من جماعته (ندخل بالمعموديّة إلى قاعة العُرْس)، بل يجب أيضًا أن نلبس حلّة العُرْس، أي أن نتمّم الأعمال التي يفرضها البر الجديد (متى7: 21)، وأن نحبّ بالعمل والحقّ ونسلك بالوصيّة المحبة الإنجيليّة ونعمل بإرادة الآب فنكون من هؤلاء المطوَّبين الذي قال فيها سفر الرؤيا: "طوبى لِلمَدعُوِّينَ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل" (رؤيا 19: 9). وعكس ذلك نُطرح خارجًا، ونُستبعَد عن الملكوت إلى الأبد، حتى لو دخلناه كما دخله عابرو الطريق، فسيُقال لنا في تلك الساعة: " يا صديقي، كَيفَ دخَلتَ إِلى هُنا؟ (متى 22: 11).

 

الخلاصة

 

ضرب يسوع مثل وليمة الملك في وسط مدينة اورشليم وقبل موته بأسابيع. أمَّا شخصيات المثل فهي: الملك الذي اقام عرسا هو الله، الذي دعا ضيوفه ثلاث مرات، والابن الذي اقيمت وليمة عرسه هو المسيح، والوليمة هي الملكوت، وخَدَم الملك هم الأنبياء والرسل والتلاميذ، والمدعووّن الى الوليمة هم الناس من كل أمة تحت السماء، والمجرمون القتلة هم اليهود الذين رفضوا دخول ملكوت الله على يد الانبياء وقتلوهم، والقادمون الى الوليمة من مفارق الطرق هم الوثنيون، والمدينة التي احرقها الملك هي اورشليم التي دمَّرها الرومان.  فالذين انتظرهم الملك تهرّبوا، والذين لم ينتظرهم في الوليمة جاؤوا. أمَّا الرجل الذي دخل الى ردهة العُرْس بغير ثوب العُرْس هو كل من لا يحترم كرامته وكرامة من يدعوه.

 

دعوة وليمة العرس هي دعوة مجانية لدخول ملكوت الله، وهي متاحة للجميع، للأبرار والاشرار، ومطلوب الجواب الشخصي لكل واحد؛ ومع هذا فهناك من يرفض ويستثني نفسه.  هي دعوة الى الخلاص تفوق كل توقع، ومن يرفضها يحرم نفسه من هذا الخلاص، هي دعوة إلى الفرح، ومن يرفضها يحرم نفسه من هذا الفرح.

 

يقدّم يسوع في هذا المثل مهمته داخل تاريخ الخلاص، وهي نداءات متكررة من جيل الى جيل، نداءات الأنبياء والمرسلين ما زالوا يهنفون " فتَعالَوا إِلى العُرْس" (متى 22: 4) تعالوا الي مأدبة الحياة، الى مأدبة الحب، فالله يهيئ أعظم شيء من اجل الانسان.  ويتعدّى النداء كل الحدود الاجتماعية والدينية. كل واحد مدعو الى الجواب شخصيا على هذه الدعوة المجانية، على نعمة الله لينفتح على كلمة الله وعلى مائدة جسده ودمه الأقدسين. الله يعطي نعمته للجميع، طوب لمن يلبي الدعوة.

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، يا من تدعو عن طريق خدّامك وكنيستك الجميع للمشاركة في وليمتك السماوية والعيش في حضرتك، اجعلنا دوما ان نكون مستعدين لقبول اية دعوة منك، وان لا تعوقنا "اعمالنا" اليومية عن روح الخدمة، بل أن نشارك في وليمة الرب ونحن لابسون ثوب المسيح، ثوب الانسان الجديد "الذي خُلق على صورة الله في البر وقداسة الحق" (أفسس 4: 24) فنكون من هؤلاء المطوَّبين الذي قال فيهم سفر الرؤيا: "طوبى لِلمَدعُوِّينَ إِلى وَليمَةِ عُرسِ الحَمَل" (رؤيا 19: 9) الذين ينعمون رؤيتك وجهاً لوجه في ملكوتك الأبديّ. آمين