موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١١ يوليو / تموز ٢٠٢٠

مثل الزارع وكلمة الله

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد الخامس عشر من السنة (متى 13: 1-23)

الاحد الخامس عشر من السنة (متى 13: 1-23)

 

الاحد الخامس عشر من السنة (متى 13: 1-23)

 

يُسلط إنجيل الاحد الأضواء على تعليم يسوع في ختام خدمته العلنية في الجليل عن ملكوت الله من خلال الامثال بعد ان علَّم بالمواعظ. وجمع متى الإنجيلي سبع منها مبتدئا مع مثل الزارع (متى 13: 1-23)، وهو آخر مجهود يقوم به يسوع ليحمل التلاميذ والجموع السامعين على الاختيار تجاه كلمة الله. فالمثل يجعل السامعين يفكّرون، كما يفرض عليهم ان يتخذوا موقفا، لان كلمة الله سيف ذي حدين (العبرانيين 4: 12) إمّا للولادة الجديدة " (1 بطرس 1:23)، وإمَّا للدينونة والهلاك (يوحنا 12: 48)؛ لذلك من الضروريّ "أن تصبح كلمة الله أكثر فأكثر قلب كلّ نشاطٍ كنسيّ" (البابا بندكتس السادس عشر). ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص الانجيلي وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 13: 1-23)

 

1 في ذلكَ اليوم خَرَجَ يسوعُ مِنَ البَيت، وجلَسَ بِجانِبِ البَحر.

 

تشير عبارة "في ذلكَ اليوم" إلى انتقال جديد في أسلوب خدمة يسوع التعليمية باستخدام الامثال. أمَّا عبارة "خَرَجَ" فتشير إلى خارج بيته حيث خرج يسوع من عند الآب (بيته السماوي) (يوحنا 13: 3) ليأتي للعالم (البحر) وليعلم شعبه في السفينة (الكنيسة). ويعلق العلامة أوريجانوس "عندما يكون يسوع مع الجموع يكون خارج بيته، لأن الجموع خارج البيت. إذ يترك البيت ويذهب بعيدًا إلى أولئك الذين يعجزون عن الحضور إليه". هذا العمل ينبع عن حبّه للبشر. أمَّا عبارة "البَيت" فتشير الى الدار الذي هو موضع تجتمع فيه الجماعة، والبيت في انجيل متى يدل على "الكنيسة المقدّسة كجماعة المؤمنين"؛ أمَّا عبارة "بِجانِبِ البَحر" فتشير الى المكان الذي يلتقي يسوع الجمع ويُعلِّمهم (مرقس 4: 1)؛ أمَّا عبارة "البحر" فتشير الى بحر طبرية وهو رمز العالم المملوء اضطرابًا وصعوبات، بما فيها من مقاومة لكلمة الله.

 

2 فازْدَحَمَت عليهِ جُموعٌ كَثيرة، حتَّى إِنَّه رَكِبَ سَفينةً وجَلَسَ، والجَمْعُ كُلُّه قائمٌ على الشَّاطِئ.

 

تشير عبارة "جُموعٌ كَثيرة" الى كثرة عدد الناس وتعدّدهم. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ان القصد من اجتماع الناس حوله ان يسمعوا تعليمه، ويشفي مرضاهم، ويُشبع جوعهم ويروا جماله. أمَّا "سَفينةً" فتشير الى قاربٍ من قوارب الصيد استخدمه يسوع كمنبر يخاطب منه الجموع المحتشدة على الشاطئ المقابل (مرقس 3: 9)؛ والسفينة ترمز الى الجماعة الجالسة حول يسوع؛ أمَّا عبارة "جَلَسَ" فتشير الى عمل المعلم وكان الجلوس عادة المعلم عند التعليم ويسوع كمعلم يسير على نفس الخط (مرقس 5: 1).

 

3 فكلَّمَهُم بالأَمثالِ على أُمورٍ كثيرةٍ قال: هُوَذا الزَّارِعُ قد خرَجَ لِيَزرَع.

 

تشير عبارة "فكلَّمَهُم" الى مخاطبة جميع الناس دون أي تمييز. اما عبارة "الأَمثالِ" فتشير الى خبر يؤخذ من الطبيعة او من حياة الانسان من أجل العبرة التي يحملها او تقديم فكرة معيّنة. وكلمة "مثل" في الأصل اليوناني παραβολή (معناها وضع شيئين جنبا الى جنب بقصد المقارنة) حيث ان المثل هو مجرد تشبيه أو قصة من الواقع اليومي لتوضيح حقيقة روحية. ويختلف المثل عن الحكمةπαροιμία  )معناها مثل حكمي) الذي هو عبارة وجيزة تتضمن معاني كثيرا كأمثال سليمان الحكيم على سبيل المثال "مَخافَةُ الرَّبِّ رَأسُ العِلْم والحِكمَةُ والتَّأديبُ يَستَهينُ بِهِما الأَغْبِياء" (أمثال 1: 7). والكلام بأمثال هو أسلوب يدعو السامع للتفكير والاستنتاج لإثبات المعلومة على وجه التحديد؛ ونجد ثلاثين مثلا في الاناجيل متى، مرقس ولوقا، وجمع هنا متى الإنجيلي سبعة أمثال: مثل الزارع (13: 1-23)، ومثل الزؤان (13: 24-30) ومثل حبة الخردل (13: 31- 32) ومثل الخميرة (13: 33-35) والكنز واللؤلؤة (13: 44- 46) ومثل الشبكة (13: 47-50) ومثل الجديد والقديم (13: 51-52)، وتدل هذه الامثال على تعليم يسوع المُميَّز، وهي تُوضِّح الفرق بين التعليم الموجّه الى الجمع والتفسير المقصور على التلاميذ (متى 13: 10-16)، ويُشدِّد  متى الإنجيلي في الامثال على وجهها اللّغزي (متى 13: 9)، حيث لا يُكشف سرَّها لجميع السامعين (متى 13: 11). ولم يكتفِ متى الإنجيلي ان يستخرج تعليماً وعبرة من الحياة اليومية، بل ربطها بحياة يسوع وبحياة الكنيسة. امَّا عبارة "على أُمورٍ كثيرةٍ" فتشير الى ما أورد يسوع من أمثال كأسلوب جديد في تعليمه. أمَّا "الزَّارِعُ" فتشير الى رجل يُلقى البَذْرَ او الحَب في الأرض لينبت، ويدل الزارع هنا على يسوع نفسه، كما يُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "يدعو يسوع تعاليمه هنا بذارًا، ونفوس البشر حقلًا مفلحًا، ويدعو نفسه الزارع". أمَّا عبارة "خرَجَ" في الأصل اليوناني  ἐξῆλθενفتشير الى الزَّارِعُ قد خرَجَ لِيَزرَع الى يسوع الذي خرج مثل الزارع ἐξελθὼν من البيت ليلقي كلمة الله (متى 13: 1). ومن هنا نفهم ان الزارع هو يسوع نفسه. أمَّا عبارة "لِيَزرَع" فتشير الى الفلاح الذي ينثر في أرضه الحَبَّ، وهو يمشي في الحقل، وذلك من كيس كبير على كتفيه.  وهكذا ينتشر ملكوت الله على الطريق ببذر الكلمة. وهذا المبدأ الأساسي في العمل التبشيري كله. فعمل المُبشّر لا يقوم فقط عن طريق المنطق او الفصاحة لحمل الناس على التفكير بطريقة ما، بل يقوم أيضا بزرع بذار كلمة الله الحيَّة في تربة القلوب البشرية كما جاء في تعليم بطرس الرسول "إِنَّكم ولِدتُم وِلادةً ثانِيَة، لا مِن زَرْعٍ فاسِد، بل مِن زَرْعٍ غَيرِ فاسِد، مِن كَلِمَةِ اللهِ الحَيَّةِ الباقِيَة" (1 بطرس 1: 23).

 

4 وبَينما هو يَزرَع، وقَعَ بَعضُ الحَبِّ على جانِبِ الطَّريق، فجاءَتِ الطُّيورُ فأَكَلَتْه.

 

تشير عبارة " الحَبِّ " الى كلمة الله التي خرج يسوع من عند ابيه لإعلان كلمة الله حول الملكوت.   فالمسيح أيضاً هو البذرة فهو كلمة الله والحَب او البذار الذي يُلقى في الأرض، والسيد المسيح يُشبّه نفسه بحَبة الحنطة التي تقع في الأرض (يوحنا 12: 24)، لكن الأرض التي يقع فيها الحَب هي ليست كلها طيّبة.  أمَّا عبارة "جانِبِ الطَّريق" فتشير الى الممر المؤدي الى الحقل حيث يبقى الحَب مكشوفا لا يُغطَّى بالتراب، وتدل الطريق على القساوة وعدم المبالاة التي عطَّلت قبول كلمة الحياة، ويُعلق القديس كيرلس الكبير "الطريق دائمًا صلب، تَطَأه أقدام كل العابرين على الدوام، لهذا لا تبذر فيه بذار"؛ وهذا هو واضح في نص إنجيل لوقا وهو ان "بَعضُ الحَبِّ الذي وقع على جانِبِ الطَّريق، داسَتهُ الأَقدام" (لوقا 8 5). أمَّا عبارة "الطُّيورُ" فتشير الى الشيطان، وهي قوة شخصية شريرة (مرقس 4: 15)، حيث ان الشيطان يخطف ما قد زرع في القلب وينتزع كلمة الله من صدور الناس لئلا يتنامى ملكوت الله في قلوبهم؛ وهذا هو السبب الأول لفشل خصب الحَبِّ أي نمو كلمة الله.

 

5 ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على أَرضٍ حَجِرةٍ لم يكُنْ له فيها تُرابٌ كثير، فنَبَتَ مِن وقتِه لأَنَّ تُرابَه لَم يَكُن عَميقاً.

 

لا تشير عبارة "أَرضٍ حَجِرةٍ" في الأصل اليوناني πετρώδη (معناها أماكن صخرية) الى أرض مملوءة بالحجارة بل تدل على الأرض المكوّنة من طبقة رقيقة من التربة تكمن تحتها طبقات صخريّة غير صالحة لنبات أو أيّ زراعة، وهذا النوع من التربة شائع في الجليل. وهذه الأرض هي سبب الفشل في خصب الحَب. وعلى هذه الأرض الحجرة ينمو الزرع بسرعة فيها، ويجفَّ بسرعة أيضا، لان فيها حجارة كثيرة وتراب قليل. وهذا المشهد أقرب الى الواقع الفلسطيني من الصخر كما ورد في انجيل لوقا (لوقا 8: 6). أمَّا عبارة "فنَبَتَ مِن وقتِه" فتشير الى سرعة تأثير الحرارة في الحَّب وذلك لرقة تربة الارض. أمَّا عبارة "تُرابَه لَم يَكُن عَميقاً" فتشير الى الرطوبة (لوقا 8: 6) أي الافتقار الى العمق الروحي.

 

6 فلمَّا أَشرقَتِ الشَّمسُ احتَرَق، ولَم يكُن له أَصلٌ فيَبِس.

 

تشير عبارة "احتَرَق " الى حرارة الشمس التي ذهبت برطوبته، ولم يبق في تربته الرقيقة رطوبة يستعيض بها عما ذهبت الشمس به لان رقة التربة منعت الزرع من تعمق اصوله.  وهذا هو السبب الثاني لفشل خصب الحَبِّ أي كلمة الله إذ يندفع البعض لكلمة الله ولكنهم يتوقّفون بسرعة عند كل عاطفة وخوف وحياء.  ويُعلق أحد قال أحد الوعاظ " إنّ ربح نفس للمسيح يحتاج إلى 5% من العمل، أمَّا حفظها في علاقة معه فيحتاج إلى 95%".  

 

7 ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على الشَّوك فارتفعَ الشَّوكُ فخَنقَه.

 

 أمَّا عبارة "الشَّوك" فتشير الى الشوك الذي ينبت عادة في الحقول، وهو اقوى من الزرع فيسلبه الرطوبة والحرارة. وهو يدلُّ على الانشغال بهموم الدنيا وغناها: المنصب، الشهرة، السعي إلى كسب رضى الناس واستحسانهم. فهموم الدنيا تحجب عن ابصار الناس كلمة الله، ومشاغل الحياة تخنق فيهم كلمة الملكوت، ويُعلّق القديس كيرلس الكبير على الشوك بكونه هموم الحياة وغناها وملذّاتها، ويوضّح القديس اكليمندس الاسكندري "بأنه لا يجب أن نلوم المال، بل سوء استعماله" وأمَّا انجيل مرقس فيضيف "وسائر الشهوات" (مرقس 4: 19) مثل شهوة العظمة والقوة والسلطان والانتقام والمتعة. هذا هو سبب الفشل الرابع في خصب الحَب وبالتالي نمو كلمة الله. امَّا عبارة "فخَنقَه" فتشير الى فعل خص بالحيوان، لكنه نُسب هنا الى النبات على سبيل الاستعارة، لأنه يقطع الحياة.

 

8 ووَقَعَ بَعضُه الآخَرُ على الأَرضِ الطَّيِّبة فأَثمَرَ، بَعضُه مِائة، وبعضُه سِتِّين، وبعضُه ثَلاثين.

 

تشير عبارة "الأَرضِ الطَّيِّبة" الى الأرض المُعَدة لقبول الزرع وبخلاف الأرض التي يبست من وطء أقدام المارين وخلاف الأرض الحَجِرة والكثيرة الاشواك.  وهذه الأرض تدل على سماع كلمة الله وفهمها وتقبلها بالإيمان وحفظها في القلب فتعمل عملها في قلوب البشر وتنمو ملكوتا مباركاً. أمَّا عبارة "بَعضُه مِائة، وبعضُه سِتِّين، وبعضُه ثَلاثين" فتشير الى درجات الثمر وخصب الحَبّ حين يقع في الأرض الطيبة. ومن هذا المنطلق ان كلمة الله إذا ما أتيحت لها الفرصة في ظروف مواتية بالطريقة عينها التي بها " فَالأَرضُ مِن نَفسِها تُخرِجُ العُشبَ أَوَّلاً، ثُمَّ السُّنُبل، ثُمَّ القَمحَ الَّذي يَملأُ السُّنبُل" (مرقس 4: 28)؛ وقيل ان هناك سنابل تثمر 30 حبة واخرى تثمر 60 حبة وثالثة تثمر 100حبة، وهذه تُعبِّر عن تفاوت الناس في عبادة الله وممارسة الفضيلة والرحمة، وظهور ثمار الروح فيهم. ويظهر هذا الخصب في الارتفاع التدريجي للأرقام.  في حين لا يذكر لوقا الا الذي أثمر أعظم قدر وهو مائة ضعف (لوقا 8: 8) كما اصاب إسحاق في ارضه "زَرَعَ إِسحقُ في تِلكَ الأَرضِ فأَصابَ في تِلكَ السَّنَةِ مِئَةَ ضِعْف"(التكوين 26: 12). فعلى الانسان ان يكون الأرض الطيبة كما يُعلق القديس كيرلس الكبير "تُهَنِّئُكُم جَميعُ الأُمَم، لِأَنَّكم تَكونونَ أَرضاً شَهِيَّة، قالَ رَبّ القُوَّات" (ملاخي 3: 12). فإنه عندما تسقط الكلمة الإلهيّة على نفس طاهرة، تخرج جذورًا عميقة، وتأتي بسنابل حنطة تحمل ثمرًا متزايدًا".

 

9 فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ!

 

تشير عبارة "فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ!" الى ذوي الحاجة الشديدة الى الاصغاء التام لإدراك معناه. وقد تكرَّرت هذه العبارة مرارا في اسفار العهد الجديد (مرقس 9: 16، ولوقا 14: 35، ورؤيا 2: 7)؛ فعدم معرفة الناس طريق الخلاص ليس لعدم توفر آذان للسمع بل لعدم إرادتهم للأصغاء بآذانهم وقلوبهم.  أما عبارة "أُذُنان" فتشير الى الانتباه لإدراك فحوى تعليم مجازي كما جاء في تعليم موسى النبي لشعبه "ولم يُعطِكمُ الرَّبُّ إِلى هذا اليَومِ قُلوبًا لِتَعرِفوا وعُيونًا لِتُبصِروا وآذانًا لِتَسمعوا" (تثنية الاشتراع 29: 3). أمَّا عبارة "فَلْيَسمَعْ!" فتشير الى ضروري الانتباه المطلوب من المرء كي يفهم معنى التعليم الذي يُقدّم له. ويتوجّه المثل الى كل من يسمع ويستعد ليأخذ الموقف المطلوب. نحن نسمع بآذاننا، ولكن هناك نوعا أعمق من الاصغاء، وذلك عن طريق الذهن والقلب. فمن شأن المثل ان يحمل السامعين على التفكير فيتحقق مفعوله فيهم.  فمن يفتح قلبه على الكلمة يسمع ويفهم ويلتزم، ويدخل في هذا السر ويحمل ثمراً. أمَّا الذي ينغلق في أنانيته وكبريائه، فهو يسمع ولا يفهم، ينظر ولا يبُصر.  ويُعلق القديس ايرونيموس بقوله " يقول أشعيا" يُنَبِّهُ أُذُني صَباحًا فصَباحًا لِأَسمعَ كتِلْميذ" (أشعيا 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه". لذلك فالسيد المسيح يقول "فتَنَبَّهوا كَيفَ تَسمَعون" لوقا 8: 18) أي كونوا ممن يريد أن يسمع ويفهم وينفذ ما تعلمه. وليس المهم السمع فقط بل أن نسمع ونعمل، فيُنتج ثمر الأعمال الصالحة (يعقوب1: 21-25). هل نسمع باهتمام وتأمل لنفهم وننفذ ما سمعناه وفهمناه؟

 

10 فدَنا تَلاميذُه وقالوا له: لِماذا تُكلِّمُهم بالأَمثال؟

 

تشير عبارة "تَلاميذُه" إلى جميع الذين سمعوا يسوع وتقبلوا كلامه وبقوا بعدما انصرف الجمع وليس فقط الاثني عشر رسولا كما وضَّح انجيل مرقس "سأَلَه الَّذينَ حَولَه معَ الاثْنَي عَشَرَ عنِ الأَمثال" (مرقس 4: 10). امَّا عبارة "تُكلِّمُهم" في الأصل اليوناني λαλεῖς αὐτοῖς (معناها تخاطبهم) فتشير الى الضمير الذي يعود الى الفريسيين الذين يخاطبهم يسوع لكنهم لا يستطيعون ان يفهموا. أمَّا عبارة "لِماذا تُكلِّمُهم بالأَمثال؟" فتشير الى سر يسوع المقصورة معرفته على التلاميذ أثناء خدمة يسوع الرسولية (لوقا 8: 10) والمُعلن بعد ذلك في التبشير الفصحي (لوقا 8: 16: 16-17). الادب الرؤيوي يحجب: الاسرار" السماوية بـ"أمثال" تقتضي تفسيرا. كما قال صاحب المزامير "أَفتَحُ فَمي بِالأَمْثال وأَفيضُ بِأَلْغازِ الزَّمَنِ القَديم" (مزمور 78: 2). ويفسر متى الإنجيلي بهذا الكلام سبب فشل كرازة يسوع ثم كرازة الكنيسة لدى كثير من الناس. عندما تكلم يسوع بأمثال لم يكن يخفي الحق عمن يطلبونه بإخلاص، فالذين تقبلوا الحق، فهموا هذه التشبيهات، أمَّا لم يتقبلوا الحق، فهذه التشبيهات لا معنى لها.

 

11 فأَجابَهم: لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات، وأَمَّا أُولَئِكَ فلم يُعطَوا ذلك.

 

تشير عبارة "فأَجابَهم" الى جواب يسوع على سؤال لماذا تكلم بالأمثال مميزا بين سامعيه الذين استناروا بتعاليمه فكانت لهم طريق للحق السماوي، والذين لم يستنيروا كانت أمثال يسوع عبارة قصص واحاديث فقط، ولأجل ذلك كان الانجيل رائحة حياة للبعض ورائحة موت للآخرين "لِهؤُلاءِ رائِحَةٌ تَسيرُ بِهم مِن مَوتٍ إِلى مَوت، ولأُولئِكَ رائِحَةٌ تَسيرُ بهم مِن حَياةٍ إِلى حَياة" (2 قورنتس 2: 16)؛ امَّا عبارة "أَنتُم" فتشير الى صورة التأكيد على التلاميذ (داخل الكنيسة) مقابل أولئك (خارج الكنيسة) الذين يجهلون الحق الروحي. لقد اعطى يسوع التلاميذ وحدهم ان يفهموا اسرار الملكوت، لأنهم من الداخل، من اهل البيت. إن التلاميذ فهموا اسرار الملكوت، ولذا لم يحتاجوا امثالا لجذب انتباههم. أمَّا عبارة "لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم" فتشير الى الملكوت الذي يقدّم على سبيل هبة لا على سبيل أجرة يستحقونها للذين يرغبون في معرفة الحق (رومة 6: 23). فالخلاص مقدم للجميع كما جاء في تعليم بولس الرسول "فإِنَّه يُريدُ أَن يَخْلُصَ جَميعُ النَّاسِ ويَبلُغوا إِلى مَعرِفَةِ الحَقّ" (1 طيموتاوس 2: 4)، الاَّ ان يسوع يحتفظ بسر تعليمه الى تلاميذه الذين جعلهم الايمان يفهمون أن ملكوت الله هو في مجيء يسوع. لذلك المثل موجّه لأولئك الذين يجهلون الحق الروحي جهلاً تاما لجذب انتباههم. أمَّا عبارة "تعرِفوا" فتشير الى إحدى الكلمات الأساسية لمجموعة التلاميذ التي لا نجدها في مكان آخر في أنجيل متى. فالتلاميذ يواصلون اختبار يسوع حيث يُشركهم في وحي الملكوت كما جاء في تعليم بولس الرسول "فالَّذينَ سَبَقَ أَن قَضى لَهم بِذلك دَعاهم أَيضاً، والَّذينَ دَعاهُم بَرَّرَهم أَيضاً والَّذينَ بَرَّرَهم مَجَّدَهُم أَيضاً " (رومة 8: 30). ولذلك استطاعوا ان يعرفوا ولم يلبثوا ان يعترفوا بإيمانهم على لسان بطرس "أَنتَ المسيحُ ابنُ اللهِ الحَيّ "(متى16: 16)، علما ان الفرِّيسيِّين والكتبة يزدادون قساوة. أمَّا عبارة "أَسرارَ" فتشير الى ما لا يدركه عقل بشري بلا وحي إلهي. وأعظم هذه الاسرار الملكوت نفسه الذي يُعطى التلاميذ معرفته، او الى سر يسوع بصفته فاتح الملكوت (1 تسالونيقي 3: 16) او الى الاسرار المتعلقة بالملكوت بما فيها من ميزة مخفيّة ومتنازع عليها. وكلمة سر في العهد الجديد تعني سر مُعلن، أعلنه الوحي بعد ان كان قبلا مخفياً كما جاء في تعليم بولس الرسول "كَيْفَ أُطلِعتُ عَلى السِّرِّ بِوَحْيٍ كَما كَتَبتُه إِلَيكم بإِيجازٍ مِن قَبْلُ" (أفسس 3: 3). أمَّا عبارة "مَلكوتِ السَّمَوات" فتشير إلى عبارة مألوفة في الأدب الرؤيوي المعاصر ليسوع، وهي تدلّ على ما في الله من تدابير خفيّة تتعلّق بآخر الأزمنة: سر تدبيره ومجيء ملكوته النهائي (دانيال 20: 18-19) وهذ السر، سر ملكوت الله، المُخفي على الجميع حتى الآن، لا يستطيع أحد ان يكشفه إلاّ الله بواسطة يسوع.  وعليه إن النهاية بدأت مع يسوع وتمّ ملُ الزمان (غلاطية 4: 4). وهذا السر هو محور أعمال يسوع واقواله، ويكشفه يسوع لتلاميذه. (مرقس 3: 13)، أمَّا عبارة "أَمَّا أُولَئِكَ فلم يُعطَوا ذلك" فتشير الى الذين لا يبالون بالمسيح، وهم الذين من الخارج (مرقس 4: 11)، وهذا يدل على طريقة متى الإنجيلي في إدراكه لماذا تُضرب الامثال آخذا بعين الاعتبار كيف رفض إسرائيل البشارة وكيف اختبرتها الكنيسة الاولى.  تشير هذه الآية الى ان أمثال يسوع من وجهها التعليمي المليء بالاستعارات والقريب الى عقول الكثرين لا يُدرك معناها الاّ إذا فهم الناس ان قدرة الله قد ظهرت في يسوع. لكن سر عمله هذا بقي مغلقا على كثير من الناس.

 

12 لأَنَّ مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض. ومَن ليس لَه شَيء، يُنتَزَعُ منه حتَّى الَّذي له.

 

تشير عبارة "مَن كانَ لَه شَيء" الى ما يملك الانسان من معرفة الملكوت عن طريق الايمان بيسوع من خلال الإصغاء بأذنه والادراك بعقله والتقبل بقلبه. أمَّا عبارة "يُعْطى فيَفيض" تشير الى ما يهبه يسوع من معرفة تفوقها كمالا. من كان أميناً وحرص أن يبحث عن الحق، يُعطيه الرب أن يفهم، وينمو فهمه يوماً فيوماً ويذوق حلاوة أسرار ملكوت الله كما هي الحال عند تلاميذ سيدنا يسوع المسيح.   وأمَّا عبارة "مَن ليس لَه شَيء" فتشير الى من لا يستفيد من الاصغاء بأذنه والإدراك بعقله وتقبل تعليم المسيح والعمل بها. وهنا يدل على الفريسيين الذين ظنّوا انهم يمتلكون شيئا، فإذا أيديهم فارغة، ونفوسهم في شقاء تام أمام الدينونة بعد ان جهلوا الملكوت الذي دشّنه يسوع. اما عبارة "يُنتَزَعُ منه حتَّى الَّذي له" الى خسارة الانسان المعرفة الروحية القليلة الذي حصل عليها. ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "ان الامثال حملت توبيخاً غير مباشر للسامعين، إذ لم يُرد أن يوبّخهم يسوع بعنف (مباشرة) حتى لا يسقطوا في اليأس". أوضح السيّد المسيح قوله بمثَل الوَزَنات، فإن الَّذي أَخَذَ الوَزَناتِ الخَمسَ أسرع إِلى المُتاجَرَةِ بِها فَربِحَ خَمسَ وَزَناتٍ غَيرَها. أمّا الذي له وزنة واحدة وقد دفنها في الارض، ولم يتاجر بها، فحتى هذه الوزنة سُحبت منه لتُعطى لمن تاجر وربح"! (متّى 25: 16). تُعد هذه الآية مبدأ لاكتساب المعرفة الروحية فمراده ان الذي يسمع تعليم يسوع ويحفظه ويعمل بمقتضاه يحصل على معرفة زائدة والذي لا يستفيد من هذه المعرفة تؤخذ منه. فلا بد للإنسان إما ان يتقدَّم او ان يتأخر فلا يمكن ان يقف على نقطة واحدة. سُنة التاريخ: أنّ من لا يتقدم يتأخر، وأن من يتوقف عن المسير يخرج من القافلة!

 

 13 وإِنَّما أُكلِّمُهم بِالأَمثال لأَنَّهم يَنظُرونَ ولا يُبصِرون، ولأَنَّهم يَسمَعونَ ولا يَسمَعون ولا هم يَفهَمون.

 

تشير عبارة "وإِنَّما" في الأصل اليوناني διὰ τοῦτο (معناها من اجل هذا) الى المبدأ الذي ذُكر في الآية السابقة. أما عبارة "لأَنَّهم يَنظُرونَ ولا يُبصِرون" فتشير الى القاء مسؤولية العمى على البشر لا على الله لأنه عندما كان الناس يرفضون تقبّل تعليم يسوع، كانت الحقيقة مخفيَّة عنهم. لذلك فان عدم تمييز سر الملكوت في يسوع يُزيد العمى عن رؤية هذا الملكوت؛ وهذه هي حالة الشعب اليهودي والفريسيين والكتبة الذين رأوا السيد المسيح ولم يعرفوه وسمعوه ولم يميَّزوا صوته الإلهي بينما تلاميذ المسيح انفتحت بصيرتهم الروحية فعرفوه وأحبوه.  فالدخول إلى الملكوت او الانفصال عنه يتقرّران بقبول شخص يسوع وتعليمه بالأمثال او برفضها، وليس هناك من موقف حيادي.  فمن لم يكتشف سر الملكوت في يسوع، زاد عمى على عمى، لان الدخول الى الملكوت او عدم دخوله يتقرّران في قلب السامعين: من رفض شخص يسوع وتعليمه رفض الملكوت، ومن تقبل يسوع تقبل الملكوت. وهنا نحن أصبحنا بين خيارين: إما نختار الخلاص وإما ان نختار الهلاك. فمن لا يتقبل الملكوت لا تعني الأمور الروحية له شيئا كما جاء في تعليم بولس الرسول "الإِنسانُ البَشَرِيُّ لا يَقبَلُ ما هو مِن رُوحِ الله فإِنَّه حَماقةٌ عِندَه، ولا يَستَطيعُ أَن يَعرِفَه لأَنَّه لا حُكْمَ في ذلِكَ إلاَّ بِالرُّوح (1 قورنتس 2: 14). اما عبارة "لأَنَّهم يَسمَعونَ ولا يَسمَعون ولا هم يَفهَمون" فتشير الى السامعين الذين اتخذوا ظاهر كلام المثل ولم يسألوا عن باطنه فكان له بمنزلة قصة.  فكان تأثير كلام المثل في الاذن دون تأثيره في العقل أو القلب ولا فائدة في السيرة. ويوضِّح صاحب الرسالة الى العبرانيين "لأَنَّكم كَسالى عنِ الإِصْغاء" (العبرانيين 5: 11).

 

 

14 وفِيهِم تَتِمُّ نُبُوءةُ أَشَعيا حَيثُ قال: تَسمعونَ سَماعاً ولا تَفهَمون وتَنظُرونَ نظَراً ولا تُبصِرون.

 

تشير عبارة "تسمعونَ سَماعاً ولا تَفهَمون وتَنظُرونَ نظَراً ولا تُبصِرون" الى مسؤولية الشعب المتصلب (يوحنا 12: 39-41) ويستشهد متى الإنجيلي هنا بكلمات النبي أشعيا "اِسمَعوا سَماعاً ولا تَفهَموا وآنظُروا نَظراً ولا تَعرِفوا" (أشعيا 6: 9-10) حيث يتنبأ عن رفض إسرائيل "فقَد غَلُظَ قَلْبُ هذا الشَّعْب وأَصَمُّوا آذانَهم وأَغمَضوا عُيوَنهم لِئَلاَّ يُبصِروا بِعُيونِهم وَيسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا بِقُلوبِهم وَيرجِعوا. أَفأُشْفيهم؟" (اعمال الرسل 28: 27). وهي تصف حالة الشعب الذي أرسل إليه النبي أشعيا. كما كان في أيام أشعيا كان الناس يسمعون كلماته ويرون معجزاته ولكنهم لم يفهموا معنى ذلك (أشعيا 6: 9) كذلك حدث مع يسوع، أغمض اليهود عيونهم عن الحق الروحي "هُوَذا الوارِث، هَلُمَّ نَقتُلْه، فيَكونَ الميراثُ لَنا.  فأَمسَكوهُ وقتَلوه وأَلقَوْهُ في خارِجِ الكَرْم" (مرقس 7:12). وقساوة القلب هو السبب الذي لأجله صار بنو اسرائيل لا يفهمون على الرغم من قدرتهم على السمع.  والجدير بالذكر أن متى الإنجيلي إذ يكتب لليهود أورد لهم نبوة أشعيا، لأنهم يعرفون النبوءات، وأمَّا مرقس ولوقا إذ يكتبان للأمم لم يوردا نبوءة أشعيا. اما عبارة "تَسمعونَ سَماعاً" فتشير الى إدراك الصوت دون الاستفادة منه روحيا. امَّا عبارة "تَنظُرونَ نظَراً ولا تُبصِرون" فتشير الى إدراك ظاهر الامر والاغفال عن المقصود منه أ يا إدراك الاعراض دون الجوهر الروحي.

 

 15 فقد غَلُظَ قَلبُ هذا الشَّعب وأَصَمُّوا آذانَهم وأَغمَضوا عُيونَهم لِئَلاَّ يُبصِروا بِعيونِهم ويَسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا بِقُلوبِهم ويَرجِعوا. أَفأَشفيهم؟ )).

 

تشير عبارة "فقد" في الأصل اليوناني γὰρ (معناها لأنه) الى كم يود السيد المسيح أن يسمع هذا الشعب ويؤمن ويرجع إليه فيشفيه، ولكن كبرياؤهم وعنادهم وارتباطهم بشهواتهم غَلَّظَ قلوبهم وأغلق عيونهم وأذانهم فلم يعرفوا المسيح بل صلبوه. أما عبارة "غَلُظَ قَلبُ هذا الشَّعب"ἐπαχύνθη  (معناها قساوة) فتشير الى لوصف الفريسيين، وهم مجموعة مميزة من الناس والذين اضطهدوا يسوع. (مرقس 3: 5) وتقوم القساوة على غلبة جسده على روحه فأصبح بلا شعور بالروحانيات. هذا هو السبب الذي لأجله صاروا لا يفهمون على الرغم من قدرتهم على السمع.  ويوضِّح بولس الرسول سبب غلاظة قلوبهم بقوله: "قد أَظلَمَت بَصائِرُهم، وجَعَلَهُم جَهلُهم غُرَباءَ عن حَياةِ اللّهِ لِقَساوةِ قُلوبِهِم. فلَمَّا فَقَدوا كُلَّ حِسّ اِستَسلَموا إِلى الفُجور فانغَمَسوا في كُلِّ فاحِشَةٍ مُستَهتِرين" (أفسس 4: 18-19). امَّا عبارة "أَغمَضوا عُيونَهم" فتشير الى شعب رفض ان يفتحوا عيونهم على وحي الله لئلا يبصروا الحق وينقادوا الى التوبة. اما عبارة " لِئَلاَّ يُبصِروا بِعيونِهم ويَسمَعوا بِآذانِهم ويَفهَموا συνῶσιν بِقُلوبِهم ويَرجِعوا" فتشير الى ما اتوه عمداً في البدء أصبح لهم قصاصا في النتيجة. حيث ان الله الديّان العادل تركهم يغرقون في الظلمة التي اختاروها والجهل الذي ارادوه كما جاء في نبوءة أشعيا "لِأَنِّي دَعَوتُ ولم يُجيبوا وتَكَلَّمتُ ولم يسمَعوا وصَنَعوا الشَّرَّ في عَينَيَّ وما لم أشاء اخْتاروا" (أشعيا 66: 4). اما عبارة "فأَشفيهم؟" فتشير الى الفاء السبيبة التي تعبِّر، لا عن رغبة يسوع في حجب رسالته، بل على مطابقة موقف الناس من تعليمه لما ورد في نبوءة أشعيا "اِسمَعوا سَماعاً ولا تَفهَموا وآنظُروا نَظراً ولا تَعرِفوا غَلِّظْ قَلبَ هذا الشَّعْب وثَقِّلْ أُذُنَيه وأَغمِضْ عَينَيه لِئَلاَّ يُبصِرَ بِعَينَيه ويَسمَعَ بِأُذُنَيه ويَفهَمَ بقَلبه وَيرجعَ فيُشْفى (أشعيا 6: 9-10). يسوع أراد شفاءهم من مرض الخطيئة، لكنهم هم الذين لم يريدوا كما صرّح يسوع "كَم مَرَّةٍ أَرَدتُ أَن أَجمَعَ أَبناءكِ، كما تَجمَعُ الدَّجاجَةُ فِراخَها تحتَ جنَاحَيها! فلَم تُريدوا" (متى 23: 37).


16 وأَمَّا أَنتُم، فَطُوبى لِعُيونِكم لأَنَّها تُبصِر، ولآذانِكم لأَنَّها تَسمعَ.

 

تشير عبارة "أَنتُم" الى المفارقة بين "هم" و"أنتم"، بين التلاميذ والكتبة والفريسيين. اما عبارة "فَطُوبى" فتشير الى تهنئة المسيح لتلاميذه لأنهم ليسوا عميان وغليظي القلب كغير المؤمنين مثل الكتبة والفريسيين لان عيونهم كانت مفتوحة وآذانهم مصغية الى الصوت الإلهي فنظروا وأدركوا الحقائق التي أعلنها لهم. أما عبارة "لِعُيونِكم لأَنَّها تُبصِر، ولآذانِكم لأَنَّها تَسمعَ" فتشير إلى فعلين "تُبصِر وتَسمعَ" فهما لا يدلان على الحاستين البصر والسمع، وانما الى الايمان والطاعة. نبصر حين نؤمن ونسمع حين نطيع. ان النور بزغ بمجيء المسيح، الذي لم يكن قد عُرف في عصر العهد القديم.

 

17 الحَقَّ أَقولُ لَكم إِنَّ كثيراً مِنَ الأَنبِياءِ والصِدِّيقينَ تَمَنَّوا أَن يَرَوا ما تُبصِرونَ فلَم يَرَوا، وأَن يَسمَعوا ما تَسمَعونَ فلَم يَسمَعوا.

 

تشير عبارة "الأَنبِياءِ والصِدِّيقينَ" الى اهل العهد القديم الذين عرفوا اسرار الملكوت، وشاهدوا يسوع، وسمعوا كلامه؛ أمَّا ابناء العهد الجديد، فنعِموا بحضور السيد المسيح وعمله. وأمَّا لوقا الإنجيلي يذكر "الانبياء والملوك" (لوقا 10: 24) بدل عبارة "الأَنبِياءِ والصِدِّيقينَ"؛ أمَّا عبارة "تَمَنَّوا أَن يَرَوا ما تُبصِرونَ فلَم يَرَوا" فتشير الى رغبة الأنبياء والصِدِّيقينَ في رؤية المسيح حين يتجسَّد. يهنِّى يسوع تلاميذه أيضا بمشاهدتهم وادراكهم ما اشتهى الأنبياء والاتقياء القدماء ان يروه ولم يروا. إذ راوا المسيح عيانا وشاهدوا معجزاته وسمعوا تعاليمه من فمه (في الإِيمانِ ماتَ أُولئِكَ جَميعًا ولَم يحصُلوا على المَواعِد، بل رَأَوها وحَيَّوها عن بُعْد، واعتَرفوا بِأَنَّهم غُرَباءُ نُزَلاءُ في الأَرض" (العبرانيين 11: 13). وشرح بطرس الرسول حال أولئك الاتقياء "عن هذا الخَلاصِ كانَ فَحْصُ الأَنبِياءِ وبَحْثُهم فَتَنبَّأُوا بِالنِّعمةِ المُعَدَّةِ لَكم" (1 بطرس 1: 10).  

 

18 فَاسْمَعوا أَنتم مَثَلَ الزَّارِع:

 

 19 كُلُّ مَن سَمِعَ كَلِمَةَ الملكوت ولم يَفهَمْها، يَأتي الشِّرِّيرُ ويَخطَفُ ما زُرِعَ في قَلبِه: فهذا هوَ الَّذي زُرِعَ في جانِبِ الطَّريق.

 

تشير عبارة "كَلِمَةَ الملكوت" الى البشارة او رسالة الانجيل او كلمة الله (لوقا 8: 11) حيث اننا لم نعد امام زارع يلقي الذي هو كلمة الله، بل امام من يسمع. أمَّا عبارة "ولم يَفهَمْها" فتشير الى من يسمع بإذنه لا بقلبه، أي لا ينتبه لما سمعه ولا يدرك معناه الروحي اما عبارة "يَأتي الشِّرِّيرُ" فتشير الى الشيطان المقاوم النفوس الذي يتوقع الفرصة لمنع الانسان عن الاستفادة من كلمة الله. اما عبارة "ويَخطَفُ ما زُرِعَ في قَلبِه" فتشير الى الشيطان الذي يصرف أفكار الانسان عن كلمة الله الى الامور الدنيوية التافهة إذ يتدخّل في حياته ويفسد الكلمة.  

 

 20 وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الأَرضِ الحَجِرة، فهُو الَّذي يَسمَعُ الكَلِمة ويَتَقَبَّلُها لِوَقْتِهِ فَرِحاً،

 

تشير عبارة "وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الأَرضِ الحَجِرة" الى الصنف الثاني من يسمعون الكلمة بلا فائدة لأنهم لم يحسبوا النفقة أي انكار الذات والاضطهادات والمشقات المتعلقة به كما يوضِّحه في متطلبات إتباع يسوع (لوقا 14: 25: 33)؛ اما عبارة "ويَتَقَبَّلُها لِوَقْتِهِ فَرِحاً" فتشير الى فرح وقتي ناتج عن انفعال سريع الزوال يوضِّحه حزقيال النبي بقوله "إِنَّما أَنتَ لَه كأُغنِيَّةِ حُبِّ مِن ذي صَوتٍ مُطرِبٍ يُحسِنُ العَزْف. فيَستَمِعْ كَلامَكَ ولا يَعمَلُ بِه"(حزقيال 33: 32).  

 

21 ولكن لا أَصلَ لَه في نَفْسِه، فلا يَثبُتُ على حالة. فإِذا حَدَثَت شِدَّةٌ أَوِ اضطِهادٌ مِن أَجلِ الكَلِمة عَثَرَ لِوَقْتِه.

 

تشير عبارة " لا أَصلَ لَه في نَفْسِه" الى الفشل الثاني من تقبل كلمة الله حيث يكون السامع لكلمة الله لا جذور له ولا مبادئ راسخة له: كالإيمان والتوبة والمحبة لله وبالتالي لا ثبات، فكلمة الله تتطلب بعض الوقت لتُثمر (متى 24: 13) حيث لا يكفي تقبل كلمة الرب "لوقته" εὐθὺς أي حالا وعلى عجل وفي لحظة بدون صبر ووقت. ويقول المثل "ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة" Easy come, easy go. وهذا الصنف من السامعين كلمة الله كالبيت المبني على الرمل " ومَثَلُ مَن سَمِعَ كلاَمي هذا فلَم يَعْمَلْ بِه كَمَثَلِ رَجُلٍ جاهِلٍ بَنى بَيتَه على الرَّمْل.  فنزَلَ المطَرُ وسالتِ الأَودِيةُ وعَصَفَتِ الرِّياح، فضَرَبَت ذلكَ البيتَ فسَقَط، وكان سُقوطُه شديداً" (متى 7: 26-27) أمَّا عبارة "يَثبُتُ" في الأصل اليوناني σκανδαλίζεται (معناها يتشكك او يعثر أي يؤخذ في الفخ الذي نصبه له الشيطان) فتشير الى عدم إمكانية الوقوف في وجه المخاطر التي تُهدِّد الكلمة (لوقا 21: 19)؛ وقد شدّد بولس الرسول على هذا الثبات في رسائله "لا نَنفَكُّ نَذكُرُ ما أَنتُم علَيه مِن نَشاطِ الإِيمانِ وجَهْدِ المَحَبَّةِ وثَباتِ الرَّجاءَ بِرَبِّنا يسوعَ المسيح، في حَضرَةِ إِلهِنا وأَبينا. (1 تسالونيقي 1: 3). أمَّا عبارة "شِدَّةٌ" فتشير الى الاضطهاد والضيق في الأزمنة الأخيرة، أمَّا لوقا الإنجيلي فيتوقف عند التجربة التي تعرض للمؤمن في الحياة اليومية "والَّذينَ على الصَّخْرِ هُمُ الَّذينَ إِذا سَمِعوا الكَلِمة تَقبَّلوها فَرِحين، ولكِن لا أَصلَ لَهم، فإِنَّما يؤمِنونَ إِلى حين، وعِندَ التَّجرِبَةِ يَرتَدُّون" (لوقا 8: 13). أمَّا عبارة "اضطِهادٌ" فتشير الى الاضطهادات والشدة الأخيرة من اجل البشارة كما ورد في انجيل مرقس (مرقس 13: 19-24). هنا نفهم ان كنيسة متى عرفت الاضطهاد واختبرت سقوط الكثيرين.

 

22 وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الشَّوك فهُو الَّذي يَسمَعُ الكَلِمة، ويكونُ له مِن هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا وفِتنَةِ الغِنى ما يَخنُقُ الكَلِمة فلا تُخرِجُ ثَمَراً.

 

تشير عبارة “وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الشَّوك" الى الصنف الثالث من السامعين لكلمة الله وهم الذين ارادهم بالزرع بين الشوك. اما عبارة " هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا " إلى الاضطراب والقلق اللذان كثيرا ما يسبّبهما الانشغال بالاهتمامات بأمور هذه الحياة كما ورد في العظة على الجبل من الاهتمام بالمال واللباس والاكل والشرب (متى 6: 24 -34) ولا يتكلم على الشهوات كما ورد في انجيل مرقس " هُمومَ الحَياةِ الدُّنْيا وفِتنَةَ الغِنى وسائرَ الشَّهَواتِ" (مرقس 4: 19).  فهناك حثٌّ على الإعراض عن هموم الدنيا.  فهموم هذه الدنيا والاكتفاء بالذات والطمأنينة التي يعطيها المال إياها (مرقس 10: 17-25) جعلت كلمة الله عقيمة وغير نافعة (متى 6: 24-34). وهكذا يكون استعداد سيئ لدى السامعين. أمَّا عبارة "فِتنَةِ الغِنى" في الأصل اليوناني  ἀπάτη τοῦ πλούτου (معناها غرور الغنى) فتشير الى محبة المال وزيادة الرغبة في احرازه وشدة التمسك به اجتذاب الغنى كما جاء في تعليم بولس الرسول: الشَّهَواتُ الخادِعة" (أفسس 4: 22). وهنا يجب ان نحسن الاختيار "لا تَستَطيعونَ أَن تَعمَلوا لِلّهِ ولِلمال" (متى 6: 24).  ان الاهتمامات المادية والملذات وحب الغنى، كل هذه الأمور باستطاعتها خنق كلمة الله وتهلك النفس كما جاء في تعليم بولس الرسول" أَمَّا الَّذينَ يَطلُبونَ الغِنى فإِنَّهم يَقَعونَ في التَّجرِبَةِ والفَخِّ وفي كَثيرٍ مِنَ الشَّهَواتِ العَمِيَّةِ المَشؤُومَةِ الَّتي تُغرِقُ النَّاسَ في الدَّمارِ والهَلاك" (1 تسالونيقي 6: 9). اما عبارة "فلا تُخرِجُ ثَمَراً" فتشير الى كلمة الله باعتبار انها كالزرع الذي لا يأتي بالثمر المطلوب في اصلاح قلب الانسان وسيرته.

 

23 وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الأَرضِ الطَّيِّبة، فهُو الَّذي يَسمَعُ الكَلِمة ويَفهَمُها فيُثمِرُ ويُعطي بَعضُه مِائة، وبَعْضُه سِتِّين، وبَعضُه ثلاثين.

 

تشير عبارة "وأَمَّا الَّذي زُرِعَ في الأَرضِ الطَّيِّبة" الى الصنف الرابع من الناس الذين سمعوا كلمة الله وقبلوها في قلوبهم قولا وفعلا. اما عبارة "يَسمَعُ" فتشير الى عمل الاذن، وأمَّا عبارة "يَفهَمُها" فتشير الى عمل القلب الذي لا يكتفي بالعواطف والاقوال بل يؤمن بها ويعمل بها. "فمَثَلُ مَن يَسمَعُ كَلامي هذا فيَعمَلُ به كَمَثَلِ رَجُلٍ عاقِلٍ بَنى بيتَه على الصَّخْر" (متى 7: 24) أمَّا عبارة "يُثمِرُ" فتشير الى الذين يفتحون قلوبهم على سر الملكوت الذي يُعلن في الكلمة فيحملون ثمراً. لكن هذه الكلمة تبقى غير مفهومة للذين ينغلقون عليها ولا ينزلون الى أعماق نفوسهم حيث يتوجّه إليهم نداء الله الُمُعلن في وضح النهار خلال الكرازة الفصيحة (متى 13: 3). أمَّا عبارة "فيُثمِرُ" فتشير الى نتيجة سمع كلمة الله وإدراكها وطاعتهم إياها والعمل بها وفقا لقول يسوع "أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم " (يوحنا 15: 16)؛ اما عبارة "ويُعطي بَعضُه مِائة، وبَعْضُه سِتِّين، وبَعضُه ثلاثين" فتشير الى اختلاف مقادير الاستفادة نظرا الى الامانة والغيرة وممارسة الصلاة. ونجد تناقص في المقادير التي تدل على تضاؤل حماس الكنيسة بعد ان ابتعدت عن يسوع في الزمن كما تنبَّنا هو "يَزْدادُ الإِثْم، فتَفتُرُ المَحَبَّةُ في أَكثرِ النَّاس" (متى 24: 12).

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 13: 1-23)

 

  بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 13: 1-23)، نستنتج انه يتمحور حول مثل الزارع. والمثل ليس مجرد تشبيه مأخوذ من الحياة اليومية المستخدم في التعليم، بل هو رواية توحي بحياة يسوع نفسه. ويُقسم مثل الزارع الى ثلاثة مقاطع: المثل وغايته وتفسير. ومن هنا نتساءل: ما هو موضوع المثل؟ وما هو غايته؟ ما هو تفسيره او العبرة منه؟

 

1) ما هو محتوى مثل الزارع؟  (متى 13: 3-9).

 

عندما أزدحم الناس على يسوع، صعد الى سفينة راسية في بحيرة طبرية وابتعد عنهم، وجلس واخذ يكلمهم من هناك وهم قائمون على الشاطئ (متى 13: 1-2).  وكشف عن حقيقة ملكوت الله سواء للجموع عامة، او لتلاميذه خاصة.  واستخدم يسوع لغة الامثال ليخاطب الجموع حول سر الملكوت. والمثل الزراع هو ايضاح حقيقة روحية في صورة قصة أُخذت من الطبيعة لجذب الانتباه.

 

 يدلُّ مثل الزارع على غلة او محصول الحبوب بحسب نوعية الارض: الطريق، والأرض المحجرة، والأرض المملوءة أشواكًا، والأرض الطيّبة. أمَّا الثمر أو عدمه فيتوقّف على الأرض التي تستقبل البذار. فهناك ثلاث أراضٍي عقيمة وأرضٌ طيّبة ذات ثلاثة غلاّت (100، 60، 30). أمَّا في الأرض الطيبة برز خصب الأرض في شكل متدرج انطلاقا من الأكثر الى الأقل مما يدل على بعض الفتور في كنيسة متى الإنجيلي.   أمَّا في انجيل مرقس فينطلق خصب الأرض من الأقل فيصل الى الأكثر، فهو يركز على نمو كنيسته على مثال الزرع الذي ينمو ويواصل نموّه (مرقس 4: 26-29).

 

 ويوجّه يسوع المثل الى كل من يسمع ويستعد لاتخاذ الموقف المطلوب "فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ ". الزرع اعطى في الأرض ثلاثة حقول عقيمة التي لم تعط ثمراً يدوم. وهناك حقل واحد أعطى ثلاث غلات (100، 60، 30).  نلاحظ ثقة الزارع (الذي هو يسوع) بالغلال الأخيرة رغم بعض الفشل والاخفاق.  فيسوع يوجّه نداء الى كل إنسان ليكون الأرض الطيّبة التي تعطي ثمراً.  أراد يسوع ان يُشرك التلاميذ والجموع في ثقته بإعلان عن مجيء الملكوت وانه هو الذي يفتتح الملكوت.

 

2) ما هو غاية مثل الزارع؟ (13: 10-17)

 

بعد تعليم يسوع عن طريق المثل يأتي السؤال الذي طرحه التلاميذ " لِماذا تُكلِّمُهم بالأَمثال؟  بدأ يسوع مرحلة تعليم خاصة بالتلاميذ: فأَجابَهم: ((لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات، وأَمَّا أُولَئِكَ فلم يُعطَوا ذلك. ووجّه يسوع الامثال لأولئك الذين يجهلون الحق الروحي كالفريسيين الذين يظنُّون انهم يمتلكون شيئا، فإذا هم فارغو الايدي، ونفوسهم في شقاء امام الدينونة، وهذا ما يعني "مَن ليس لَه شَيء، يُنتَزَعُ منه حتَّى الَّذي له". فعندما نصرُّ على رفض المسيح تسلبنا قساوة قلوبنا الفهم الذي عندنا ونزداد عمى. في حين ان تلاميذ يسوع ليسوا بحاجة الى التعليم بالأمثال، لأنهم من أهل البيت وقد فهموا الملكوت، وهم يملكون معرفة الملكوت عن طريق الإيمان بيسوع، لذلك يهبهم يسوع معرفة اضافية "لأَنَّ مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض" (متى 13: 12).

 

ويُلقي متى الانجيلي مسؤولية العمى على البشر، لا على الله، حيث ان عدم تمييز سر الملكوت في يسوع يزيد العمى عن رؤية هذا الملكوت "لأنهم لا يَسمَعون ولا هم يَفهَمون". إذ يتقرّر الدخول الى الملكوت او الانفصال عنه بقبول شخص يسوع وتعليمه بالأمثال او برفضهما، وليس هناك من مجال للحياد. كما كان في زمن أشعيا كذلك في زمن الرب، أغمض اليهود عيونهم عن الحق الروحي. فمن لم يكتشف سر الملكوت في يسوع، زاد عمى على عمى، لان الدخول الى الملكوت او الابتعاد عنه يتقرران في قلب السامعين: من رفض شخص يسوع وتعليمه رفض الملكوت، ومن تقبل يسوع تقبّل الملكوت. ليس هناك موقف حيادي: إما نختار الخلاص وإما الهلاك. "وأَمَّا أَنتُم، فَطُوبى لِعُيونِكم لأَنَّها تُبصِر، ولآذانِكم لأَنَّها تَسمعَ" فنحن نبصر حين نؤمن، ونسمع حين نطيع. الذين يفتحون قلوبهم على الكلمة، يسمعونها ويفهمون، ويلتزمون بطريق الله، ويدخلون في هذا السر ويحملون ثمراً. غير ان الكلمة تبقى لغزا لا مفهوماً للذين ينغلقون عليها، فيعيشون حياة سطحية او يظلون عبيد اهوائهم.

 

3) ما هو تفسير مثل الزارع (13: 18-23)

 

يقدم يسوع تفسيراً لمثل الزراع بعد إجابته على سؤال التلاميذ حيث ان الفرِّيسيِّن سمعوه بشكل حرفي، والتلاميذ سمعوه بطريقة أخرى بعيدا عما اعتاد عليه معلمو اليهود في تطبيقاتهم العلمية والأخلاقية. ويسوع يُشدِّد من ناحية على الثقة انه لا بد من الإثمار النهائي بالرغم من أنواع الفشل الحالية، ومن ناحية أخرى يُشدِّد على الدعوة ان يكون الانسان أرضا طيّبة تُخرج ثمراً وافراً.  ومن هنا نبحث في مجموعات نماذج الفشل والنجاح في نمو كلمة الله وردود الفعل تجاها ومعيار تقبلها. 

 

أ) نماذج الفشل او النجاح تجاه سماع كلمة الله

 

يقابل الزارع ثلاث نماذج تقسم الى قسمين مجموعة فاشلة ومجموعة ناجحة

 

مجموعة النماذج الفاشلة

 

نموذج الفشل الاول يأتي من الشرير.

 

ييبس الزرع واؤكل بعض القمح قبل ان ينمو يمثل المرء الذي يسمع كلمة الله حول الملكوت أي رسالة الانجيل بقلب سطحي. ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إن يبس الزرع، فهذا ليس بسبب الحرارة. لم يقل الرّب يسوع إنّه يبس بسبب الحرارة بل لأنّه "لَم يكُن له أَصلٌ" (العظة 44 عن إنجيل القدّيس متّى).

 

يقبل المرء كلمة الرب ولكن ليس أصل، فهو يريد أن يصلي ويحب ويشهد، ولكنه لا يواظب، ولا يتعب، ولا يتأمل ولا يتعمق في اقوال الرب لاهيا عنها وعن واجباته الروحية. ويعلق البابا فرنسيس "إنه قلب حيث حجارة الكسل تتغلّب على الأرض الطيبة، وحيث المحبة هي عابرة" (عظة 19/7/2017) وهكذا يتدخَّل الشرير في حياته فيُفسد الزرع. فعدم تقبل كلمة الله يأتي من الشرير. ومن هنا جاءت توصية بطرس الرسول: " إِنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه، فقاوِموه راسِخينَ في الإِيمان " (1بطرس 8-9). 

 

نموذج الفشل الثاني يأتي من شِدَّةٌ أَوِ اضطِهادٌ.

 

يحترق الزرع الذي نبت من وقته ويتوقف عن النمو بسبب اشعة الشمس الحارقة، وهو يمثل المرء الذي لا يتشبث في كلمة الله، لانَّ لا أَصلَ لَه ولا جذور لتحمّل الشدة والاضطهاد. فعدم تقبل كلمة الله يأتي من شِدَّةٌ أَوِ اضطِهادٌ مِن أَجلِ الكَلِمة. لذلك يذكربولس الرسول المسيحيين " أَرى أَنَّ آلامَ الزَّمَنِ الحاضِرِ لا تُعادِلُ المَجدَ الَّذي سيَتَجَلَّى فينا" (رومة 8: 18)

 

نموذج الفشل الثالث يأتي من هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا وفِتنَةِ الغِنى

 

يطوّق الشوك الزرع الذي استطاع ان ينمو فيخنقه، إن اختنقت الكلمة، لان الأشواك ليست بل السبب هو  مَن ترك الأشواك تنمو بحريّة. وهو يمثل المرء الذي اشغلته هموم هذه الدنيا وغناها وملذاته او الشهوات الخادعة فخنقت الكلمة وأفسدتها وجعلتها عقيمة وغير نافعة (أفسس 4: 22). ويعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " يمكنك أن تمنع نموّ تلك الأشواك باستخدام الإرادة، كما باستطاعتك أن تستخدم الغنى بشكل مناسب" (العظة 44 عن إنجيل القدّيس متّى). ولذلك، علينا أن نصغي بانتباهٍ إلى الكلمة ونحفظها بأمانة في ذاكرتنا، ونمتلئ شجاعة لننبذ بعدها الغنى ونتجرّد من حبّ خيرات هذا العالم.

 

عدم تقبل كلمة الله يأتي من هَمِّ الحَياةِ الدُّنيا وفِتنَةِ الغِنى. لم يتحدّث يسوع عن العالم بل عن "هموم العالم"، ولم يتكلّم عن "الغنى" بل عن "جاذبيّة الغنى". لذلك يوصي يسوع تلاميذه “لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ، وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاسِ؟ ...وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ ...فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ؟ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ؟ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ؟ فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا. (متَّى 6: 25-34). ومن هذا المنطلق، إنّ الخلل لا يكمن في الزارع ولا في الزرع بل في الأرض التي تستقبل الزرع، أي إنّ الخلل يكمن مدى استعداد قلوبنا. وهكذا ان الفشل جزء من الرسالة بحيث تتم دينونة الله.

 

وهذه النماذج تروي أحداثا طالما تكلّم فيها الله عبر تاريخ الخلاص ولم يبذل الإنسان قصارى جهده كي يُصغي. لذلك يدعونا يسوع إلى المبادرة والإصغاء وقبول الكلمة بإيمان من ناحية، وعدم أتهام الأشياء بحدّ ذاتها بل الفساد المستشري في ضمائرنا من ناحية أخرى.

 

مجموعة النماذج الناجحة

 

كما ان ليس أمام الزراع خيار سوى أن يزرع في كل مكان، ويخاطر مع ثقته بان بذور الحَب تصل إلى الأرض الجيدة كذلك كلمة الرب هي للجميع ولا يمكن ان تفشل إذا وجدت ارضا طيبة.  فكما ينهمر المطر على الأرض فيُخصبها كذلك كلمة الله كما جاء في نبوءة أشعيا النبي: " كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ طَعاماً فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أشعيا 55: 10-11).

 

ان نجاح تقبل كلمة الله يأتي من الارض الطيبة. فالأرض الطيبة تمثل المرء الَّذي يَسمَعُ الكَلِمة ويَفهَمُها ويُثمِرُ ويُعطي بَعضُه مِائة، وبَعْضُه سِتِّين، وبَعضُه ثلاثين، ويعلق القديس يوحنا الذهبي الفم " يستقبل يسوع مَن يأتون أوّلاً، ولا ينبذ مَن يأتون ثانيًا ويهيّئ دائمًا مكانًا لمَن يأتون ثالثًا" (العظة 44 عن إنجيل القدّيس متّى).

 

وقيل ان هناك سنابل تثمر 30 حبة واخرى تثمر 60 حبة وثالثة تثمر 100حبة، وهذه تعبر عن تفاوت الناس في تلقي كلمة الله بالحب والإيمان واقترابهم من يسوع وعبادة الله وحماسهم وممارسة الفضيلة والرحمة، وظهور ثمار الروح فيهم.  فالذين يفتحون قلوبهم على هذه الكلمة، ويسمعونها ويفهمونها ويؤمنون ويمتلكونها ويلتزمون بها، على الرغم من كل التجارب والمِحن والاضطهادات، والمصاعب والهموم فهؤلاء يدخلون في هذه السر ويحملون ثمرا طيبا للحياة لميراث مبارك.  

 

ويعرض الإنجيل اليوم علينا نماذج مختلفة من البشر الذين سمعوا الكلمة الالهية ويظهر ايضا تفاوت التزامهم بها. وترك لنا الخيار ان نحدد نحن من اي نموذج نكون. يقول لنا ان هناك الكثير من المسيحيين سمعوا الانجيل وبشروا بالكلمة الالهية اي بيسوع المسيح ولم يطبِّقوا ما سمعوه ولم يؤمنوا به. يختم المسيح مثل الزارع بالقول " فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ: وكأنه يريد ان يخاطب كل واحد منا سائلا اياه ما نوعية ارضك اي قلبك، أهو قلب طائش ام سطحي ام متلذذ بحطام هذه الدنيا ام هو قلب طيب؟

 

الإصغاء إلى الكلمة هو الشرط الأساسي. إذ "كَيفَ يُؤمِنونَ بِمَن لم يَسمَعوه؟" (رومة 10: 14). ونحن أيضًا إن لم نتنبّه إلى ما قيل لنا، فلن نعرف ما هي واجباتنا، لنشعر بعدها بشجاعة ونرفض خيرات هذا العالم. لنُصغِ إلى الكلمة ونرسّخ جذورنا في الأرض ونتخلّص من كلّ همّ دنيوي.

 

ونستنتج مما سبق ان التلاميذ فهموا أن تأسيس ملكوت الله يصطدم بصعوبات واعتراضات، وأن بداياته ليست ناجحة تماماً. ولكن المثل يوضِّح أن المسيح يقوم بعمله وسط صعوبات كثيرة، وينتصر في النهاية. ومن هنا جاء توصية يسوع "اُثبُتوا فيَّ وأَنا أَثبُتُ فيكم. وكما أَنَّ الغُصنَ، إِن لم يَثْبُتْ في الكَرمَة لا يَستَطيعُ أَن يُثمِرَ مِن نَفْسِه، فكذلكَ لا تَستَطيعونَ أَنتُم أَن تُثمِروا إِن لم تَثبُتوا فيَّ. إِنَّ ما يُمَجَّدُ بِه أَبي أن تُثمِروا ثمراً كثيراً وتكونوا لي تلاميذ. لم تَخْتاروني أَنتُم، بل أَنا اختَرتُكم وأَقمتُكُم لِتَذهَبوا فَتُثمِروا ويَبْقى ثَمَرُكم فيُعطِيَكُمُ" (يوحنا 15: 4، 8، 16). إن نداء يسوع موجّه الى كل انسان ليكون الارض الطيّبة التي تعطي ثمراً من خلال تقبل كلمة الله بقلوب معدَّة ومؤمنة. ففي الواقع، "الله تكلّم، لم يعد المجهول الأكبر، لكنّه أظهر ذاته" (البابا بندكتس السادس عشر). فلنستقبل كنز الكلمة المُعلَنَة السامي، لان البشارة كلّها مرتكزة على كلمة الله المسموعة والمتأمَّلة والمُعاشة والمحتفَل بها والمشهود لها (البابا فرنسيس، الإرشاد الرّسولي "فرح الإنجيل"، عدد 175).

 

(ب) معيار لتقبل كلمة الله ورفضها

 

ومبدأ التقسيم بين من يتقبلون كلمة الله والذين يرفضونها يقوم على المعايير التالية:

 

المعيار الأول المبادرة الإلهية كما صرّح يسوع لتلاميذه "لأَنَّكم أُعطيتُم أَنتُم أَن تعرِفوا أَسرارَ مَلكوتِ السَّمَوات، وأَمَّا أُولَئِكَ فلم يُعطَوا ذلك" (متى 13: 11). ولكن ليس في هذا الامر تعسّف عند الله: "لأَنَّ مَن كانَ لَه شَيء، يُعْطى فيَفيض" (متى 11: 12).

 

المعيار الثاني الحرية: يكمن في حرية الانسان حيث ان كلمة الله الكلمة لا تُجبر ولا تُكرِه ولا تفرض نفسها ولا تستخدم القوة، او عنف بل تعرض نفسها دون تقييد الآخرين.  وهذا الامر يفسّر أسباب عدم اقتناع الجميع بكلمة الله، وعن إمكانية رفضها؛ كلمة الرب تكشف وتُعرض ذاتها دون عنف او قوة بل بمحبة بحيث تسمح لحرّيّة الآخر أن يَحِدَّ منها.

 

ويُبيِّن النص الإنجيلي ان المعنيين بسماع كلمة الله هم " يَنظُرونَ ولا يُبصِرون، ولأَنَّهم يَسمَعونَ ولا يَسمَعون ولا هم يَفهَمون" (متى 13: 13).  في الواقع، نميّز بين "لأنهم ينظرون" أي ما يعود الى الله (النعمة) وبين "ولا يبصرون " أي ما يرتبط بالاختيار عند البشر (الحرية). فنحن امام لاهوت الحرية والنعمة. فالحد الفاصل يمر في قلب الانسان.  فالتلاميذ تسلموا مفتاحا ليفهموا سر ملكوت الله، ويبقى عليهم ان يستعملوه (مرقس 4: 13).  لا يريد يسوع عمى الناس، بل هو يكتفي بإثباته، اختار السيد المسيح التكلّم بالأمثال مع الذين يستمعون لكي يُدركوا قساوة قلوبهم وعدم قدرتهم على الإصغاء والترحيب والفهم.

 

المعيار الثالث السمع والعمل: ان سر الله ليس حقيقة تفرض على العقل، إنما هو سر خفي، سر يُكشف للمستعدّين ان يصغوا إليه ويجتهدوا في معرفته وفهمه بروح الايمان، حيث ان الحقيقة الانجيلية ليست معرفة ذهنية محضة، إنما هي معرفة موجّهة الى القلب حيث يطبّق الانسان على حياته كل ما يكتشفه من تعاليم الرب.  إذا السماع لكلمة الرب يسوع ضرورية، ولكن لا تكفي للخلاص لوحدها، وانما الحاجة الضرورية لان يترجم هذا السماع الى فعل اي عمل يأتي بثمر كثير

 

يدعونا يسوع أن ننظر إلى داخلنا ونسأل ذواتنا إن كانت قلوبنا منفتحًة لتقبُّل بإيمان بذرة كلمة الله. يدعونا يسوع الى الإصغاء الى كلمة الله التي تجعلنا تلاميذه الذين يثمرون. لذلك لنسأل ذواتنا إن كانت حجارة الكسل والاشواك لا تزال كثيرة وكبيرة تمنعا عن الاصغاء الى كلمة الله. وهل لنا الشجاعة للقيام بتنقية قلبنا وإزالة الحجارة والأشواك التي تخنق الكلمة حاملين إلى الرب في الاعتراف والصلاة حجارتنا وأشواكنا؟  

 

الخلاصة

 

ضرب يسوع مثل الزارع ويُفسّره للرسل. يتكلم يسوع عن زارع خرج ليزرع، فنثر بذوره في كافة أنواع التربة. بعضها لم يثمر أما ما سقط على الأرض الطيبة، فأثمر ثمرًا كثيرًا. يدور مثل الزراع حول خروج السيد المسيح ليزرع كلمة في البشرية، وما زال يزرع اليوم وبشتّى الطرق. ويريد يسوع، عن طريق مثل الزارع، وأشار إلى أن الزارع هو يسوع، ينشر بأناة وسخاء كلمته. وأن قلبنا وكأرض، يمكن أن يكون طيّبا وهكذا تعطي الكلمة الثمر، ولكن قد يكون أيضًا قاسيًا. وهذا الامر يحدث كل يوم حيث ينادى الانجيل

 

أهتمِّت الاناجيل متى مرقس ولوقا في تطبيق مثل الزارع طبق ردود فعل تختلف باختلاف استعداد الذين يتقبلون كلمة الله وبقدر اهتمامهم بالتعرض للفشل والاحوال الباطنية التي تحول دون إثمار الكلمة. فشدّد متى الإنجيلي في مثل الزارع (متى 13: 1- 23) على ضرورة "معرفة" الرسالة أي تفهمها الروحي الذي يحمل على ممارستها. وهذا الفهم يؤدي الى التمييز بين الجمع والتلاميذ (متى 13: 10-17).  أمَّا مرقس فشدّد على أوضاع زمنه، فيوحي بأن التعرض للفشل يعود الى الاضطهادات، مما أضطر كثيرين من المسيحيين على التراجع (مرقس)؛ وأمَّا لوقا الإنجيلي بيّن ان تقبل الكلمة يفترض عند الانسان وجود الايمان ولا سيما الثبات في ساعة التجربة (لوقا 8: 9-15).

 

واراد يسوع أن يعلّمنا أن كرازة الإنجيل لا بدّ أن تلقى العثرات والفشل، ولذلك تمثل الأنواع الاربعة من التربة ردود أفعالنا المختلفة نحو كلمة الله حيث ان ردود أفعالنا تختلف باختلاف استعداداتنا، فبعض الناس يقسّون قلوبهم امام نداء كلمة الرب، والبعض لا عُمق لهم، وآخرون قد افسدتهم هموم الدنيا وشهواتها والبعض يتقبلون الكلمة.وهنالك ناحية أخرى يضعنا فيها المثل وهي التذكير بالثمار الأخيرة للأرض الطيبة والتي تفوق كل توقع سابق وكل مقياس بشري. وهكذا يهيئ يسوع تلاميذه بصورة مناسبة لكيلا ييأسوا من الفشل بل أن يتابعوا عملهم بإيمان وصبر

 

ودعوتنا أن نُصبح تربة بلا صخور ولا حصى أو أي شيء يُعيق نمو الكلمة، تربة مُعدَّة تماماً لاستقبال مشيئة الربّ وكلمته برضى وفرح. فنتساءل أخيرا: أي نوع من التربة نحن؟ فإلى أي مدى قد تأصلت كلمة الله في حياتنا؟

 

دعاء

 

أيها الآب السماوي، يا من أرسلت ابنك الحبيب يسوع المسيح لكي يلقي كلمتك الإلهية في قلوبنا، نطلب اليك ان تُزيل من قلوبنا حجارة المصاعب والهموم، ومن نفوسنا اشواك الاهواء، ومن حياتنا طيور التجارب، وأعطنا عيون نبصر بها وآذان نسمع بها كلمتك الحية فنحفظها، ونعمل بموجبها فتنمو فينا ثمرا ويَبْقى ثَمَرُنا ونكون تلاميذك الحقيقيين نزرع معك كلمة الله. 

 

قصة حقيقية: كلمة الرب

 

دعي كاهن مبارك لإلقاء كلمة للشباب في  بالكنيسة موضوعها "الحياة مع المسيح"، وللأسف تعرضت القاهرة في ليلة هذا الاجتماع لموجة شديدة البرودة تصاحبها أمطار رعدية غزيرة. وقف الأب الكاهن يصلى قبل الذهاب إلى الكنيسة ليتكلم الرب على فمه ويمكنه من الوصول إلى الكنيسة بسهولة في هذا الطقس الرديء ويطرد من فكره الاعتذار عن الذهاب لسوء الطقس وقد يحضر شباب لسماع كلمة الله.

 

رغم هذا الطقس خرج الأب الكاهن ليصل الكنيسة بعد طول معاناه في الموعد المحدد ليجد كل شيء قد أعد فالكنيسة مفتوحة ومضاءة وفوق منضدة أمام المصلين يرقد الكتاب المقدس و الميكروفون ولكن الكنيسة خالية تماماً من الشباب أو حتى الخدام وبلا حراس، وبدأ يتكلم بدون مستمعين لعل أحد يصل ولو متأخراً إلى الكنيسة تحدث عن جمال العشرة مع المسيح تحت كل الظروف والصعوبات تحدث عن طهارة يوسف وتحمله ظلم اخوته وظلم فوطيفار ليصبح في النهاية الثاني بعد فرعون (تك 41: 43) تحدث عن حنانيا وسفيرة اللذان اختلسا من ثمن الحقل (أع 5: 3) واستمر يتحدث حتى انتهى الوقت المحدد دون أن يحضر أحد وصلى واختتم قائلاً "امضوا بسلام سلام الرب يكون معكم". لم يكن هناك من يرد عليه، فغادر الكنيسة ومازالت الأمطار تهطل والرعد يزمجر والبرق يتوعد.

 

وتمر الأيام والشهور والسنوات ليقابله شاب بعد القداس ويبادره بقوله “أنت يا أبى لا تعرفني ولكنى أعرفك جيداً وكنت أبحث عنك طويلاً لقد ألتقيت بك في يوم شديد البرودة لم تكن وحدك بالكنيسة كنت أختبئ في أحد أركانها لعلك تغادرها فأسرق صندوق التبرعات منتهزاً فرصة الطقس السيء كان الشيطان ملأ قلبي، ولكن كلماتك أنارت كالبرق ذهني وملأت كالرعد ادنى فانهمرت كالمطر دموعي خرج بعدها الشيطان من قلبي بعد حواراً لتسكن كلمة الله كلمتك يا أبى، كانت كلمة الله لأنها لم ترجع فارغة".