موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

مغفرة الله ومغفرة الإنسان وكيفية الوصول اليها؟

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الرابع والعشرون من السنة

الاحد الرابع والعشرون من السنة

 

النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)

 

21 فدَنا بُطرُس وقالَ له: ((يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟)) 22 فقالَ له يسوع: ((لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات)). 23 لِذلكَ مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه. فَلَمَّا شَرَعَ في مُحاسَبتِهم أُتِيَ بِواحِدٍ مِنهُم علَيه عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة. 25 ولَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه، فَأَمَرَ مَولاهُ أَن يُباعَ هو وامرأَتُه وأَولادهُ وجَميعُ ما يَملِك لِيُؤَدَّى دَينُه. 26 فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء)). 27 فأَشفَقَ مَولى ذلكَ الخادِم وأَطلقَه وأَعفاهُ مِنَ الدَّين. 28 ولَمَّا خرَجَ ذلكَ الخادِمُ لَقِيَ خادِماً مِن أَصحابِه مَدِيناً له بِمِائةِ دِينار. فأَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه وهو يقولُ له: ((أَدِّ ما علَيكَ)). 29 فجَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: ((أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ)). 30 فلَم يَرضَ، بل ذهَبَ بِه وأَلقاه في السِّجنِ إِلى أَن يُؤَدِّيَ دَيْنَه. 31 وشَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً، فمَضَوا وأَخبَروا مَولاهم بِكُلِّ ما جَرى. 32 فدَعاهُ مولاهُ وقالَ له: ((أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير، ذاكَ الدَّينُ كُلُّه أَعفَيتُك مِنه، لأَنَّكَ سأَلتَني. 33 أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟)) 34 وغَضِبَ مَولاهُ فدَفعَه إِلى الجَلاَّدين، حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه. 35 فَهَكذا يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ، إِن لم يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه.

 

مقدمة

 

يُسلط نص انجيل متى الضوء على موضوع الغفران الذي يختتم يسوع به كلامه عن الحياة في الجماعة (متى 18: 21-35). وينفرد متى بهذا النص بين الاناجيل حيث يوصي يسوع تلاميذه ان يتقبلوا بعضُهم بعضا ويغفروا بعضهم لبعض، على مثال الآب السماوي الذي يتقبّلهم رغم ضعفهم وخيانتهم ويغفر لهم. أراد يسوع ان يذكِّر بطرس والرسل بالغفران الذي نالوه، وبالمتطلبات الأخوية التي نتجت عن هذا الغفران. إنه يربط ربطاً وثيقاً بين واجباتنا نحو الله وواجباتنا نحو إخوتنا، ومن المُحزن أن نرى أن خبرة المغفرة في ثقافتنا المعاصرة التي تتقاذفها أمواج العنف والانتقام صارت نادرة. فما هو موقفنا نحو أخينا المُخطئ إلينا، وكم مرّة نغفر له لكي نأتي به الى المصالحة وبالتالي الى الجماعة والخلاص؟ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 18: 21-35)

 

21 فدَنا بُطرُس وقالَ له: ((يا ربّ، كم مَرَّةً يَخْطَأُ إِلَيَّ أَخي وَأَغفِرَ لَه؟ أَسَبعَ مَرَّات؟))

 

تشير عبارة " بُطرُس " اسم عبري פֶּטְרוֹס معناه ((صخرة أو حجر)) وكان هذا الرسول يُسمَّى أولاً سمعان واسم أبيه يونا (متى 16: 17) واسم أخيه اندراوس، واسم مدينته بيت صيدا. فلما تبع يسوع سُمِّي ((كيفا)) وهي كلمة آرامية معناها صخرة، يقابلها في العربية صفا أي صخرة وقد سّماه المسيح بهذا الاسم. والصخرة باليونانية Πέτρος, ومنها بطرس (يوحنا  1: 42) وكانت مهنة بطرس صيد السمك (متى 16: 18) التي كان بواسطتها يحصل على ما يكفي عائلته المقيمة في كفرناحوم (متى 8: 14). وهو هو أول أتباع يسوع الّذي أوكل إليه أيضا مهمّة تقوية الإيمان عند إخوته: ثبِّت إيمان إخوتِك (لوقا 22: 32). اما عبارة "أَغفِرَ" في الأصل اليوناني ἀφήσω فتشير الى العفو من الديون حيث أنَّ تسديد الدّين في لغة العالم والكتاب المقدس هو واجب قانوني وتجاري بين البشر، وكان هذا الالتزام ذا شان عظيم جداً في العالم القديم، حيث انه يتعرّض لفقدان الحرية في حالة عدم سداده (متى 18: 23-35). واستعمل اليهود هذه العبارة زمن المسيح لوصف موقف الانسان من الله، وهو مدين لله عاجز عن الوفاء في سَدادِ هذا الدَينْ، إذ تدل هذه الاستعارة على كون الانسان خاطئ بطبيعته البشرية ً. فالغفران هو النعمة بكل معنى الكلمة، بما اننا عاجزون عن تكفير خطايانا.  لقد ورد فعل غفر ثلاث مرات في هذا النص (متى 18: 21، 32، 35) مما يدلُّ على أننا أمام وصية ثابتة لا تقبل التفسير ولا التردُّد، حيث أراد يسوع ان يذكِّر بطرس والرسل بالغفران الذي نالوه، وبالمتطلبات الأخوية التي نتجت عن هذا الغفران. إنه يربط ربطاً وثيقاً بين واجباتنا نحو الله وواجباتنا نحو إخوتنا، وفقا للعهد الوارد في الكتاب المقدس (يشوع بن سيراخ 28: 1-5). كثيرا ما أعلن ان الله يمنحنا غفرانه إن غَفرْنَا لإخوتنا " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ "(متى 6: 14). هذا الغفران الاخوي لا يكتسب الغفران لنا ولا يستحقه، بل يشهد لصدق طلبنا في الصلاة الربية " فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12)، وهذا ما يدل عليه استعمال الصيغة في الماضي (أَعْفَينا). اما عبارة " َأخي " فتشير أولا الى اخي المؤمن وتمتد الى كل اخ لك في الإنسانية بغض النظر عن الاختلاف في اللغة او اللون او الجنس او الاعتقاد او الدين او العرق أي اختلاف آخر. أمَّا عبارة " أَسَبعَ مَرَّات؟ " فتشير الى استفسار بطرس لدى المسيح وهو يظن انه بهذا العدد الكبير بلغ قمة الغفران، لان رقم سبعة عند اليهود هو عدد الكمال، والكثرة والوفرة، ولان الربانيين يُعلمون الناس يجب على الشخص أن يكون رحيما بأخيه ويغفر له حتى يرحمه الله، شريطة أن يكون هذا الغفران لثلاث مرات فقط بعد أن يصلح الأخ الخاطئ أخطاءه ويعتذر لمن أخطأ في حقه، وذلك بناء على ما جاء في تلمود اليهود استنادا على نبوءة عاموس (عاموس 1: 3، 2: 6) وزاد بطرس على ذلك أربعا فظن انه اظهر بذلك زيادة الحلم والصبر والاناة.  بطرس يريد ربط المغفرة بعدد حسابي، إذ للصّبر حدود. ويُعلق رئيس الأساقفة بييرباتيستا بيتسابالا  قائلا: "يُعبّر سؤال بطرس، في حد ذاته، عن أسلوب تفكير لا يليق بأبناء الملكوت: فالرجل الّذي لم يعرف محبة الرب غير المشروطة بعد، لا زال يسأل نفسه "كم مرة وكم يجب عليه أن يغفر"(عظة الاحد 31/9/2020).

 

 22 فقالَ له يسوع: ((لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات.

 

تشير عبارة "سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات"، (او "سبعا وسبعين سبع مرّات" في قراء ةٍ أخرى،) الى عدد غير مقيَّد الى عدد رمزي.  ويعلق القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني " يشير يسوع بذلك إلى ما يجب أن يجد في نفسه من القوة على المغفرة لكل الناس وفي كل وقت" (الرّسالة العامّة: الغنيُّ بالمراحم (Dives in Misericordia)، العدد 14).  أراد المسيح من كل ذلك انه يجب ان يُغفر للمُخطئ كلما سأل المغفرة، لان الله " يُكثِرُ العَفْوَ " (أشعيا 55: 7).  فإننا ننال الرحمة من الله من غير حساب فيجب علينا ان نرحم الناس كذلك. ان الرقم الكامل غير المحدود، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم" لا يقدّم (السيِّد) هنا عددًا معينًا (70×7=490) بل ما هو غير محدود ودائم إلى الأبد. فلا يُحدّد رقمًا للمغفرة، إنّما يطلب أن تكون دائمًة وأبديّة ". حدود الغفران هو الغفران بدون حدود، وذلك مقارنة مع السبع المرات التي حدَّدها بطرس للمغفرة (متى 18: 21).  وحيث لا حدود للغفران، نحن نغفر كما الله يغفر، مهما كان تصرّف الأخ شريطة ان يتوب كل مرة كما أكّد ذلك لوقا الإنجيلي " وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4). ويُعلق القديس ايرونيموس على التساؤل التالي " إن طلب أخي بشفتيَّه لا بقلبه فماذا أفعل؟ فقال: "إن أخطأ سبعين مرّة سبع مرّات يوميًا وسألك الصفح فاغفر له، ولا تقل إنه لا يطلب الصفح من أعماق قلبه بل يكذب. أترك الدّينونة لله".  غفران السيد المسيح لا تقيِّده الاساءات والأرقام، لان غفرانه مستمر الى ما لا نهاية. فغفران المسيح لا يعرف الحساب. انه يعفو يوميا عنا، ولا يعجز عن غفران أشنع الخطايا، مهما كان اسمها او عددها. في حين كانت قاعدة الانتقام تصعيدا للعنف في العهد القديم " إِنَّ الله ينتَقَمُ لِقايِنَ سَبعَةَ أَضْعاف وأَمَّا للامَكَ فسَبْعَةً وسَبْعين (التكوين 4: 24)، عندما يتفاقم الشر، يتدرج تدرجا هندسيا، لان العنف يولّد العنف. وعلى النقيض من ذلك يطلب الله منا هنا ان نغفر سبعين مرة سبع مرات. حيث نجد العنف متزايدا لدى الانسان في حين ان المغفرة متزايدة لدى الله عملا بقول بولس الرسول " لا تَدَعِ الشَّرَّ يَغلِبُكَ، بلِ اغلِبِ الشَّرَّ بِالخير" (رومة 12: 21). قد يعلّق البعض منا قائلاً إنّ يسوع يبالغ، وقد يقول بعضنا الآخر إنّ يسوع يطلب المستحيل لأنّه يعلن أنّ علينا أن نغفر دائمًا للآخرين مهما حدث منهم ومهما وقعوا في الخطأ. في الواقع، فإن الرب الذي أعطى هذه الوصيّة يعمل أعظم منها بكثير نحونا ويطالبنا ان يجد صورته ومثله فينا! وفي الواقع إن يسوع يجيب على سؤال بطرس متحدّثا عن حب الآب ومقدار غفرانه في مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه.  ما الذي يُزعجنا أو يُخيفنا في وصيّة المغفرة؟

 

23 ((لِذلكَ مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه.

 

تشير عبارة " لِذلكَ " في الأصل اليوناني Διὰ τοῦτο (معناها لهذا) الى الكلمة التي بدأ الرب بها مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ تربطه بكلامه السابق عن الغفران (متى 18: 15-22)؛ اما عبارة "مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ" فتشير الى مثل ضربه يسوع معلما تلاميذه شريعة الملكوت الجديدة في شأن الغفران للمذنبين الينا. ان الله يعامل كنيسته على الأرض كما يعامل الملك رعيته، ويعلق العلامة أوريجانوس" ابن الله، عندما صار في شكل جسد الخطيّة، متّحدًا بالناسوت صار إنسانًا ملكًا ". وتبين من ذلك انَّنا عاجزون عن إيفاء ما علينا من الدين لله ولكنه تعالى أعدَّ لنا الفداء باستحقاق المسيح وموته لإنقاذنا من ذاك الدين العظيم.  أمَّا عبارة "يُحاسِبَ" فلا تشير الى حساب يوم الدينونة، بل الى تعامل الله معنا الآن ونحن في الجسد، فمن يغفر لأخيه هنا يغفر له المسيح يوم الدينونة، ومن يغلق قلبه عن أخيه الآن يغلق المسيح قلبه تجاهه في الآخرة. فلننتهز الفرصة هنا ونغفر للآخرين فيغفر لنا السيد خطايانا. أمَّا عبارة " خَدَمَ " في الأصل اليوناني δούλων فلا تشير في الكتاب المقدس الى العبيد الذين هم في الرٌق والعبودية، بل كثيرا ما تدل على هؤلاء المرتبطين بسيدهم ويمكن ان يكونوا شخصيات كبيرة من وزراء ورجاله الأقربون وغيرهم (1صموئيل 8: 14).

 

24 فَلَمَّا شَرَعَ في مُحاسَبتِهم أُتِيَ بِواحِدٍ مِنهُم علَيه عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة.

 

تشير عبارة "وَزْنَة" الى قيمة 25 كيلو من الذهب. أمَّا عبارة " عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة" فتشير الى ضخامة الدّين اذ أن الهيكل استخدم فيه 3000 وزنة ذهب، 7000 وزنة فضة (1 اخبار 4:29-7). فقيمة عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة هي 250000 كيلو من الذهب وهو مبلغ باهظ يساوي آلاف الألوف من الليرات الذهبية، ما لا يقل عن مليونين من الجنيهات. ضخامة الدّين متعمَّدة في المثل إذ بها يشار الى ان الانسان عاجز عن ايفاء دينه للربّ. فعشرة آلاف وزنة تدل على كل الخطايا التي اُرتكبت في حق الناموس، إذ أنَّ رقم 10 يُشير إلى الوصايا العشرة، ومن أخطأ في وصيّة يكسر الناموس كله، وأمَّا رقم 1000 فيُشير للأبديّة، فإن رقم 10.000 يعني أن الإنسان مدين بكسر وصايا بدِين لا يقدر أن يفيه في حياته على الأرض. وهذا يعني ان الخادم في وضع لا يستطيع ان يدفع ما عليه مهما فعل، لا مخرج منه إلاّ رحمة سيّده.  فإذا كان أعفي من الدّين، فلأن سيّده تحنَّن عليه (متى 18: 26)، وهذا هو وضع الانسان امام الله. فحين كان الناس خطأة أرسل الله ابنه كفارة عنهم كما جاء في تعليم بولس الرسول " أَمَّا اللهُ فقَد دَلَّ على مَحبتِّهِ لَنا بِأَنَّ المسيحَ قد ماتَ مِن أَجْلِنا إِذ كُنَّا خاطِئين" (رومة 5: 8 – 9). في هذا المثل يظهر الملك رمزًا للديّان الذي يقف أمامه الإنسان مدينًا بعشرة آلاف وزنة، بينما يُعلن الإنسان عجزه التام عن الإيفاء بالدّين.

 

25 ولَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه، فَأَمَرَ مَولاهُ أَن يُباعَ هو وامرأَتُه وأَولادهُ وجَميعُ ما يَملِك لِيُؤَدَّى دَينُه.

 

 تشير عبارة "ما يُؤَدِّي بِه دَينَه" في الأصل اليوناني ἀποδοῦναι (معناها يوفي الدّين) الى بيع الخادم وعائلته الذي لا يكفي لسداد الدّين الضخم. أمَّا عبارة " يُباعَ " فتشير الى امر جائز في الشريعة اليهودية "وإِذا أفتَقَرَ أَخوكَ مَعَكَ فباعَكَ نَفسَه، فلا تَسْتَخْدِمْه خِدمَةَ العَبيد" (الاحبار 25: 49)، وهذه العادة كانت منتشرة في العالم القديم "إِذا آشتَرَيتَ عَبداً عِبرانِيّاً، فلْيَخدِمْ سِتَّ سِنين، وفي السَّابِعَةِ يَنصَرِفُ حُرّاً مَجَّاناً"(خروج 21: 2) وذلك حسب الشريعة "إِذا أفتَقَرَ أَخوكَ مَعَكَ فباعَكَ نَفسَه، فلا تَسْتَخْدِمْه خِدمَةَ العَبيد، بل كأَجيرٍ وضَيفٍ يَكونُ معكَ. إِلى سَنةِ اليوبيل يَخدُمُ عِندَكَ" (الاحبار 39:25-40). وهذ العادة اجازتها الشريعة الرومانية.  اما عبارة "لِيُؤَدَّى دَينُه" فتشير الى إيفاء قسم من الدين بقدر ثمن البيع. فالكلام بهذه المبالغ الطائلة هو فقط لكي يُرينا عظمة الدين ويُبرهن لنا باننا لن نستطيع وفاءه وحدنا مهما عملنا كما ورد في المزامير " لا يَفتَدي أَخٌ أَخاه ولا يُعطي اللّهَ فِداهفِديةُ نُفوسِهم باهِظة وهي لِلأبدِ ناقِصَة" (مزمور 49: 8-9).

 

26 فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء))

 

تشير عبارة " فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً " الى علامة الوقار اللائق بالملك والتضرُّع الشديد له. اما عبارة " أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء " فتشير الى طلب الخادم إعطاءه مهلة او فترة لإدائِهِ، وهو يظن أنه قادرٌ أن يفي، ولم يُعلّم أنه عاجز كل العجز في تحقيق هذا الأمر مهما طال الزمن.

 

27 فأَشفَقَ مَولى ذلكَ الخادِم وأَطلقَه وأَعفاهُ مِنَ الدّين.

 

تشير عبارة "أَشفَقَ مَولى ذلكَ الخادِم" الى موقف الملك الذي عفا عن خادمه بعد ان تحرّكت احشاؤه، وتنازل عن كل الدين على الفور؛ وهو موقف الله من الناس المُتمثل بحبه وشفقته ورحمته وغفرانه. أمَّا عبارة "أَعفاهُ مِنَ الدَّين" فتشير الى إعطاء الملك لخادمه المَديون أكثر ممّا يسأل، فإنه لم يسأله سوى مهلة فترك له ما لديه، وعفا عنه الدّين، وأطلقه حرًا هو زوجته وأولاده. قيمة البيع لا تكفي لسد الدّين اذ ان قيمة العبد لا تتجاوز ألف دينارٍ، ولكنها تؤدي بالعبد الى فقدان كرامته وزوجته وأولاده. هذا يشير الى ان الربّ يتجاوز برحمته ومحبته اخطاء البشر وهفواتهم. وغاية الانجيل المناداة بهذه الرحمة كما جاء في تعليم بولس الرسول "ما أَشْقاني مِن إِنسان! فَمن يُنقِذُني مِن هَذا الجَسَدِ الَّذي مَصيرُه المَوت؟ (رومة 7: 24) وقيل أيضا " إِذا قُلْنا: ((إِنَّنا بِلا خطيئة)) ضَلَّلْنا أَنفُسَنا ولَم يَكُنِ الحقُّ فينا. وإِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1 يوحنا 1: 8-9). كلما كانت الهبة التي أُعطيت لنا أعظم، كلما زادت المحبة التي يجب أن نحتفظ بها لمن أعطانا إياها.

 

28 ولَمَّا خرَجَ ذلكَ الخادِمُ لَقِيَ خادِماً مِن أَصحابِه مَدِيناً له بِمِائةِ دِينار. فأَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه وهو يقولُ له: ((أَدِّ ما علَيكَ)).

 

تشير عبارة "مِائةِ دِينار" الى الدينار الروماني. والدينار يعادل قيمة اجر يومي لعامل زراعي في زمن المسيح كما هو واضح في َمَثلِ العملة واجرتهم " رَبِّ بَيتٍ خَرَجَ عِندَ الفَجرِ لِيَستأجِرَ عَمَلةً لِكَرمِه. فاتَّفقَ معَ العَمَلةِ على دينارٍ في اليَوم وأَرسَلهم إِلى كَرْمِه" (متى 20  :1- 2).  وهو مبلغ زهيد تجاه دينه لسيده الذي يبلغ "عَشَرةُ آلافِ وَزْنَة" (متى 18: 24). ويُعلق القديس أوغسطينوس:" رقم 100 تُشير إلى الجماعة في هذا العالم". فإن لم نتنازل مهما ارتكب الإخوة في حقّنا، لن ننعم بالتنازل عن الدّين الذي علينا لدى الله" وهنا قال الرب " وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم " (متى 6: 15). والمقصود من كل ذلك انه بما ان الله يغفر لنا كل تلك الآثام العظيمة يجب علينا ان نغفر لإخوتنا الإساءة الزهيدة بالنسبة اليها.  أمَّا عبارة " أَخَذَ بِعُنُقِه يَخنُقُه " فتشير الى منعه من الهرب ومعاملته بلا رحمة تجاه أخيه المديون، وكاد الخادم كاد يقتل صاحبه من اجل كمية صغيرة من المال.  لم يُقال ان ذلك الدين لم يكن حقا، إنما ظهر من المثل انه أخطأ في طلب من مُدينه بقساوة كهذه بعدما نال عظيم الرحمة من الملك. الخادم لم يتعلم أسلوب سيده الذي في التعامل، ولم يسمح لمشاعر الامتنان أن تغيِّره وتسمو به بل ظل أسيراً لأنانيته وعجرفته. هذا الخادم بقسوته وظلمه صورة للإنسان.

 

29 فجَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: ((أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ)).

 

تشير عبارة "جَثا صاحِبُه يَتَوسَّلُ إِلَيه فيَقول: أَمهِلْني أُؤَدِّهِ لكَ" الى تصرف صاحب الخادم تماما كما تصرف الخادم في موقف مماثل امام الملك.  وقد وردت عبارات الاسترحام نفسها حرفيا “فَجَثا لَه الخادِمُ ساجِداً وقال: ((أَمهِلْني أُؤَدِّ لَكَ كُلَّ شَيء" (متى 18: 26). وهذه كلمات الاسترحام كانت يجب ان تذكره بشدته وضيقه وبالرحمة التي نالها، الاَّ ان الخادم لم يشارك زميله عظم هبة المغفرة التي حصل عليها من سيده.

 

30 فلَم يَرضَ، بل ذهَبَ بِه وأَلقاه في السِّجنِ إِلى أَن يُؤَدِّيَ دَيْنَه.

 

تشير عبارة "أَلقاه في السِّجنِ" الى عادة كانت منتشرة في العالم القديم ان يُقبض على المدين الذي عجز عن سداد الدّين وإلقائه في السجن وكان ينتظر من المدين، وهو في السجن، ان يبيع ممتلكاته أو ان يدفع عنه اقرباؤه الدّين، وبعكس ذلك سيبقى قابعا في السجن طيلة حياته.  ورفض الخادم الدائن ان يعفو عن أخيه، فضاع كل منطق عند هذا الرجل. هذه الفقرة من المثل تعكس تصرف البشر بعضهم تجاه بعض.  من اُعفي بعشرة آلاف وزنة من الدين لم يُرد ان يتمهل على مديون له بمئة دينار، ومن نال الرحمة من سيده أبى ان يُنيل مثلها العبد اخاه. ومن سأل المهلة ونال الإعفاء المطلق رفض ان يتمهل على صاحبة.  لم يذكر المراحم الذي نالها من سيده ولم يشفق على زميله فالقاه في السجن. لنتأمّل في المثل كيف أنّ الذي لم يدرك أنّه هو أيضًا مغفور له يقع في الشبكة التي نصبها لأخيه. ويعلق إسحَق النجمة الراهب السِستِرسيانيّ "من كان عدائيًّا تجاه أخيه الّذي يعاني من صعوبات ما فإنّه يُخضع نفسه جليًّا لشريعة الشيطان وينفّذها" (العظة 31). وهكذا عندما تتصرف كالقاضي وتحكم على أخيك بدلاً من أن تغفر له، فأنت تدعو بذلك إلى حكم الله على حياتك وعلى خطاياك!

 

31 وشَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً، فمَضَوا وأَخبَروا مَولاهم بِكُلِّ ما جَرى.

 

تشير عبارة "شَهِدَ أَصحابُه ما جرى فاغتَمُّوا كثيراً" الى صوت الجماعة الذي يصرخ من الداخل بالحزن الشديد، ويسمع الله تنهّدات البشريّة الخفيّة من أجل قسوة الناس على إخوتهم وعدم صفحهم لهم، فيُكال لهم بالكيل الذي يكيلون به لإخوتهم.  ويعلق البابا فرنسيس بقوله" عندما نكون مدينين لآخرين نتوقّع منهم الرحمة، لكن عندما يكون هناك أحد مدينٌ لنا نطلب العدالة! اما عبارة "فاغتَمُّوا كثيراً" فتشير الى الحزن والحزن أجدر بهم من الغضب الذي هو أولى بالملك لأنه الحاكم الديان. وهذا يُذكرنا في ايمنا المعصرة حزن البابا فرنسيس الشديد بسبب تحويل كاتدرائية آيا صوفيا اسطنبول إلى مسجد حيث قال افكاري تتجه إلى اسطنبول، أفكّر بآيا صوفيا. إنني حزين جداً" (12/7/2020).

 

32 فدَعاهُ مولاهُ وقالَ له: أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير، ذاكَ الدَّينُ كُلُّه أَعفَيتُك مِنه، لأَنَّكَ سأَلتَني.

 

تشير عبارة "أَيُّها الخادِمُ الشِّرِّير" الى رداءة صفات العبد القاسي الذي كفر عمدا بضميره وأُظهر رغبة في التدمير لقساوته الخاليةٍ من الرحمة والشفقة تجاه صاحبه المديون له؛ لم يدعُ الملك العبد شريرا لأنه اقام دعوى كاذبة على اخيه بل لأنه طلب حقَّه بعنف وقسوة في حين نال شفقة أعظم.  فمن كان مثل هذه العبد في القساوة لا يمكن ان يكون مسيحيا بالحق ومولودا من الروح القدس. اما عبارة "ذاكَ الدَّينُ كُلُّه" فتشير الى بيان لعظمته، مَّا عبارة "أَعفَيتُك مِنه" فتشير إلى الطلب الخامس من الصلاة الربية  وأَعْفِنا ἄφες  ممَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12). والعَفُو هو إسقاط العقوبة بدون إسقاط الذنب. أمَّا عبارة "لأَنَّكَ سأَلتَني" فتشير الى طلبك مني بحزن وانكسار فتأثرت وشفقت عليك. كل ما طلبه هو مهلة. لكن الله يعطينا دوما أكثر مما نطلب ومما نرجوه. كما كان الحال مع مثل الابن الضال الذي تمنَّى أن يأكل بعض الخبز ويكون في مصاف الأُجراء، ولكن اباه عامله كالابن المدلل فذبح له العجل المسمَّن (لوقا 15: 11-32).

 

 33 أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟))

 

تشير عبارة "تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟ الى الخادم الذي لم يعرف ان يرحم مستبعدا نفسه عن النعمة التي أُعطيت له حيت اغلق قلبه عن زميله وفقد غفران سيده يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إنّ الرّب يسوع المسيح يطلبُ منّا أمرين: إدانة خطايانا ومغفرة خطايا الآخرين، كما يطلب القيام بالأمر الأوّل بسبب الأمر الثاني، الذي سيكون حينئذٍ أكثر سهولة، لأنّ مَن يفكّر في خطاياه سيكون أقلّ قساوة تجاه رفيقه في البؤس" (إنجيل القديس متّى، العظة 61). لم يشعر الخادم الأول بأن الدَّين الذي له على زميله إنما هو جزءٌ من الدَّين الهائل الذي تم إعفاؤه منه سيده. وفي هذا الصدد كتب يعقوب الرسول " لأَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2، 13). ومن يُخطئ الى أخيه يُخطئ الى المسيح كما جاء في تعليم بولس الرسول "وإِذا خَطِئتُم هكذا إِلى إِخوَتِكُم وجَرَحتُم ضَمائِرَهُمُ الضَّعيفة، فإِلى المسيحِ قد خَطِئتُم"(1قورنتس 8 :12).  لقد فقد الخادم الشرير الهبة التي حصل عليها لأنه أغلق نفسه على زميله في الوقت الذي كان هو مدعو الى أن يغفر القليل بمقارنة مع الكثير ما غُفر له.  فعفوه المحدود يكمن في "العدالة الإنسانية" مقارنة مع رحمة الله غير المحدودة التي نالها. فقد وضع حدود للمغفرة في حين ان الله لم يضع حدود لها. وبيَّن لنا المسيح ان العبد القاسي كان يجب عليه ان يتخذ شفقته عليه مثالا له في معاملته العبد رفيقه وانه يجب على من رُحم ان يرحم. كذلك يجب ان نتخذ لُطْفِ الله ِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ مثالا لنا في معاملتنا غيرنا فنغفر للمذنبين بحقنا كما غفر الله لنا.

 

34 وغَضِبَ مَولاهُ فدَفعَه إِلى الجَلاَّدين، حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه.

 

تشير عبارة "غَضِبَ مَولاهُ" الى حنق وسخط السيد الذي كان في اول الامر دائنا طالبا دينه من مديون فصار ديانا لمذنب.  امَّا عبارة "فدَفعَه إِلى الجَلاَّدين" الى تسليمه الى سجن مؤبد مع مقاساة الآلام، ليس بسبب قساوة قلب سيده، بل بسبب قساوة قلبه هو لأنه شرير، وهذا شر من بيعه الذي هُدد به أولا (متى 18: 25). والمراد هنا في المثل توبيخ الضمير للمذنب القاسي واحتقار الاتقياء إياه وغضب الله عليه والعقاب بعد الموت. وفي هذا الصدد يقول القديس يعقوب الرسول " أَنَّ الدَّينونَةَ لا رَحمَةَ فيها لِمَن لم يَرحَم" (يعقوب 2: 13).  اما عبارة " حتَّى يُؤَدِّيَ لَه كُلَّ دَيْنِه" فتشير الى عقاب أبدى، لأنه "لَم يَكُن عندَه ما يُؤَدِّي بِه دَينَه" (متى 18: 25). لا نجاة للخاطئ الى الابد، لانَّ الذين خابوا من رحمة المسيح في الحياة على الارض يخيبون منها الى الابد.

 

35 فَهَكذا يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ، إِن لم يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه))

 

تشير العبارة "فَهَكذا" الى عبرة المثل الذي ورد أعلاه.  أمَّا عبارة "يَفعلُ بِكم أَبي السَّماويّ" فيعلق عليها القديس يوحنا الذهبي الفم: " بقولّه "ابي" ولم يقل "أباكم" بل "أبي"، إذ لا يليق أن يدعى الله أبًا لإنسان شرّير هكذا وحقود". وفي هذا الصدد يقول الحكيم يشوع بن سيراخ "مَنِ اْنتَقَمَ يُدرِكُه الاْنتِقامُ مِن لَدُنِ الرَّبَ الَّذي يُحْصي خَطاياه. " (يشوع 28: 1)؛ أمَّا عبارة " إِن لم يَغفِرْ ἀφῆτε فتشير الى قول الحكيم يشوع بن سيراخ " أَيَحقِدُ إِنسانٌ على إِنْسان ثُمَّ يَلتَمِسُ مِنَ الرَّبِّ الشِّفاء أَم لا يَرحَمُ إِنْسانًا مِثلَه ثُمَّ يَطلُبُ غُفْرانَ خَطاياه؟  إِن أَمسَك الحِقْدَ وهو بَشَر فمَن يُكَفِّرُ خَطاياه؟  (يشوع بن سيراخ 28: 3-5). ويّذكرنا يسوع الصلاة الربية ان يغفر كُلَّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ كما يغفر الله لنا:" وأَعْفِنا ἄφες مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6: 12) ولكن الله هو الذي يُبادر ويغفر ويعفو، فلا يبقى لنا إلا ان نتشبّه به كالأبناء الأحباء كما جاء في تعليم بولس الرسول " لْيَصفَحْ بَعضُكم عن بَعضٍ كما صَفَحَ الله عنكم في المسيح" (أفسس 4: 32). أمَّا عبارة " يَغفِرْ كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ مِن صَميمِ قَلبِه" فتشير الى الشرط الوحيد الذي يجعل الآب يغفر لنا كما جاء في تعليم المسيح " وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم" (متى 6: 15). المغفرة بحد ذاتها لا تكفي إن لم تصدر من القلب، حيث انها لا تكون بالفم فقط بل من القلب أي من قلب تطهَّر وتجدَّد. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " المغفرة المطلوبة ليست من الفم فقط، إنّما من "صميم القلب"، كي لا نديرَ باتّجاهنا الرمح الذي نعتقدُ أنّنا نطعنُ الآخرين بواسطته" (إنجيل القديس متّى، العظة 61). هكذا جعل المسيح غفران الله عن خطايانا مرهونا بغفراننا عن خطايا الآخرين. فان حبسنا غفراننا عن الآخرين بحجة أنهم لا يستأهلون، المسيح يحبس عنا غفرانه. فلا نستطيع ان نطلب من الله غفران خطايانا ونحن لا نغفر للآخرين كما نقول في صلاة الربية " وأَعْفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعْفَينا نَحْنُ أَيْضاً مَن لنا عَلَيه " (متى 6: 12). فالمغفرة هي احدى العلامات للإيمان الحقيقي. ان مبدا الغفران غير قابل للفصل عن التبرير بالإيمان " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم " (متى 6: 14-15). ان قبول نعمة الله المجانية (الغفران) يتضمن الادراك ان المسيح احتمل آلام عقاب الخطيئة على الصليب. وهذا يعني انه ينبغي ان نظهر الصفح بسخاء للجميع. نحن نعفو عن الذين أساءوا الينا عندما نعي ان الله سبق وعفا عنا. وعندما لا نغفر للآخرين نخالف وصية المسيح والتي أساسها المحبة. من يغفر لأخيه يغفر له الله. ان المغفرة الإلهية تفترض اولا المغفرة بين البشر أنفسهم.  ويعلق البابا فرنسيس بقوله " كما يغفر الله لنا هكذا علينا نحن أيضًا أن نغفر لمن يُسيء إلينا. تحديدًا كما في الصلاة التي علّمنا يسوع إياها، الصلاة الربّية عندما نقول: "وأَعفِنا مِمَّا علَينا فَقَد أَعفَينا نَحنُ أَيضاً مَن لنا عَلَيه" (متى 6، 12). ديوننا هي خطايانا أمام الله والذين يدينون لنا هم أولئك الأشخاص الذين ينبغي علينا أن نغفر لهم. اما عبارة " كُلُّ واحِدٍ مِنكم لأَخيهِ " فتشير الى اقتصار الغفران الى الاخوة المؤمنين ولكن في الواقع يجب علينا ان نغفر لكل الناس زلاتهم إذا سألونا المسامحة. أما عبارة " مِن صَميمِ قَلبِه" فتشير الى صفح صادر من القلب وليس مجرد من الشفتين، لان الله يغفر الاثم ولا يذكر الخطيئة كما جاء في نبوءة: "يقولُ الرَّبّ لن أَذكُرَ خَطيئَتَهم مِن بَعدُ" (ارميا 31: 34).

 

 ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)

بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي (متى 18: 21-35)، نستنتج انه يتمحور حول الغفران وصعوبته وكيف الوصول إليه

 

1) مفهــوم المغفرة ومشتقاته 

 

استخدم الكتاب المقدس في العهد القديم لفظة (סָלַחְ  ) (احبار 34: 9) للدلالة  على الغفران أو المغفرة والصفح وما يتبعها من المشتقات، مثل ينبذ الخطيئة أو الإساءة وراء ظهره  كما جاء في سفر اشعيا : " نَبَذتَ הִשְׁלַכְתָּ جَميعَ خَطايايَ وَراءَ ظَهرِكَ "( أشعيا 38 : 17)  أو يطرحها וְתַשְׁלִיךְ في أعماق البحر كما ورد في سفر ميخا "سيَعودُ فيَرأَفُ بِنا وَيدوسُ آثامَنا وتَطرَحُ في أَعْمَاقِ البَحرِ جَمِيعَ خَطاياهم" ( ميخا 7: 19) ، ويرفعها  (נשא) "كما ورد في سفر الخروج "والآنَ إِن غَفَرتَ אִם־תִּשָּׂא خَطيئَتَه" (خروج 32 / 32 ) ، ويكفر (כפָּר ) عنهــــــا ويزيلهـا  كما ورد في سفر أشعيا "فأُزيلَ إِثمُكَ وكُفِّرَت תְּכֻפָּר  خَطيئَتُكَ" ( أشعيا 6/7 ).

 

 وأمَّا في العهد الجديد فنجدُ الألفاظ اليونانيــــة مثل (ἀφίημι) يغفــــر، (متى 18: 21)، الغُفْرَان أو المَغْفِرَة: هو إسقاط العقوبة والمؤاخذة عن الذنب ولكنه يوجب الثواب للمغفور له وثوابه بأن يستر أو يخفى ذنبه. أصل الغفران هو الإخفاء والستر، وهناك فعل (αἴρω)، وهذا الفعل يعني الرفع، فإما " حمل، أخذ على عاتقه"، وأما ذهب به، رفع وأزال " وهذا المعنى الأخير يستعملهُ يوحنا الإنجيلي عادة كما شهد يوحنا المعمدان ليسوع بقوله "هُوَذا حَمَلُ اللهِ الَّذي يَرفَعُ αἴρων خَطيئَةَ العالَم" (يوحنا 1: 29).

 

 وهناك تعبيرٌ آخر للغفران وهو (ἀπολύω) بمعنى العفو او الحل من القيود كما جاء في قول يسوع "أُعْفُوا ἀπολύετε يُعْفَ عَنكم" (لوقا 6: 37). العَفُو هو إسقاط العقوبة بدون إسقاط الذنب. فمن عفا عن أحد فقد امتنع عن العقوبة مهما كانت إلا أن المؤاخذة عن الذنب لا تسقط. أصل العَفو هو المَسح والذهاب بسبب القدم، فسميّ كذلك لأن العقوبة تُمسح عن المُذنب. كما يقول المثل عفا عليه الدهر. وهناك فعل (χαρίζομαι) سامح، (أفسس 4: 32)، والمُسَامَحَة هي إسقاط المؤاخذة واللوم بغض النظر عن إسقاط العقوبة عن المذنب، فالمسامح يترك المؤاخذة واللوم ويتصرف كأن شيئا لم يكن إلا أن المذنب قد يكون قد حصل على ما يستحقه من عقاب. أصل المسامحة هو السماح، أي الجود، فالمُسَامِح قد جادَ على المذنب بأن ترك المؤاخذة. وهناك أيضا عبارة ἵλεως  εἰμί أي أكون صفوحا ( قولسي 8: 12) ، فالصفح هو التجاوز عن المذنب تماما بترك مؤاخذته وعقابه. أصل الصفح هو إبداء صفحة جميلة من الوجه ومنه قلب الصفحة أيضا. فالصفح أعلى من العفو والمسامحة.

 

تدل كثرة هذه المعاني الاشتقاقية على عُمق وشدة وغنى هذا الفعل، فالغفران إذن يُفيدُ الصفح عن الإساءة، مهما كان نوعها ومضمونها واصلها وأثرها، كما يشير ايضا إلى التخلي عن الماضي وترك الحقد والتكفير والنسيان والشفاء، وقد يكون الله هو الغــــافر كما جاء في تشفع موسى النبي "اغفِرْ إِثْمَ هذا الشَّعبِ بِحَسَبِ عَظيمِ رَحمَتِكَ" (العدد 14: 19)، أو الإنسان لأخيه الإنسان " كَذا تَقولونَ لِيُوسف: أَرْجو ان تَغفِرَ שָׂא لإِخَوتِكَ ذَنبَهم وخَطيئَتَهم" (تكوين50: 17)، خروج 10/17) أو أن يغفر الإنسان لنفسه.

 

ونستنتج مما سبق ان العفو هو اسقاط عقوبة بدون إسقاط الذنب. المؤاخذة عن الذنب لا تسقط؛ كعفو الرئيس عن المجرمين في يوم العيد. هذا يعنى أن العقوبة المفروضة عليهم قد أسقطت إلا أن المؤاخذة بالذنب لم تسقط فلا يزال يكتب في هويته أنّه من أصحاب السوابق ولا يزال يعامل على هذا الأساس. أمَّا المسامحة فهو اسقاط الذنب وتكون العقوبة قد تمّت، فالمُسَامِح قد جادَ على المذنب بأن تركه المؤاخذة او العتاب.  مثال مسامحة الأب ابنه على القيادة بتهور. هذا يعني أن الأب لن يعود يذكر الأمر ولن يلومه على ما فعل، إلا إن ذلك لا يعنى أن الأب لم يعاقب ابنه على الفعل. وامّا الصفح فهو اسقاط العقوبة والذنب وبداية صفحة جديدة. فالصفح أعلى من العفو والمسامحة. أمَّا الغفران فهو اسقاط العقوبة والذنب وقلب سيئات الخاطئ الى حسنات.

 

2) مغفرة الله

 

إن مغفرة الله للإنسان تختلفُ عن مغفرة الإنسان لأخيهِ الإنسان، إن مصدر كل غفران هو الله، ومن الجدير بالإشارة هنا إلى التمييز بين الغفران والصفح، إن الصفح هو بشري، وأمَّا الغفران فهو إلهي حيث أن الله وحدهُ هو القادر أن يغفر الخطايا، والواقع أنه عندما يغفر لي إنسان  بسبب خطأ صدر مني، فهو يتوقف عن لومي على الخطأ ومعاتبتي واعتباري إنساناً شريراً، ويقدر أن يغضّ النظر عما صدر مني ويحاول نسيان الماضي ويوجِّه انظارهُ إلى المستقبل، ولكنه لا يقدر ان يعمل أكثر من ذلك، لا يقدر ان يُغيِّرني  ويغيِّر قلبي، ولا يقدر أن يعطيني الحرية  لكي لا اقع في الخطأ مرة ثانية، الله وحده القادر على ذلك، وهذا ما يعمله في مغفرةِ خطاياي.

 

ومغفرة الله للإنسان فعالة لدرجة ان الله لم يعدْ ينظرُ بعد إلى الخطيئة، كما وردَ في أشعيا: " لَو كانَت خَطاياكم كالقِرمِزِ تَبيَضُّ كالثلج ولو كانَت حَمْراءَ كالأُرجُوان تَصيرُ كالصُّوف" (أشعيا 1: 18)  وكما جاء أيضا في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين " لَن أَذكُرَ خَطاياهم وآثامَهم " (عبرانيين10: 17) ، والواقع أنَّ الكتب المقدسة تقدمُ لنا الإنسانَ الخاطئ  كشخص مدينٌ يعفيه الله من دينهِ بالصفح عنه، إلا أن الصفح ليس إعفاء من الدّين فحسب، بل هو تحريرٌ من سُلطةِ الخطيئة، وإعادة الإنسان إلى الاتحاد مع الله بواسطة ذبيحة المسيح " ذاكَ الَّذي لم يَعرِفِ الخَطيئَة جَعَله اللهُ خَطيئَةً مِن أَجْلِنا كَيما نَصيرَ فيه بِرَّ الله"( 2 قورنتس 5: 21) ، وهكذا يُصبحُ الإنسان " في المسيح " خاطئاً قد نالَ رحمة الله " فَلَيس بَعدَ الآنَ مِن حُكْمٍ على الَّذينَ هُم في يسوعَ المسيح " ( رومة 8: 1) فهم " خَلْقٌ جَديد. (2 قورنتس 5: 17). وحاول شكسبير ان يميّز بين غفران الله وغفران الانسان بقوله ان الله ينسى عندما يغفر" God forgets أمَّا الانسان فلا ينسى عندما يغفر" Man forgives".

 

3)  شروط المغفرة

 

يُعلمنا القديس يوحنا الرسول في رسالته الأولى أن الشرط الأول المطلوب كي يحصل الإنسان على مغفرةِ خطاياه هو الاعتراف بذنوبهِ وحالتهِ الخاطئة" وإِذا اعتَرَفْنا بِخَطايانا فإِنَّه أَمينٌ بارّ يَغفِرُ لَنا خَطايانا وُيطَهِّرُنا مِن كُلِّ إِثْم" (1يوحنا 1: 9)، ولم يتردَّد صاحب المزامير أن يُعربَ عن هذه الحقيقة بصورةٍ صادقةٍ حاسمةٍ بقولهِ "إرحَمْني يا أَللهُ بِحَسَبِ رَحمَتِكَ فإِنِّي عالِمٌ بِمَعاصِيَّ وخَطيئَتي أَمامي في كُلِّ حين" (مزمور 50: 3، 5). فلا تتغلّب خطيئة الإنسان، التي تستحِق العقابَ على رحمةِ الله، بل يُرَحَم من جديد (هوشع 2: 23). فرحمة الله تشفق على البائِس وتغفِر للخاطئ: "أَفَلا أُشفِقُ أًنا على نينَوى المَدينةِ العَظيمةِ الَّتي فيها أَكثَرُ مِنِ اثنتي عَشرَةَ رِبْوةً مِن أُناسٍ لا يَعرِفونَ يَمينَهم من شِمالِهم، ما عدا بَهائِمَ كَثيرة؟" (يونان 4: 11). الرحمة تغفر، وفي غفرانها تخلّق واقعاً جديداً يسمح للإنسان أن يُولَد من جديد.

 

والشرط الثاني المطلوب كي يحصل الإنسان على مغفرةِ خطاياه هو ان يصفح عن أخيه المذنب له. وهذه هي النقطة الّتي أبرزها السيّد المسيح، في مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ مَلِكٍ أَرادَ أَن يُحاسِبَ خَدَمَه، هي أنّه مهما كانت إساءات الناس إلينا، فهي ليست شيئاً بالمقارنة إلى خطايانا نحو الربّ. "أَفما كانَ يجِبُ عليكَ أَنتَ أَيضاً أَن تَرحَمَ صاحِبَكَ كما رحِمتُكَ أَنا؟" (متى 18: 33).  وقد قدّم يسوع الله مثلاً أعلى للرحمة والغفران " كونوا رُحَماءَ كما أَنَّ أَباكُم رَحيم"(لوقا 6: 36)، حتى أذا غفرنا لبعضهم البعض" نصير بني أَبينا الَّذي في السَّمَوات، لأَنَّه يُطلِعُ شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار"(متى 5:45). ولكن عندما نحجم المغفرة للآخرين بعد أن نلنا المغفرة، فهذا يُبيّن أنّنا لا نفهم ولا نُقدّر رحمة الربّ نحونا.

 

4) مغفرة الانسان لأخيه الانسان

 

إذا غفر الله للإنسان، فليس بوسع الإنسان إلا أن يغفر لأخيهِ الإنسان " فإِن تَغفِروا لِلنَّاسِ زلاتِهِم يَغْفِرْ لكُم أَبوكُمُ السَّماوِيّ وإِن لَم تَغفِروا لِلنَّاس لا يَغْفِرْ لكُم أَبوكُم زلاَّتِكُم" (متى 6: 14-15)، والواقع انه منذُ العهد القديم لم تقتصر الشريعة فقط على وضع حدٍ للانتقام بسنّة الثأر، العين بالعين والسن بالسن (خروج 21/23 -25) التي نجدها ايضاً مدوَّنة في شريعةِ حمورابي وفي الشرائع الأشورية، ولكنها تَنهى عن بغض الآخر لأخيه، كما أن تُحرّمُ الانتقام والحقد على القريب. إن الله منعَ الإنسان من أن يسعى وراء انتقام شخصي، فقال له: "لي الانتقام" (تثنية الاشتراع 32: 35)، "لا تَنْتَقِمْ ولا تَحقِدْ على أَبْناءِ شَعبِكَ، وأَحبِبْ قَريبَكَ حُبَّكَ لِنَفسِكَ: أَنا الرَّبّ" (أحبار 18:19)، ومن جُملةِ الأمثلة البارزة التي يقدمها الكتاب المقدس على صفح الإنسان عن اخيه الإنسان هو صفحُ عيسو عن أخيه يعقوب (تكوين 33)، وصفح يوسف عن إخـوته الذين باعـوه إلى مصر " أَرْجو ان تَغفِرَ שָׂא لإِخَوتِكَ ذَنبَهم وخَطيئَتَهم، فقَد فَعَلوا بِكَ سوءاً والآن أَسأَلُكَ أَن تصفَحَ שָׂא عن ذَنْبِ عَبيدِ الهِ أَبيك "(تكـوين50: 17).

 

وأمَّا في العهد الجـديد فهناك نداءٌ مُلح ٌعن الصفح الاخوي: " وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ " (لوقا 17: 4)، " لا تُقاوِموا الشِّرِّير، بَل مَن لَطَمَكَ على خَدِّكَ الأَيْمَن فاعرِضْ لهُ الآخَر." (متى 5: 39)، ولا يُقصد هنا عدم مُقاومة الشر عامة، الفعل المستعمل يعني المقاومة بمعنى " الرد على" ومقابلة الضربة بالضربة إما فوراً وشخصياً، وإما بهجومٍ معاكس في المحكمــة (رومة 12: 19-21)، وإذا نادى المسيح بعدم مقاومة الشر عن طريق العنف والضرر والانتقام للنفس، فهذا لا يعني الاستسلام أو اللامبالاة تجاه الشر، بل لا بد من المقاومة النفسية والأدبية كما عمل يسوع عندما لطمهُ واحدٌ من الحرس "أَجابَه يسوع: ((إِن كُنتُ أَسَأْتُ في الكَلام، فبَيِّنِ الإِساءَة. وإِن كُنتُ أَحسَنتُ في الكَلام، فلِماذا تَضرِبُني؟" (يوحنا 18: 23)، وإفساح المجال لعمل الله كما أوضحُ ذلك بولس الرسول " قالَ الرَّبُّ: لِيَ الاِنتِقامُ وأَنا الَّذي يُجازي " (رومة 12: 19)، وطلبَ يسوع من تلاميذهِ أن لا يغفروا سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات، وهذا يعني إلى ما لا حدَّ له (متى 18: 21)، بل هناك تهديدٌ إلى من لا يغفر لأخيه من صميم قلبه (متى 18: 35)، وعلق غاندي على أهمية الصفح قائلاً: " إن عشنا حسب نوعية عدالة " العين بالعين" فسوف يُصبحُ العالم كله عمياناً بسبب الظلم الذي يوقعه الإنسان بأخيهِ الإنسان".

 

وليس الغفران محاولة لنسيان إساءة الغير، فالنسيان هو نتيجة الغفران، وليس تطبيق العدل على الشخص الذي اساء، بل هو تطبيق العدل على نفسك، ويعلق البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني " إن الوصيَّة السّمحاء بالمغفرة لا تقضي على مستلزمات العدالة الحق؛ ذلك أن العدالة في مفهومها الصحيح، تشكّل غاية المغفرة. وما من موضع في الإنجيل يُقال فيه أن المغفرة – الّتي تنبع من الرحمة – تعني التّغاضي عن الشر. لأن التكفير عن الشر والشكوك والتعويض عن الإساءة والاهانة شرط للغفران"(الرّسالة العامّة: الغنيُّ بالمراحم (Dives in Misericordia)، العدد 14).

 

والغفران ليس تبسيطاً للأمور، لأن الغضب ما زال كامناً يتقد ويشتعل، ولا يعني ذلك التغاضي عن الخطأ، والنظر في الاتجاه الآخر، كما أنه ليس ضعفاً، كما قال برناردشو "إن الغفران للمُسيء هو حيلةُ العاجز الذي لا يستطيعُ أن يرد الإساءة بالإساءة ".  فالتعامل مع الإساءة يتطلب شجاعة وصلابة، أن من يُسامحُ ويعفو هو الأقوى والأكرم، كما قال قيس بن عاصم: " لا يظهرُ العفو إلا مع الاقتدار"، فالغفران ليس ضرباً من ضروبِ الدبلوماسية، أو ومضةٍ عابرةٍ من ادعاء التقوى، بل هو من الحب الذي يشفي الداء ويُزيل ألألم عندما يَخذلنا الناس، أنه الحب الذي يُذكرنا بأننا ضحيةٌ لذنبٍ اقترف في حقنا.  تحدثُ مُعجزةُ الغفران عندما نختار أن نستمر قُدماً في الحياة، لأننا نرفض أن تغذينا مشاعر الكراهية والانتقام، لأننا نختار الحب والقبول للمذنب من أجل التصالح والاتفاق.

 

أراد السيِّد المسيح أن يدخل بتلاميذه إلى حياة الغفران للآخرين، بعيدًا عن روح الانتقام والكراهيّة التي تحجبنا عن ملكوت السماوات. ويُعلّق القديس يوحنا الذهبي الفم على ذلك بقوله: "عندما تُفكِّر في الانتقام، انظر أنك تنتقم من نفسك لا من الآخرين، إذ تربط خطاياك لا خطايا أخيك. أي شيء أكثر خطورة من أن تكون منتقمًا، إن كان هذا ينزع عنك عطيّة الله العُظمى؟"  يقدّم لنا الذي يُخطئ إلينا ويظلمنا، فرصة لغسل خطايانا كما يُضيف القديس يوحنا الذهبي الفم: "إننا نعاقب أنفسنا بكراهيّتنا للآخرين، كما نستفيد بحبّنا لهم".

 

وخير مثال عل المغفرة لآخر هو في مثل البابا القديس يوحنا بولس الثاني، حينما نوى مواجهة محمد علي اقجا التركي الذي حاول اغتياله في الثالث عشر من أيار 1981. فقد أعلن البابا بعد خمسة أيام من رميه بالرّصاص، عن صَفْحِه الكامل لذلك الشخص، وبعد أن استرجع قواه قام البابا نفسه بزيارة السجن الذي كان مقيما فيه قاتله الإرهابي في روما، وقابله وجها لوجه وأعرب له عن صفحه الكامل لعمله التّاريخي المشين وغفر له ليس " إِلى سَبْعِ مَرَّات، بَلْ إِلى سَبْعِيْنَ مَرَّةً سَبْعَ مَرَّات".  

 

نستنتج مما سبق ان الغفران يكمن في ان يشعر المُساء إليه نحو المُسيء ويسلك معه كأنه لم يسئ إليه.  ويجب على المُسيء ان يسال المغفرة كما طلب المسيح "وإِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4) وحينئذ يُجيب على المُساء إليه بالمغفرة، ولكن إذا لم يطلب الغفران لا يجوز للمُساء اليه ان يحقد عليه او يقصد الانتقام منه بل يجب ان يشفق عليه ويسعى في خيره كما علَّمنا يسوع في مثل السامري الرحيم (لوقا 10: 30—37). الغفران بحد ذاته هو تحررٌ من الماضي، إنه يصنعُ بداية جديدة، حيث أنك تجدُ نفسك تمد يدك مُصافحاً المسيء إليك قائلاً: "لن اسمحَ لما فعلت أن يقف عثرة في الطريق، أو أن يفرق بيننا، لن اقيد نفسي بسلاسل الماضي، بل سأتحرر منها، حيث أن رباط الحب أقوى مما حدث"، فالغفران أمرٌ جميلٌ ولكنه ليس سهل المنال، حيث ينبغي على المرء أن يتجاوز عقباتٍ كثيرةٍ قبل أن يستطيع أن يغفر ويصفح.

 

5) كيف الوصول الى المغفرة الغير؟

 

هدف كلام يسوع في الغفران هو مساعدة الناس على أن يجعلوا الغفران مسؤوليّتهم الخاصة، أي مسألةً يتعيّن عليهم تعلّمها، وإيجاد الطرق المناسبة للغفران والمبادئ والمعايير في الغفران. فليست العبرة في جسامة الخطأ، بل في الصعوبة التي يعانيها الانسان في سبيل الصفح عن خطأ خصمه. فإنَّ طبيعَتنا مفطورة على حُبِّ الذات والرغبة في الانتقام. كتب المؤلف " جويس هاجيت " عن المغفرة: " عليَّ دائماً أن أغفر لشخص ما عندما أريدُ أنا ذلك، وأكتشفُ أن الغفران في المرتبة الأولى، لا يمت بأي صلة إلى المشاعر، بل له علاقة وثيقة بالإرادة، فالصفح هو قرار العقل في التخلّص من الغضب والكراهية والاستياء، ويأتي دور المشاعر فيما بعد، عندما أشعر بفرصة الغفران، أمَّا في بداية الأمر، فإن  المشاعر كلها تكون مُتأججةٌ كالنيران"، وهنا يلمح الكاتب إلى طريقين للغفران وهما طريق العقل وطريق القلب، إلا أنه لا بد من إضافة طريق أخرى هي الروح، وعليه فالغفران يتطلبُ طريقاً ثلاثياً.

 

ا) طريق العقل: "مرحلة المعانـاة"

 

تتخذ طريق العقل في الغفران عندما تفصلُ العقل عن الفاعل لتنظر إلى مُهاجمك بأسلوبٍ جديدٍ، كمريضٍ أو مُحتاجٍ، أي أن يتحول المُسيء في تفكيرك إلى إنسانٍ يُعاني ويحتاج إلى معونتك ومحبتك، وهذا ما يدعوه الكاتب لويس سميدس " مرحلة المعانـاة ".

 

إن فصل الفعل عن الفاعل يتطلبُ منك تفهّم الفاعل: لا تقل إن هذا الشخص لا يستحق أن أفهمهُ، فقبل أن تدينهُ حاول أن تفهمه، حيث لا بد من سببٍ وراء كل تصرّف، قد يكون بحاجةٍ إلى شفقتك، لا إلى نقمتك، وتقولُ الحكمةُ القديمة “تعرف كل شيء ثم تغفر". لذا حاول أن تكون مُتفهماً، فهذا ما يُقدرهُ الآخرون فيك، وليسَ التفهم قبولاً مشروطاً، ولكنه تقبل وقبول في أي ظرف، وفي أي موقف.  

 

ثم حاول أن تفهم الفعل، أي أن تقوم بفصل الحقائق الماضية، كالوعود والعلاقات لتأخذ وضعها كأفعالٍ ماضيةٍ أو كتاريخ؛ بعبارة أخرى دع الماضي يمضي، فلا يُمكن إعادة  كتابة الصفحة التي طواها الماضي، لكن يمكن استعادة شريط ذكرياته، فتكسر قوة الماضي، وبعدها تستطيع أن تبدأ كتابة فصل جديد، حيث أن معرفة الحق جيدة، ولكن العفو أفضل، وجاء في حكايات العرب أن " وقعت دماء بين حيين من قُريش، فأقبلَ أبو سفيان فما بقي أحد واضعاً رأسه إلا رفعه فقال: " يا معشر قريش: هل لكم في الحق أو ما هو أفضل من الحق" ؟ قالوا: "وهل شيءٌ أفضل من الحق؟ وقال: " نعم، العفو "، فبادر القوم فاصطلحوا ".

 

ب) طريق القلب: "مرحلة التغلب على المشاعر"

 

لطريق القلب في الغفران اتجاهان: اتجاه داخلي وخارجي. يكمن الاتجاه الداخلي في مواجهتك لكراهيتك، وعدم محاولتك إخفاء مشاعرك حتى عن نفسك، كي لا تحتدم تحت السطح وتلوث كل علاقتك، وحاول أن تتخلص من كل استجابة انفعالية لتلك الحقائق الماضية، حيث أن الغضب والإحباط والكراهية تؤدِّي إلى ظلام العقل، وهي استجابات ٌ سلبيةٌ يُمكننا وضعها تحت سيطرتنا، قال بعض الحُكماء: " ينبغي أن تستنبط لزلةِ أخيك سبعين عُذراً، فإن لم يقبله قلبك فقل لقلبك: " ما أقساك، يتعذرُ إليه أخوك سبعين عذراً ولا تقبل عُذرهُ فأنت المَلوم، لا هو ". وهذا ما فعله يسوع وهو على الصليب، فبالرغم من آلامه المرّة وعذاباته الّتي كادت أن تفقده القدرة على الصلاة لنفسه، استطاع بقوّة محبّته أن ينسى ذاته، ويغفر للمسيئين إليه مصلياً "يا أَبَتِ اغفِرْ لَهم، لِأَنَّهُم لا يَعلَمونَ ما يَفعَلون" (لوقا 23: 34). الغفران هو ليس علامة ضعف أمام العدو، وإنّما هي علامة المسيح، الّذي يُظهِر ما في قلبه من حبٍ ورحمة.

 

أمَّا الاتجاه الخارجي فيكمن في تقديرك للآخرين، قبل أن ترفض أن تُسامح الإنسان قف وتأمل: إن رفْضَ المغفرة هو تقليلٌ من إنسانيتك ورسالتك كإنسان في هذه الدنيا، ونحنُ نؤذي أنفسنا حينما نرفضُ أن نغفر لغيرنا، ,يعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " إن تركتَ النقمة والغضب يسيطران عليك، ستشعر بالإهانة لا بسبب الأذى الذي ألحقَه بكَ، بل من الحقد الذي تملّكَكَ” (إنجيل القديس متّى، العظة 61). وفي هذا الصدد قال أحد الأطباء: " إنَّ الناس يُصابونَ بالقرحةِ ليس مما يأكلون بل مما يأكلهم" وهي شبيه بالحكمة العربيّة القائلة "كالنّار تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأكله". ويعلق البابا فرنسيس بقوله" هناك العديد من الأشخاص الذين يعيشون منغلقين في الاستياء ويغذون الحقد لأنّهم غير قادرين على المغفرة، فيُدمرون حياتهم وحياة الآخرين بدلاً من أن يجدوا فرح السلام".  وأضاف أيضا في يوبيل الرحمة: "المغفرة هي الأداة التي وُضعت بين يدينا الضعيفتين لنبلغ إلى سكينة القلب".

 

ج) طريق الروح: "مرحلة إجراء جراحة روحية"

 

 طريق الروح هو الاتجاه الثالث لطريق الغفران، ويقول السيد المسيح " الرُّوحُ مُندَفع وأَمَّا الجَسدُ فضَعيف" (متى 26: 41). لذلك يجب أن نفهم التعارض بين " الروح والجسد"، لا بمعنى التعارض بين الإنسان في طبيعته البشرية وروح الله كما وردَ فـــــــي رسائل بولس ( رومة 1:3، 9) ، ولا بالمعنى اليوناني اي أن الإنسان منقسمٌ إلى جزئيين، جزء صالح وجزء شرير، إنما بالمفهوم الشرقي،  وهو  أن الله  قد جعل في الإنسان روحاً موجَّهة إلى الخير، لكن الإنسان هو، في الوقت نفسه، كله " جسد" ، لأنه خاضعٌ لسلطان الخطيئة ويتعرضُ لقوتين تتنازعان فيه، كما اختبره بولس الرسول " لأَنَّ الخَيرَ الَّذي أُريدُه لا أَفعَلُه، والشَّرَّ الَّذي لا أُريدُه إِيَّاه أَفعَل"  (رومة 7: 19). وفي هذا المعنى جاء تعليم المجمع الفاتيكاني الثاني" في قلب الإنسان تتصارع عناصر متعددة، فمن جهة يختبرُ كخليقةٍ أنه محدود جداً وأنه خاطئ وضعيف ويتمم غالباً ما لا يريد، وما يريد لا يتمِّمه، ومن جهةٍ أخرى يشعرُ أن رغباتهِ لا حدَّ لها وهو مدعو إلى حياةٍ ساميةٍ (دستور راعوي في الكنيسة في عالم اليوم، رقم 10).

 

 فإذا كنت لا تستطيع أن تغفر للآخرين وتتحملَ إساءتهم بسبب سلطان الخطيئة فيك، تكون بحاجة إلى قوة تساعدك، وهذه القوة لا يمنحها إلاّ الله، والواقع أن القدرة على الغفران لا تدخل في ملكات النفس الطبيعية، لذلك يحتاجُ المرء إلى قوةٍ من السماء حتى يقهر في داخلهِ روح النقمةِ والانتقام ويمتلئ بروح النعمة والغفران، حيث أن الله وحده القادر أن يغفر للمُخطئ إليه، لأن طبيعة الله تكمن في الحب والرحمة والغفران كما ورد في نص الوصايا العشر "وأَصنَعُ رَحمَةً إِلى أُلوفٍ مِن مُحِّبيَّ وحافِظي وَصاياي" (خروج 20: 5) وقيل ايضا "إِلهٌ غَفورٌ حَنونٌ رَحيم طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَة" (نحميا 9: 17)؛ أمَّا طبيعتنا فهي الغضب والانتقام  كما وصف موسى شعبه "شَعبٌ قاسي الرِّقاب" (خروج 34: 9). لذلك الله وحدهُ هو الذي يمنحنا القوة حتى نغفر، وننسى الإساءة أيضاً، وهذه المرحلة يسميها الكاتب لويس سميدس مرحلة " إجراء جراحة روحية" في الذاكرة.

 

ويمكنك بالصلاة أن تجد نعمة لكي تسامح كل فردٍ يُعكرُ صفو حياتك على نحو لا يُطاق. فاذهب أولاً إلى الله أبوك، واعترف له بضعفك الشخصي، وبمقدار المرارة التي سبَّبتها إساءة أخيك لك. واطلب معونته للتعامل مع الأمر بطريقة صحيحة، واثقًا في كلام الله "الرُّوحَ أَيضاً يَأتي لِنَجدَةِ ضُعْفِنا "(رومة 8: 26). واسترجع في ذهنك وقلبك: عظمة غفران الله لك، وما صنعه من أجلك على الصليب ليهبك غفرانًا كاملاً غير مشروط، وكيف يتعامل معك الآن حتى عندما تخطئ وترجع نادمًا على ما صدر منك. واجعل هذا أساسًا لتعاملك مع أخيك المُخطئ إليك كما جاء في توصية بولس الرسول:"اِحتَمِلوا بَعضُكم بَعضًا، واصفَحوا بَعضُكم عن بَعضٍ إِذا كانَت لأَحَدٍ شَكْوى مِنَ الآخَر. فكما صَفَحَ عَنكُمُ الرَّبّ، اِصفَحوا أَنتُم أَيضًا" (قولسي 3: 13).

 

كان معلمو اليهود يعلِّمون تلاميذهم ان يغفروا لمن يسيئون إليهم ثلاث مرات، وإذا أراد بطرس ان يبدي كرمه، سأل يسوع عما إذا كانت سبع مرات بكافية. لكن الرب يسوع أجابه: بل سبعين سبع مرات: وهذا معناه الا تحاول إحصاء مرات غفراننا لاحد، بل يجب علينا ان نغفر على الدوام لكل من يأتي تائبا حقيقة، مهما تعدَّدت مرات طلبه للمغفرة. ويطلب إلينا يسوع ان نستمر في الصفح، الى ابعد الحدود، رغم عناد خصمنا وتماديه في غيّه.

 

 ونستنتج مما سبق أن واجبنا ان نضع حداً لكل عداوة وكراهية وقساوة قلب، ولكل حقد وضغينة.  أنّ المغفرة لمن أساء إليّنا تحرّرنا من ثقل الإساءة التي أصابتنا منه. ولا تعرف المغفرة اليأس فهي تتميّز بانها بدون حدود كما قال يسوع لبطرس "لا أَقولُ لكَ: سَبعَ مرَّات، بل سَبعينَ مَرَّةً سَبعَ مَرَّات عليك ان تغفر لأخيك" (متى 18/21-22)، كما تتميز بالمبادرة الطيبة نحو الخصم كما يأمر الرب: "سارعْ إِلى إِرضاءِ خَصمِكَ ما دُمْتَ معَه في الطَّريق"(متى 5: 25). إنّ المغفرة للآخرين هي ركن اساسي في علاقتنا مع الربّ، وهي عتبة الصلاة واساس فحواها. هكذا يقول الرب يسوع " إِذا قُمتُم لِلصَّلاة، وكانَ لكم شَيءٌ على أَحَدٍ فاغفِروا لَه، لِكَي يَغِفرَ لَكم أَيضاً أَبوكُمُ الَّذي في السَّمواتِ زَلاَّتِكم " (مرقس11: 25). وهذا نردِّده دائما في الصلاة الربيّة إذ نقول "واغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا".  لو لم يكن الإنسان قادرا على الغفران، لما طلب منا يسوع أن نصلي صلاة الربية وان نقتدي به في كلِّ شيء حتى في الغفران.

 

لنصغي أخيراً الى دعوة البابا فرنسيس: إنّ الربّ لا يتعب أبدًا من الغفران: نحن من نتعب من أن نسأله الغفران. وهو يدعونا ان نغفر "سبعين مرّة سبع مرّات" (متى 18: 22)، ولكن "كم يبدو لنا صعبا أن نغفر أحيانا! ومع ذلك، فالمغفرة هي الأداة التي وضعت بين يدينا الضعيفتين لنبلغ الى راحة القلب. ان التخلي عن الحقد والغضب والعنف والانتقام هي الشروط الضرورية لنعيش سعداء". وقد أشار غبطة البطريرك ميشيل صباح الى أهمية المغفرة في كتابه الأخير "خواطر يومية من القدس: "كم نحن، خاصة العائلات المسيحية، نحتاج الى المغفرة، كم نحن بحاجة لأن يسامح أحدنا الآخر، وعلاوة على اهمية فعل المغفرة للآخر، فان للمغفرة مردود ايجابي ذاتي على منفذ المغفرة، فيقول غبطته في ذلك "المغفرة هي تنقية للنفس، وراحة لها، وقوة الطمأنينة والصفاء في النفس". المغفرة هي قوة تُقيمنا إلى حياة جديدة وتبعث الشجاعة اللازمة للتطلع نحو المستقبل برجاء.

 

الخلاصة

 

سبق السيد المسيح وقال للمُخطئ لا تقدم قربانك على المذبح قبل أن تصالح مع أخيك (متّى 23:5-24). أما في انجيل اليوم فالكلام موجّه لمن لحقه الأذى بان يغفر لمن اساء اليه، وبتصرفه هذا يربح نفساً للمسيح، وهو في هذا يتمثل بالمسيح، فنحن أخطأنا إليه لكنه جاء وتجسَّد ليصالحنا. قدَّم لنا يسوع مثل الخادم القليل الشفقة مبينِّا لنا في مثل الفرق كبير من الله الذي يغفر لنا ونحن عندما نغفر لمن اساء إلينا.

 

إنّها قصّة ملك امتلأ قلبه شفقةً على أحد خدّامه المدين له بعشرة آلاف درهم من الفضّة، وبدلاً من أن يُباع الخادم وزوجته وأولاده وجميع ما يملك حتّى يوفي دينه، أشفق عليه حين توسَّل إليه الخادم أن يمهله، بل أكثر من ذلك أطلقه حرًّا وأعفاه من دينه. كان الفقر والموت هما مصير الخادم، ولكنّ سيّده أعاده إلى الحياة ومنحه الحريّة والكرامة.

 

التفاوت الكبير بين الدّين الأول الذي بلغ مقداره 10 ملايين دينار، والدّين الثاني ومقدراه 100 دينار لشاسع جداً، فدين هذا الخادم قليل جدا إذا قيس بالدّين الذي اعفاه منه سيده.  فمغزى المثل هو الفرق العظيم بين غفران الله للإنسان على كثرة خطاياه وقساوة الانسان على أخيه على صغر حجم الإساء.  

 

يدعونا يسوع ان نغفر لمن اساء إلينا بمحبّة فاعلة، لا تدين الآخرين بل تعذرهم، محبّة تنسى الإهانات، وبمحبّة شاملة، لا تستثني أيّ إنسان، لا الغريب ولا سيّئ الأخلاق، وبمحبّة متجرّدة، وبمحبّة صارده عن محبّة الربّ ذاتها لسان حالها "من أجل محبّتك، أنا أحبّ أيضاً كلّ من أخطأ إليّ".  دعونا نطلب اليوم نعمة عيش وصيّة المحبّة الإنجيليّة المُتمثلة في غفران الأخوي بشجاعة ومسئوليّة، فالله يغفر خطايانا العظيمة. وإذا فهمنا كم يحبّنا الله ويغفر لنا بدون حساب ولا ملل ولا كلل، صرنا إخوة بعضنا لبعض، والدليل على ذلك أن يغفر بعضنا لبعض من صميم القلب، لا سبع مرّات بل سبعين مرّة سبع مرّات.

 

إذا ما أخطأ أحد بحقنا، هل نسامحه؟ هل نعذره ونغفر له خطأه؟ ليسأل كل منا نفسه هذه الأسئلة بصدق واستقامة وعندها يعرف مصدر الشرور. وهناك من يعزُّ عليه أن يسامح صديقه أو أخاه، ويرى في ذلك تنازلا وهدرا لكرامته الشخصية، ليعلم ان المسامحة تتطلب تضحية وتعاليا وسموا ليس بمقدور أي شخص ان يقوم بها بدون نعمة الله.  ما أسهل الاستغفار علينا وأعسر المغفرة! باستخدام العقل والقلب وخاصة الروح والصلاة تصبح المغفرة ممكنة كما ورد في الكتاب "أَمَّا النَّاسُ فهذا شَيءٌ يُعجِزُهم، وأَمَّا اللهُ فإِنَّه على كُلِّ شيءٍ قَدير" (متى 19: 26).

 

دعاء

 

أيها ألاب السماوي، يا من تُشرق على الجميع بضياء وجهك وحُبِّك، نشكرك لأنك احببتنا وغفرت لنا زلاتِنا وخطايانا؛ فامنحنا روحك القدوس لكي نصلي بكلمات يسوع "اغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطئ إلينا" (لوقا 11:4)، فنغفر للمسيئين إلينا حتى يفهموا معنى غفرانك ومعنى الحياة الجديدة منك وفيك، فنكون أداة لسلامك، فنضع الحبّ حيث البغض، المغفرة حيث الإساءة، الإيمان حيث الشكّ، والرجاء حيث اليأس، والنور حيث الظلمة، والفرح حيث الكآبة، "ْفيَسُدْ قُلوبَنا سَلامُ المسيح، ذاكَ السَّلامُ الَّذي إِلَيه دُعينا لِنَصير جَسَدًا واحِدًا (قولسي 3: 15). آمين.

 

 

قصة: رفض العفو

 قتل شاب امريكي صاحبه فأدين بالإعدام.

في أحد الأيام، دخل السجن رجل، فصاح به السجين "أخرج من هنا، لا أريد ان أراك ولا أسمعك".

قال الزائر "أيها الشاب، اصغ لي، أريد ان أقدّم لك خبرًا سارًّا ". لكن السجين هدّده.

بعد دقائق دخل الحارس وأخبر السجين أن الزائر الذي طرده هو حاكم المقاطعة بنفسه وقد أتى ليسلّمه رسالة عفو.

"كيف!"، صاح السجين بمرارة، وقال "أسرع أحضر لي ورقة لأكتب للحاكم".

كتب السجين اعتذارات مترجّيًا من الحاكم ان يعود ومعه الرسالة. وعندما استلم الحاكم الرسالة ألقاها جانبًا بعد ان كتب عليها: "هذا لا يعنيني". مات السجين وهو يقول: " أموت بسبب رفضي العفو الذي قُدّم لي."!