موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٥ أغسطس / آب ٢٠٢٠

مريم تابوت العهد الجديد

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
ي عيد الإنتقال المجيد هذا ننظر إلى مريم التي تفتح قلوبنا على الرجاء

ي عيد الإنتقال المجيد هذا ننظر إلى مريم التي تفتح قلوبنا على الرجاء

 

عيد انتقال العذراء مريـم لمجد السماوات بالنفس والجسد، أي انتقالها بكامل كيانها البشري، وبكامل شخصها، من أكثر الأعياد المكرّسة بالإيمان والثقة  للعذراء مريـم الكُليّة القداسة والكاملةُ الطهارة، وبهذا الإحتفال نحظى بنعمة نجدّد خلالها حُبّنا لمريم، لنعظِمها ونُكرِّمها لأجل "العظائم" التي صنعها الكلي القدرة لها وفيها وبواسطتها، ننال نعمة أخرى: نعمة أن ننظر بالعمق في حياتنا..

 

في تأملنا بالعذراء مريم المنتقلة إلى السماء بالنفس والجسد لأن وجودنا اليومي، مع مشاكله وآماله، أفراحه وأتراحه ينال نوراً من أم الله، ومن مسيرتها الروحية، من مصيرها المجيد: مسيرة وغاية يمكن، لا بل يجب أن يُصبِحا، بشكل أو بآخر، مسيرتنا وغايتنا.

 

في الكتاب المُقدّس نقرأ هذه الكلمات: "انفَتَحَ هيكلُ اللهِ في السماء فبدَت قُبَّةُ العهدِ في الهيكل" (رؤيا ١١).

 

ما هو معنى تابوت العهد؟

 

بالنسبة للعهد القديم، يمثل تابوت العهد رمز حضور الله في وسط شعبه. ولكن الآن ترك الرمز المكان للواقع. وهكذا يقول لنا العهد الجديد أن التابوت الحق هو شخص حي وملموس: هو العذراء مريم. الله لا يسكن في توابيت، الله يسكن في أشخاص، الله يسكن في القلب: مريم، المرأة التي حملت في أحشائها ابن الله الأزلي الذي صار بَشَراً "والكلِمةُ صارَ بشراً، فَسَكَنَ بَيْنَنا فرأينا مجدَهُ، مَجداً من لَدُنِ الآبِ لإبنٍ وَحيد ملؤهُ النِّعمَةُ والحق" (يوحنا ١: ١٤). في تابوت العهد، كما نعلم، كانت تُحفظ لوحتا شريعة موسى، التي تُبيّن إرادة الله للحفاظ على العهد مع شعبه، موضحاً الشروط للبقاء على عهد الله، لمطابقة الإرادة الإلهية وبالتالي مطابقة حقيقتنا العميقة.

 

مريم هي تابوت العهد، لأنها قَبِلَتْ يسوع، قَبِلَت في ذاتِها الكلمة الحيّة، قبِلَت كُلّ محتوى إرادة الله، حقيقة الله. قَبِلَتْ في أحشائها ذاك الذي هو العهد الجديد والأبدي، العهد الذي بلغ ملأه في تقدمة جسده ودمه: الجسد والدم الذين نالهما من مريم. بإيمانٍ  تتوجه التقوى المسيحية، في صلواتنِنا بإيمانٍ نُكرّم العذراء، وندعوها "تابوت العهد"، تابوت حضور الله، تابوت عهد الحُبّ الذي أراد أن يجمعنا بشكلٍ نهائي ومع كُلّ البشرية في المسيح يسوع.

 

إن عظمة مريم، أم الله، الممتلئة نعمةً، والخاضعة بالكامل لِعَمل الروح القدس، تعيش في سماء الله بكامل كيانها، نَفْساً وجسداً. يُشير القديس يوحنا الدمشقي إلى هذا السر بعظةٍ شهيرة فيقول: "اليوم حُملت العذراء إلى الهيكل السماوي. اليوم، التابوت المقدَّس الحي الحامل الإله الحي، التابوت الذي حمل في أحشائِهِ صانعه، اليوم يرتاح في هيكل الرب الذي لم تَبنِه أيدٍ بشرية" (عظة في رقاد السيدة)، ويتابع القديس يوحنا الدمشقي ويقول: "كان لبُدَّ لتلك التي استقبَلَتْ في أحشائِها اللوغوس الإلهي، أن يتم إنتِقَالِها إلى أخدارِ إبنِها. كان لا بُدَّ للعروسة التي اختارها الآب، أن تقيم في أخدار السماوات" (عظة في رقاد العذراء).

 

تغني الكنيسة اليوم الحب العظيم الذي يكّنه الله لخليقته هذه: لقد اختارها كتابوت عهد حق، كتلك التي تستمر في ولادة المسيح المخلص وإعطائه للبشرية، كتلك التي تقاسم في السماوات ملء المجد وتتمتع بحضور الله بالذات،  وفي الوقت عينه، تدعونا لكي نصبح، في صغرنا، توابيت عهد تحضر فيها كلمة الله، وتتحول وتعيش من حضوره، حضور الله الحي، لكي يستطيع البشر أن يلاقوا في الشخص الآخر قرب الرب ويعيشوا الشركة مع الله ويعرفوا واقع السماوات.

 

إن إنجيل القديس لوقا (الفصل ١: ٣٩-٥٦)، يُبيّن لنا هذا التابوت الحي: يبين لنا مريم وهي تترك بيتها في الناصرة وتسير نحو الجبال بسرعة إلى مدينة في يهوذا، إلى بيت زكريا وأليصابات. أنه من الأهمية بمكان أن نلفت الانتباه لصفة وذهبت "بسرعة": فأمور الله تستحق السرعة، لا بل هي الأمور الوحيدة في العالم التي تستحق السرعة، لأنها الأمر الوحيد الطارئ حَقَاً في حياتنا. وهكذا تدخل مريم في بيت زكريا وأليصابات، ولكنها ليست لوحدها. فهي تدخل حاملة الإبن الذي هو الله بالذات الذي صار بَشَراً. بالطبع كان هناك إنتظار لمساعدتها في ذلك البيت، ولكن الإنجيلي يقودنا لكي نفهم أن هذا الإنتظار كان يُشير إلى إنتظار آخر وأعمق. زكريا، أليصابات والصغير يوحنا المعمدان كانوا رمزاً لأبرار العهد القديم، الذين كان قلبهم المتقد رجاءً ينتظر مجيء المسيح المخلص. يفتح الروح القدس عينا أليصابات ويجعلها تتعرّف في مريم على تابوت العهد الحق، على أم الله التي تأتي لزيارتها. وهكذا تستقبل السيدة العجوز نسيبتها بصوت عظيم فتقول: "مباركة أنت بين النساء! ومباركةٌ ثمرَةُ بطنِك! مِن أين لي أن تأتيني أُمُّ ربِّي؟" (لوقا ١: ٤٢-٤٣). والروح القدس عينه يفتح قلب يوحنا المعمدان في حشا أليصابات أمام تلك التي تحمل الله الذي أصبح بَشَراً. وتهتف أليصابات: "ما إن وقَعَ صوتُ سلامِكِ في أُذُنَيَّ حتى ارتكَضَ الجنينُ ابتِهجاً في بطني" (لوقا ١: ٤٣-٤٤) رقص يوحنا فرِحاً أمام يسوع وهو في بطنِ أُمّهِ، كَذَلِكَ  رقص الملك داود أمام تابوت عهد الرب الذي عاد أخيراً إلى الوطن الأم (صموئيل الثاني ٦: ١٦). يرقص يوحنا المعمدان في حشا أمه أمام تابوت العهد مثل داود، ويعترف بهذا الشكل أن مريم هي تابوت العهد الجديد، وأمامها يرقص القلب ابتهاجاً، وهي أم الله الحاضر في العالم الذي لا يحتفظ بألوهيته لذاته، بل يقدمها مشاركاً إيانا بنعمة الرب. وهكذا مريم هي: "تابوت العهد" الذي من خلاله يحضر الرب حقًا في وسطنا.

 

نحن نتأمل بحياة مريـم، نتحدث عنها، ولكن بشكل ما نحن نتحدث أيضاً عن ذواتنا، عن كُلّ منَّا: فنحن أيضًا محط محبة الله العظيمة التي خص الله بها مريم بشكل خاص جدًا ولا يتكرر في التاريخ.

 

في عيد الإنتقال المجيد هذا ننظر إلى مريم التي تفتح قلوبنا على الرجاء، رجاء مستقبل مليء بالفرح، وتعلّمنا الطريق للوصول إليه: من خلال قبول إبنها بالإيمان. لا نخسر أبدًا الصداقة معه، بل لنسمح له أن ينيرنا وأن يهدينا بكلمته،  لكي نتبعه كل يوم، حتى في الأوقات الصعبة، التي نظن فيها أن صلباننا قد أصبحت ثقيلة.

 

مريم، تابوت العهد القائم في هيكل السماوات، تبيّن لنا بوضوح نَيّر أننا في طريقنا نحو بيتنا الحق، لنعيش شركة الفرح والسلام مع الله.