موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٤ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

مَثلُ الوَزَنات ومسؤولية استثمارها

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
مَثلُ الوَزَنات ومسؤولية استثمارها

مَثلُ الوَزَنات ومسؤولية استثمارها

 

الاحد الثالث والثلاثون من السنة (متى 25: 14 -30)

 

النص الإنجيلي (متى 25: 14 -30)

 

14 ((فمَثَلُ ذَلِكَ كمَثَلِ رَجلٍ أَرادَ السَّفَر، فدعا خَدَمَه وسَلَّمَ إِلَيهِم أَموالَه. 15 فأَعْطى أَحَدَهم خَمسَ وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَةً واحدة، كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه، وسافَر. 16 فأَسرَعَ الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمسَ إِلى المُتاجَرَةِ بِها فَربِحَ خَمسَ وَزَناتٍ غَيرَها. 17 وكذلِكَ الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما. 18 وأَمَّا الَّذي أَخذَ الوَزْنَةَ الواحِدة، فإِنَّه ذهَبَ وحفَرَ حُفرَةً في الأَرض ودَفَنَ مالَ سيِّدِه. 19 وبَعدَ مُدَّةٍ طويلة، رَجَعَ سَيِّدُ أُولئِكَ الخَدَمِ وحاسَبَهم. 20 فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمس، وأَدَّى معَها خَمْسَ وَزَناتٍ وقال: ((يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَناتٍ رَبِحتُها)). 21 فقالَ له سَيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ)). 22 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ فقال: ((يا سَيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ وَزْنَتَين، فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما)). 23 فقالَ له سيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ)). 24 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَةَ الواحِدَةَ فقال: ((يا سَيِّد، عَرفتُكَ رَجُلاً شَديداً تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ، وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ، 25 فخِفتُ وذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض، فإِليكَ مالَك)). 26 فأَجابَه سَيِّدُه: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّيرُ الكَسْلانُ! عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ، 27 فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف، وكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدَة. 28 فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَناتُ العَشْر: 29 لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له. 30 وذلكَ الخادِمُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان.

 

المقدمة

 

ضرب يسوع مَثلُ الوَزَنات (متى 25: 14-30) لآفتاً انتباهنا الى هدف أخلاقي، وهو المسؤولية في استثمار مواهبنا لدخول ملكوت السماوات.  ويُشدِّد المثل على خطورة عدم الأمانة في استخدام المواهب سواء كانت مؤهلات او قدرات او طاقات أو إمكانيات أو فرص مُودعة بين أيدينا. إذ يأتي يسوع "كالسيد الديان" الذي يطلب منا ان نقدم له الحساب عند انقضاء الدهر، أواخر الايام ونهاية الحياة. وأنه يحاسب كل شخص بمفرده. لذلك وجب على المؤمن الاجتهاد وتحمل المسؤولية والانتظار للحساب عن الوزنات التي أعطاه إياها الله. ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الإنجيلي (متى 25: 14-30) 

 

14 "فمَثَلُ ذَلِكَ كمَثَلِ رَجلٍ أَرادَ السَّفَر، فدعا خَدَمَه وسَلَّمَ إِلَيهِم أَموالَه

 

تشير عبارة "فمَثَلُ ذَلِكَ" في الأصل اليوناني َ" Ὥσπερ γὰρ (معناها كإنما) الى إضافة تربط سياق المثل الآتي (مثل الوزنات) بالمَثَل السابق (مثل العذارى) حيث انه يدور على نفس المحور. ولكن هنا يتَّجه المَثَل نحو الأمانة في السهر لحساب السيد. ان المسيح يعامل الناس في ملكوته معاملة هذا السيد لخَدمه.  أمَّا عبارة " رَجلٍ أَرادَ السَّفَر " فتشير الى رجل مسافر الذي وهو صاحب المال الذي يرمز الى السيد يسوع المسيح.  فيسوع سبق وشبّه نفسه بإنسان مسافر الى ارض بعيدة (لوقا 19: 12). أمَّا عبارة " السَّفَر " فتشير إلى رحلة الحياة. في هذا المثل، يسوع المسيح هو الذي سافر عند صعوده الى السماء عام 33مٍ "لِيَحصُلَ على المُلْكِ ثُمَّ يَعود" (لوقا 19: 12). ولا ينظره تلاميذه على الارض الى يوم مجيئه ليُجازي الأمناء ويعاقب الخونة. أمَّا عبارة " خَدَمَه " في الأصل اليوناني δούλους فتشير الى وكلاء اعماله الذين يتعاطون ما يريدونه من الاعمال التجارية براس المال الذي اعطاهم إياه سيدهم شريطة ان يعطوه قدرا معيَّنا من الربح، والمراد بهؤلاء الخدم رسل المسيح والمبشِّرين باسمه أي كنيسته على الارض. أمَّا عبارة " سَلَّمَ إِلَيهِم " فتشير الى توزيع السيد جميع أمواله على خَدَمه، بدون إعطائهم تعليمات او أوامر، بل ومن خلال ضع ثقته بهم متوقعا، منهم ان يتاجروا بها في غيابه، وحمَّلهم مسؤولية إدارة أمواله، ويعلق التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة " في البدء، سلّم الله الأرض ومواردها لإدارة بني البشر العامّة كي يؤمّنوا العناية بها ويَدبّروا شؤونها بعملهم ويستفيدوا من خيراتها. (تكوين 1: 26-29) " (2402-2405)؛ وفي المعنى الحصري يدل هؤلاء الخدام على تلاميذ يسوع الذين أوكلهم تفويضا قائلا لهم "فاذهَبوا وتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وعَمِّدوهم بِاسْمِ الآبِ والابْنِ والرُّوحَ القُدُس، وعَلِّموهم أَن يَحفَظوا كُلَّ ما أَوصَيتُكُم به، وهاءنذا معَكم طَوالَ الأَيَّامِ إِلى نِهايةِ العالَم" (متى 28: 19-20)، ويعلق القديس ايرونيموس "إنّ هذا المالك هو بالتأكيد المسيح. بعد قيامته، فيما كان على وشك الصعود منتصرًا نحو الآب، دعا الرسل وسلّمهم عقيدة الإنجيل، مُعطيا أحدهم أكثر وأحدهم أقلّ، لا كثيرًا ولا قليلاً، لكن وفقًا لقدرات أولئك الذين كانوا يتلقّونها". أمَّا عبارة " أَموالَه " فتشير في هذا النص الى ثمانٍ وزنات، وهي قيمة ‏طائلة في تلك الأيام، وتدل على المواهب وخاصة الانجيل الطاهر، والبركات الروحية والمواهب الأخرى التي أعطاها الرب الى كنيسته بجملتها. هذه الوزنات سلمها الله لكل المسيحيين فصاروا جميعهم وكلاءه كما جاء في تعليم بولس الرسول " فقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((صَعِدَ إِلى العُلى فأَخَذَ أَسْرى وأَعْطى النَّاسَ العَطايا)) وهو الَّذي أَعْطى بَعضَهم أَن يَكونوا رُسُلاً وبَعضَهم أَنبِياء وبَعضَهم مُبَشِّرين وبَعضَهم رُعاةً ومُعلِّمين، لِيَجعَلَ القِدِّيسينَ أَهْلاً لِلقِيامِ بِالخِدمَة لِبِناءِ جَسَدِ المسيح، " (أفسس 4: 8-12).

 

15 فأَعْطى أَحَدَهم خَمسَ وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَةً واحدة، كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه، وسافَر.

 

تشير عبارة "فأَعْطى" في الأصل اليوناني ἔδωκεν الى تقديم السيد لخَدَمه دَيْنا لا هبة، وكل من زاد قدرة زاد مسؤولية كما جاء في اقوال يسوع " مَن أُعطِيَ كثيراً يُطلَبُ مِنهُ الكَثير، ومَن أُودِعَ كثيراَ يُطالَبُ بِأَكثَرَ مِنه" (لوقا 12: 48). اما عبارة " وَزَنات " في الأصل اليوناني τάλαντα (معناها الموهبة والطاقة) فتشير الى المواهب، فمنها الجسدية والنفسية: كالصحَّة، والذكاء، وقوَّة الإرادة، ومنها الإجتماعيَّة: كالقدرة على الإداريّة، وتحمُّل المسؤوليَّة، ومنها الروحيَّة، كالنعمة المقدِّسة، وفضائل الإيمان والمحبَّة والعدل والشجاعة، وفرص العمل الخير التي يهبها الله بسخاء لشعبه. ويذكر المثل ثماني وزنات تمثل القيم النقديَّة حيث كانت قيمة الوزنة الواحدة نحو 25 كلغم من الذهب او 30 كلغم من الفضة. وفي الحسابات النقدية تساوي نحو 60000 درهم، وبالتالي تمثل الوزنة في الانجيل نحو 30 سنةٍ من شغل عامل يومي. وأمَّا لوقا فأعطى السيد خدامه "أمْناء" في الأصل اليوناني μνᾶ ، وهي وزن سامي يساوي 1/60 من الوزنة،  والوزنة تعادل 60 منة أي 60000 دينار؛ وفي الحسابات النقدية تساوي 100 درهم (لوقا 7: 41)، بما يعادل اجر عامل في 3 شهور.  . كل واحد نال الكمية عينها "دَعا عَشرَةَ خُدَّامٍ له، وأَعْطاهم عَشرَةَ أَمْناء"(لوقا 19: 13). ومن هنا نستنتج ان الوزنة في ذلك الزمان لم تكن قطعة نقد واحدة بل مبلغاً كبيراً من المال.  أمَّا عبارة " خَمسَ وَزَنات " فتساوي 30000 دينارًا فإذا كان الدينار يشكّل أساسًا أجرة العامل في يوم عمل، وهذا المبلغ يدلُّ على ثقة السيد في الخادم. والوزنات الخمس تذكّرنا بالعهد القديم، بالتوراة ذات الكتب الخمسة. وهي شريعة موسى التي أُعطيت للإنسان للوصول إلى الخلاص مع سائر شعب الله. أمَّا عبارة "وَزْنَتَين" فتشير الى مبلغ يقارب 12000 دينارًا.

 

الوزنتان هما رمز الى العهدين: القديم والجديد، ، حيث انه من خلال العهد القديم دخل الله في علاقة مع شعبه في عهد حبّ أبدّي، وأُصبح من خلاله الله إله إسرائيل الأوحد، وأُصبح الشّعب شعب الله المختار، أي الشّعب الذي وضعه الله في خدمة خلاص الشّعوب كلّها وإيصال كلمة الحياة اليهم . وفي العهد الجديّد عاد الرّب مرّة ثانية لتجديد عهده مع شعبه وإعادتهم إلى صداقتهم وإلى حبّهم الأوّل مع الله فأرسل ابنه متجسّدًا من مريم العذراء. أمَّا عبارة "وَزْنَةً واحدة" فتشير الى قيمة طائلة نحو 25 كلغم من الذهب. وما طُلب من الخدم الثلاثة هو الاستمرار بما سَلّم إليهم سيّدُهم من مال.  والوزنة هنا تدل على المواهب الجسدية والنفسية والاجتماعية والروحية من أي نوع كانت. وهي ترمز الى الكنيسة الواحدة، جسد المسيح السرّي التي تعطي الخلاص لبني البشر لأنّها الأمّ والمعلّمة، التي تحتوي على الأسرار، تسعى لأن تكون في خدمة الإنسان، كلّ إنسان. أمَّا عبارة "كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه" فتشير ان صاحب المال الذي لم يوزّع أمواله بالتساوي على ثلاثة من خدَّامه، بل بحسب قدراتهم وكفاءاتهم وإمكانياتهم الطبيعية والذهنية، ومواهبهم ومحدوديّتهم ووقتهم ليستثمروها ويتصرفوا بها بما لهم من الحكمة والتدبير الى حين عودته.  ولكل واحد أُعطيت وزنة على قدر طاقته. فلم يردْ ان يُرهق الضعيف، ولا ان يُبخس حق القوي، بل قام بمراعاة القدرات الفردية، لأنه يعرف ما يناسب كل عضو للخلاص وخدمة الكنيسة.  أعطى كل واحد منَّا وزنات تتكافا تماماً مع طاقته ومقدرته ومواهبه لخدمة خلاصنا وخلاص الآخرين من أجل ملكوته الأبدي كما جاء في تعليم بولس الرسول "كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح"(أفسس 4: 7). ويوكّد ذلك مرقس الإنجيلي "فَوَّضَ الأَمرَ إِلى خَدَمِه، كُلُّ واحدٍ وعمَلُه "(مرقس 13: 34).  فلم يأخذ أحد منهم أكثر او أقل مما يستطيع استثماره. زودهم بمواهب مختلفة حسب إرادته (1قورنتس 12: 11). وفي حالة فشل الخادم في المُهمَّة التي اوكلها اليه سيده، فلن يكون عذره أنه كُلّف بأكثر من طاقته، لكن فشله يأتي بسبب كسله وعدم مسؤوليته او بغضه لسيِّده. والله لا يضع على أحد مسؤولية فوق طاقته ولا ينتظر من أحد أكثر مما أعطاه ولا يترك أحدا من شعبه بلا وزنة ولا مسؤولية. وطُلب من هؤلاء الثلاثة الخدم استثمار ما سُلَّم إليهم سيّدُهم من المال. فالوزنات ليست لهم بل سُلمت إليهم وديعة في أيديهم: الاموال، الاشخاص، الاحداث. وهكذا تدل الوزنات على مواهب الله للناس، وما آتاهم من فضله تعالى. والسيد يحاسب على مستوى قدر هذه الطاقة تماماً. والمنح تختلف في كميتها: "خَمسَ وَزَنات ووَزْنَتَين ووَزْنَةً واحدة ". فما قدّمه الله لهم من مواهب لم يقدّمها اعتباطًا، وإنما يعرف ما يناسب كل عضو لخلاصه. وهذا يدفعنا الى عدم الشعور بالتكبُّر على أصحاب المواهب الأقل ولا شعور حسد أصحاب المواهب الأكثر، إنّما واجب علينا ان نشكر واهب المواهب. القضية ليست كم لنا، انما ماذا نفعل بمالنا او وزناتنا. أما عبارة "سافَر" فتشير الى غياب السيد الذي يدل على استقلالنا ومسؤوليتنا ومبادراتنا او خوفنا. ترك كل واحد بحريته. ذهب السيد وترك الخَدم لفترة من الزمن ولا بدَّ لهم ان يكونوا أمناء ومُثمرين خلال غيابه عنهم، فيقدموا خدمة بكل ما لديهم من قوة ومحبة كما قال بولس الرسول: "ومَهْما تَفعَلوا فافعَلوه بِنَفْسٍ طَيِّبَةٍ كأَنَّه لِلرَّبِّ لا لِلنَّاس" (قولسي 3: 23). المسألة الحقيقيّة هي غياب السيّد. لنستفيد من غيابه ما نستطيع أن نعمل فيه إثمار مواهبنا ووزناتنا. 

 

16 فأَسرَعَ الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمسَ إِلى المُتاجَرَةِ بِها فَربِحَ خَمسَ وَزَناتٍ غَيرَها

 

تشير عبارة "فأَسرَعَ" في الأصل اليوناني εὐθέως πορευθεὶς (معناها ذهب في الحال) الى مهارة الخادم الأول وأمانته بالنسبة للزمن، والعمل النشيط والمتواصل دون توقُّف واغتنام فرص الربح الأوفر في سرعة التنفيذ والغيرة على أمر السيد وتكليفه؛ بل وهذه الكلمة " في الحال" تضيف أيضا لحساب الخادم ما هو أكثر من الربح المادي، إذ تكشف عن فرح الخادم بثقة السيد والعمل على حسن ظنِّه به. ويلاحظ أنه بمجرَّد تسلُّمه الوزنات وسفر السيد، مضى في الحال. أمَّا عبارة "صاحب الوَزَناتِ الخَمسَ" فتشير إلى رمز الإنسان الذي يستخدم مواهبه خلال أبواب حواسه الخمسة. أمَّا عبارة "َربِحَ خَمسَ وَزَناتٍ غَيرَها" فتشير الى تضاعف أمواله نتيجة اجتهاد الخادم.  فقد قابل الخادم الثقة بالثقة فرَبِح الطّاق طاقَيْن. وهذا ما يذكرنا قول داود النبي "ماذا أَرُدُّ إِلى الرَّبِّ عن كُلِّ ما أَحسَنَ به إليَّ؟ " (مزمور 116: 12). ويعلق القديس ايرونيموس " انطلاقًا من الحواس الخمس الجسديّة والماديّة التي تلقّاها الخادم، أضاف معرفة الأمور السماويّة؛ ارتفع ذكاؤه من المخلوقات إلى الخالق، من المادي إلى غير المادي، من المرئيّ إلى المَخفيّ، من العابر إلى الأبديّ".  أمَّا عبارة " المُتاجَرَةِ" فتشير الى مُمَارَسَة البَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الوَزَنات الخمس؛ َ وهذا يدل على العمل بالمواهب الممنوحة لخدمة الآخرين بأي صورة جسدية أو روحية أو نفسية أو صحية كما قال بولس الرسول " كُلُّ واحِدٍ مِنَّا أُعطيَ نَصيبَه مِنَ النِّعمَةِ على مِقْدارِ هِبَةِ المسيح " (أفسس 4: 7).

 

 17 وكذلِكَ الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما.

 

تشير عبارة "الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَيْن" الى رمز المؤمن الذي امتلأ قلبه بمحبّة أخيه في الرب، إذ يصير الاثنان واحدًا في الرب. ونجد نفس الرمز في السامري الصالح الذي يقدّم دِرهمين لصاحب الفندق علامة محبّته للجريح، والأرملة التي امتدحها السيِّد قدّمت فِلسين علامة حبّها لله ولإخوتها المحتاجين. اما عبارة " فرَبِحَ وَزْنَتَينِ غَيرَهُما " فيعلق عليها القديس ايرونيموس بقوله " وفقًا لقدراته، ضاعف الذي اخذ الوزنتين في مدرسة الإنجيل ما تعلّمه في مدرسة الشريعة. أو يمكننا القول إنّه فهم أنّ ذكاء الإيمان وأعمال الحياة الحاليّة تؤدّي إلى السعادة الآتية".

 

18 وأَمَّا الَّذي أَخذَ الوَزْنَةَ الواحِدة، فإِنَّه ذهَبَ وحفَرَ حُفرَةً في الأَرض ودَفَنَ مالَ سيِّدِه

 

تشير عبارة "صاحب الوَزْنَةَ الواحِدة" الى رمز الانسان الأناني الذي يعمل لحساب ذاته وحده، ولا يرتبط بحب الله والناس؛ ويعلق التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "إن الانسان، خلال ممارسته حقّ التملّك، عليه ألاّ يعتبر أن الاشياء التي يمتلكها بحق هي فقط ملكه، بل عليه أن يعتبرها أيضاً ملك عام: كي تصبح مفيدة ليس له فقط بل للآخرين" (نور الأمم، 69) (2402-2405). أمَّا عبارة "دَفَنَ " في الأصل اليوناني ἔκρυψεν (معناها دفن) فتشير الى الطريقة التي استخدم بها وزنته، وهي عادة قديمة حيث اعتاد الناس ان يدفنوا اموالهم في الأرض لحفظها وادِّخارها كما جاء في َمَثَلِ الكَنْزٍ " مَلَكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ كَنْزٍ دُفِنَ في حَقْلٍ وَجدَه رَجُلٌ فأَعادَ دَفنَه " (متى 13: 44-46). دفن وزنته في التراب كقرض مستردّ خوفا عليها من الضياع، وخوفا على نفسه من بطش سيِّده. ويعلق القدّيس غريغوريوس الكبير" لأنّ الذي فضّل أن يُخبئ وزناته عوضًا عن استغلالها لم يحصل بنفسه على أكثر من وزنة" (عظات حول الإنجيل، العظة 6). وعلى كل حال لم يتصرف بوزنته لفائدة؛ فهذا الانسان ليس له ثقة بنفسه فهو يشكو من عقدة النقص. والحق انه يشعر في داخل نفسه أنه أضعف من ان يؤدِّي عملا فيه الجهد والسعي والاستثمار. ويعلق القدّيس أمبروسيوس "أنتَ الذي تدفنُ وزنتَكَ في الأرض، إنّما أنتَ حارس لتلك الخيرات وما أنتَ بمالكها؛ أنتَ خادم ولست السيّد. قال الرّب يسوع: "حيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قلبُكَ". والحال هذه فإنّك قد دفَنْتَ قلبَكَ مع تلك الوزنة " (نابوتَ (اليِزرَعيليِّ الفقير، 58). اما عبارة "مالَ سيِّدِه" في ألأصل اليوناني ἀργύριον (معناها فضة) فتشير الى عملة فضة لسيده الذي أهمل في استعمالها لزيادة غنى سيده وصدق قول النبي دانيال الى بَلشَصَّر المَلِك " تَرَفَّعتَ على رَبِّ السَّماء، وأُتِيَ إِلى أَمامِكَ بِآنِيَةِ بَيتِه، وشَرِبتَ بِها خَمراً أَنتَ وعُظَماؤُكَ ونِساؤُكَ وسَرارِيُّكَ، وسَبَّحتَ آِلهَةَ الفِضَّةِ والذَّهَبِ والنُّحاسِ والحَديدِ والخَشَبِ والحَجَرِ الَّتي لا تُبصِرُ ولا تَسمعُ ولا تَشعُرُ ولا تُعَظِّمُ اللهَ الَّذي في يَدِه نَسمَتُكَ وعِندَه جَميعُ سُبُلِكَ" (دانيال 5: 23).  لا يحقّ لنا أن ندفن هذه الوزنة في الأرض، ولا يحقّ لنا إن كنّا مؤمنين أن نقول: لا دخل لي بكلّ هذا. لا يحقّ لي أن أخاف من مستلزمات البشارة المسيحيّة وأقول: هو ليس عملي، هو عمل الكهنة والمكرّسين، ولكن سواء كانت موهبتي كبيرة أم صغيرة، فعليّ أن أجعلها منتجة.

 

19 "وبَعدَ مُدَّةٍ طويلة، رَجَعَ سَيِّدُ أُولئِكَ الخَدَمِ وحاسَبَهم

 

تشير عبارة "بَعدَ مُدَّةٍ طويلة" الى طول مدة التأخُّر عن المجيء الثاني للسيد المسيح، وهذا ردٌّ على الذين كانوا يظنون أنه سيأتي سريعاً.  وبُعد تلك العودة كافٍ لامتحان امانة المؤمنين والكنيسة كلها.  وطول حياة كل إنسان كاف لامتحان امانته واجتهاده. وطول المدة قد يدفعنا ايضا للتكاسل ظنا أن هناك متسع من الوقت.  والقصد من هذه العبارة ايضا ايت كادت طول المدة  ان تقود إلى نتائج خطيرة بالنسبة إلى الايمان المسيحيّ الذي يتساءل "أَينَ مَوعِدُ مَجيئِه؟ ماتَ آباؤُنا ولا يَزالُ كُلُّ شَيءٍ مُنذُ بَدءِ الخَليقَةِ على حالِه " (2 بطرس 3: 4). وهذا الوضع يهدّد ثبات المؤمنين الذي تغذَّى برجاء ينتظر بسرعة مجيء الرب الثاني. أمَّا عبارة "سَيِّدُ" في الأصل اليونانية κύριος (معناها السيد) فتشير الى صاحب الأموال ويدل هنا على السيد المسيح؛ وفي انجيل لوقا ترجمة "مولاي " في الأصل اليوناني κύριος، مما يدلُّ هنا على لقب ملكي يناسب المرشَّح المولّى في آخر الامر، وهو يسوع في مجده.  أمَّا عبارة " حاسَبَهم" فتشير الى مراجعة معهم الحساب. ويدل هنا على مشهد تأدية الحساب في الدينونة الأخيرة. مهما طالت مدة غياب السيد فلا بدَّ من ان يأتي، ويوم مجيئه هو يوم حساب كما صرَّح بولس الرسول "سَنمثُلُ جَميعًا أمامَ مَحكَمَةِ اللّه "(رومة 14: 10).  وذلك اليوم يكون يوم فرح للأمناء، ويوم غضبٍ وعارٍ للخائنين. كل ما أعطاه الله للإنسان هو دين يُحاسب عليه (1 قورنتس 14: 12) وعليه ان يستعدَّ لذلك الحساب.

 

20 فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمس، وأَدَّى معَها خَمْسَ وَزَناتٍ وقال: ((يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَناتٍ رَبِحتُها)).

 

تشير عبارة "فَدَنا الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمس" الى اقتراب صابح الوزنات الخمس الى السيِّد الذي بدأ بمحاسبته. وهذا الامر يدل على انه كلما كثرت المواهب كلما زادت مسؤوليتنا في الدينونة. اما عبارة " سَلَّمتَ إِليَّ" فتشير الى اعتراف الخادم بأنَّ كل ما كان له كان من مال سيده.  لذلك على المسيحيين ان يذكروا ما اخذوه من الله يتوجب عليهم ان يستعدوا لإعطاء الحساب عنه. أما عبارة "يا سيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ خَمسَ وَزَنات، فإِليكَ معَها خَمسَ وَزَناتٍ رَبِحتُها" فتشير الى كل إنسان الذي يعطي الله حسابا عن نفسه لا عن غيره. اما عبارة "رَبِحتُها" فتشير الى ربح الخادم وزنات خمس أخرى لسيده لا لنفسه كما جاء في انجيل لوقا  يا مَولاي، رَبِحَ مَناكَ خَمسَةَ أَمْناء" (لوقا 19: 18). فيجب على المسيحي ان يحسب كل نتائج اتعابه لله، لأن كل شيء بفضله تعالى وهو الذي يعطينا النعمة للحصول عليها "أنا الكَرْمةُ وأَنتُمُ الأَغصان. فمَن ثَبَتَ فيَّ وثَبَتُّ فيه فَذاكَ الَّذي يُثمِرُ ثَمَراً كثيراً لأَنَّكُم، بِمَعزِلٍ عَنِّي لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا شيئاً" (يوحنا 15: 5).  

 

 21 "فقالَ له سَيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ.

 

تشير عبارة "أَحسَنتَ" في الأصل اليونانية Εὖ (معناها حسنا فعلت) الى عمل الخادم المجتهد الذي أثبت أن ما قدَّمه من عمل يساوي طاقته؛ ان صاحب الامثال يمدح المرء الفاضل المجتهد الساهر على بيته "المَرأَةُ المُتَّقِيةُ لِلرَّب هي الَّتي تُمدَح. أُعْطوها مِن ثَمَرِ يَدَيها ولتمدَحْها في الأَبْوابِ أَعْمالُها" (أمثال 30: 29-30).  وهذا المديح من فم الله أفضل من أعظم مديح الناس وأشرف منه. أمَّا عبارة "الصَّالِحُ" فتشير الى الخادم الذي أثبت أمانته للسيد، فحَسَب ما استأمنه عليه من عمل شخصياً وُجِدَ أميناً فيه لشخص سيده، فهو الصالح المستقيم المؤدي لواجباته. اما عبارة "الأَمين" فتشير الى حفظ ممتلكات النّاس إلى حين استردادها، والأمانة كانت أكثر اعتباراً من سائر الصفات عند ذلك السيد وكذلك عند الله، والدليل على ذلك لم يقل الصالح المجتهد ولا الصالح المفلح بل الصالح الأمين. فالخادم الأمين هو الخادم الصادق والوفي لحماية مصالح أموال سيِّده الذي قدَّم خمس وزنات أخرى مقابل خمس وزنات استلمها. وهو يُمثِّل تلاميذ المسيح الأمناء اللذين اتخذوا الانجيل نورا لذواتهم ودستورا لحياتهم ليبقوا أمناء لمعلمه الإلهي ويبشِّروا الآخرين به ليجذبوهم الى المسيح. أمَّا عبارة "كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير" فتشير الى الشخص الذي كان أمينا على هذه الارض، فنال جَزءاً كبيراً على الارض، وفي الآخرة يستحق جزاء نعيم الملكوت كما صرّح المسيح " إِنَّه يُقيمُه على جميعِ أَموالِه"(متى 24: 47)؛ أمَّا عبارة "القَليل" فتشير الى كل العطايا والمواهب التي تُعطى للإنسان المؤمن ليتاجر بها على الأرض، فهي قليلة مهما كانت كمِّيتها وقوتها وقدرتها وعظمتها مقارنة لعطايا الله في السماء التي لا يمكن وصفها أو إدراكها. أمَّا عبارة "الكَثير" فتشير الى أعمال الروح والحكمة والفرح والمجد إلى ما لا نهاية؛ ومن هذا المنطلق تكون ثواب الانسان مكافأة على امانته وجهده واجتهاده الذي أدَّاه في مسئوليته، ليس لراحته بل لاتساع دائرة عمله، كذلك يكافئ الله عبيده الأمناء "فيُجازي كُلَّ واحِدٍ بِحَسَبِ أَعمالِه، إِمَّا بِالحَياةِ الأَبَدِيَّةِ لِلَّذينَ بِثَباتِهم على العَمَلِ الصَّالِح يَسعَونَ إِلى المَجدِ والكَرامةِ والمَنعَةِ مِنَ الفَساد" (رومة 2: 6-7). فسعادة السماء لا تقوم بمجرد الراحة بل بسمو الخدمة.  ولا يدخل فيها الكثرة أو القلة في المواهب. فصاحب الخمس وزنات نال من المديح والمكافأة ما ناله صاحب الوزنتين تماماً. أمَّا عبارة "أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ" فتشير الى نعيم الملكوت الذي هو الفرح والمجد التي تكلم عنهما يوحنا الإنجيلي "لِيَكونَ بِكُم فَرَحي فيَكونَ فَرحُكم تامّاً" (يوحنا 15: 11)، "أُريدُ أَن يَكونوا معي حَيثُ أَكون فيُعايِنوا ما وَهَبتَ لي مِنَ المَجد" (يوحنا 17: 24). وهذا النعيم وفرح الوليمة المسيحانيّة والدخول إلى العرس الأبدي هو المكافأة، ويُعلق الأب يوحنا من كرونستادت "الخدمة الأرضيّة هي محك وخدمة بدائية للخدمة السماويّة". لا ريب في ان هذا الثواب أعظم مما يستحقه أحد من الناس أو يرجوه او يتصوره " كما وَرَدَ في الكِتاب: ((ما لم تَرَهُ عَيْنٌ ولا سَمِعَت بِه أُذُنٌ ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشَر، ذلكً ما أَعدَّه اللهُ لِلَّذينَ يُحِبُّونَه)) (1 قورنتس 2: 9). 

 

22 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَتَينِ فقال: ((يا سَيِّد، سَلَّمتَ إِليَّ وَزْنَتَين، فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما)).

 

تشير عبارة "فإِليكَ معَهُما وَزْنَتَينِ رَبِحتُهما" الى المحافظة على الوزنات مع استنباط الطرق لكي يضاعف ما ملك.

 

23 فقالَ له سيِّدُه: ((أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ))

 

تشير عبارة "فقالَ له سيِّدُه" الى قول السيد للخادم الذي اخذ وزنتين شبهه بقوله للذي الذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمس. فالودائع مختلفة في مقدارها، لكن المكاسب واحدة. فالثواب واحد بصرف النظر عن مقدار الربح.  فنحن بعيدون كل البعد عن عالم التجارة.

 

24 ثُمَّ دَنا الَّذي أَخَذَ الوَزْنَةَ الواحِدَةَ فقال: ((يا سَيِّد، عَرفتُكَ رَجُلاً شَديداً تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ، وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ

 

تشير عبارة "عَرفتُكَ رَجُلاً" الى معرفة الخادم لسيده فقط كونه إنسانًا ولا يتعدَّ ذلك. كثيرون بالأسف نظير ذلك العبد الشرير لم يعرفوا عن المسيح بخلاف ذلك أي انه إله.  وهذه المعرفة لن تفيدهم. إذ قال المسيح: "فإذا لم تُؤمِنوا بِأَنِّي أَنا هو تَموتون في خَطاياكم" (يوحنا 8: 24). نتج عن المعرفة الخاطئة عند ذلك الخادم موقف خاطئ وتوجّه خاطئ تجاه سيده. اما عبارة "رجُلاً شَديدًا" في الأصل اليوناني σκληρὸς εἶ ἄνθρωπος (ومعناها رجل قاس) فتشير الى اتّهام سيّده بالقسوة والظلم وعدم الرحمة، أي أنَّه يطالب أكثر مما له، فهو ظالم لا شفقة في قلبه على العاجزين. منعه هذا التصور عن سيده عن خدمته بفرح واجتهاد ومحبة. والواقع أنَّ حياة الكسل والبّطالة دفعته لاتّهام سيّده بالقسوة، وهذا بالتالي دفعه للخوف وكما يقول الأب يوحنا من كرونستادت "كل خطيّئة تبدو بسيطة وغير هامة تقود إلى خطايا أخطر، لذا يجب مقاومتها في بدايتها وسحقها".  فخطيئة قايين الأولى هي الحسد، والحسد أسلمه للغضب والغضب أسلمه للقتل والقتل اسلمه الى التبجح على الله قائلًا " أَحارِسٌ لأَخي أَنا؟" (التكوين 4: 9) ثم هرب من الله نهائيًا" إن الخطيئة تلد خطيئة؛ أمَّا عبارة "تَحصُدُ مِن حَيثُ لَم تَزرَعْ وتَجمَعُ مِن حَيثُ لَم تُوزِّعْ " فتشير الى حكم الخادم على خُلق سيده، بان سيده يكلِّفه العمل ويأكل الربح، وهذا كذب ستر به كسله. والله خلاف ما قاله ذلك الخادم الكسلان فانه بدل ان يحصد حيث لا يزرع، فأنه يزرع بركات كثيرة ويحصد قليلا من الشكر والخدمة. وهو ينتظر الحصاد حيث يزرع كما جاء على لسان أشعيا النبي "كانَ لِحَبيبي كَرْمٌ في رابِيَةٍ خَصيبة وقد قَلَّبَه وحَصَّاه وغَرَسَ فيه أَفضَلَ كَرمِه وبَنى بُرجاً في وَسَطِه وحَفرَ فيه مَعصَرَةً وآنتَظَرَ أَن يُثمِرَ عِنباً فأَثمَرَ حِصرِماً بَرِّيّاً " (أشعيا 5: 2).  في الواقع، لم يعرف الخادم سيده جيداً. إن كان هذا السيد يُديننا بالعدل، فهو في الوقت عينه، يعاملنا بالرحمة إن فتحنا قلبنا على رحمته وحنانه. ان الله القدير يحصد حيث لم يزرع. ويسوع لا يتردَّد في غيره من الامثال ان يشبّه دينونة الله بحُكم قاضٍ قاس (لوقا 16: 1-11، 18: 1-8). فلا نحاول خلق أعذار وهمية: لا اعرفه، لا أحبه!

 

25 فخِفتُ وذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض، فإِليكَ مالَك

 

تشير عبارة "خِفتُ" الى خوف الخادم من ضياع الوزنة بالاتجار بها، فيعرض نفسه للوم سيده القاسي وعقابه فخبأها حفظا لها. انه تصوّر زائف عن الربّ وخوفه من عقاب ينتظره ومن المخاطرة والخسارة، وله أعذاره. إذ ظنَّ أنه مهما عمل فان سيده لن يكون عادلا معه. ونتيجة لذلك لزم جانب الأمان وحماية نفسه من سيده القاسي، فحكم عليه تقوقعه على نفسه. لقد نسى نفسه انه وكيلٌ وليس مالكٌ، وبنى علاقة مع سيده ليست مبنيّة لا على الثقة ولا على المحبّة، بل بالأحرى على الخوف. خوف الخادم خطير، لأن الخائفون وغير المؤمنون هم على رأس قائمة من يُطرحون في البحيرة المتَّقدة بالنار والكبريت كما ورد في سفر الرؤيا "أَمَّا الجُبَناءُ وغَيرُ المُؤمِنينَ والأَوغادُ والقَتَلَة والزُّناة والسَّحَرَةُ وعَبَدَةُ الأَوثانِ وجَميعُ الكَذَّابين، فنَصيبُهم في المُستَنقَعِ المُتَّقِدِ بِالنَّارِ والكِبْريت: إِنَّه المَوتُ الثَّاني" رؤيا 21: 8).  ولم يكن خوف صاحبنا من نوع خوف نوح (عبرانيين 11: 7)، أو خوف راحاب (يشوع 2: 9-11)، بل من نوع خوف الحاكم فيلكس وارتعابه (أعمال 24: 25). الشر كل الشر هو ان نعرف ونخاف. والواقع، لو كان يحب سيده ما كان قد خاف، فالمحبة تطرد الخوف. قال يوحنا الرسول " لا خَوفَ في المَحبَّة بلِ المَحبَّةُ الكامِلةُ تَنْفي عَنها الخَوف لأَنَّ الخَوفَ يَعْني العِقاب ومَن يَخَفْ لم يَكُنْ كامِلاً في المَحَبَّة"(1 يوحنا 4: 17-20). والمحبة لا تخاف المخاطرة، الحياة هي مخاطرة لأنها اختيار، وكل اختيار يقوم على التضحية والمسؤولية.  الخوف أفسد عمله. ويعلق القديس اوغسطينوس " استخدموا الوزنة ولا تُحسَبون عبيدًا كسالى ولا تخافون العقاب المرعب". من يخاف الله ولا يحب الله فهو لا يعرف الله (1 يوحنا 4: 8). أمَّا عبارة "ذَهَبتُ فدَفَنتُ وَزْنَتَكَ في الأرض" فتشير الى تعطيل أو إبطال عمل الموهبة أو المواهب الروحية التي أعطاها الله للمؤمن. فدفن في الأرض مواهبه ومشاركته وقواه، وهذا يتم عند الذين، إمَّا فقدوا الإحساس بقيمة الموهبة، أو استهتروا وازدروا واهب المواهب، او الذين لم يهتمّوا بمجيء السيد والحساب الذي سيُحاسب به كل إنسان عمَّا وهبه إيَّاه.  صاحب الوزنة الواحدة كانت طاقته على قدر العمل والربح لوزنة واحدة. فلمَّا أخفاها في الأرض ولم يعمل أو يتاجر بها، وبهذا الامر وضَّح أنه بدَّد طاقته وحبس موهبته معاً. أمَّا عبارة "فإِليكَ مالَك" فتشير الى الخادم الذي ردّ ما سُلّم إليه من مال ولم يخسر منه شيئًا. أعاد الوزنة على حالها: لم يفقدها ولم يزدها. فالخادم لم يربح شيئًا. وباسم هذه العدالة نفسها، رفض الحقّ لسيّده بأن يطلب منه أكثر ممّا أعطاه. أنه ينتظر من سيده عدالة تساوي عدالته. ورفض أن يقبل بأن يُطلب منه أكثر ممّا هو مفروض.  ولكن السيد رفض هذا المنطق، وقال له ما معناه: "حيث إنك ظننت أنني كما ذكرت، فكان المفروض أن يعطيك ذلك دافعًا أكبر لتشتغل بوزنتك.  فهذا ليس عذرًا لك، بل حيثيه لاتهامك“. والرب هنا يدينه من أقوال فمه.  فالخادم لم يلتفت الى عطل المال كل تلك المدة الطويلة وخيبة رجاء سيده وعدم قيامه بالخدمة فصحَّ فيه قول الحكيم " الكَسْلانُ أَحكَمُ في عَينَيه مِن سَبعَةٍ يُجيبونَ بِسَداد" (أمثال 26: 16).  الرب يريد أن يرفعنا إلى مستوى المحبّة التي لا تعرف حدودًا في العطاء. ويعلق التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة "إنّ حقّ الملكية يجعل من المستلم الشرعي لخير الأرض وكيلاً للعناية الإلهية كي يجعل هذه الخيرات تثمر وتفيد الآخرين وأقرباءه أولاً. ( 2402-2405).  فالمثل يدعونا بان لا ندفن كلمة الرب بل ننشرها، فإن لم تكونوا شهودا للكلمة فلا فائدة من الكلمة التي لدينا لحفظها لنفسنا.  أظهر هذا الخادم صاحب الوزنة الواحدة في جوابه ضعف حجة من يتخذ قلة مواهبه وفرصه عُذراً لعدم العمل. ان الله يطلب ان يخدمه الانسان سواء أكان قليل المواهب والفرص ام كثيرها.  وفق قول الرسول بولس "لأَنَّه متَى وُجِدَتِ الرَّغبَة، لَقِيَ المَرءُ قَبولاً حَسَنًا على قَدْرِ ما عِندَه، لا على قَدْرِ ما لَيسَ عِندَه " (2 قورنتس 8: 12).  وهنا يتركَّز المَثَل في عدم السهر والاجتهاد ورفض العمل وفقدان الإحساس والأمانة للسيد المسيح، إذ لم يُكلّف نفسه حتى يُودِع الفضة عند الصيارفة ليستفيد سيده من بعض الفائدة؛ وبذلك عمل ضد مصالح سيده.

 

26 فأَجابَه سَيِّدُه: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّيرُ الكَسْلانُ! عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ.

 

تشير عبارة "أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّيرُ" الى اهمال الوكيل الشرير في واجباته (متى 24: 48)؛ لا ينتظر الله من وكلائه الربح في حد ذاته، ولا يهتم بكميَّته، إنّما يهتم بأمانة خدّامه أو إهمالهم. لان الذي اقتناه الخادمان أصحاب الخمس وزنات والوزنتين هو "الأمانة في الوكالة"، وأصبحا مؤهلان أن يُقاما على الكثير، أمَّا صاحب الوزنة الواحدة فمشكلته إهماله، إذ أخفي الوزنة وعاش عاطلاً كسولا. ويمثل هذا الخادم الشرير جماعة اليهود الاتقياء الذين ائتمنوا على شريعة الله فحفظوها لذاتهم دفينة في الهيكل، ولم يعلنوها للناس ولم يُشرك بها أحداً. ولم يشع نور شريعة الانجيل إلا بعد ان اخذت الجماعة المسيحية الاولى هذا المشعل وحملته الى الامم. أمَّا عبارة " الشِّرِّيرُ " فتشير الى ميل الخادم الشرير الذي عمل عمدا ضد مصالح سيده. فكسل الخادم وسوء ظنِّه في سيده شبيه بالكسل في عيني الله الذي أعطانا قوانا العقلية والجسدية لنستعملها لمجده تعالى وخير الناس؛ وعدم استعمالنا إياها يعتبر تبذير وإتلاف وشر.  أما عبارة " الكَسْلانُ " فتشير الى الشخص المُتَقَاعِسٍ عَنْ أَدَاءِ عَمَلِهِ وَوَاجِبِهِ، وذلك بانه دفن مال سيده ولم يربح له شيئا. ويعلق القديس كيرلس الكبير. ان الكَسْلانُ " هو باب الهلاك ".  واكد ذلك المحامي الأمريكي المشهور ستيفن ساندرز شاندلير بقوله " الكسل هو السبيل إلى الموت المحتم"   أمَّا عبارة "عَرَفتَني أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ" فتشير الى استعادة السيد كلام الخادم الشرير لكنه لم يكن موافقٌ على صحة قوله. فكلام السيد هو في موقع الشرط في جوابه للخادم، أي إن كنت قد عرفت ما قلت كان يجب عليك ان تفعل حسبما عرفت وتضع مالي عند الصيارفة. وكان السيد يقول له " بكَلامِ فَمِكَ أَدينُكَ أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير!" (لوقا 19: 22).   والواقع إن الله رحيم للذين يعودون اليه كالابن الضال (لوقا 15/20) وإن الله قاسٍ تجاه قساة القلوب كما هو الحال تجاه فرعون بعد ان رفض الاصغاء (خروج 8: 32). فعلينا ان نربح أنفسنا لملكوت الله بالجهد والتعب والاجتهاد وجلب الثمار التي تليق بالحياة الأبدية.  اما عبارة " عَرَفتَني " فتشير الى ظن الخادم انه يعرف الله، والحق انه لا يعرفه أحد ما لم يشعر بانه محبة، أي أب رحيم جواد. اما عبارة "أَحصُدُ مِن حَيثُ لم أَزرَعْ، وأَجمَعُ مِن حَيثُ لَم أُوزِّعْ" فتشير الى خطأ الخادم بان يعتبرسيده قاسيا كما أخطأ اليهود في أيام حزقيال فقالوا " لَيسَ طَريق السَّيَدِ بِمُستَقيم. " (حزقيال 18: 25)، كذلك يخطئ من يحسبه رب رحمة بلا عدل كما قال الله على لسان صاحب المزامير " أَتَظُنُّ أَنِّي مِثلُكَ؟" (مزمور 50: 21).  

 

27 "فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف، وكُنتُ في عَودَتي أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدة

 

تشير عبارة "فكانَ عَليكَ أَن تَضَعَ مالي عندَ أَصْحابِ المَصارِف" فتشير الى الصيارفة حيث تستخدم الأموال في التجارة وتربح الفائدة المالية كما يقول المثل العامّي، المال يجلب المال. فخطيـئته  تكمن في عدم الاستمرار  ما تسلّمه من سيده  لكي يزيد فكان من اقل الواجبات على ذلك الخادم انه كَسِل عن الإتجار بوضع فضته عند الصيارفة فيربح شيئا.  كذلك يبطل الله ما يأتيه الخطأة من الاعذار والحجج يوم الدين لإهمالهم الواجبات الدينية لأنهم لم يبذلوا القدرة او يستعملوا ما وهبه الله من الوسائل ولم يطلبوا زيادة ذلك.  اما عبارة "أَصْحابِ المَصارِف" فتشير الى قوم يقومون بدور الوسطاء في أسواق مبادلة العملات. فالصيارفة هم الذين يأخذون المال بربا قليل ويدينونه الغير بربح أكثر منه، وهنا تدل على المرشدين الروحيين الذين كانوا سيرشدونه لأن يقدم خدمات بمحبة للآخرين. اما عبارة "أَستَرِدُّ مالي معَ الفائِدة" فتشير الى التوظيف المالي وذلك باستثمار مال سيده. الوزنة مهمة عمل، وحين نقوم بهذه المهمة نعطي صورة عن وجه الله: لا ذاك الاله القاسي، بل الخالق الذي يُشركنا في عمله. 

 

28 فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَناتُ العَشْر

 

تشير عبارة "فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة" الى الانسان الذي لا يستخدمْ وزنته، يفقدها. انه ناموس الحياة؛ إننا نفقد القوى والمواهب التي لا نستعملها، سواء أكانت جسدية ام عقلية أم أدبية ام روحية، أمَّا القوى التي نستخدمها فهذه تنمو بكثرة الممارسة والاستعمال. وتفيدنا القاعدة البيولوجيّة بأن العضو الّذي لا يستخدم يضمر. أمَّا عبارة "أَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَناتُ العَشْر" فتشير الى من يجاهد يُعط ويُزاد له. ان الله لا يحكم على الناس بمقدار النجاح الذي بلغوه، بل بمقدار الجهد الذي بذلوه. ونحن لا نلام لأننا لم ننل الاَّ وزنتين او وزنة، انما سيُحكم علينا تبعا لاستخدام ما لدينا من مؤهلات كما يدل مدح يسوع للأرملة الفقيرة ": إِنَّ هذِهِ الأَرملَةَ الفَقيرةَ أَلْقَت أَكثَرَ مِن جَميعِ الَّذينَ أَلقَوا في الخِزانَة"، فإِنَّها مِن حاجَتِها أَلْقَت جَميعَ ما تَملِك، كُلَّ رِزقِها" (مرقس 12: 41-44).  ان الله بعدما يعطي الفرص بعض الناس لفعل الخير ولا يستعملوها يأخذها منهم ويهبها لغيرهم، فيكون للأولين الخجل والندامة لخسرانهم ما كان يمكنهم ان يحصل عليه من الثواب كما جاء في قول صموئيل النبي لشاول الملك " اليَومَ انتَزَعَ الرَّبّ مَملَكَةَ إِسْرائيلَ عنكَ وسَلَّمَها إِلى قَريبِكَ الَّذي هو خَيرٌ مِنكَ" (1 صموئيل 15: 28). والغاية من هذه المثل إيقاظ ضمائر من المؤمنين بالمسيح وتأكيد اجراء الحساب يوما لدين على ما أهملوه من واجباتهم. الانسان الامين في خدمته واستخدم الموهبة التي اعطاها الله له سيستأمنه الله على ما هو أكبر.   

 

29 لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له

 

تشير عبارة "كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض. ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له" الى المقياس الذي يعمل السيد على أساسه. فأصبح كلام يسوع مجري المثل ومثله قول الحكيم " أَيدي المُجِدِّينَ تَسود واليَدُ الوانِيَةُ تَخدُمُ تَحتَ السُّخرَة" (أمثال 12: 24). والمعنى ان الأمين يُجازى بان يُوكل اليه أعظم ما اؤتمن عليه، واما الخائن فتؤخذ منه الوسائط التي أعطيت له ويعاقب. اما عبارة " مَن كانَ له شَيء " فتشير الى الخادم الأمين الذي يُسّلم معلمه حصيلة عمله. وتشير أيضا الى من يملك معرفة الملكوت عن طريق الايمان بيسوع؛ أمَّا عبارة "لأَنَّ كُلَّ مَن كانَ له شَيء، يُعطى فيَفيض" فتشير الى حكمة تعبّر عمّا في كل مال من طابع وقتي، فلا بدَّ من استثماره، وإلا فُقد. وهذه الحكمة تُبرِّر قرار السيد "فخُذوا مِنهُ الوَزْنَة وأَعطوها لِلَّذي معَهُ الوَزَناتُ العَشْر (متى 25: 28)، وتبيِّن لنا في آن واحد، شدة الدينونة ورحمة الله التي لا حدَّ لها وما سيَهبُه يسوع معرفة أكثر مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض"(متى13: 12). ومن هذا المنطلق، اضافت الجماعة المسيحية الأولى هذه الآية لتُشدد على طريقة سير الدينونة. الربح يجلب ربحًا، والخسارة تجلب خسارة؛" اما عبارة " ومَن لَيسَ له شيء" فتشير الى الذي كان له وزنة ودفنها ولم ينتفع بها ولم ينفع غيره فهو كمن ليس له شيء. ولا يصحّ ان يقال ان لاحد شيئا الا بان يستعمله.  اما عبارة " حتَّى الَّذي له "   فيشير الى ما اعطي من المواهب والوسائل او الوكالة. فالمال يتنقل من ايدي اهل الكسل الى ايدي اهل الاجتهاد.  أمَّا عبارة " ومَن لَيسَ له شيء، يُنتَزَعُ مِنهُ حتَّى الَّذي له" فتشير الى كل مال زمني من طابع مؤقت، ولا بدّ من استثماره، والا فُقده.  ان الانسان الذي لا يستخدم وزنته فقد يفقدها، ولذلك فان هذا قرارً لم يكن تعسفياً بل هو ناموس الحياة، فإننا نفقد القوى والمواهب التي لا نستعملها، سواء اكانت جسدية ام عقلية ام أدبية او روحية، أمَّا القوى التي نستخدمها، فهده تنمو من خلال كثرة التدريب والاستعمال، وصدق من قال "التوقف في عالم الاخلاقي والروحي، هو تقهقر الى الوراء". الأمانة هي القياس الحق، وأمَّا الحرص الزائد المفرط في استخدام الوزنة، فهو اعتداء على الأمانة والثقة، لان الوزنة لم تكن ملكه، بل هي وديعة لم يُحسن استغلالها.

 

30 وذلكَ الخادِمُ الَّذي لا خَيرَ فيه، أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان 

 

تشير عبارة "لا خَيرَ فيه" في الأصل اليوناني ἀχρεῖον (معناه بطَّال) الى الرجل الذي لا يجد عملاً مع استعداده وقدرته عليه. وبهذا فقد أضاف الرب على صفات ذلك العبد صفة أخرى هنا، وبذلك نحصل على وصف ثلاثي له، فهو شرير وكسلان (متى 25: 26) وأيضًا بطَّال أي بلا فائدة وبلا نفع. (لوقا 16: 13) فالله لا يوبّخ الخادم إلاّ على عُقمه ونقص محبته. فان هذا الخادم لا يخدم سيده بل يخدم نفسه بكل اجتهاد. ما قيمة هذا الخادم؟  وما نفعه؟ ليس هناك نفع حقيقي في حياتنا في هذا العالم إلاَّ فيما نصنَعه لأجل المسيح، ولن يبقى شيء في الأبدية إلاَّ ما نعمَله لأجل المسيح وفي خدمتنا لشخصه. والجيدر ان نسأل نفوسنا لمن نحن نعيش؟  هل لنفوسنا او للعالم أم للمسيح؟ اما عبارة "أَلقُوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة" فتشير الى العقاب الذي يقوم على عدم التمتّع برؤية الله النور الحقيقي، وإنما البقاء خارجًا في الظلمة. كان السيد قاسيا على الرجل الذي لم يستثمر وزنته، لأنه لم يثق في نوايا سيده، وكان انتماؤه لنفسه مثال " مَن يَكنِزُ لِنَفْسِهِ ولا يَغتَني عِندَ الله" (لوقا 12: 21). العذاب هو ان يكون في الخارج، في الظلمة، العذاب هو رفض الله، العذاب هو ان رأيه ان الله قاسي وظالم.  أمَّا عبارة "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة" فتشير الى المكان الذي يُعاقَب فيه الكفّار. وكان اليهود يتصوّرون انها تحت الارض. أمَّا هنا فهي خارج عالم الاحياء، (1قورنتس 5: 12-13). ادّت الظلمة الداخلية الى الظلمة الخارجية بعيدًا عن نور الله، أي خارجًا عن أورشليم السماوية التي ينيرها الرب يسوع (رؤية 22: 5). فكان عقاب هذا الخادم كعقاب الضيف الذي لم يكن عليه "لِباسُ العُرس" (متى 22: 13) وكعقاب "الخادِمُ الشِّرِّيرُ" (متى 24: 51). أمَّا عبارة "فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير الى العقاب الذي يدلّ على الهلاك الابدي (متى 22: 13)، وشدة الحكم الصادر على الرجل الشرير الكسلان والبطال. ويبدو ان الخادم الثالث عوقب بحرمانه وزنته، وليس ثمة حاجة الى عقوبة أخرى بإلقائه في "الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة"، لان مثل هذه العقوبة لا تناسب الزلة التي أتاه، فإنه ردَّ الوزنة ولم يختلسها.  لذا يذهب بعض المفسِّرين في الكتاب المقدس الى ان هذه الآية قد أُضيفت الى المثل فيما بعد، لتعطي طابعا روحيا دينيا. والواقع ان متى الإنجيلي أجرى بعض التعديلات وأضاف هذه الآية وواصل تعليمه في السهر والانتظار، لكنه أوضح: من سهر، أتمّ الأعمال التي حدّدها الرب.

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي: (متى 25: 14-30) 

 

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 25: 14-30)، نستنتج انه يتمحور حول الوزنات أي المواهب والأمانة في استثمارها؛ ومن هنا نتناول مثل الوزنات على ثلاثة اصعدة: صعيد الملكوت الله والمواهب والأمانة فلي استثمارها وتحمل المسؤولية وقت الدينونة.

 

اولا: الوزنات على صعيد الملكوت

 

يدعونا سيدنا يسوع المسيح إلى الدخول في الملكوت من خلال الأمثال. والأمثال هي ميزة تعليمه الخاصة عن الملكوت (مرقس 4: 33-34). للحصول على الملكوت لا بد من اختيار جذري: يجب التضحية بكل شيء كما هو الحال في مثل الكنز واللؤلؤة (متى 13: 44-45)؛ والكلام لا يكفي، بل يجب العمل كما ورد في "مَثل الابنين" (متى 21: 28-32)، والسهر الدائم كما ورد في "مَثل الوكيل الأمين" (متى 24: 37-44)، والاستعداد في مثل العذارى (متى 25: 1-13)، وأخيرا استثمار المواهب وتحمل المسؤولية كما ورد في مَثل الوزنات (متى 25: 14-30). استثمر أثنين من الخدم الوزنات التي تلقياها، وعرّضا أنفسهما لمخاطرة ممكن أن تنتهي بخسارة كل شيء. كما ويدركان أن الوزنات تتضاعف في حالة استثمارها بطريقة جيدة.

 

والامثال حسب على الملكوت السماوي تتكامل: في مثل الوكيل الامين (متى 24: 45-50) يأتي يسوع "كالسارق" الذي يفاجئنا في وقت لا نتوقعه، وفي مثل العذارى العشر (متى 25: 1-13) يأتي يسوع "كالعريس" الذي يُدخلنا في صحبته، وفي مثل الوزنات (25: 14-30) يأتي يسوع "كالسيد الديان" الذي يطالب منا ان نقدم له الحساب.

 

كما ان الرجل المسافر عهد الى خدمه بممتلكات قيمة، كذلك يسوع خلال خدمته التي دامت ثلاث سنوات ونصف ركَّز على الكرازة ببشارة الملكوت ودرَّب تلاميذه ليقوموا بالعمل نفسه، وألان قد حان وقت الرحيل، سيترك يسوع تلاميذه ولديه ملء الثقة أنهم سيُواصلون العمل الذي درَّبهم عليه، وهي مسؤولية التبشير والتلمذة (متى 10: 7)؛ وطلب منهم ان يجتهدوا في إتمام التلمذة ويقدموا خدمة بكل ما لديهم من قوة (متى 22: 37). إلاَّ انه لا يتوقَّع ان يقوموا جميعا بمقدار العمل عينه. وفي القرن الأول بدأ أتباع المسيح يتاجرون بالَوزنات وتضمن سفر الاعمال سجلا مفصلا عن اجتهادهم في البشارة والتلميذة (اعمال الرسل 6: 6، 12: 24، 19: 20).

 

وبعد التلاميذ وهب يسوع للمسيحين الوزنات مختلفة وفرصا متنوعة للخدمة، أعطي كلِّ واحدٍ مؤهّلات كافية، ليقوم بوظيفته اليومية وبالتالي ليعمل ما هو ضروري فيخلص.  وفي الواقع، كلُّ واحد يأتي إلى هذا العالم مع وزنات مُعيّن يُتاجر بها في حياته. الرب ينتظر من كل مسيحي ان يستعمل مواهبه وما له من الوسائل على قدر طاقته لمجده تعالى، وان من تصرَّف بالمواهب بالحكمة والاجتهاد وزادها، ينال الثواب والرضى.

 

والمسيحيين لهم وزنات أي الخدمة المسيحية (2 قورنتس 4: 7). وانه يأتي يوم يُحاسب فيه كل مسيحي بلا محاباة على هذه الخدمة. وان الخطأة يظنون ان الله قاسٍ ظالم بما يكلفهم به، وان سوء ظنهم هذا يمنعهم من التقرب من الله وخدمتهم له، وان الله يحاسب اهمال الواجبات كتعدي على شريعته ويعاقب المُهمل كما يعاقب المعتدي.  "فإِذا كانَ الكَلامُ الَّذي أُعلِنَ على لِسانِ المَلائِكَةِ قد أُثبِتَ فنالَت كُلُّ مَعصِيَةٍ ومُخالَفَةٍ جَزاءً عادِلا، فكَيْفَ نَنْجو نَحنُ إِذا أَهمَلْنا مِثْلَ هذا الخَلاصِ الَّذي شُرِعَ في إِعْلانِه على لِسانِ الرَّبّ، وأَثبَتَه لَنا أُولئِكَ الَّذينَ سَمِعوه" (العبرانيين 2: 3-4).  وان الله يُظهر يوم الدين بطلان كل ما يأتيه الخائنون من الأعذار على عدم امانتهم.

 

ثانياً: الوزنات على صعيد مسؤولية  

 

الوزنة في هذا المثل تمثل أي موهبة اعطيت لنا، فالله يعطينا وقتاً وقدرات ومواهب وغير ذلك من الخيرات بحسب قدراتنا، وينتظر منا ان نستثمرها بحكمة الى ان يجيء. فالوزنة دون أدنى شك تدلّ على المسؤولية الكبرى، والواجب والعمل التي ألقاها الربّ علينا، كما على الرسل من قبلنا، خلال غيابه: حتى إذا عاد يكافئ كلاً منا على ما أعطت يداه وقلبه وفكره.  فلا يوجد لدينا أي مُبرِّر حقيقي للتواني والكسل والإهمال او الرفض، بل واجبنا النشاط والغيرة والعمل في كرم الربّ. فنحن مسؤولون عن استخدام ما أعطاه إياه الرب لنا استخداما جيداً، والقضية ليست كم لنا، بل ماذا نفعل بمواهبنا وقدراتنا وبمالنا. ومن هذا المنطلق، الوزنة هي امانة في أعناقنا نحاسب عليها، وهي ما يكتنزه كلّ مسيحي من محبة وإيمان ورجاء بكلام الربّ وبخلاصه. 

 

ويريد يسوع وقت "غيابه" ان نتحمل مسؤولية كلمته بأنفسنا؛ "فنحن" ملك خاص" لله وكل المواهب والقيم والثروة التي لدينا هي له، وهي وديعة عندنا. وينتظر الله ان نقوم باستثمارها. فالعمل يُكرم مواهب الله والوزنات المعطاة" (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 2427).

 

وفي المثل عنصر المفاجأة التي تعلنها الدينونة التي هي خلافٌ لِمَا نعتقد.  لذلك لقد فضّل السيد روح الاستثمار عند اول خادمين، على الرغم من انه لا يخلو من المخاطرة، وحذَّر الخادم الثالث السلبي والآمن الذي دفن وزنة سيّده خوفا من ان يفقدها.  لم تتوافق الدينونة مع التوقعات البشرية.  يصير المثل أداة دعوة الى التغيير: تفضيل حقيقة الله على حقيقة العالم (لوقا 12: 21) واختيار العدالة بدل أمان المال الخدّاع (لوقا 16: 22-26).

 

وفي المثل عدم المساواة في توزيع الوزنات. ربما نقول انه ظلم لأننا ننظر الى المظاهر الخارجية للأشياء، أمَّا إذا نظرنا بعيون يسوع نرى مساواة بين البشر: مساواة في منح الفرص والامكانات، انه يطالب كل واحد "على قَدْرِ طاقَتِه" وفروقاته الفردية.  ويُعلق البابا فرنسيس على مثل الوزنات ا" إننا ننال مواهب من الله "كل على قدر طاقته (متى 25، 15)، من ثم إلى أنه أُعطي كل خادم وزنات كي يضاعفها" (عظة البابا فرنسيس الأحد التاسع عشر من تشرين الثاني 2017). والطاقة هي من عمل النعمة، وعلى أساس عمل النعمة يمنح الله الوزنات كما جاء في تعليم بولس الرسول" ولَنا مَواهِبُ تَختَلِفُ بِاختِلافِ ما أُعْطينا مِنَ النِّعمَة " (رومة 12: 6)، وعلى هذا الأساس اللاهوتي تتم المحاسبة والعقاب. لأن الذي لم يربح يُعاقب لأنه عطَّل عمل النعمة فأوقف عمل الوزنات.

 

كما ان الرب لا يحكم على الناس بنسبة النجاح الذي بلغوه، بل بنسبة الجهد الذي بذلوه، ولا يحكم على الناس بنسبة كمية العمل التي ادّوها بل على قدر المسؤولية التي التزموا بها.  انه حكم عليهم تبعا لاستخدامهم ما لديهم من مؤهلات. فمن استثمر وزنتين يُكافأ مكافأة متساوية مع الذي استثمر الوزنات الخمس. إنه يحترم الفروقات الفردية بين الأشخاص. ولكل واحد منا خصائصه وغناه ومواهبه. فكل كائن فريد ولا بديل له في عيني الله كما نقول في العامية "خلقك الله وكسر القالب وراءك".

 

وتدخل الفروقات في توزيع الوزنات في خطة الله، الذي يريد أن يقبل كل واحد ما يحتاج اليه، وأن يشارك من عنده من "وزنات" خاصة مَن هم في حاجة اليها. فالاختلافات تشجع الاشخاص على المشاركة وتحفز الثقافات على ان تغتني بعضها ببعض. ويوضِّح ذلك ما كتبته القديسة كاترين السيانية على لسان الله سبحانه تعالى "لا أعطي كل الفضائل لكل واحد بالمساواة... للواحد المحبة، وللآخر العدل، لهذا التواضع، ولذاك الايمان الحي. أمَّا الخيرات الزمنية، والاشياء الضرورية لحياة الانسان، فقد وزَّعتها بلا مساواة أكبر. ولم أرد ان يمتلك كل واحد كل ما هو ضروري له حتى يكون هكذا للناس فرصة، لكي يمارسوا المحبة بعضهم تجاه بعض. أردتُ ان يكونوا في حاجة بعضُهم الى بعض، وان يكونوا وكلائي لتوزيع النعم والحسنات التي تقبلوها مني" (التعليم المسيحي الكاثوليكي، بند 1937).

 

ثالثاً: الوزنات على صعيد الأمانة في استثمارها 

 

يعلمنا مثل الوزنات ان كل المواهب والقيم والثروة التي بين أيدينا تعود لله؛ حيث يثق الله بنا ويُسلمنا إياها " فأَعْطى أَحَدَهم خَمسَ وَزَنات والثَّانيَ وَزْنَتَين والآخَرَ وَزْنَةً واحدة" (متى 25: 15)، وهي وديعة لدينا، ويريد الله ان نتحمل مسؤولية حياتنا بأنفسنا.  وينتظر الله منَّا ان نقوم ببعض المُبادرات لاستثمارها.  ربما نلاحظ عدم المساواة في توزيع الحصص، ولكن هناك مساواة في منح الفرص والإمكانات، أنه يطالب " كُلاًّ مِنهم على قَدْرِ طاقَتِه" (متى 25: 15). فمن استثمر وزنتين يُكافا مكافأة متساوية مع الذي استثمر الوزنات الخمس وهي دخول نعيم سيِّده: " أَحسَنتَ أَيُّها الخادِمُ الصَّالِحُ الأَمين! كُنتَ أَميناً على القَليل، فسأُقيمُكَ على الكَثير: أُدخُلْ نَعيمَ سَيِّدِكَ " (متى 25: 21). ونجح الخادمان في استثمار وزناتهم لأنهم عرفوا أن سيدهما شخص مُعطاء (متى 25: 20، 22) فبادلاه بالمثل.  ونعلم من الكتاب المقدس ان الرب سيأتي ثانية للدينونة؛ وهذا لا يعني ان نكفَّ عن اشغالنا لنخدم الله، بل ان نستخدم اوقاتنا ووزناتنا ومواهبنا بكل اجتهاد لنخدم الله في كل ما نفعله.  ينبغي أن نستخدم ذكائنا وطاقاتنا وإمكانياتنا ومواهبنا في تقدّم البشرية جمعاء كي تنمو وتخصب وتكثر كما فعل بولس الرسول إذ يقول: " أَفتَخِرَ يَومَ المسيح بِأَنِّي ما سَعَيتُ عَبَثًا ولا جَهَدتُ عَبَثًا" "(فيلبي 2: 16).

 

ويعلمنا مثل الوزنات ايضا عدم التشبه بالخادم الثالث الاخير الذي لم يفكر الاَّ في نفسه، ولم يَقُمْ بأيِّ جَهدٍ ليستثمر الوزنة التي سُلمت إليه فيُمجِّد بها الله. قام بحراستها ولم يستثمرها، قام بذلك بدافع الخوف (متى 25: 25) النابع من معرفة مغلوطة لسيّده ولانعدام الثقة به. وهكذا اخذ يبرَّر كسله بالطعن في سلوك سيِّده والانتقاد الذي وجَّهه إليه ووصفه بشخص طمّاعا (متى 25: 24). ولزم جانب الامان وحماية نفسه من سيِّده القاسي الشديد، فحُكم عليه التقوقع على نفسه. إنه يعاني من عدم الثقة في نفسه، ويشعر نفسه أنه أضعف من ان يؤدِّي عملا كبيراً، ويجد المُبرِّرات لعجزه عن بلوغ الهدف؛ فالعالم بحاجة الى صاحب الوزنة الواحدة كما هو بحاجة إلى صاحب الوزنات الخمس. فكلٌّ من المؤمنين يبني في جسد الكنيسة كل منهم بحسب مقدار مواهبه ونوعها. ولكن لا بدَّ في الأداء أن يُكمِّل الواحد الآخر (أفسس 4: 11-16)؛ وفي هذا الامر صدق إبراهيم لنكولن، رئيس الولايات المتحدة، حين قال "ان الله يحب عامة الشعب لأنه خلق الاكثرين منه. اننا في حاجة ماسة الى الانسان العادي الذي يؤدي عمله اليومي عن رضاء وضمير صالح مغتبط"؛ فالرجل صاحب الوزنات الخمس لن يقدر ان يفعل شيئا بدون تعاون صاحب الوزنتين او الوزنة الواحدة.

 

ويعلمنا مثل الوزنات أيضا وجوب العمل بكل قوانا وانتهاز كل فرصة لنا في خدمة الرب، وفي هذا الصدد يقول صاحب الجامعة " أكُلُّ ما تَصِلُ إِلَيه يَدُكَ مِن عَمَل فاْعمَلْه بِقوّتكَ فإِنَّه لا عمل ولا حُسْبانَ ولا عِلمَ ولا حِكمَةَ في مَثْوى الأَمْواتِ الَّذي أَنتَ صائرٌ إِلَيه" (الجامعة 9: 10). ويوصي بولس الرسول " كونوا إِذًا، يا إِخوَتي الأَحِبَّاء، ثابِتينَ راسِخين، مُتَقَدِّمينَ في عَمَلِ الرَّبِّ دائِمًا، عالِمينَ أَنَّ جَهْدَكُم لا يَذهَبُ سُدً ى عِندَ الرَّبَّ" (1 قورنتس 15: 58). ولا يجوز ان نلتمس الاعذار لتجنب ما دعانا الله الى عمله. فان كان الله هو سيدنا حقا، فيجب ان نطيعه عن رغبة، فأوقاتنا وقدراتنا وكل ما لنا، ليست لنا في المقام الاول، بل نحن وكلاء، ولسنا مالكين، فنحن خدمةٌ، وليس أسياد، فعندما نتجاهل او نُبدِّد او نسيء استخدام ما أُعطي إلينا نستحق عقاب الدينونة. ولذلك يدعونا الله من خلال مثل الوزنات الى العمل، لاستغلال كل طاقاتنا وإمكانياتنا بحيث لا نسمح لأنفسنا إضاعتها مثل الخادم الشرير الكسلان البطال، بل علينا الجَد والاجتهاد ليُثمر الايمان فينا.  

 

ويعلمنا مثل الوزنات أخيرا بان نجاهد ونجتهد من اجل ان يثمر الايمان فينا. فالإيمان من غير أعمال عقيم. فعلينا ان نقرر مستقبلنا بأيدينا بحيث تثمر المواهب التي اعطيت لنا. فإن لم نفعل، نُحرم منها ونُصبح فارغي الايدي يوم الدينونة على مثال الخادم الثالث الذي اخذ وزنة واحدة. ما كان يَهُمُّه خلاصَ نفسه، فلم يقم بعمل أيِّ شيء يستفيد منه للمستقبل، بل نسي أنّ سيِّده سيعود ليحاسبه عمّا صنع بماله، فهو سيظهر فارغ اليدين أمام الدّيان.  فالمطلوب ان نستغلَّ مواهبنا كي نكنز لنا كنوزا في السماء "لا تَكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في الأرض. بلِ اكنِزوا لأنفُسِكم كُنوزًا في السّماء" (متى 6: 19). ومن هذا المنطلق، يتوجب علينا السهر منتظرين مجيء الرب ليس بأيد مكتوفة فارغة، بل باستثمار كل مواهبنا ومسؤولياتنا. إنه وقت العمل لأجل الله واستثمار ما ائتُمِنَّا عليه، إنه الوقت الذي علينا ان نبقى فيه أمناء "على القَليل ليقيمنا على الكَثير" (متى 25: 21).

 

رابعا: التحذيرات

 

ان المثل لا يقدم لنا تعليمات حول الامانة والمسؤولية والسهر على مواهبنا ووزناتنا، إنما أيضاً يُنبِّهنا عن ثلاثة تحذيرات:

 

التحذير الأول: يحذِّر المسيح تلاميذه ان الوزنات ليست فقط رأس المال ومرابح، وإنّما هي رمز أيضا الى مُؤَهّلات يضعها الله فينا، حينما يُرسِلُنا إلى هذا العالم، لنشارك في بنائه وإصلاحه كما قال بولس الرسول "إنَّ المَواهِبَ على أَنواع ...، وإِنَّ الخِدْماتِ على أَنواع ...، وإِنَّ الأَعمالَ على أَنواع ....، لِكُلِّ واحِدٍ يوهَبُ ما يُظهِرُ الرُّوحَ لأَجْلِ الخَيرِ العامّ"(1 قورنتس 12: 4-7). هذه هي مهمتنا في التاريخ وفي الكنيسة والعالم. ونستنتج أنَّ على كلّ إنسان واجب حمل مسؤولِيّته وتتميم وظيفته، مثلَما أُعطِيت له، في المجال المناسب.  يدعو المؤمن الى العمل لكي تثمر المواهب التي أعطيت له. فلا يكفي تقبُّل الكلمة، بل لا بد ان تُثمر.  ملكوت الله هو رأس مال سُلم الى أيدينا، فلا يحق لنا ان نتركه لا يثمر، نعمة الخلاص والانجيل هي أمانه ووديعة (1 تسالونيقي 2: 4؛ 1 طيموتاوس 1: 11). فإن لم نكن أمناء لهذه الوديعة نُحرم منها ونصير فارغ الايادي يوم الدينونة. وكل ما نمتلك في هذه الدنيا هو عابر، فان لم نستثمره نخسره

 

ويتم التحذير في الحكم النّهائي حينما يطلب المسيح من كلّ واحدٍ حساباً عن حياته. ولا يحق لنا أن نظهر أمام العرش الإلهي وأيادينا فارغة أو فقط بما أُوتينا من رأس مال لم نُتاجر به. المطلوب في تلك اللحظة هو الأعمال والخدمات والحسنات الّتي قمنا بها أثناء حياتنا، وهي وحدها الّتي تُدافع عنا وتشهد لنا لنيل الرّحمة وإكليل المجد الأبدي.

 

التحذير الثاني: يحذّر يسوع تلاميذه من خطر التمسك بصفات الخادم الشرير، فهو خادمٌ كسولٌ وجبان وبطَّال وعديم الثقة بسيده، لا يُحِبُّ الجُهْد والمثابرة ومتابعة سير التّجارة عن كَثب والمُجازَفَة. إنه يعاني من عدم الثقة في نفسه، انه يشعر نفسه أنه أضعف من ان يؤدِّي عملا كبيراً، فلم يُحرِّك ساكنا ولم يَقُم بأيِّ مشروع يستفيد منه هو وسيِّدُه الّذي أثمنه على ماله (متى 25: 25-27)، فخسِر بالتّالي المال المُوكل إليه وخسر نفسه (متى 25: 30). ولذلك فان يسوع يطلب منا ان نتجنب مواقف العبد الشرير وأعماله، وحذّرنا خاصة من الاستسلام إلى الكسل والخمول الروحي التي تؤدِّي الى دينونة الهلاك. وَيُحَذِّرُ المثلان تَلَامِيذَ المسيح مِنْ خَطَرِ تَنْمِيَةِ صِفَاتِ الخادم والشرير وهي: الشر والكسل والبطالة.

 

 التحذير الثالث: يحذِّر متى الإنجيلي أبناء الكنيسة امام الدينونة القريبة من خلال عقاب الخادم الشرّير (متى 25: 31-46)، لان "الرب يُجازي كُلَّ امرِئٍ على قَدْرِ أَعمالِه (متى 16: 27). ويُشدِّد المثل على العمل الذي يتعيَّن على تلاميذه ان ينشغلوا به أثناء غيابه وكيف يجازيهم عند عودته. والوزنة تمثل ما يملكه كل واحد من المؤمنين.  فالعامل الذي يشتغل بجد واجتهاد، ويستعد لمجيء الرب مستثمرا وقته ووزنته في خدمة الله والقريب، سيكافأ، أمَّا العامل الذي ليس قلبه على عمل الملكوت فسيعاقب. الله يُكافئ الأمناء، أمِّا الذين لا يُثمرون لملكوت الله، فلا يمكن ان ينتظروا ان ينعموا بالملكوت. فإذا أردنا أن نشارك في الخلاص، لا يكفي أن نسمع كلمة الله، بل يجب أن نحفظها ونتركها تثمر فينا، حيث لا نعارض عملها فينا شبيه الخادم الشرير الكسلان الذي لم يستثمر الوزنة التي أعطيت له فدفنها في الأرض، فصارت دينونة له ونقمة، بدل ان تكون نعمة وخلاصًا. 

 

ما هو موقفنا من الربّ يسوع المعلّم والسيد؟ هل نقول له أمهلنا بعض الوقت كي تُثمر مواهب الحبّ فينا المزروعة في كرمك؟  متى حان الوقت تأتي الدينونة. لنتعلّم من هذا المثل أن مستقبلنا يتوقّف على الطريقة التي نستخدم بها مسؤوليتنا في هذه الحياة وامانتنا للوزنات التي استلمناها.

 

الخلاصة:

 

إنَّ الفكرة الأساسيَّة الواردة في مثل الوزنات هي أنَّ الربّ يمنح جميع الناس مواهب وعطايا مختلفة. فواحد نال خمس وزنات، وآخر اثنتين، وآخر وزنة. وليس المهم عدد الوزنات أو العطايا الّتي يتلقّاها الإنسان، بل الأهمّ كيف يستخدمها. فالناس لا يتساوون في القدرات، لكنّهم كلهم مسؤولون عن الجهد والاستثمار.  كلّ واحد منّا مدعوٌّ إلى أن يُثمر بموجب الهبات والمواهب والوزنات الّتي حصل عليها.

 

لكل انسان مواهب، وتوجب على كل إنسان استثمار مواهبه الجسدية والعقلية والمهنية والفنية والروحية وعطايا الله في سبيل مجد الله وخدمة الانسان على الأرض. وكل إنسان يُكافأ بحسب جهوده وتجاوبه مع مشيئة الله، وخطيئة صاحب الوزنة الواحدة هي انه اعتبر سيده ظالما، فخاف، فعطّل الخوف ارادته ومنعه من العمل. وعندما يُحاسبه الربّ في يوم الدينونة، لا يُكافِئه على ما عنده من وزنات ومواهبّ، بل على مقدار ما بذل من جَهدٍ في سبيل إنماء هذه المواهب.  أمَّا إذا استسلم إلى الكسل والخمول الروحي، كانت دينونة الربّ لـه شديدةً جدّاً في ظلام الهلاك الأبدي.  ومن هذا المنطلق، يهدف مثل الوزنات الى ما يجب على المؤمنين عمله أثناء غياب الرب عنهم ومجيئه الثاني. وقد اعطانا الله إمكانات لبناء وتوسيع ملكوته، ولذلك ينتظر الرب يسوع منا ان نستخدم المواهب حتى تزداد وتتضاعف في سبيل الملكوت. 

 

والإنسان المتخوّف الكسلان يذهب من فقر الى فقر، أمَّا الانسان الجريء النشيط فيذهب من اغتناء الى اغتناء. وهكذا من لا يُلبِّي مشيئة الله ولا يعمل بوصاياه، يفتقر روحيا حتى الفقر المطلق الذي هو الهلاك الابدي. أمَّا الذي يُلبِّي مشيئة الله، فإنه يغتني روحيا حتى الغنى المطلق وهو النعيم السماوي.  فصاحب الوزنات الخمس والوزتين قدَّما كل شيء لسيدهما، الرأسمال والربح، وارادا ان يعترفا بحق سيِّدهما المطلق عليهما، كما ارادا ان يتمجدا سيدهما بأعمالهما.   

 

 لا يجوز ان نستخفَّ بعطايا الله ومواهبه كما فعل الخادم الكسلان الشرير، وفي هذا الصدد يعلق العلامة أمبروسيوس "أنتَ الذي تدفنُ وزنتَكَ في الأرض (متى25: 25)، إنّما أنتَ حارس لتلك الوزنة (الخيرات) وما أنتَ بمالكها؛ أنتَ خادم ولست السيّد. والحال هذه فإنّك قد دفَنْتَ قلبَكَ مع تلك الوزنات. حَرِيُّ بكَ أن تبيعَ ذهبك وتشتريَ به لنفسِكَ الحياة الأبديّة والخلاص في ملكوت الله، "حيثُ يكونُ كَنزُكَ يكونُ قلبُكَ" (متى 6: 21)".

 

الدعاء

 

أيها الآب السماوي، علمنا ان نتغلب على الكسل والبطالة والإهمال وأفكار شريرة لكيلا ندفن وزنة مواهبنا في التراب، بل ان نسخّر كل ما نملكه من وزنات وأموال ومواهب، ونضاعفها مجد الله وخدمة الانسان فنكون أهلا ان نكون من خدّامك الأمناء الصالحين يوم الحساب لدخول نعيمك السماوي عند عودتك يوم الدينونة. آمين

 

قصة: المحاسبة أمام الله الديان

 

يُروى أن رجلاً ما اختلط في حياته بإنسان وما قام بمهمّة لا للخير ولا للشّر، وكان فخوراً من نفسه. وعندما ظهر أمام العرش الإلهي للمحاسبة، سمع أن جوق الملائكة أحاطوه ليقتادوه إلى النّار المؤبّدة، المُعدّة له منذ إنشاء العالم، فاحتج قائلاً: أنا ما عملت شيئاً! أنظروا! فكما تلاحظون أن يديّ نظيفة. فأجابه الدّيان العادل، لهذا السبب! لأنك لم تعمل شيئاً تستحقّ فيه السماء فليس لك عندنا مكانا! نعم، قال المسيح "إكنِزوا لأَنفُسِكُم كُنوزاً في السَّماء (متى 6: 20)، فمن لا يُتاجر بوزناته ستَنْقُص الفوائد المستحقَّة على الأرض للوزنات الّتي وضعها الله في هذا العالم لكي تستفيد منها الأرض وساكنوها من بعده!

 

يقول المَثل: إنّ لكلِّ إنسانٍ ثلاثة أصدقاء في هذا العالم. لكن المُهم كيف يتصرّف ثلاثَتُهُم هُم معه يوم موته؟ الصّديق الأوّل هو المال والأملاك الّتي يُجمِّعها في حياته. لكن للأسف لا يأخذ معه منها فلسا واحدا عندما يظهر أمام العرش الإلهي للمحاسبة. الصّديق الثاني هم أهله وعائلته وأصحابه. لكن هؤلاء كلهم يرافقونه فقط إلى باب القبر، ثمّ يعودون كلّ إلى عمله وإلى بيت سكنه. أمَّا الصّديق الثالث، والّذي هو غالبا ما ينساه في حياته، فهي الأعمال والخدمات والحسنات الّتي قام بها أثناء حياته. وهي وحدها الّتي تُدافع عنه وتشهد له لينال الرّحمة وإكليل المجد الأبدي.