موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٨ يوليو / تموز ٢٠٢٠

مثل الزؤان وحَبَّةِ الخَردَل وَالخَميرة

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين
الاحد السادس عشر من السنة (متى 13: 24-43)

الاحد السادس عشر من السنة (متى 13: 24-43)

 

يُسلط إنجيل الأحد (متى 13: 24-43) الأضواء على تعليم يسوع حول نمو الملكوت في العالم وما يمرّ به من اخطار وكيفية مقاومتها بالصبر من خلال مثل الزؤان (13: 24-30)، وبالثقة من خلال مثل حَبَّةِ خَردَل (13: 31-32) وبالعمل الخفي من خلال مثل الخميرة (متى13/ 31-32)؛ ومن هنا تكمن اهمية البحث في وقائع النص وتطبيقاته.

 

أولا: وقائع النص الانجيلي (متى 13: 24-43)

 

24 وضرَبَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: مَثَل ُ مَلَكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِه.

 

تشير عبارة "ضرَبَ لَهم مَثَلاً" الى احجية قدّمها يسوع الى الجموع لتنبيه أفكارهم كي يبحثوا عن معناها الروحي. أمَّا عبارة" مَثَلُ مَلَكوتِ السَّمَواتِ كَمَثلِ رَجُلٍ" فلا تشير الى تشبيه ملكوت السماوات برجل بل الى تشبيه ملكوت السماوات بحالة رجل حين يزرع زرعا جيدا في حقله. وهو أسلوب عمل الله خلال عصر الانجيل كما يظهر بوضوح في التفسير الذي القاه الرب (متى 13: 37-43) أمَّا عبارة "مَلَكوتِ السَّمَواتِ" فتشير الى الملكوت الجديد الذي أتى به المسيح ليبدأه على الارض ويُتمِّمه في السماء. أمَّا عبارة "كَمَثلِ رَجُلٍ " فتشير الى المسيح نفسه الذي يزرع في حقل رسالته. أمَّا عبارة "زَرْعاً طَيِّبًا" فتشير الى زرعٍ نافعٍ كالحنطة، وهذا الزرع رمز الى بَنُي المَلَكوت الذين يمارسون بأمانة شريعة الله؛ أمَّا عبارة "حقله" فتشير الى العالَم، فالعالم كله حقل الربّ. ففي كل الشعوب يزرع المسيح زرعه. وهذا الزرع ليس تعليماً وإنجيلا وحقائق التي يُكرز بها، ونعما التي تُغرس فحسب، إنما أيضا نفوساً التي تقدّس.

 

25 وبَينما النَّاسُ نائمون، جاءَ عَدوُّهُ فزَرعَ بَعدَه بينَ القَمحِ زُؤاناً وانْصَرَف.

 

تشير عبارة "بَينما النَّاسُ نائمون" الى الليل الذي هو وقت النوم، وهو وقت تسلّل العدوّ إلى الكرم، حيث لا لوم على صاحب الحقل ولا على خدامه لأنهم نائمون. ولم يقل متى الإنجيلي "بينما الزارع نائم"، لان المسيح لا ينام بل هو ساهر على كنيسته ومهتم بها. ولكن الناس هم الذين ينامون وهم الذين في غفلة وتراخ ٍ وكسل وإهمال ونسيان الله. أمَّا عبارة "عَدوُّهُ" فتشير الى أحد جيران الزارع ممن أرادوا ضرره، وهو رمز الى الشيطان، رئيس مملكة الظلمة الذي لا يُطيق مملكة النور ويُخرّب عمل الله ويُقاوم صاحب الكرم أي عمل الله، وهو يُحارب أولاد الله أيضا، كما جاء في تنبيهات بطرس الرسول "إنَّ إِبليسَ خًصْمَكم كالأَسدِ الزَّائِرِ يَرودُ في طَلَبِ فَريسةٍ لَه" (1 بطرس 5: 8). ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم "بعد الأنبياء يأتي أنبياء كذبة، وبعد الرسل يأتي رسل كذبة، وبعد المسيح يأتي من هم ضد المسيح"؛ أمَّا عبارة "نائمون" فلا تشير الى وصفَ الطريقة التي يتّبعها الشيطان للخداع، فأنه يستغل نوم الجسد الطبيعي وما يشير اليه النوم من التراخي والإهمال أو نسيان الله في العمل الرعوي والجهاد الروحي ويُعلق القديس ايرونيموس "لا تسمح للعدو أن يلقي زُؤاناً وسط القمح بينما الزارع نائم، أي عندما يكون الذهن الملتصق بالله في غير حراسة". يطلب يسوع الاَّ ننام روحيًا بل ان نكون دائمًا في يقظة وملتصقًين بالله. أمَّا عبارة "القَمحِ" فتشير الى عمل الله؛ أمَّا عبارة "الزؤان" فتشير الى العشب السام الضار بالزرع وهو يشبه الحنطة كالشَّوك والقُرَّاص والعَوسَج المعروف في منطقة الجليل (أشعيا 34: 13)، إنه يشبه الحنطة في الشكل ويصعب تمييزه عنها في البداية، وإذا طُحنت بذوره مع الغلال يكون الدقيق الناتج عنه ساما (هوشع 9: 6). زرع العدو الزؤان حتى يُحْدِثَ ضررا في الحقل ولا يُجني غلة جيّدة وقت الحصاد، ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إنّ طريقة الشيطان هي أن يمزج دائمًا الحقيقة في الخطأ المتخفّي وراء مظاهر وألوان الحقيقة، بحيث يتمكّن بسهولة من الإيقاع بالذين ينخدعون بسهولة. لذا، تكلّم ربّنا فقط عن الزّؤان لأنّ هذه النبتة تشبه القمح" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2). والزؤان يرمز الى بنو الشرير، وهم الاشرار وفعلة الاثم الذين يُسبِّبون الشكوك والعثار ويعملون عمل الشيطان ويجعلون الناس يسقطون في حبائله. أمَّا القديس ايرونيموس فيرى في الزؤان رمز تعليم الهرطقة والآب إسيذورس بالبلسان يرى في الزؤان رمز الأفكار الشرّيرة".  فالزؤان هو رمز هرطقات وفلسفات مخادعة إلحادية وشكوك وشهوات وخطيئة. أمَّا عبارة "انْصَرَف" فتشير ذهابه خفية كما اتى كأنه لم يفعل شيء مع أنه سبب الشر الموجود في العالم. الشرّ موجود لأنّ قوّة الشرّ موجودة.

 

26 فلَمَّا نَمى النَّبْتُ وأَخرَجَ سُنبُلَه، ظَهَرَ معَه الزُّؤان.

 

تشير عبارة "ظَهَرَ معَه الزُّؤان" الى عدم وجود فرق بين القمح والزؤان في البداية لانهما كانا مخفيان. لكن متى ظهرت السنابل ظهر الزؤان. قلما برزت الشرور في أو ل حدوثها.

 

27 فجاءَ رَبَّ البيتِ خَدَمُه وقالوا له: يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِكَ؟ فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان؟

 

تشير عبارة "خَدَمُه" إلى عبيد رب البيت الذين لم يكونوا كسالى لأنه حين ظهر الشر انتبهوا له وأخبروا به سيِّدهم. أمَّا عبارة "يا ربّ، ألَم تَزرَعْ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِكَ؟" فتشير الى سؤال استفهامي يُراد به إثبات ان الزرع كان جيدا، وفيه تعجبٌ وحيرةٌ من النتيجة التي هي خلاف المنتظر. إذ ان المسيح الرب الذي هو صاحب الحقل والزرع والملكوت لا يأتي منه الشرّ، إنما من الربّ يأتي الخير فقط، ولا نستطيع أن ننسب الشرّ إلى الربّ، لانَّ الربّ كامل ولا يمكن أن يصدر عن الكامل سوى الخير كما جاء في سفر التكوين "ورأَى اللهُ جَميعَ ما صَنَعَه فاذا هو حَسَنٌ جِدًّا"(تكوين 1: 31). وهذا يؤكده يوحنا الانجيلي "إِنَّ اللهَ لَم يُرسِلِ ابنَه إِلى العالَم لِيَدينَ العالَم بل لِيُخَلَّصَ بِه العالَم" (يوحنا 3: 17)؛ امَّا عبارة "فمِن أَينَ جاءَهُ الزُّؤان؟" فتشير الى حيرة الناس لوجود الشرّ في العالم مع أن تعليم المسيح كان زرعا جيدا، وأنّ حياة السيّد المسيح كلّها صراع ضدّ قوّة الشر! وهذه هي حيرة الناس لوجود الشرّ في العالم. اما عبارة "الزُّؤان" تشير الى عشب اسمه باللاتينية Lolium وهو ذو أطراف ليفية كثيرة، ينبت كثيراً بين الحنطة بدون زراعة ومرّات يُنثر حبوبه، وهو عشب سام. يتعذر التفريق بينه وبين الحنطة في البداية، ولكن الفرق يظهر بعد النضج والإثمار. ولا يمكن اقتلاع الزوان من وسط الحنطة والا حدثت أضرار بالغة للحنطة، فيضطر صاحب الحقل إلى التأنِّي عليه حتى وقت الحصاد حيث يُجمع أولاً للحريق، ثم تجمع الحنطة بعد ذلك. والزوان يصوّر عمل إبليس لتعطيل ملكوت المسيح كما أن الزوان هم من الأشرار في داخل الكنيسة.

 

28 فقالَ لَهم: ((أَحَدُ الأَعداءِ فَعَلَ ذلك)) فقالَ له الخَدَم: ((أَفَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه؟ ))

 

تشير عبارة "أَحَدُ الأَعداءِ فَعَلَ ذلك" الى من ضمر العداوة في قلبه وزرع الزؤان في وقت الزرع حيث لا يمكن ان يفعله صديق. ويدل العدو على ابليس، عدو الله هو الذي زرع الزؤان في ذات الحقل الّذي قد زرع فيه الربّ زرعا طيِّبا. فالعدو يُخرّب عمل الله؛ وأن الشر في العالم لا يأتي من الله بل من العدو، الشيطان الذي يزرع الانقسام والخلاف. وامَّا عبارة "فقالَ له الخَدَم" فتشير الى الصالحين الذين لا يطيقون رؤية الأشرار الى جانبهم، ولا رؤية الشر من حولهم، فطلبوا استئصال الأشرار من ملكوت الله كما اقترح التلاميذ يوما على المسيح ان يستزلوا على السامريين نارا من السماء تأكلهم (لوقا 9: 54-55). أمَّا عبارة "أَفَتُريدُ أَن نَذهَبَ فنَجمَعَه؟ " فتشير الى فصل الزؤان عن الحنطة ولكن يتم الفصل عادة بعد دق الحنطة او درسها، وذلك لأنه يصعب في الاطوار الأولى من النمو التمييز بين نبات الحنطة ونبات الزؤان. ولا يظهر الزؤان جليا الاَّ بعد ظهور رؤوس النبات، لان الزؤان بذرة تشبه في شكلها وفي حجمها بذرة الحنطة، ولكنها رمادية غامقة في لونها.  ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم " تأمّلْ الآن حماس الخدّام. هم يريدون اقتلاع الزؤان في اللحظة عينها. مع أنّ ذاك التصرّف كان متسرِّعًا، لكنّه يبقى دليلاً على اهتمامهم بالزرع. هم لم يبالوا سوى بخلاص الحصاد، ولم يكن يهمّهم الانتقام من الذي زرع الزؤان" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2).

 

29 فقال: ((لا، مَخافةَ أَن تَقلَعوا القَمْحَ وأَنتُم تَجمَعونَ الزُّؤان،

 

تشير الآية الى منع السيد قلع الزؤان لأنه يأتي بالشر أكثر من الخير، لأنه يصعب في اول الأمر ان يُميَّز الزؤان عن القمح فيحتمل ان يقلع القمح معه. وعلى هذا النسق يصبر الله على الأشرار لأجل الابرار.  ويُعلق القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم "إن اقتلعنا الزؤان الآن، قد نُلحق الأذى بالحصاد الآتي، من خلال اقتلاع مَن يمكن أن يتغيّر ويُصبح أفضل" (عظات حول إنجيل القدّيس متّى، عظة رقم 46: 1-2).

 

30 فَدَعوهما يَنبُتانِ معاً إِلى يَومِ الحَصاد، حتَّى إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين: اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق. وأَمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إِلى أَهرائي)).

 

تشير عبارة "فَدَعوهما يَنبُتانِ معاً" الى ترك رب الحقل الزؤان ينمو مع الحنطة بقصد فصل الواحد عن الآخر في وقت الحصاد وجمع النافع وحرق الضار. امَّا عبارة " الحَصاد " فتشير الى ساعة فصل الحنطة عن الزؤان، وهي استعارة كتابية تقليدية ترمز الى الدينونة ونهاية الأزمنة الأخيرة (متى 3: 12)، " كما تنبأ يوئيل النبي "لِتَنهَضِ الأُمَمُ وتَصعَدْ إِلى وادي يوشافاط فإنِّي هُناكَ أَجلِس لِأَدينَ جَميعَ الأُمَمَ مِن كُلِّ ناحِيَة أَعمِلوا المِنجلَ فإنَّ الحِصادَ قد بَلغَ (يوئيل 4: 12-13). أمَّا عبارة "الحَصَّادين " فتشير الى الملائكة لأن هذا عمل الملائكة في الدينونة الأخيرة كما جاء في انجيل متى " يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوتِه" ( متى13: 41) ؛ أمَّا عبارة "اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق" فتشير الى  جمع بنو الشرير من جماعة المسيح، وعندئذٍ يفقدون كل اشتراك مع المسيح في الحياة الابدية كما صرّح يسوع " مَن لا يَثْبُتْ فيَّ يُلْقَ كالغُصنِ إِلى الخارِجِ فَيَيْبَس فيَجمَعونَ الأَغْصان وَيُلْقونَها في النَّارِ فَتَشتَعِل"(يوحنا 15: 6).

 

31 وضربَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: ((مَثَلُ مَلكوتِ السَّمَوات كَمَثَلِ حَبَّةِ خَردَل أَخذَها رَجُلٌ فَزرعَها في حَقلِه.

 

تشير عبارة "وضربَ لَهم مَثَلاً آخَرَ" الى تقديم المسيح مثل ثالث اخذه من فعل الحارث وحياة المزارع، لان كل سامعيه كانوا قد اختبروا ذلك. امَّا عبارة " حَبَّةِ خَردَل " فتشير الى بزرة واحدة التي تنبت عادة ًعلى ضفاف نهر الأردن في احجام مختلفة حتى يبلغ ارتفاعها حوالي ثلاثة أمتار وتصبح شجرة ضخمة في فلسطين تعشِّش فيها طيور السماء وتقف على اغصانها لالتقاط الحَب. وهو يزرع أيضا في الحدائق طلبا في بذوره التي تستخدم كنوع من انوا ع التوابل كالملح والفلفل. ويُعبّر لوقا الإنجيلي بمثل حَبَّةِ خَردَل عن انتشار ملكوت الله وعن قدرته على التحويل كما اختبره في العمل الرسولي (لوقا 13: 18-19). أمَّا عبارة " رَجُلٌ " فتشير الى المسيح؛ أمَّا عبارة "حَقلِه" فتشير الى العالم.

 

32 هيَ أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها، فإِذا نَمَت كانَت أَكبَرَ البُقول، بل صارَت شَجَرَةً حتَّى إِنَّ طُيورَ السَّماءِ تَأتي فتُعَشِّشُ في أَغصانِها

 

تشير عبارة "أَصغَرُ البُزورِ كُلِّها" الى البذور التي يزرعها الناس، إذ هناك تباين عظيم بين حَبَّةِ خَردَل ونبتتها. فصغر حجم حَبَّةِ خَردَل هو تعبير للنتائج للعمل الصغير، وأمَّا كِبر النبتة التي تنمو من هذه البذرة فيمثل انتشار ملكوت السماوات من بداية ضئيلة.  وقد استعمل اليهود هذه البذرة في امثالهم كما استعملها يسوع للدلالة على الأشياء الصغيرة.  "إِن كانَ لَكم مِنَ الإِيمانِ قَدْرُ حَبَّةِ خَردَل "(متى 17: 20) وجاءت في هذا المعنى في القرآن الكريم "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء/47). ان التباين بين صغر حَبَّةِ خَردَل وهي مدفونة في الأرض، وكبرها في نهاية نموها تشير الى قوة ملكوت الله التي تعمل في الخفاء من خلال أعمال يسوع وتعاليمه. أمَّا عبارة "البُقول" فتشير إلى نباتات او خضروات. أمَّا عبارة "شَجَرَةً" فتشير الى شعب الله الجديد، إسرائيل الجديد كما ورد في نبوءة حزقيال "في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّ ذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه" (حزقيال 17: 23). اما عبارة "صارَت شَجَرَةً" فتشير الى علو ونمو حَبَّةِ خَردَل حتى تستحق ان تُحسب شجرة. وقد ترمز الشجرة الى امبراطورية اشور وبابل كما ورد في نبوءة دانيال "أَوراقُها بَهِيَّة وثَمَرُها كَثير وفيها غِذاءٌ لِكُلِّ أَحَد وتَحتَها تَستَظِلُّ وُحوشُ البَرِّيَّة وإِلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء ومِنها يَتَغَذَّى كُلُّ بَشَر" (دانيال 4: 9)، كما ترمز الى الكنيسة التي كانت صغيرة في بدايتها لكنها تصير عظيمة وتمتد الى اقاصي الأرض؛ أمَّا عبارة "طُيورَ السَّماءِ" فتشير الى الطيور التي تستظل بها حيث ان الطيور تحب حبوب الخَردَل ، وهي تستخدم كغذاء للحَمام في فلسطين، وترمز الطيور الى الأمم وكان هذا رمزا مألوفا في كتب الادب اليهودية في ذلك العصر،  فهي تدل هنا على الشعوب الوثنية الذين آمنوا ودخلوا تحت ظلال الكنيسة. فالمثل يرمز بالتالي الى انتشار الإنجيل وازدهار الحق ونمو الملكوت بالرغم من مضايقات أهل العالم، كما تدل أيضا على نمو الكنيسة لتكون قوة مسكونية.  يقوم يسوع هنا بالمقارنة بين نبتة الخَردَل وملكوته أي كنيسته في ثلاثة أمور: صغر كل منهما في اول الامر، ثم نمو كل من البزرة والكنيسة بالتدريج وثالثا عظمة النتيجة في كليهما. وتدلّ حَبَّةِ خَردَل على أن بداية الملكوت الضعيفة (هو كلا شيء) لا تستبعد نموّه المجيد في زمن المجيء الثاني للمسيح. وقد رغبت الجماعات الأولى وانتظرت تجلّي ملكوت الله.

 

 33 وأَورَدَ لَهم مَثَلاً آخَرَ قال: مثَلُ مَلَكوتِ السَّموات كَمَثلِ خَميرةٍ أَخَذَتها امرأَةٌ، فجَعَلتها في ثَلاثةِ مَكاييلَ مِنَ الدَّقيق حتَّى اختَمرَت كُلُّها

 

تشير عبارة "أَورَدَ لَهم مَثَلاً آخَرَ" الى مثل الخَميرة الذي هو المثل الرابع الذي ترمز الى نمو ملكوت المسيح من بداية صغيرة في قلب المؤمن وفي الكنيسة نموا باطنيا خفيا، بعكس حَبَّةِ الخَردَل التي تنمو نموا ظاهريا. اما عبارة " خَميرةٍ " فتشير الى مادة تسبب تخميراً فتجعل الخبز الذَّ طعما وأسهل هضما وأوفق صحةً. فالخميرة في واقعها مأخوذة من الدقيق، لكنها تحمل "قوّة الاختمار"، وإذا وضعت في مادة تختلف عنها حوَّلتها كلها حتى صارت مثلها.  ولها دلائل رمزية في الكتاب المقدس للشر حيث انها استعيرت في الانجيل للرياء والخبث اذ حذّر يسوع تلاميذه من خَميرَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقِّيين كما جاء في انجيل متى "ففَهِموا عِندَئذٍ أَنَّه لم يأمُرْهم أَن يَحذَروا خَميرَ الخُبز، بل تَعليمَ الفِرِّيسيِّينَ والصَّدُّوقيِّين" (متى 16: 12) حيث أوضح ذلك بولس الرسول في تعليمه " لْنُعيِّدْ إِذًا، ولكِن لا بِالخَميرةِ القَديمة ولا بِخَميرةِ الخُبْثِ والفَساد، بل بِفَطيرِ الصَّفاءِ والحَقّ" (1قورنتس 5: 8). ومنع الخميرة من ان تكون في تقدمات خيمة الاجتماع والهيكل (خروج 13: 3) لكن متى الإنجيلي استخدم الخميرة لصغر حجمها وكميتها لكن في داخلها مادة فعَّالة تغيِّر كل العجين. فهكذا النعمة في قلب الانسان تحوّل كل صفاته الى صفاتها، ومثلها ملكوت المسيح الذي إذ وضُع بين ممالك العالم يجعلها مثله بواسطة خميرة الانجيل. امَّا عبارة "أَخَذَتها" فتشير الى اخذها من خارج الخميرة. وكذلك انجيل المسيح اتى هذا العالم الى قلب الى الإنسان من الخارج، أتاه من السماء.  امَّا عبارة "مرأَةٌ" فتشير الى اختصاص المرأة في العجين ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس "تلقّت حوّاء من الشيطان خميرة الخداع؛ وها هي هذه المرأة تتلقّى من الله خميرة الإيمان""(العظة 99). أمَّا عبارة "فجَعَلتها" في الأصل اليوناني ἐνέκρυψεν (معناها خبَّأت) الى خلط الخميرة في العجين حتى لم تتميز عنه لكنها تفعل بقوة؛ أمَّا عبارة "مَكاييلَ" فتشير الى وِحدة قياس في فلسطين، ومكيال هو ما يعادل خمسة كيلوغرام. وعليه فإن ثَلاثةِ مَكاييلَ من الدقيق تعادل خمس عشر كيلوغرام أي مقدار من الخبز يكفي لإطعام مئة شخص (التكوين 18: 6)، وهي كمية عجين الذي اصطلح عليها في ذلك العصر للدلالة على التضخيم. وهنا تدل على ان الأمور الإلهية تفوق انتظار الانسان.  لكن رأى البعض في ثَلاثةِ مَكاييلَ رموز أخرى: فالقديس اوغسطينوس قال "انها تمثل أولاد نوح الثلاثة الذين ينحدر منهم الجنس البشري. وقال غيره انها تمثل أجزاء العالم الثلاثة المعروفة في ذلك الزمن. أمَّا القديس ايرونيموس فيرى في ثَلاثةِ مَكاييلَ “رمز الوِحدة بين الروح والنفس والجسد، فالكنيسة إنّما تقدّم السيّد المسيح كسرّ تقديس للإنسان في كليَّته، روحًا ونفسًا وجسدًا". امَّا عبارة "حتَّى اختَمرَت كُلُّها" فتشير الى تأثير الخميرة على العجين كتأثير الإنجيل على قوى الشر في العالم، وهو يقدّس كل قلب يدخله تقديسا كاملا.  ومن هنا نجد أوجه الشبه بين الخميرة والانجيل، ان كلاهما امر خارج عنه وله تأثير في غيره عند اختلاطه به (العبرانيين 4: 12) وكلاهما إذا جعل في شيء يؤثر فيه فيصبح مثله تماما كما صرَّح بولس الرسول" ما تَعلَمونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَميرِ يُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه؟ (1 قورنتس 5: 6)، وان كلاهما يؤثر باطنا بالهدوء (مرقس 4: 27) ومفعولهما يؤثر تأثير فعَّال في غيره، فالعجين المختمر، يخمِّر غيره والمسيحي بالحق يجعل غيره مسيحيا.

 

34 هذا كُلُّه قالَه يسوعُ لِلجُموعِ بِالأَمثال، ولَم يقُلْ لَهُم شَيئاً مِن دونِ مَثَل،

 

تشير عبارة "هذا كُلُّه" الى الامثال التي خاطب بها يسوع الجموع وعلمهم بها مقتصرا على هذا الأسلوب من تعليمه في ذلك الوقت.

 

35 لِيَتِمَّ ما قيلَ على لِسانِ النَّبِيّ: أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العالَم

 

اما عبارة "أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال" في الأصل اليوناني Ἀνοίξω ἐν παραβολαῖς τὸ στόμα μου (معناها أفتح فمي للأمثال). فتشير الى استخدام يسوع فن أسلوب الامثال الى ما يقتضيه الوحي بالأسرار الإلهية. أمَّا عبارة "أَتَكَلَّمُ بِالأَمثال وأُعلِنُ ما كانَ خَفِيّاً مُنذُ إِنشاءِ العالَم" فتشير الى تعليم يسوع بالأمثال هو إتمام للنبوءة صاحب المزامير "أَفتَحُ فَمي بِالأَمْثال وأَفيضُ بِأَلْغازِ الزَّمَنِ القَديم"(مزمور 78: 2). وهذا ما يؤكده بولس الرسول بقوله "لِذاكَ القادِرِ على أَن يُثَبِّتَكم بِحَسَبِ البِشارَة الَّتي أُعلِنُها مُنادِيًا بِيَسوعَ المسيح وَفْقًا لِسِرٍّ كُشِفَ وقد ظَلَّ مَكْتومًا مَدى الأَزَل" (رومة 16: 25).

 

36 ثُمَّ تَركَ الجُموعَ ورَجَعَ إِلى البَيت. فدَنا مِنه تَلاميذُه وقالوا له: فَسِّرْ لَنا مثَلَ زُؤانِ الحَقْل

 

تشير عبارة "الجُموعَ" الى الجموع الذين ذُكروا سابقا "فازْدَحَمَت عليهِ جُموعٌ كَثيرة" (متى 13: 2). امَّا عبارة "البَيت" فتشير الى بيت سمعان بطرس في كفرناحوم (متى 14: 8)؛ وهي ترمز للكنيسة حيث نجتمع باسم المسيح الذي يعلن أسراره لنا. امَّا عبارة "دنا" فتشير الى تقدم التلاميذ من يسوع ليسألوه. إن تقدّم أحدٌ لله وكان غيورًا، فالله من جانبه يُعطيه كل شيء، أمَّا من لم ينشغل بالاقتراب من الله، ولا يساهم بشيء من جانبه فلن تُمنح له عطايا الله. امَّا عبارة "تَلاميذُه" فلا تشير الى الاثني عشر فقط أنما أيضا الى غيرهم المحيطين بهم كما يوضِّح متى الإنجيلي "فلَمَّا اعتَزَلَ الجَمْع، سأَلَه الَّذينَ حَولَه معَ الاثْنَي عَشَرَ عنِ الأَمثال" (مرقس 4: 10).

 

 37 فأَجابَهم: الَّذي يَزرَعُ الزَّرْعَ الطَّيِّبَ هو ابنُ الإِنسان

 

تشير عبارة "فأَجابَهم" الى شرح يسوع للمرة الثانية مثلا آخر. امَّا عبارة" يَزرَعُ الزَّرْعَ الطَّيِّبَ" فتشير الى يسوع المسيح كما ورد سابقا "كَمَثلِ رَجُلٍ زَرَعَ زَرْعاً طَيِّباً في حَقلِه" (متى 13: 24). أمَّا عبارة "ابنُ الإِنسان" فتشير الى يسوع المسيح في حال اتضاعه في بدء حياته الرسولية كما ورد في إنجيل متى "وأَمَّا ابنُ الإِنسان فَلَيسَ لَه ما يَضَعُ علَيهِ رَأسَه" (متى 8: 20).  

 

38 والحَقْلُ هو العالَم والزَّرْعُ الطَّيِّبُ بَنُو المَلَكوت، والزُّؤانُ بَنُو الشِّرِّير،

 

تشير عبارة " الحَقْلُ هو العالَم " فتشير الى الحقل حيث زُرع الزرع الجيد، والعالم حيث زُرع الزؤان، فأراد يسوع ان يُبيِّن لتلاميذه اختلاط الابرار بالأشرار في العالم باسره كما يؤكده انجيل متى "يُطلِعُ الله شَمْسَه على الأَشرارِ والأَخيار، ويُنزِلُ المَطَرَ على الأَبرارِ والفُجَّار" (متى 5: 45)؛ امَّا عبارة "والزَّرْعُ الطَّيِّبُ" فتشير الى ابناء الملكوت، لانَّ كلمة الله التي زُرعت في قلوبهم جدّدتهم فكانت إثمار أعمالهم الصالحة  كما يصرِّح يعقوب الرسول "شاءَ أَن يَلِدَنا بِكَلِمَةِ الحَقّ لِنَكونَ كمِثْلِ باكورَةٍ لِخَلائِقِه" (يعقوب 1: 18) امَّا عبارة "بَنُو المَلَكوت" فتشير الى اولئك الذين ينتمون الى الملكوت واصبحوا ورثة الملكوت لا بالميلاد ولا بالإرث بل بالنعمة؛ وهم الذين يعيشون حياة التقوى في القلب (متى 6: 33) ويسيرون على النظام الذي أتى المسيح لينظمه (متى 4: 17)؛ أمَّا عبارة "بَنُو الشِّرِّير" فتشير الى اولئك الذين ينتمون الى الشرير، وهم الزؤان الوارد ذكره سابقا (متى 13: 19). وسُمُّوا أولاد الشيطان لانهم يشبهونه في صفاتهم وأعمالهم، وهو يقودهم وهم خاصته ويعملون اعماله في العالم وسيشاركونه في العذاب كما ورد في الانجيل "ثُمَّ يقولُ لِلَّذينَ عنِ الشِّمال: "إِليكُم عَنِّي، أَيُّها المَلاعين، إِلى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ المُعدَّةِ لإِبليسَ وملائِكَتِه" (متى 25: 41)، ويصفهم بولس الرسول بقوله "يتبعون سيرَةَ هذا العالَم، سيرَةَ سَيِّدِ مَملَكَةِ الجَوّ، ذاك الرُّوحِ الَّذي يَعمَلُ الآنَ في أَبْناءِ المَعصِيَة" (أفسس 2: 2) وأمَّا انجيل يوحنا فيصف بتو الشرير بقوله "أنتُم أَولادُ أَبيكُم إِبليس تُريدونَ إتمامَ شَهَواتِ أَبيكم. كانَ مُنذُ البَدءِ قَتَّالاً لِلنَّاس ولَم يَثبُتْ على الحَقّ لأَنَّه ليسَ فيه شَيءٌ مِنَ الحقّ. فَإِذا تكَلَّمَ بِالكَذِب تَكَلَّمَ بِما عِندَه لأَنَّه كذَّابٌ وأَبو الكَذِب" (يوحنا 8: 44).

 

39 والعَدُوُّ الَّذي زَرَعَه هو إِبليس، والحَصادُ هوُ نِهايَةُ العالَم، والحَصَّادونَ هُمُ المَلائِكة.

 

تشير عبارة "العَدُوُّ" الى عدو المسيح كما ذكر في الآية (متى 13: 25) والى وعدو الانسان أيضا منذ القديم (التكوين 3: 15). اما عبارة "إِبليس" فتشير الى الشيطان (معناها خصم) ولكن معناه واشٍ او مشتكٍ (متى 4: 1)، وسُمِّي بالشرير (متى 13: 38)، لأنَّه أعظم الأشرار فهو شرٌ في ذاته، وهو علة الشر في غيره. ويعارض المسيح على الدوام أذ يرسل أنبياء كذبة مقابل أنبياء صادقين، ورسل مخادعين ونصّاَبين مقابل  رسل مستقيمين ونزهين. اما عبارة "الحَصادُ" فتشير الى جمع غلال العالم من خير وشر على طوال الازمنة منذ بدء الخليقة الى يوم الدينونة لتمييز الواحد عن الآخر وفصله عنه الى الابد. اما عبارة "نِهايَةُ العالَم" فتشير الى انقضاء الدهر الحالي المعين للفصل بين الابرار والشرار. اما عبارة "الحَصَّادونَ" فتشير الى الفعلة الذين يستخدمهم الله للجمع او الفصل.  اما عبارة "المَلائِكة." فتشير الى أرواح ارفع رتبة من البشر وهم منزهون عن العوارض الجسدية والنقص البشري وهم مطيعون لأوامر الله ومتممون مقاصده.

 

40 فكما أَنَّ الزُّؤانَ يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار، فكذلك يكونُ عِندَ نِهايَةِ العالَم:

 

تشير عبارة "يُجمَعُ ويُحرَقُ في النَّار" الى قصاص الأشرار إذ يهلكون حال انفصالهم عن الابرار يوم الدينونة.

 

41 يُرسِلُ ابنُ الإِنسانِ مَلائكتَه، فَيَجْمَعونَ مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً، فيُخرِجونَهم مِن مَلَكوتِه،

 

تشير عبارة "ابنُ الإِنسانِ" الى المسيح الذي يحتمل الأشرار بطول الأناة وبصبر لكنه لا يحتملهم الى الابد. اما عبارة "مُسَبِّبي العَثَراتِ" فتشير الى المُضلِّين الذين يوقعون غيرهم في الإثم. اما عبارة "مُسَبِّبي العَثَراتِ والأَثَمَةَ كافَّةً" فتشير الى ما ورد في نبوءة صفنيا النبي "وَيلٌ لِلَمُتَمَرِّدَةِ الدَّنِسَة المَدينَةِ الظَّالِمَة" (صفنيا 1: 3). أمَّا عبارة "الأَثَمَةَ" في الأصل اليوناني ἀνομίαν  (معناها مخالفة القانون او التمرد) فتشير الى "الجُبَناءُ وغَيرُ المُؤمِنينَ والأَوغادُ (الأدنياء) والقَتَلَة والزُّناة والسَّحَرَةُ وعَبَدَةُ الأَوثانِ وجَميعُ الكَذَّابين"(رؤية 21: 8).

 

42 ويَقذِفونَ بِهم في أَتُّونِ النَّار، فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان.

 

تشير عبارة "أَتُّونِ" في الأصل اليوناني κάμινος (في العبرية תַּנּוּר معناها فرن ولعلها مستعارة من الكلمة الأكادية "أتونو") الى فرن لحرق الطوب أو لصهر المعادن، وقد وردت الكلمة في سفر دانيال (3: 6).  وكثيرًا ما تستخدم مرادفًا لجهنم مصير العصاة غير التائبين (متى 13: 5). ومن هذا نرى أن كلمة " أتون " تستعمل في أغلب الحالات مجازيًا للدلالة على دينونة الله. اما عبارة " فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان" فتشير الى الظلمة الخارجية كما جاء في إنجيل متى "فقالَ المَلِكُ لِلخَدَم: ((شُدُّوا يَديَه ورِجلَيه، وأَلقوهُ في الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة. فهُناكَ البُكاءُ وصَريفُ الأَسنان " (متى 22: 13). هناك بعض الذين يربطون الظُّلمَةِ البَرَّانِيَّة بشكل عام كمكان للانفصال عن الله. وكثيرا ما تستخدم هذه العبارات للدلالة على الدينونة الآتية.   أمَّا عبارة " البُكاءُ" فتشير الى الحزن او الندم؛ وأمَّا عبارة " صَريفُ الأَسنان " فتشير الى صرير المرء بأسنانه علامة الخوف والغضب واليأس والندم (متى 8: 12)، وهو رد الفعل للقلق المفرط او الى الامل المضنى. 

 

43 والصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ حِينَئذٍ كالشَّمْسِ في مَلَكوتِ أَبيهِم. فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسْمَعْ!

 

تشير عبارة "الصِّدِّيقونَ يُشِعُّونَ" الى الابرار الذين يُصَدِّقون قولَهم بالعمل وتوحي الى ما ورد في نبوءة دانيال "يُضيءُ العُقَلاءُ كضِياء الجَلَد، والَّذينَ جَعَلوا كَثيراً مِنَ النَّاسِ أَبْراراً كالكَواكِبِ أَبَدَ الدُّهور" (دانيال 12: 3). يعلق القديس غريغوريوس أسقف نيصص "إذ يترك الإنسان (محبّة) هذا العالم المظلم ويصبح نقيًا طاهرًا بعمل الروح وبالتصاقه بالنقاء الحقيقي... فتشع النفس ضوءً وتصير هي نفسها نورًا كوعد الرب". اما عبارة "كالشَّمْسِ" فتشير الى وجه الشبه مع البهاء والطهارة والبهجة وإنارة الغير. وكثيرا ما يُعبَّر عن السعادة السماوية بالنور ويُعبَّر عن جهنم بالنار. ولا يظهر جمال الابرار كما هو الاَّ بعد فصل الأشرار عنهم "لأَنَّكم قد مُتُّم وحَياتُكم مُحتَجِبةٌ معَ المسيحِ في الله" (قولسي 3: 3)، امَّا عبارة "مَلَكوتِ أَبيهِم" فتشير الى اعتراف الله بان الابرار هم ابناؤه ووريثته في خير الله وبركاته عليهم. امَّا عبارة "فمَن كانَ له أُذُنان فَلْيَسمَعْ!" فتشير الى ذوي الحاجة الشديدة الى الاصغاء التام لإدراك معناه. وقد تكرَّرت هذه العبارة مرارا في اسفار العهد الجديد (مرقس 9: 16، ولوقا 14: 35، ورؤيا 2: 7)؛ فعدم معرفة الناس طريق الخلاص ليس لعدم توفر آذان للسمع بل لعدم إرادتهم للأصغاء بآذانهم وقلوبهم.  أما عبارة "أُذُنان" فتشير الى الانتباه لإدراك فحوى تعليم مجازي كما جاء في تعليم موسى النبي لشعبه "ولم يُعطِكمُ الرَّبُّ إِلى هذا اليَومِ قُلوبًا لِتَعرِفوا وعُيونًا لِتُبصِروا وآذانًا لِتَسمعوا" (تثنية الاشتراع 29: 3). أمَّا عبارة "فَلْيَسمَعْ!" فتشير الى ضروري الانتباه المطلوب من المرء كي يفهم معنى التعليم الذي يُقدّم له. ويتوجّه المثل الى كل من يسمع ويستعد ليأخذ الموقف المطلوب. نحن نسمع بآذاننا، ولكن هناك نوعا أعمق من الاصغاء، وذلك عن طريق الذهن والقلب. فمن شأن المثل ان يحمل السامعين على التفكير فيتحقق مفعوله فيهم.  فمن يفتح قلبه على الكلمة يسمع ويفهم ويلتزم، ويدخل في هذا السر ويحمل ثمراً. أمَّا الذي ينغلق في أنانيته وكبريائه، فهو يسمع ولا يفهم، ينظر ولا يبُصر. ويُعلق القديس ايرونيموس بقوله " يقول أشعيا" يُنَبِّهُ أُذُني صَباحاً فصَباحاً لِأَسمعَ كتِلْميذ " (أشعيا 50: 4). لتفهم ماذا يقول؟ لقد أعطاني الرب أذنًا، إذ تكون لي أذن القلب؛ وهبني الأذن التي تسمع رسالة الله فما يسمعه النبي إنّما يسمعه في قلبه".  لذلك فالسيد المسيح يقول "فتَنَبَّهوا كَيفَ تَسمَعون" (لوقا 8: 18) أي كونوا ممن يريد أن يسمع ويفهم وينفذ ما تعلمه. وليس المهم السمع فقط بل أن نسمع ونعمل، فيُنتج ثمر الأعمال الصالحة (يعقوب1: 21-25). هل نسمع باهتمام وتأمل لنفهم وننفذ ما سمعناه وفهمناه

 

ثانياً: تطبيقات النص الإنجيلي (متى 13: 24-43)

 

  بعد دراسة موجزة عن وقائع النص الإنجيلي وتحليله (متى 13: 24-43)، نستنتج انه يتمحور حول ملكوت الله في ثلاثة امثالٍ: مثل الزؤان ومثل حَبَّةِ خَردَل ومثل الخميرة. ويدعونا فيها يسوع الى انتظار نمو الملكوت بصبر وثقة وبالعمل الخفيِّ.

 

1) دعوة الى الصبر من خلال مثل الزؤان

 

يدعونا يسوع في مثل الزؤان الى التحلي بالصبر امام شرور العالم وأعمال ابليس. إذ يتكلم المثل عن ملكوت الله الذي يتمثل في الارض الطيبة. ويمتد زمنه من المجيء الأول للمسيح الى مجيئه الثاني في يوم الحصاد ونهاية العالم. في هذه المدة يواصل ملكوت الله نمّوه بالرغم من وجود القمح (الابرار) والزؤان (الأشرار) معاً وظهور اعمال العدو (ابليس). والله يصبر حتى النهاية، فيُمهل وجود الأبرار والاشرار معاً، حتى النهاية حين يتمَّ الفرز والفصل بينهما.

 

يمكن ان يُصاب البعض بالدهشة أحياناً، ويمكنهم ان يتعثّروا لرؤيتهم الربّ لا يضرب فوراً مُروّجي الشر والظلم. ولكنّ الربّ لا يمكنه أن يُنكر ذاته: "إنَّ الرَّبَّ طَويلُ الأَناةِ كَثيرُ الرَّحمَة يَحتَمِلُ الإِثْمَ والمَعصية، لَكِنَّه لا يَتغاضى عن شَيء، بل يُعاقب إِثْمَ الآباءِ في البَنينَ إلى الحمل الثَّالثِ والرَّابع" (عدد 14: 18)، إنه تعالى يعلمنا كيف ننتظر. هو ينظر الى “حقل” كل إنسان بصبر ورحمة.   وعلى الانسان ان يسير على خطى الرب كما يوصي بولس الرسول "فإِنَّ عَبْدَ الرَّبِّ يَجِبُ علَيه أَن لا يَكونَ مُشاجِرًا، بل لَطيفًا بِجَميعِ النَّاس، أهْلاً لِلتَّعْليم، صَبورًا" (2 طيموتاوس 2: 24). فالصبر فضيلة تقود إلى الأمل، وفي الأمل ثقة للتغيير الأحسن، بل هناك حكمة قديمة تقول: الصبر يفترس الشيطان. فالنصر عند الله هو لمن يُقاوم بالصبر.

 

ونستنتج مما سبق ان غاية المثل هو التأكيد على وجود فترة انتقالية طويلة تظهر من خلالها اعمال العدو، وانَّ ملكوت الله يبلغ غايته بالرغم من تشابك الشر والخير تشابكا مُعقَّداً.  فلا بدَّ من الصبر، على مثال الله، والتغاضي عن اختلاط الأبرار والأشرار، لِعلَّ الأشرار يتداركون أمرهم ويطلبون الخلاص كما جاء في سفر الحكمة "مَنَحتَهم مُهلَةً لِلتوبَة وإِن لم يَخْفَ علَيكَ أَنَّ طَبيعَتَهم شِرِّيرة وأَنَّ خُبثَهم غَريزيٌّ وعَقلِيَّتَهم لا تَتَغير أَبدًا" (الحكمة 12: 10)، لان الله يُحب ُّالحياة على الموت، والخلاص على الهلاك، إنه الخلاص والحياة. 

 

ويوصينا القديس بولس الرسول ان نصبر على زؤان الآخرين "مِن غَيرِ تَذمُّرٍ ولا تَرَدُّد لِتَكونوا بِلا لَومٍ ولا شائبة وأَبناءَ اللهِ بِلا عَيبٍ في جِيلٍ ضالٍّ فاسِد تُضيئُونَ ضِياءَ النَّيِّراتِ في الكَون" (فيلبي 2: 14-15)، ويُعلق القديس ايرونيموس "سمح الله بالزمن لأجل التوبة. إنه يحذّرنا هنا لئلا نقطع أخًا قبل الوقت المناسب، فإن من يكون اليوم مصابًا بالتعاليم السامة قد يعود غدًا إلى صوابه ويصير مدافعًا عن الحق". فمثلاً لو سمح الله بقلع الزُّؤان لقلعوا شاول الطرسوسى بسبب شره ومهاجمته للكنيسة غير عارفين أنه سيتحوَّل إلى أعظم حنطة وهو بولس الرسول. وقد علّق القدّيس بطرس كريسولوغس "بينما كان حنانيّا يرى شاؤول، كان الربّ يرى بولس؛ وبينما كان حنانيّا يعتبره زؤان، جدير بجهنّم، فقد كان بالنسبة للسيّد المسيح إناء مختار، وكان يضعه منذ الآن في الأهراء السماويّة..." (عظة رقم 97). لا داعي إلى الخوف: إنّ الربّ هو الأقوى.  فعملنا ليس الحكم بل تحويل الزُّؤان إلى حنطة بمعونة الرب.

 

السؤال المطروح الى متى نتحمل الزؤان أي الأشرار بيننا؟  

 

ان الزُّؤان الصغير ونبات القمح متشابهان ولا يمكن التمييز بينهما الى ان ينضجا وقت الحصاد. ينمو الزُّؤان (غير المؤمنين) والقمح (المؤمنون) جنبا الى جنب في هذا العالم، ويسمح الله لغير المؤمنين أن يستمرُّوا بعض الوقت حتى لا يُقتلع القمح مع الزُّؤان. ويعلق التعليم المسيحي الكاثوليكي " في يوم الدينونة، عند انتهاء العالم، سيأتي المسيح في المجد ليحقق الانتصار النهائي للخير على الشر، اللذين، مثل حبة القمح والزؤان، ينموان معا على مر التاريخ" (بند 681). فالوقت هو سر صبر الله ورحمته.

 

وفي وقت الحصاد سيُقلع الزؤان ويُلقى بعيدا، ويُعلق القديس اوغسطينوس" لماذا لا تحتملون بصبرٍ خُلطة الأشرار بالأبرار؟ إنهم معكم في الحقل، لكن الأمر لا يكون هكذا في المخزن!". إنَّ السيد المسيح سيرسل في نهاية الأزمنة ملائكته ليفصلوا بين البشر بعدل تام كما جاء في انجيل متى "وإِذا جاءَ ابنُ الإِنسانِ في مَجْدِه، تُواكِبُه جَميعُ الملائِكة، يَجلِسُ على عَرشِ مَجدِه، وتُحشَرُ لَدَيهِ جَميعُ الأُمَم، فيَفصِلُ بَعضَهم عن بَعْضٍ، كما يَفصِلُ الرَّاعي الخِرافَ عنِ الجِداء" (متى 25: 31-32). إنّ الدينونة ليست الآن، وليست هنا، وما التاريخ إلاّ زمن صبر الربّ حيث يُتاح لكلّ شخص فرصة الارتداد إلى الخير، والعودة إلى الآب. 

 

يدعونا يسوع في هذا المثل الى التحلي بالصبر، والصبر الإنجيلي لا يتثمل باللامبالاة أمام الشر انما يتمثَّل بترك الحكم لله، لان الانتصار لله في يوم الحصاد، أي الدينونة في آخر الازمنة (متى 3/12)، لأنها ساعة فصل القمح عن الزؤان (يوئيل 4: 12 – 13). ان الله يكشف أمَّام أعيننا مظاهر الرحمة اللامتناهية. ويُعلق القديس ايرونيموس " نسألك أن تكون أنت الديّان، لأنك تحنو على جميع الأمم" يعلم الله بان القمح لن يهلك بالرغم من المخاوف التي يمكن ان نتوقعها.  احتكر يسوع لنفسه الحكم في نهاية الأزمنة، ولا يحق لنا نحن البشر ان نحكم على أحد، فالإدانة ليست من شأن الإنسان بل لله الديان وما علينا ان نثق بعمل الرب.

 

يدعونا يسوع أيضا ان لا ندين احداً " لا تَدينوا لِئَلاَّ تُدانوا" (متّى 7: 1)؛ نحن، كثيرا ما نكون نافذي الصبر، مثل الخدام في مثل الزوان. ندَّعي أننا قادرون على تمييز ما هو صالح وما هو ضار.  وفي الواقع، فإنّ الإنسان يُحكم عليه في النهاية، ليس على أساس فعل واحد أو مرحلة واحدة من حياته، بل على أساس حياته بجملتها. لا يمكن أن يكون الحكم صحيحاً إلاّ في النهاية.  فالربّ وحده هو ربّ كل إنسان وهو وحده يعرف ما في قلب كلّ إنسان. لذلك فإنّ الّذي له حق الحكم على الناس ودينونتهم هو الربّ وحده. إنّ الربّ وحده هو القادر أن يُميّز بين الصالح والشرّير، لأنّ الربّ وحده هو الّذي يعرف الإنسان بجملته، لأنّه وحده عالم الخفايا وكاشف الأسرار كما ورد في الانجيل "لا يَحتاجُ إِلى مَن يَشهَدُ لَه في شَأنِ الإِنْسان، فقَد كانَ يَعلَمُ ما في الإِنسان" (يوحنا 2: 25).

 

ان الصبر لا يكون الاَّ الى مدة معينة فنحن بحاجة للوقت. ولكن لا يعني ذلك عدم الاكتراث، بل من واجبنا الاّ نتهاون مع الشر الحقيقي او تبرير موقف الجمود او عدم الاكتراث. لكن لا يعنى هذا أن نتهاون مع الذين يُصرُّون على خطاياهم خارج الكنيسة، بل علينا ان نتحلى بالصبر، لان وقت الدينونة لا بدَّ منها. كما يكون الفصل في الحصاد بين القمح والزُّؤان كذلك يكون الفصل بين الابرار والاخيار.  وهذا الإنذار الصريح كثيرا ما أعلنه المسيح كما جاء في مثل الزؤان " إِذا أَتى وَقْتُ الحَصاد، أَقولُ لِلحَصَّادين: اِجمَعوا الزُّؤانَ أَوَّلاً واربِطوه حُزَماً لِيُحرَق. وأَمَّا القَمْح فَاجمَعوه وَأتوا بِه إِلى أَهرائي" (متى 13: 30).

 

ويوضّح بولس الرسول موقفنا تجاه الخاطئين داخل الكنيسة بقوله " أَلاَّ تُخالِطوا مَن يُدْعى أَخًا وهو زانٍ أَو جَشِعٌ أَو عابِدُ أَوثان أَو شَتَّامٌ أَو سِكِّيرٌ أَو سَرَّاق. بل لا تُؤاكِلوا مِثْلَ هذا الرَّجُلأَفمِن شَأني أَن أَدينَ الَّذينَ في خارِجِ الكنيسة؟ أمَّا علَيكُم أَنتُم أَن تَدينوا الَّذينَ في داخِلِها؟ أَمَّا الَّذينَ في خارِجِها فاللّه هو الَّذي يَدينُهم" (1 قورنتس 5: 9-13).   أمَّا موقفنا تجاه الذين يصرون على خطاياهم داخل الكنيسة فيقول بولس الرسول " أَزيلوا الفاسِدَ مِن بَينِكُم" (1 قورنتس 5: 13).  ويؤكد يوحنا الرسول موقف بولس الرسول بقوله "إِذا جاءَكم أَحَدٌ لا يَحمِلُ هذا التَّعليم فلا تَقبَلوه في بُيوتِكم ولا تَقولوا لَه: سَلام" (2يوحنا 1: 10).

 

ويعالج المثل أيضا مشكلة قيام الشر الى جانب الخير في عالم صالح. والمثل يوحي بانَّ الشرَّ لم يوجد في العالم بإرادة الله، بل بفعل ابليس، عدو الله والبشرية. وحرصا على سلامة الحقل وتمهيداً لنصرة الخير في آخر الامر، يسمح الله بوجود الشر في العالم.  وهو لا يقضي على الشر بالعنف او بالقوة، ذلك لان الشر والخير متشابكان في العالم، وفي النفس البشرية. وقلع الشر بالقوة يكمن في حرمان الانسان من حريته ومن مسؤوليته وهما شرطان لنمو الخير. 

 

لا يدعو مثل الزؤان المسيحيين الى التساهل مع الشر وتحطيم الاشرار، بل يدعوهم ان يكونوا من الابرار، ابناء الملكوت بصبرهم الى يوم الدينونة على مثال ابيهم السماوي. وقد أوضح القديس اوغسطينوس موقف الكنيسة من الهراطقة "الزُّؤان" قائلًا: "إن كان أحد المسيحيين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطيّئة من نوع يستحق أن يُحرم من الكنيسة، فلْيتِم هكذا: بجب تجنّب حدوث الانشقاق، بمعالجة الأمر بالحب حيث تصحّح عِوض أن تُقتلع. فإن لم يأت إلى معرفة خطأه ولم ينصلِح بالتوبة يُطرد. ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأن قول الرب "دَعوهما يَنبُتانِ معاً " قد أضيف إليه السبب وهو " مَخافةَ أَن تَقلَعوا القَمْحَ وأَنتُم تَجمَعونَ الزُّؤان ".  ويعلمنا هذا المثل مزاحمة الباطل للحق في هذا العالم ثم انتصار الحق في النهاية. إنّ زمن الصبر هو زمن الخصوبة. يجد الربّ دائماً الوسيلة لترتيب كلّ الأمور، كي ينتصر الخير على الشر، ويظفر الحبّ.

 

قوة الملكوت كامنة في ذاته وكلام الله فيه قوة ذاتية دافعة لا يعرقلها شيء كما يؤكّده بولس الرسول "إِنِّي على يَقينٍ مِن أَنَّ ذاكَ الَّذي بَدَأَ فيكم عَمَلاً صالِحًا سيَسيرُ في إِتمامِه إِلى يَوم المسيحِ يسوع"(فيلبي 1: 6).  فالبداية تضمن النهاية، ونقطة الانطلاق تضمن نقطة الوصول. فما علينا الا ان ننتظر بالصبر والثقة والعمل، فان فاعلية كلمة الله كامنة في يسوع الذي أدان الشر فعليّاً وانتصر عليه بالصليب، فلا خوف لديه من الشر، فهو ليس في عجلة من أمره. ولا يُمكن أن يخاف منه كلُّ من وُلد من جديد من الصليب.  

 

2) دعوة الى الثقة من خلال مثل حَبَّةِ خَردَل

 

يدعونا يسوع في مثل حَبَّةِ خَردَل الى التحلي بالثقة، لانَّ "حَبَّةِ خَردَل " كان يُضرب فيها المثل للدلالة على التفاوت بين صِغر البداية والعظمة في النهاية. ولا يُذكر النمو الا في جملة معترضة (متى 13: 32). ويستوحي يسوع هذه المثل من حزقيال النبي "في جَبَلِ إِسْرائيل العالي أَغرِسُه فيُنشِئُ أَفْنانًا ويثمِرُ ثَمَرًا ويَصيرُ أَرزًا جَليلاً، فيَأوي تَحتَه كُلُّ طائِر، كُلُّ ذي جَناحٍ يَأوي في ظِلِّ أَغْصانِه" (حزقيال 13: 23)، كما أنه مستوحى أيضا من دانيال النبي الذي يذكر طيور السماء "وقَد نَمَتِ الشَّجَرَةُ وقَوِيت وبَلَغَ ارتفاعها إِلى السَّماء ومَرْآها إِلى أَقْصى الأَرضِ كُلِّها.  وأَوراقُها بَهِيَّة وثَمَرُها كَثير وفيها غِذاءٌ لِكُلِّ أَحَد وتَحتَها تَستَظِلُّ وُحوشُ البَرِّيَّة وإِلى أَغْصانِها تَأوي طُيورُ السَّماء"(دانيال 4: 8-9). وكما ان حَبَّةِ خَردَل تبدأ صغيرة وتنمو وتصبح شجرة عظيمة كذلك ملكوت السماوات. والواقع إن كنيسة المسيح بدأت بالضعف ونمت نموا كبيرا لتكون قوة مسكونية. فالمثل يدعونا ان نرى من خلال حياة يسوع الوديعة المتواضعة مجده بعد القيامة وبالتالي يدعونا الى الثقة والرجاء.

 

ان حَبَّةِ خَردَل صغيرة جداً ثم ينمو فيصبح شجرة. كذلك رسالة يسوع تبدأ في الضعف، ثم تنمو نموا كبيرا كما حدث في زمن متى الإنجيلي. أراد متى الإنجيلي ان يُبيِّن من خلال مثل حَبَّةِ خَردَل الصُغر في البداية والعظمة في النهاية.

 

يدعونا المثل الى الثقة من خلال تعارض بين صغر الحبّة في البداية وكبرها في النهاية (متى 13: 31-32)، فالملكوت بدأ صغيرا في يسوع، ولكنه نما في زمن مرقس الإنجيلي فصار شجرة كبيرة.  ان سُنّة النمو وسُنة الانتظار هما سُنتا الحياة، ان أصغر الأشياء تُصبح كبيرة في عين من يحسن النظر. هكذا يكون كلام يسوع نداء الى الثقة والرجاء.

 

بدأ الملكوت ببزرة ويبلغ في مل الزمن طور الاكتمال كما حدث مع حبة صغيرة التي نمت فأصبحت شجرة وافرة الظلال تستظل تحت أفنانها كل شعوب الأرض. فنحن بحاجة للوقت. يبدا ملكوت الله بداية متواضعة مثل حَبَّةِ خَردَل او خميرة صغيرة وينتهي في نهاية رائعة حيث يصبح قادرا على رفع العالم بالرغم من العقبات. ويرى آباء الكنيسة في حَبَّةِ خَردَل يسوع وانجيله. يقول القديس غريغوريوس الكبير:" إنه حَبَّةِ خَردَل، نمت في بستان القبر إلى شجرة عظيمة. لم يكن إلا حَبّة حين مات يسوع وشجرة عندما قام. كان بذرة في تواضع جسده وشجرة في قوّة عظمته...! في هذه الفروع تجد الطيور راحتها، لأن النفوس النقيّة إذ ترتفع بأجنحة نعمته وتجد في كلماته راحتها من الهموم الأرضيّة والتعزية من قلق الحياة الحاضرة"؛ ألم يقل يسوع المسيح "إنَّ حَبَّةَ الحِنطَةِ الَّتي تَقَعُ في الأَرض إِن لَم تَمُتْ تَبقَ وَحدَها. وإذا ماتَت، أَخرَجَت ثَمَراً كثيرًا" (يوحنا 12: 24). ويصرح القديس يوحنا الذهبي الفم إن حَبَّةِ خَردَل تمثِّل إنجيله والكرازة به قائلا: "بذرة الإنجيل هي أصغر البذور، لأن التلاميذ كانوا أكثر حياءً من غيرهم، لكنهم يحملون فيهم قوّة عظيمة، فانتشرت كرازتهم في العالم كله".

 

أمَّا تفسير المثل بحسب إنجيل لوقا فهو ان يسوع أدرك ان ملكوت الله خفي، فقد أعلن " لَيسَت مَملَكَتي مِن هذا العالَم" (يوحنا 18: 36). لا يرى الناس نمو شجرة بشكل ظاهر للعيان. كذلك ينمو ملكوت السماوات من غير ان يلاحظه كثيرون.  ولا يكشف لنا هذا النمو الاَّ الايمان. ينمو ملكوت الله بشكل لا يجد أحد الى إيقافه سبيلا، لان فيه قوة حياة.  يدعونا يسوع الى الثقة بمسيرة الملكوت. فهو يفعل فعله منذ الآن في قلب البشر، وإن بدا صغيراً. ففي النهاية يكون نموه عجيبًا (لوقا 13: 13 20-21).

 

أمَّا تفسير المثل بحسب إنجيل مرقس (مرقس 4: 30-32) فهو انتشار الملكوت من بداية طفيفة، ودعوة إلى إنجاح كلمة الله في النهاية. ومثل حَبَّةِ خَردَل تشبه مثل حبة القمح تبدأ في الخفية يزرعها الله في النفس وفي العالم. تنمو ببطء وبشكل خفي لكنها تستمر في النمو. رغم انها خفية وغير منظورة فان الحياة تتقدّم ولن تتوقف. إنّ حَبَّةِ خَردَل الصغيرة بالأمس أصبحت شجرة باسقة تمتد فروعها حتى اقاصي العالم.

 

3) دعوة الى التغيير من خلال مثل الخميرة

 

يدعونا يسوع في مثل الخميرة الى التحلي بالعمل الخفي للقيام بالتغيير. إذ أَورَدَ يسوع للجموع مثل الخميرة قال: "مثَلُ مَلَكوتِ السَّموات كَمَثلِ خَميرةٍ أَخَذَتها امرأَةٌ، فجَعَلتها في ثَلاثةِ مَكاييلَ مِنَ الدَّقيق حتَّى اختَمرَت كُلُّها" (متى 13: 33). تتفاعل الخميرة بطريقة كيميائية مع العجين فيجعله يختمر، ولا يحدث هذا إلا إذا اختبأت الخميرة داخل العجين.

 

استخدم متى الانجيلي الخميرة في هذا المثل كالطريقة ليُبيِّن من خلاله نمو ملكوت الله.  فأشار يسوع الى ان ما على المرأة أن تفعله الا أن تأخذ الخميرة وتخبئها في العجين. وهذا عينه ما يريده الله أن نفعله. ويعلق القدّيس بطرس خريزولوغُس: "تلقّت حوّاء من الشيطان خميرة الخداع؛ وها هي هذه المرأة تتلقّى من الله خميرة الإيمان، أفسَدَت حوّاء في شخص آدم، كلّ عجين الجنس البشريّ؛ وامرأة أخرى تجدّد في شخص الرّب يسوع المسيح، من خلال خميرة القيامة، كلّ العجين البشريّ. وتخبز الثانية خبز الحياة والخلاص" (العظة 99).  فالخميرة رمز ايجابي لطاقة النمو والتغيير باختفاء الخميرة وتحوّل العجين.  بالرغم من ان الخميرة تبدو عاملا صغيرا، لكنها تخمِّر العجين كله كما يقول بولس الرسول " قَليلٌ مِنَ الخَمير ِيُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه (غلاطية 5: 9).

 

 ومع ان بداية الملكوت تبدو صغيرة، لكنها سرعان ما تنمو ويصبح لها تأثير في كل العجين. إن قوة ملكوت الله تعمل في الخفاء عبر اعمال يسوع وتعليمه، بانتظار ان تعمل في تلاميذه الضعفاء والمضطهدين. وهذا الملكوت يمتد الى جميع الأمم (حزقيال 17: 23). ويصرح كتاب التعليم المسيحي الكاثوليكي في هذا الصدد بقوله "الكنيسة في رسالتها تسير مع البشرية كلها، وتنال قسطها من مصير العالم الارضي؛ وهي بمثابة خميرة، وكروح للمجتمع البشري الذي يجب ان يتجدد في المسيح ويتحوّل الى اسرة الله" (357)، وهكذا فالعمل الرسولي يقتضي التحلي بالعمل الخفي للتغيير.

 

يشير مثل الخميرة الى التفاوت بين صغر الخميرة وضخامة العجين، لكنه يُضيف ايضا فكرة اختفاء الخميرة وتحوّل العجين، ويشدِّد على تحوّل الدقيق كله بفعل هذا الخمير القليل. يرى القديس يوحنا الذهبي الفم صورة فعّالة لملكوت السماوات، حيث انه لا يُمكن للدقيق أن يختمر ما لم تُدفن فيه الخميرة أو تحبس في داخله. فالعمل الخفي في التغيير له أهميته في الكنيسة، فلا نتوقف فقط عند المظاهر، والشكليات والمراسيم بل عند الجوهر اي الايمان بكلمة الله عملا بقول بولس الرسول: "لا نَهدِفُ إِلى ما يُرى، بل إِلى ما لا يُرى. فالَّذي يُرى إِنَّما هو إِلى حِين، وأَمَّا ما لا يُرى فهو لِلأَبَد. (2 قورنتس 4: 18)، وهكذا يفعل الانجيل العجائب في القلوب. فالمثل لا يدعونا فقط الى عدم الخوف لقلة عددْنا، وانما ايضا الى التغيير من خلال العمل الخفي.

 

هل نحن مندمجون في العالم ونتقبلهم حتى نسهم في تغييرهم من الداخل؟ من يقبل ان يصير خميرة ويرضى ان يمتزج بالعجين البشري سوف يتحوّل الى قوة حياة تنتقل الى كل البيئة التي امتزج بها. فنحن خميرة العالم، ورسالة المسيحي هي الخميرة التي تخمر العجين كله. ألم يقل الرسول بولس "أَما تَعلَمونَ أَنَّ قَليلاً مِنَ الخَميرِ يُخَمِّرُ العَجينَ كُلَّه؟  طَهِّروا أَنفُسَكُم مِنَ الخَميرةِ القَديمة لِتَكونوا عَجينًا جَديدًا لأَنَّكُم فَطير" (1 قورنتس 5: 6-7). ولذلك قد تكون أفضل خميرة هي تلاميذ ورسل المسيح، لان المسيح أعدَّهم لنشر الإيمان في العالم كله.

 

تدعونا الكنيسة "ان نعجن بالصلاة عجينة الاحوال اليومية الوضيعة. ويمكن ان تكون جميع صيغ الصلاة تلك الخميرة التي يشبِّه بها الرب الملكوت" (التعليم المسيحي الكاثوليكي 2660)، "وان نرفع الأرض بروح المسيح كما تفعل الخميرة في العجين" (2832).

 

الخلاصة

 

يصف مثل الزؤان كيف يتم زرع بعض القمح الطيب في حقل ما، غير أن عدوه يأتي سرّا ويزرع يعض الزؤان. وعندما ينبت كلاهما، يعبّر مزارعو الحقل عن رغبتهم في اقتلاع الزؤان، ولكن صاحب الحقل يدعوهم، عوضاً عن ذلك، إلى التحلي بالصبر. يحتاج القمح إلى الوقت كي يتم التعرف عليه كقمح، وكي لا يتم الخلط بينه وبين الزؤان.

 

ومن هنا نسأل: من أين جاء الشر؟ لماذا يصبر على وجود الشرّ في عالمه؟ فَلِمَ الله طويل الأناة وصبور؟

 

يصف مثل حَبَّةِ خَردَل ومثل الخميرة نتيجة مزدوجة لوجود ملكوت الله في العالم: مثل حَبَّةِ خَردَل يشير للنمو الظاهر من الخارج، أما مثل الخميرة فيشير للنمو الداخلي. وكلاهما يشيران لعمل نعمة الله في النمو، النتيجة الأولى ترمز الى كنيسة كبرى بدأت من بداية صغرى، والنتيجة الثانية تأثير التغيير من خلال العمل الخفي. ان كان مثل الحَبَّةِ خَردَل يمثل امتداد الملكوت، فان مثل الخميرة يمثل طريقة النماء والامتداد.  فإن ادخال قطعة من الخميرة في العجين تجعله خفيفا وذا مسام وتنتشر الخميرة في العجين كله.

 

وكما ان حَبَّةِ خَردَل تنمو الى شجرة كبيرة والخميرة تخمّر العجين كله كذلك ملكوت الله ينمو ويكبر حتى يتغير العالم كله في النهاية. الملكوت خفيّ، كالخميرة في الطحين، وهو صغير كحَبَّةِ خَردَل؛ ولكنّه موجود حقّاً. يُخمّر كلّ العجين، ويمكنه أن يُصبح رافعة أمل لأولئك الّذين ينتظرونه. 

 

دعاء

 

"أيها الآب السماوي، نريد أن نكون أبناء ملكوتك، فأعطنا قوّة صبر انتظار عودتك المجيدة والثقة لتثمر كلمتك فنظل ساهرين في عمل الخير فينا، كي ينتعش فينا رجاء رؤية نموّ البشريّة الجديدة، الّتي سوف يجعلها الربّ، لدى عودته، فنكون أهلاً لدخول ملكوت الربّ. آمين

 

قصة: الزؤان في البستان

 

ذهبت إلى حديقة أحد البيوت ورأيت في حديقته زهورا لونها أصفر جميل،

فقلت له ما أجمل هذه الزهور،

فضحك وقال إنما هي (ويدز) وتعجبت من الكلمة التي لم أفهم معناها،

فقال هذه نباتات نسميها هكذا وهي نباتات تمتص كل غذاء التربة فتقتل كل نباتات الحديقة إن تركناها،

فقلت وما العمل؟

فقال عندنا أدوات خاصة لنقلعها من جذورها.

فقلت ومن زرعها، فقال نسميها نباتات شيطانية، والعين الخبيرة فقط هي التي تميِّزها عن النباتات العادية.

وهكذا فالشيطان يعمل في أتباعه ويبدو أن لهم منظرا جميلا يجذب الآخرين، ولكن من يسقط في شباكهم يهلك.