موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

لِيُضئ نوركم للنّاس

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
أيّها الآباءُ والأمّهات، كونوا في البيتِ مثلَ العذارى الحكيمات، تُغذّونَ مصابيحَ أبنائِكم وبناتِكم

أيّها الآباءُ والأمّهات، كونوا في البيتِ مثلَ العذارى الحكيمات، تُغذّونَ مصابيحَ أبنائِكم وبناتِكم

 

الأحد الثّاني والثّلاثون من زمن السنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. نكتبُ إليكم اليوم ونحن نخضعُ للحجر المنزلي. فكغيرِنا من النّاس، أتى دورُنا لِنَشربَ من الكأس، ونُصابَ بهذهِ الجائحة، ونقعَ ضحيّة لهذا الفيروس. نحمدُ الله في المرضِ، كما نحمده في الصّحة، سائلين الله الشّفاء للجميع، شاكرين لكم صلواتِكم، عسى أن نلقاكم دومًا بالخيرِ والصّحة والسّلام.

 

اليوم نحنُ في الأحدِ الثّاني والثّلاثين من زمن السّنة العادي. ولم يَعُد يفصِلُنا عن نهاية هذه السّنة الكَنسيّة وافتتاح السّنة الجديدة، سِوى أَحَدين اثنين. سنة قاسية ومرهِقة وفيها كثير من الأوجاع، بكلِّ ما تحمل الكلمة من مَعنى، ويبدو أنّ وطأتَها الشّديدة لَن تُغادرَنا سريعًا، بَل سترافِقنا خلالَ العام القادم أيضًا.

 

ويأتي إنجيلُ اليوم حامِلًا لَنا معاني الصّبرِ والثّبات، وحُسنِ الاستعدادِ والجهوزيّة، خصوصًا عندما تكون الأمور مُضطرِبة، والرّؤية مُلتَبِسة، والمعرفة ناقِصة، يشوبها كثير من عدمِ الوضوح والتّشويش! في خِضَمّ هذهِ الظّروف الصّعبة والمرهِقة، نحن بحاجة أن نكون على مثال العذارى الحكيمات، في الاستعدادِ لما هو غير متوقّع، فهذا زمنُ المفاجآت! نحن بحاجة إلى فضيلة الفطنة، لنُحسِن التمييز والاختيار، عند المحنة والشدّة.

 

هذا الإنجيل هو علامة تعزية، فالعريسُ أَبطأ! ومع ذلك، لا بدّ من السّهر والانتظار، مَهمَا بدا ذلك متعِبًا ومقلِقًا. لا يوجد أشدّ قلقًا من الإنسان الّذي (ينتظر على أعصابه) كما نقول في الوصف الدّارج. كلّنا ننتظر الخلاصَ والفرج والعزاء، من هذه الآلام الجسيمة، ومِن هذه الظّروف الوخيمة، الّتي تعصف بالبشرية جمعاء. كلّنا ننتظر العريس أن يأتي ويمنّ علينا بالشّفاء. وحتّى ذلك الحين نسأله فضيلة الصّبر والاحتمال، الاستعداد والجهوزيّة. نسأله زيت الحكمة ومصباح الفطنة، حتّى نسير وسط تقلّبات هذا الدّهر الحاضر، مسترشدين مستلهمين حكمة الرّب ونعمته.

 

مثلُ اليوم يا أحبّة، ليسَ بغريبٍ عنّا، فهو من طبيعةِ بلادِنا وواقعنا اليومي المعاش. ففي هذهِ الأيام، نرى الناس يتسلَّقونَ أشجارَ الزّيتون، يمسِكون بفروعها وأغصانِها، ويقطِفون ثمارَها الجميلة، ليجنوا منها محصولَ الزّيت المبارك. الزّيت من العناصرِ الغِذائية الأساسية، الّتي لا تخلو منها بيوتنا، نغمسه مع كلِّ طبق ونضيفه إلى كل وجبه، لما يحمل من فوائد جمّة وطعم شهيّ ورائع. هو جزءٌ من ثقافتِنا وعاداتِنا. حتى أن كاتب المزامير لما أراد أن يتغنّى بجمال سُكنى الإخوّة معًا، لم يجد أفضل من وصفها بالزّيت النّازل على لحيةِ هارون (مزامير 2:133)، علامة بركة ونعمة.

 

مثل اليوم يتحدّث عن عَشرةِ عذارى. وقَد جَرتِ العادةُ بينَ اليهودِ قديمًا، أن يأتيَ العريسُ، تَحُفُّ بهِ مجموعةٌ من الأصدقاءِ والخِلّان (نوع من الزّفة)، في وقتٍ منَ الّليل، إلى بيتِ العروس. حيثُ تكونُ هي في انتظارِه، تَحيطُ بها مجموعةٌ من صديقاتِها العذارى/ وصيفاتُها، اللّواتي كُنَّ يحمِلنَ في أيدِيهنَّ مصابيحَ الزّيت، ليُضِئنَ له الطّريقَ إلى داخلِ البيت، ويدخلَ هو إلى لقاءِ عروسِه، في احتفالٍ بهيج وفرحٍ عظيم.

 

هؤلاءِ العذارى لم يَكُنَّ على نفسِ المستوى من الفِطنةِ والحكمة. فَمِنهنَّ من كُنَّ حكيماتٍ عاقلات، أَحسَنَّ التّصرف، وَتَدَارَكنَ الموقف، حين تأخّر العريس. ومِنهنَّ مَن كنَّ حَمقاواتٍ جاهِلات، لَم يحسبن الأمورَ كما يجب، ولم يأخذن الاحتياطاتِ الّلازمة للظّروف غير المتوقّعة، فَوَقَعنَ ضَحيَّةً لِجهلِهنَّ.

 

هذا المثلُ، بالرّغم من نهايتِه المأساويّة، إلّا أنّه عادل! فعادة ما يقعُ الإنسانُ ضحيّةً لأعمالِه، أو سوء إدارته للأزماتِ والأمور. وبالتّالي من العدالة أن يتحمّل الإنسان العواقب، ويُحاسب على ما أتاهُ أَعمال. هذا ما يُعرب عنه بوضوح القديس بولس الرّسول في رسالته الثّانية إلى أهل قورنتوس: "لينالَ كلُّ واحدٍ جزاءَ ما عمِلَ وهو في الجسد، أخيرًا كانَ أم شرًّا". (2قورنتوس 10:5)

 

قديمًا كان مِصباحُ الزّيت عبارة عن آنية خَزفيّة. والخزف كما نعلم مادّة صلبة، ولكنّها هشة وسهلةُ الكسر إذا ما وقعت وارتطمت بالأرض. وكلُّ مؤمن يحملُ آنيةً من خزف، هي آنيةُ الإيمان كما يَصِفُها القديس بولس، في الفصل الرّابع من رسالته الثّانية إلى أهل قورنتوس. هي آنيةٌ مُعرّضة للانكسار إذا ما اصطدمت وارتطمت بظروفِ الحياة. لذلك، من الواجب على المؤمن الدّفاعُ والذّودُ عن إيمانه، عن آَنيتِه الخزفية، ليحميه من الانكسارِ والضّياع.

 

واجب على المؤمن تغذيةُ إيمانِه بزيتِ الأعمالِ وإبقاؤه مضاءً بالفضائل، والتَّمرس في المبادئِ الإنجيلية، والتّمسك بتعليم الكنيسة، عامودِ الحقِّ ورُكنِه (1 تسالونيقي 15:3). على المؤمنِ واجب تعزيز إيمانِه ليكونَ قادرًا على الصّمود أمامَ تحدّياتِ الحياة وصعوباتِها، الّتي يمكنها أن تحطّمَ إيمانَك فوقَ رأسِكَ، إذا ما كان هشًّا وطريًّا.

 

أيّها الآباءُ والأمّهات، كونوا في البيتِ مثلَ العذارى الحكيمات، تُغذّونَ مصابيحَ أبنائِكم وبناتِكم، وتملؤونَها بزيتِ الإيمانِ والفضيلة والعلم والعملِ والقولِ والفكرِ الصّالح. كونوا أنتم لهم زيتًا، إذ تكونون مثالًا صالحًا، يُضيءُ لهم ويرشدهم للسّير في دروب الحياة بتقوى وقداسة.

 

أيها الكهنة أيتها الرّاهبات، يا جميع المكرّسين أينما كنتم، كونوا مصابيح حكمة ومشاعل فطنة في رعاياكم، تضيئون دروب القطيع الموكول إلى رعايتِكم. فهم خاصّة المسيح، أمانة وضعت بين أيدينا، وسنؤدّي حسابًا عن مَدى رعايتِنا ومقدار عنايتِنا بشؤون قطيع يسوع المسيح.

 

ما أصعبَ تلكَ الّلحظة، عندما تقف على الباب تقرع، تسأل الرّبّ أن يفتح لك أبواب الملكوت، ولكن هيهات! ليطلَّ عليكَ السّيد آخرَ الأمر قائِلًا: "إليكَ عنّي يا فُلان، إنّي لا أعرفُك". ستكون أقسى لحظةٍ في الأبدية، ولكنّها أعدلُ لحظة لأنّك ستقطِفُ حَصيلة ما زرعت، وستحصد نتيجة ما بَذرت.