موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٨ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

ميلادُكِ يا أمَّ اللهِ مريم، قد أَذاعَ الفرحَ للعالمَ أَجمَع

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ميلادُكِ يا أمَّ اللهِ مريم، قد أَذاعَ الفرحَ للعالمَ أَجمَع

ميلادُكِ يا أمَّ اللهِ مريم، قد أَذاعَ الفرحَ للعالمَ أَجمَع

 

أيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. لِلعذراءِ مَريم أعيادٌ كثيرة في الرّزنامةِ الكنسيّة. فحياتُها كانت ملاصِقة، جنبًا إلى جَنب، لحياة ابنِها الفادي يسوعَ المسيح. لذلكَ، هي اشترَكت بِمجمل أحداثِ الفداء، وكانت حاضرة عند جميعِها. بل أنَّ مَوقِفَها الإيجابي أمامَ دعوةِ الله لها يومَ البشارة، كانَ هو نُقطةَ البدايةِ والانطلاق، لعملِ الخلاصِ الذّي تمَّ في المسيحِ يسوع. لهذِهِ الأسبابِ وغَيرِها أيضًا، تحتلُّ مريم، أمُّ الفادي، مكانة كبيرة ومنزلة هامّة، في حياة الكنيسةِ والمسيحيّين.

 

ومِن أبرز أعياد العذراء مريم وأهمِّها: مريمُ والدة الله، ونحتفِل به في الأوّل من كانون الثّاني. زيارةُ مريم لخالتِها أليصابات، ونحتفِل به في الحادي والثّلاثين من أيّار. انتقالُ السّيدة إلى السّماء بالنّفس والجسد، ونحتفِلُ به في الخامس عشر من آب. مريمُ سيّدة الوردية، ونحتفِلُ به في السّابع من تشرين أوّل. الحبلُ الطّاهر بلا دنس بأمّنا مريم، ونحتفِلُ به في الثّامن من كانون الأوّل. هذا بالإضافة إلى أيام السّبت الأوّل من كلِّ شهر، المخصّص لإكرام سيّدتِنا مريمَ العذراء.

 

أمّا عيدُ اليوم فهو عيدُ ميلادِ سيّدتِنا مريمَ العذراء. وثلاثةٌ في الكنيسة نُقيم ذكرى ولادتِهم في الجسد. ربّنا يسوعُ المسيح في الخامسِ والعشرين من كانون الأول. القدّيس يوحنّا المعمدان في الرّابع والعشرين من حُزيران. وأمّنا مريم العذراء في الثّامِن من أيلول. فما هو تاريخُ هذا العيد وماذا يعني لنا نحن المؤمنين؟

 

تَنتَمي مريمُ العذراء، كيوسف، إلى سبط يهوذا، وكلاهُما مِن نسلِ داود. فالعذراءُ هي سليلةُ بيتٍ مَلَكِي ونَبوي. ولذلك قال لها الملاك لما يومَ حيّاها مُبشّرًا: "سَتحبلين وتلدين ابنًا، يكون عظيمًا وابنَ العليِّ يدعى، ويوليه الربُّ الإله عرشَ داودَ أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدّهر ولن يكونَ لملكِه نهاية". (لوقا 32:1-33). كما تربِطُها صِلةُ قرابةٍ مع أليصابات أُمِّ يوحنا المعمدان، فهي نسيبةُ العذراء ويُعتقدُ أنّها كانت خالتَها (لوقا 36:1).

 

أَمّا عن حدثِ ميلادِها وطفولتِها، فإنّنا لا نجِدُ شيئًا مُدوَّنًا عن ذلك، في رواياتِ العهد الجديد. فكلُّ العهد الجديد يتمحور فقط حول شخصية يسوع المسيح المخلّص. ولكنَّ التّقليد المسيحي من القرون الأولى، يذكُر أنَّ مَولِدها كانَ بِتَدخُّلٍ إلهي مباشر. فَقد كان يواكيم وحنّة، والِدَا مريم، يُقيمانِ في الناصرة، كما يظهر من حدث البشارة. ويذكرُ أنّ القدّيسَ يواكيم، كانَ من سبطِ يهوذا، وقَد تربّى في كَنَفِ عائلةٍ يهوديّة تَقيّة مُحافِظة على الشّريعة. وأنَّ القدّيسةَ حنّة كانت ابنةَ أَحَدِ الكهنة من سبط لاوي ويُدعى متّان. وأنّها كأيّ فتاةٍ يهوديّة، ترجو أَن يُولدَ منها المسيح المنتظر، الأمرُ الّذي يستحيل أن يحدثَ لها بِسَبب عقرها، وكان يُعتبرُ وَصمةَ عارٍ عندَ اليهود.

 

ويذكرُ إنجيلُ يعقوب، الّذي لم يُدرَج ضمن الكتب القانونيّة، أنَّ حنّة كانت تُصلّي وتلتمِس اللهَ قائلة: (يا إله آبائي، باركني واستجبْ صلاتي، كما باركتَ أحشاء سارة ورزقتها إسحقَ ابنًا). فإذا بملاك الربّ يقول لها: (يا حنّة، إنّ الله سمع صلاتك؛ سوف تحبلين وتلدين، ويكون نسلك مشهورًا في العالمِ بأسره). فأجابت حنّة قائلة: (ليحيَ الربّ إلهي؛ سواء كان صبيًّا أم بنتًا ما أَلِدُهُ، فإنّي أقدّمه للربّ، وسوف يكرّس حياته لخدمة الله). وَحبلت حنّة، فولدت بنتًا، وسمّتها مريم. وهو اسمٌ مُرَكَّب، يتكوّن مِن (مور) و(يام) ويعني بحر المرارة. ومِن معانيه أيضًا المرتفِعة أو المنيرة.

 

أخذت الكنيسةُ في القدس تحتفلُ بعيد ميلادِ البتولِ مريم منذُ القرنِ الخامس، على أنَّه عيدُ تدشينِ كنيسة مولِد القدّيسة مريم العذراء في القدس. ومن القدس انتقل الاحتفالُ بالعيد إلى سائر الكنائس شرقًا ثمَّ غربًا، في عهد البابا سيرجيوس الأول. وصاروا يحتفِلون به باسم عيد مولِدِ العذراء.

 

ومِن الأفكار الخاطئة الدّارجة عندَ البعض، أنّ مريم حُبِل بها كيسوع من الرّوح القدس، وهذا فِكرٌ خاطِئ. فالحبلُ بمريم كانَ كسائر البشر، فهي ثمرةُ أبيها وأمّها. ومَع أنّ مريم قد نَذرت نفسَها بتولًا لخدمةِ الله في الهيكل، إلّا أنَّ الله اختارَها واصطفاها، لتكونَ أمَّ العلي وقدّوسَ الله، دونَ أن يُفقِدَها فَخرَ البتولية. فأصبَحت أمًّا وظلّت بتولًا، إذ وَقاها اللهُ من كلِّ شائبة وخطيئة، لتكونَ الكُليةَ القداسة والحشا الطّاهر، الّذي فيه تجسّدَ المسيحُ كلمةُ الله.

 

يا أحبّة، نحتفِلُ اليوم بعيد ميلاد إمّنا مريم العذراء. بعيد ميلاد هذهِ السّيدة العظيمة الّتي وعدَ اللهُ في سفرِ التّكوين، أنّها المرأةُ الّتي من نسلِها، سَيَخرجُ مَن سيسحقُ رأسَ الشّرِ والشّرير (تكوين 15:1). هذهِ السّيدة النّقيّة الّتي رَآهَا موسى في هَيئةِ عُلّيقة تشتعلُ دون أن تحترق (خروج 2:3)، كصورةٍ مُسبقةٍ عن أُمومَةِ مريم الّتي لم تُفقِدَها شرفَ البتوليّةِ الدّائمة. هذهِ السّيدة الجَليلَة الّتي وعدَ الله على لسان نَبيّهِ أشعيا، بأنّها الصّبيّةُ الّتي ستحبَل وتلِدُ ابنًا يكون اسمُه عمّانوئيل أي اللهُ معنا (أشعيا 14:7). فالنبوءات عن هذهِ السّيدة أو المرأة، كما سمّاها يسوع في عُرس قانا الجليل، وَجدَت كَمَالَها وتحقيقَها في شخصِ سيّدتِنا مريمَ العذراء، الّتي وَلَدت لنا مخلِّصَ الجنسِ البشري، يسوعَ المسيح.

 

الكنيسة عندما تحتفِلُ بعيد ميلاد مريم، حاملةِ الإله يسوعَ المسيح، ليسَ لكي تُضيءَ لها شموعًا أو توزّع الكعكَ والحلوى. إنّما لِكَي تذكّرُنا بأنَّ دعوتَنا المسيحية تكمنُ، كمريم، في أن نحمِلَ نحن أيضًا، الله في حياتِنا، كما حَمَلتهُ هي. فمريمُ هي القدوة والعبرة والمثال.

 

في الكنيسةِ الأرثوذكسية الشّقيقة، يكون عيدُ مُولِد البتول، أوّلَ عيدٍ يُحتفلُ به عند بداية السّنة الّليتورجية. ويكون عيد رُقادِها وانتقالِها، آخرَ عيدٍ يُحتفل به قبل نهاية السّنة الكَنَسيّة. فمريمُ الوالدة، الّتي حَمَلت في حشاها المبارك كلمةَ الله يسوعَ المسيح، تحملنُا أيضًا، وهي أمّنا جميعًا، في مسيرةِ حياتِنا كلِّها، من لحظةِ مولِدِنا وحتّى ساعة موتِنا وانتقالِنا للدّار الأبدية.

 

ميلادُكِ يا أمَّ اللهِ مريم، قد أَذاعَ الفرحَ للعالمَ أَجمَع. لأنَّ منكِ قَد أَشرقَ شمسُ البِرِّ والحقّ، المسيحُ ربُّنا.

بإبطاله الَّلعنة، مَنَحنَا البركة. وَبِسَحقِهِ سُلطانَ الموت، أَنعَمَ عَلَينا بالحياةِ والنّجاة.

فمباركة ٌأنتِ في النساءِ يا مَريم، ومباركةٌ ثمرةُ بطنكِ، يسوعُ المسيح. آمين