موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٦ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

ليسَ كلّ مَن يقول بَل مَن يَعمل

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
ليسَ كلّ مَن يقول بَل مَن يَعمل

ليسَ كلّ مَن يقول بَل مَن يَعمل

 

 أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. يقولُ الفيلسوف والكاتِب الرّوسي Fyodor Dostoevsky: (عَشِقتُ ذُنوبي عِندَما رَأيتُ إِيمانَكمُ المزيّف!). فِعلًا، إنَّ أشدَّ أنواعِ التَّدينِ إثارةً لِلغَثيانِ والاستهجان هو ذاك المزيّف، أو المتَصَنّع، أو المدَّعي والمتظاهِر بما ليسَ فيه! هو فَنٌ من فُنونِ النّفاق، يُجيدُهُ كثيرون، مِمّن يلعبونَ دورَ المتديّنِ الصّالح النّاصِح، وهو في باطِنه بعيدٌ كلَّ البُعد، عن جوهرِ التّدينِ الحقيقي، الّذي يُريده الله من المؤمنِ حقًّا! هو تَديُّنُ المخادِعين وإيمانُ الكَذَبَة، تَديُّنٌ مغشوش وإيمانٌ مُزوّر. تمامًا كَمن يُزوّر بطاقةَ أحوالٍ شخصية أو جوازَ سفرٍ، وينتحِلُ شخصيةً أُخرى لَيسَت لَه!

 

هو تَديّنُ الفريّسي، الّذي يَدَّعي التّقوى والوَرعَ والخِشيَة في حَركاتِه الجِسمانيّة، داخلَ بيتِ العِبادة وخارجَه أيضًا، مِن أيّ دينٍ كان، ويُحافِظُ على الطّقوسِ بحذافيرِها، وباطِنُهُ مملوءٌ رياءً وإثمًا (متّى 29:23) نهبًا وسلبًا، خُبثًا ولؤمًا، نجاسةً ورجاسة، كذبًا وغِشًّا، خِداعًا ومُداهنة... لِذَلِكَ، أحيانًا خِشيَتي من بعضِ المُتَدَيّنين، أشدُّ من خشيتي من الّذين بلا دِين! وهذا رأيٌ شَخصّيٌ خاص.

 

يَروي هذا المثل قِصّةَ رَجُلٍ له ابنان اِثنان. هو أَبٌ لهُ حقٌّ بِطَاعةِ ابنَيه، وهما ابنان عَليهما واجبُ طاعةِ أَبيهِما. يقول المثل بأنَّ الأوّلَ في البدايةِ رَفَضَ الطّاعة، وعَصى الأمرَ الأَبَوي، ثمّ بَعدَ حين، نَدِمَ على عِصيانِهِ، فَذهب وَعَمِلَ برغبةِ أَبيه طائِعًا، ولو بعد إحجام. أمّا الثّاني، فكما نقول في التّعبير الدّارِج (دَق على صدره)، ولكن يبدو أنَّ صدرَه كان مثقوبًا أو هُلاميًّا، فخالف ما قال، وادَّعى ما لَم يعمل! حيث أجاب أباه كَذِبًا، قالَ له: "إنّي ذاهب". ولكنّه في حَقيقةِ الأمر، لَم يذهب، خِلافَ ما زَعِمَ، ولم يدنو من الكَرمِ بتاتًا!

 

تقول الحكمة: (العِبرةُ بالخواتيم). فَالّذي عَمِلَ بمشيئةِ أَبيهِ ليسَ الّذي قال نَعم، إنّما الّذي رفضَ ثمّ نَدِم. لذلك: "ليسَ كل مَن يقول لي يا رب، يا رب يدخل ملكوتَ السّموات، بَل مَن يَعمل بمشيئة أبي الّذي في السّموات" (متى 21:7). فَبين العمل الحقيقي الجاد بمشيئة الله، وبينَ والادّعاء الفارغ المزيّف، هناك فرقٌ شاسع وبونٌ واسِع!

 

عَالَمُنا اليوم ليسَ بحاجة إلى مُعلّمين بل إلى شهود، كما كانَ يقول البابا بولس السّادس. لا يوجد أفضل من المتديّن بشكلٍ عام في التّنظير والادّعاء، وفي نفس الوقت، لا يوجد أيضًا، أكسل وأرخى منه، بشكل عام، في الجلوسِ والتّنظير ورفض الطّاعة، والعملِ بالمشيئةِ الإلهية!

 

في كلِّ رعية، هناك مُنَظّرٌ أو أكثر. يَأتيكَ بشكلٍ مُزعج وثقيل للغاية، وَيَطلبُ مِنكَ أن تَعمل كذا، وأن تصنع كذا، وأن تشتري كذا، وأن تبني كذا. ويلومُك لماذا لم تصنع كذا بدلًا من كذا، ويُعطيكَ كَمًّا هائِلًا من الدّروس والطّلبات الّتي تصدع الرّأس، وَيُريد أن يُرغِمَكَ على الشّعور بالامتِنان العظيم الأبدي، إذا قَدَّمَ لكَ إبرةٍ لا تساوي قرشًا واحدًا، ولكنّها في كومة قَش! وَتَشتهي أن تراه يَومًا مُشَمِّرًا عن ساعِده، لِيُقدِّمَ لك عملًا يُستفاد منه، عِوَضًا عن إملاءاتِه الّتي لا تنتهي.

 

يقول الأديب الفرنسي ألبير كامو أنَّ المحبّة تُقاسُ بالمواقِف! طاعةُ الله أيضًا تُقاس بالمواقِف. محبّة الكنيسة أيضًا تُقاس بالمواقِف والأفعال! مِن خِبرَتي الكهنوتية المتواضِعة مُدّةً، ولكنّها غَنَيّة بالأحداث، صَادَفتُ ولا أزالُ أُصادِف، كثيرًا من صورةِ هذا الابنِ المتبجّح في الإنجيل. تُلاقي أشخاصًا يبحثون فقط عن مركز ومنصب لهم ولأولادهم في الرّعية، يَبحثون عن منزلةٍ وجاهٍ ووجاهة، يُشبِعونَك أطباقًا وصنوفًا من كلامٍ يُثيرُ الغثيان في بعض الأحيان، وتشعر بكميّة النّفاقِ المنبعثِ منهم، وبالمديح المُفرِط الّذي يَكيلونَه لأنفسِهم، وبانتقاداتِهم المسمومة الدّائمة لغيرِهم من أبناءِ وبنات الرّعية، لدرجةٍ تَشعرُ فيها أنّك تتحدّث مع شِبهِ إله مُنَزَّهٍ عن الخطَأ! وساعةَ العمل لا تجد واحدًا منهم!

 

يا أحبّة، النّاسُ تُقاس بأفعالِها، تُقاسُ بمواقِفِها، تُقاس بنخوتِها، تُقاس بِكَرمِها، تقاس بسواعِدها الّتي تحمل المنجِل والمعوَل، تُقاس بِأَيديها الّتي تقدّم كأسَ ماءٍ بارد، أو علبة مشروب غازي، أو كوبًا من الشّاي، لعامل أو عمّال يَعملون تحت لهيب الشّمس الحارق. وليسَ بكلامِها الفارغ، ولو كان ناعِمًا معسولًا. كاليافِطات الانتخابية الّتي تخلعُها الرّياح، لشدّة ما فيها من زيفٍ وادّعاءات واهية.

 

أتَذكّرُ بعضًا من كلماتِ أوبريت الضّمير العربي، وأُطبّقه على بعضٍ من واقع الضّمير الرّعوي: (ماتت قلوب الناس، ماتت بنا النخوة)! مع كلِّ أسف، تَنتَابُكَ هكذا مشاعر مُحبِطة في عملِك الرّعوي! تَشتَهي أن تَجِدَ القلبَ المستَعِد فلا تكادُ تجِد، أن تلاقي النّخوة فلا تكادُ تُلاقيها!

 

مُجدَّدًا أختم ببعضٍ من خبرتي فأقول: أحيانًا تذهب أو تُعيّن في مكان وموقع، لِتَجِدَ أنَّ أَعمَالًا كثيرة يجب أن يُقام بها وتُنجَز، لأنَّ أحدًا لم يَقُم بها لعدّة دوافِع، أو أنّه قام بها بشكل خاطِئ. وعندما تبدأُ العمل تكادُ لا تجِدُ أحدًا يعمل معك، بل تكتفي الأكثرية بالمراقبة من بعيد، وكأنَّ المكان يخصُّك أنتَ فَقط. وعندما ينتهي العمل، تَجدُ العشرات يأتونَ إليك، ربّما يبدؤون بشكرٍ وربّما لا، ويعاتبونَك لماذا لم تعمل كذا يا أبونا، ولماذا عملت كذا يا أبونا...الخ. أين كان هؤلاء وقت سير العمل؟! الله أعلى وأعلم.

 

 

سيدي العزيز، اِصنع ما تَراهُ موافِقًا لمشيئة الله، دون أن تبحث عن رِضى أحد، فالرّاضي اليوم شاكي غدًا. لا تجلِس وتنتظِر أن يصنع غيرُك العمل، بل اعمل دون أن ترجو من النّاس عوضًا أو لفتةً أو شكرًا أو تقديرًا. اصنع ما تراه حقًّا وعدلًا. اِصنع ما تراه غير مخالف للضّمير الأدبي والأخلاقي. اِصنع ما تَراهُ يخدم المكانَ، وَيَضمَنُ حقوقَه، حتّى لو كانت مهملةً فترة من الزّمان، وحتّى لو لم تجد اهتمامًا ودعمًا. في النّهاية أنت ابنٌ تعمل في كرم الله أبيك، ولستَ أجيرًا تعملُ في كروم النّاس، أو تلبّي لهم مصالح وتحققّ رغبات.   

 

في كلِّ إنسان هناكَ كَرْمٌ بحاجة إلى عناية ورعاية، بحاجة إلى عمل. فَاتركوا كُرومَ النّاس وشأنها، والتفِتوا إلى كرومِكم، لأنَّ كثيرًا منها قد أصابَها العَطَبُ والتّلف. خيرٌ لَكم مِن أن يتقدَّمَكم يومًا من كنتم تظنّوه عشّارًا وبغيًّا، إلى ملكوت الله، ذاكَ الكرم الأبدي، وتُلقى حضرتُكَ في خارجِه، هناك حيثُ البُكاء وصريفُ الأسنان.