موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

لما حان وقت الثمر

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد السابع والعشرون (متى 21: 33-44)

 

الأعياد التي نحتفل بها خلال السنة كثيرة، منها الدينية المحضة، التي تّذكِّرنا بما صنع الله لنا، فيستأهل الشكر عليه. ومنها أيضا الشعبية المحضة، كالرياضة أو تدشين مكان عام للإجتماعيات الشعبية، وهذه يمكن تحويلها أيضا وسط الإحتفالات الشعبية إلى دينية، بحيث نفتتحها بقداس شكرٍ مع أعضائها وضيوفِهِم. هذا الأحد، الأوّل من شهر أكتوبر من كلِّ سنة، يحتفل به الغرب دائما بما هو معروف باسم أحد الشكر، كما يقول المزمور: الأرض وما فيها كلها منك، فلك منّا الشّكر عليها. يضع الفلاحون رمزا قدام الهيكل من جميع ما قطفوا من ثمار الأرض في الأشهر الصيفية، وما أنتجت الأرض للبشر من خيرات في هذه السنة، وخزّنوه في مخازنهم ليعيشوا منه، ليشكروه عليها بالصلاة. في صلاة التقادم على الهيكل، يصلي الكاهن في كل قداس: أيّها الرّب، إله الكون، يا من جُدت علينا بهذا الخبز وهذه الخمر، من ثمر الأرض ومن صنع يد الإنسان. وهذا هو مختصر عيد الشكر. هذه الخيرات نقدمها لله ونطلب بركته عليها، فهي تأتينا منه، والإنسان يعرف أنه معتمد على رحمة ومحبته، حتى تقع هذه الخيرات بين يديه. لذا علّم يسوع تلاميذه ماذا يطلبون من أبيه، أن يعطيهم خبزهم اليومي. ومن المستحسن أنه كلَّ مرّة تقع قطعة خبز بين يدينا أن نشكره عليها.

 

عيد الشكر هذا، تذكره التوراة على أُولى صفحاتها، فهو أوّلُ، حتّى لا نقول أقدم عيد شعبي عرفته البشريّة في الفردوس، من بعد ما انتهى الله من خلق العالم، فلقد وكّل آدم أن يعتني بالأرض ويفلحها ليعيش منها، "إذ فيها ينبوع الحياة"(مز 35: 10). والثمار هي علامات وجوده وحضوره الخفي الفعّال في الأرض، وذلك بفصولها الأربعة التي هو رتّبها حتى تثمر، وكان اسمها الجنّة. فإذن هي اكثر من مخزن مؤقّت لبعض الخيرات أو مستودع لبعض المواد الخام، بل هي منبع رئيسي لا ينضب. لذا يحب حمايتها منا لا التلاعب بها للمصالح الخاصّة. فإن أراد الإنسان أن يعيش من ثمر الأرض، ولا يوجد عن ذلك بديلا، فهي الأم التي تدر لبنا وعسلا من قوة الله فيها لجميع البشر وإلى الأبد.

 

أمّا أوّل من احتفل بهذا العيد فكانا الفلاحان الأوّلان، هابيل ابن آدم، راعي الأغنام، وقائين أخاه العامل في الأرض(تكو 4: 2). إذ شعر الإنسان أنّه مدين لله بالشكر على ثمر وخيرات الأرض. هذا وقد انتشر الإحتفال بهذا العيد بل ولقد صار الشعب يحتفل به سبعة أيام أي أسبوعا كاملا، وذلك في ساحة الهيكل، يأتي الفلاحون من قريب ومن بعيد، حاملين كلٌ منهم أوّل قطفة من منتوجه الزّراعي تقدمة لله في الهيكل، ليعيش منها خدام الهيكل وعائلاتهم أيضا. هذا وقد تناقلته الشعوب عن بعضها البعض، فصار معروفا على كل وجه الأرض. وفي أيّامنا هذه، قد أصبح هذا العيد من الإحتفالات السنوية الشعبية المُهمّة، إذ هو مناسبة يلتقي فيها البائع والمشتري على حدٍّ سواء، يفرحون فيه على عطايا الله وإنتاج الطبيعة، من ثمار مختلفة، سيتنعمون بها طيلة السنة إلى حصاد السنة القادمة. الإنسان يعرف أنه بإرادته لا يقدر أن يأمر الأشجار أن تعطيه ثمارا، ولا البذار أن ينمو ويُعطيه غلّته السنوية. هو يعرف أن الله وحده هو المنعم عليه بهذه الخيرات، لذا فما عليه إلاّ أن يشكره عليها. لهذا نحتفل بعيد الشكر هذا. :إذ ما في يدينا هو هدية من الله، ومن يحصل على هديه يشكر عنها. بهذا تتقوّى العلاقة بين المُهدي والمُهدى إليه.

 

نعم هذا الأحد هو من المناسبات المهمّة، التي تجعلنا نفتكر بالشكر لله، عن شيء محسوس ملموس، ألا وهو ثمار ومحاصيل ومنتوجات الأرض، التي لا نستطيع العيش بدونها. ومنذ القِدم شعر الإنسان أنّه بعد إدخال الغلاّت الأرضية إلى مخازنه، وتأمين معيشته للأشهر المقبلة منها، أنّه أيضا يجب أن يميّز نفسه عن باقي المخلوقات، وذلك بكلمة شكر لله، الذي أنعم عليه بها، لأنها جاءته مجّانا، من رَبِّ وخالق الطبيعة. ومن لا يفتكر بمشاهد قديمة نجدها في صور أيضا قديمة، تؤكِّد لنا، أنّ الأجيال القديمة ما نست أبدا، أن تشكر الله على إنعاماته. فهناك صور لفلاّحات في الحقول حاضنات حُزُم القمح بيد وبالأخرى ماسكات بيد طفل رافعين أعينهما إلى العلى يُتَمْتِمْن صلاة شكر، عندما يقرع جرس الظهر. أو أيضا صورة فلاّح راكعٍ في حقله، في إحدى يديه قطعة رغيف، وفي الأخرى كأس خمر مرفوع، ليشكر الله عليهما، إذ هو مانح هذه الخيرات.

 

 ومن يفتكر بدورات الصلاة الثلاثة أيام المُكثّفة قبل عيد انتقال يسوع إلى السّماء، طالبين منه حمايته للطبيعة من الكوارث الطبيعية أو الجفاف أو الفياضانات، أو الحرائق الواسعة المُدمِّرة، كي تبقى تعطينا الثمار التي نحتاجها للحياة. هذا وقد كان الله وعدنا بذلك: "قال الرب، بعد الطّوفان: لا أعودُ ألعنُ الأرض من أجل الإنسان، لأنَّ تصوّر قلب الإنسان شرس منذ حداثته، ولا أعود أميت كلّ حيٍّ كما فعلت"(تكو 12: 28). وبالمناسبة أظهر الله قوس القَزَح في السّماء، ليبقى يُذكِّرنا بوعده هذا. الإرض هي كالأم، منحها الله نعمة إنجاب وتغذية أطفالها، والإنسان يتغذّى من إنتاج ثمر أمِّه الآرض: وقال الله: إني قد أعطيتُكم كلّ بقلٍ يُبزِر بزرا على وجه الأرض، وكلَّ شجرٍ فيه ثمر شجر يُبزِر بزرا، لكم يكون طعاما"(تكو 1: 29).

 

 مَنْ مِنْ جيلنا اليوم، يحتاج كلّ الجهد والعمل المُضني في الحقول وتحت حر الشمس، ليجد هذه المواد الغذائية،  بينما هو يجد بسهوله كلّ ما يحتاج له في السوبرماركات والمخابز التي تقدّم كلِّ صباح وعلى مدار النهار أكثر من 200 نوعاً من الخبز الطازج، وفي آخر النهار يأتي أحد الفلاّحين ويجمّع ما لم يُباع بسعر رخيص يُقدِّمُه طعاما لحيواناته.. لذا يبدو له عيد اليوم غريبا. بل لا يفطن للشكر عليها. فأين هي الأم التي كانت، قبل أن تقطع الخبز بالسكّين، تدعو عليه اسم الله، ثم ترسم عليه بالسكين إشارة الصّليب. نعم أين نجد العائلات التي تتناول الطّعام سويّة، تباشر وتُنهي الوليمة بصلاة شكر ولو قصيرة؟ أليس ذلك دليلا على أنّنا نسينا أن عالمنا في يد الله، فشكره هو علامة الشّعور بقربه. نسينا أن حولنا بشر عديد جوعان، لا أحد يفتكر فيهم. ماذا عمل الفلاح الذي غلَّت له أر ضه؟ لقد بنى مخازن أكبر وطمأن نفسه قائلا: كلي يا نفس وتنعّمي، فلديك غذاءٌ لسنين كثيرة (لو 12: 16).

 

في صلاة أبانا الّذي، التي علّمنا إياها يسوع نفسه، يأتي ذكر 7 طلبات أساسية لحياتنا. الثلاث الأولى منها، تضع أمام أعيننا، ما هو هدف صلاتنا، وهو تمجيد الله وتسبيحه والقبول بعمل إرادته. أما الثلاث اللآخيرة فهي تُعبّر عن السؤالات الأساسيّة للحياة البشرية، وهي الذنب والتجربة والخطيئة. هذا وبين الثلاث طلبات الأولى والثّلاث الآخيرة، تحتلّ طلبة الخبز اليومي، الّذي نأكله لتستمرّ الحياة فينا، مكانا رئيسياً، فهو يريد أن يقول لنا، أنّ الحياة اليومية هي المكان الذي يصبح فيه عمل الله مرئيًا. إن هذه الطلبة هي الإعتراف بأن الله هو صاحب الخليقة، لذا فهو يهتم بها. وفي عيد الشكر السّنوي نتذكّر كَرَمَ الله، الذي لا يشابهه كَرَم. لذا فهو أهلٌ للشكر " كونوا شاكرين كلّ حين على كلّ شيء، بإسم ربِّنا يسوع المسيح لله والآب"(أفس 5: 20). مع ابنه أهدانا الله كل شيء من سماه، إذ يسوع نفسه هو غذاؤنا الحقيقي. فلهذا الغذاء يجب أن نشكر الله أكثر ممّا نشكره لخبزنا اليومي. هذا واسمحوا لي بذكر والدي المرحوم، فقد كان لا ينسى سنة من شكر الله، على ما أنتجت له أرضه من منتوج او محصول إلاّ وفكّر بالشكر، فكان سنة عن سنة يأخذ صاع القمح الأول وتنكة الزيت الأولى إلى الكاهن، شاكرا الله على هذه الخيرات، التي أنعم الله عليه بها. إذ كل شيء هو من الله ويجب شكره عنها. فنتساءل اليوم، لماذا علينا أن نشكر؟ لأنّنا لسنا بحاجة أن نهكل هم: ماذا نأكل وماذا نشرب، لأنَّ أبانا السّماوي يُقيتُنا (متى 6: 25) طاولات الطعام لدينا لم تكن مغطاة بالطعام بسخاء كما هي اليوم.

 

نعم علينا أن نشكر الله أننا ما عدنا نخاف من الجوع ككثيرين غيرنا على وجه الأرض ولا نفتكر أن كل البشر عندهم خبزهم اليومي مثلنا. بل مئات وآلاف البشر يعيشون في جوع متواصل. ألا يذوب القلب فينا حزناً، خاصّةً السّاكنين في المُدن، عندما نشاهد في الصّباح الباكر، أطفالا يتنقّلون بين براميل النفايات وسلال الزِّبالة أمام الفنادق والمدارس، يفتّشون فيها عن شيءٍ يُؤكل. وكم من الأطعمة اللذيذة تلاقيها، النساء اللواتي يقمن لتنظيف المدارس بعد انتهاء الدوام، في سلال الزبالة، يرميها الأولاد، يُقال أنها تكفي يوما كاملا لأولاد قرية في الصومال أو السودان ليبقوا على الحياة . وماذا نقول عن الدّول الغنية الّتي تهفي الأطنان من المنتوجات الزراعية، لتحافظ على الأسعار في أسواقها. لقد أصبحنا مجتمع رميٍ، لا نُقدِّر قيمة هدايا الله لنا، علما بأننا بها نقدر أن نكنز لنا فيها كنوزا في السماء حيث لا يفسِدها سوس (متى 19:6). فلا نظنّ لأنّ لنا المقدرة على شراء ذلك، فإن لم يُعجبنا يحقُّ لنا رميه، فيضيع سدىً بينما غيرنا بحاجة له ولا يستطيع الحصول عليه. لك الحمد والشكران يا إلهي، على كلِّ ما تمنحنا إياه من عطايا مادّية وروحية. إجعلها كلَّها تحمل ثماره لنا وللمحتاجين إليها. آمين

 

الفّلاح الذي غلّت له أرضه

 

في سَنَةِ الرَّحْمَةِ كيفَ لا نتذكَّرُ أنّكَ أبانا الرَّحيم

وُجُوهُ الرَّحْمَةِ عديدةٌ أَهمُّها خِدْمَةٌ وإحسانٌ كريم

 

بِهذا المَعْنى أَعْطَيْتَنا مَثَلَ الفَلّاحِ صَاحِبِ الْغَلّة

ما عادَ عِنْدَهُ قَبْوٌ لِلتَّخْزينِ فَبَنى مَخَازِنَ وَصْلَة

 

ما عَرَفَ أَنَّ جارَهُ جائِعٌ فقيرٌ ما عِندَهُ خُبْزَهُ اليومي

وما دعاهُ لمُساعَدَتِهِ في الحَصادِ فَهْوَ ليسَ مِنْ قومي

 

قالَ لِنَفْسِهِ مادِحاً رافِعَ الرّأسِ كَأَنّهُ دائِمٌ أَبَدِي

كُلِي يا نَفْسِيْ وَتَنَعَّمِيْ ولا تَهْتّمِّيْ بِحاجَةٍ لِلْغَد

 

وَبَدَلَ أَنْ يَحْتَفِلَ بِعيدِ الشٌّكْر للهِ وَيُطْعِمَ الجيران

راحَ يَبْتَعِدُ عَنْهُمُ وبَني حولَ بَيْتِهِ بُرْجاً وَجُدران

 

أنا هُنا لِسِنينٍ عَدِيدَةٍ فلَنْ أَطْرُقَ بابَهُمْ ولا هُمْ بابي

سأعيشُ بِالْبَذْخِ لا يُعْوِزُني شيءٌ مِنْ أَكْلٍ وَشَرابِ

 

وَسْطَ أَحْلامِهِ سَمِعَ هذا الصَّوْتَ المُرْعِبَ المُخيفَ: يا غَبِي

لَقَدْ حانَتِ السّاعَةُ لِأَخْذِ نَفْسٍكَ مِنْكَ فَلا تَقُلْ بَعْدُ لها اطْرَبي

 

لَقَدِ انْتَهتْ إقامَتُكَ فهيّا مَعي فارِغَ الْيَدَيْنِ عَرْيان

وما جَمَّعْتَ يَكونُ لِوَرِيثِكَ الشَّيْطانِ نائب الجان

 

فَهَذِهِ عِبْرَةٌ لَيْسَ لِلْأَغْنِياءِ وَحْدَهَمْ بَلْ لنا أيضاً جميعا

لِنَفْتَحَ أَيْدينا وَنَعْمَلَ الخَيْرَ رَحْمَةً نَلْقاهُ عِنْدَكَ يا سميعا