موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ١٨ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠١٩

لماذا أصبح أخذ صورة سيلفي محبّذًا؟

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن

قبل وجود الكاميرا وفن التصوير، برع بعض الفنانين والرسّامين والنّحاتين برسوماتهم وتماثيلهم الفنية لكبار الشخصيات أو الحوادث التاريخية المهمة، وضعوا عليها بالتالي في إحدى الزوايا السفلى لا صورتهم وإنّما رمزاً يدل على إنتاجهم هم، أي اسمهم بخط صغير، نقول اليوم التوقيع. وهي صور دائمة تباع اليوم بالمليونات حتى لا نقول بالمليارات، وذلك لنُدرتِها وعدم إمكانية نقلها أو نشرها. من لا يتذكّر بهذا المجال نحّات ورسّام التاريخ المشهور مايكل أنجيلو الذي كرّس حياته للفن الديني رسمًا ونحتًا في الفاتيكان وإيطاليا. فمن لا يعرف البييتا Pieta في كاتدرائية مار بطرس، أي العذراء الحزينة التي تضع في حضنها ابنها المُنزل عن الصليب، فمن يراها لأوّل مرّة يهتزّ فيه البدن لإتقانها، ويظلله شعور وارتعاش ما بعده من شعور أو ارتعاش. أو الرسومات الفنية التي لا مقابل لها في العالم كلّه في كنيسة البابا الخاصة سكستين والتي يلتئم فيها الكرادلة لاختيار البابا. فكلهم يجلسون وفي مقابلهم رسمة يسوع الملك في نهاية العالم، وذلك ليتذكر الكرادلة أنهم بإعطاء صوتهم لهذا أو ذاك من المرشحين للكرسي البابوي، سيؤدّون حسابًا قدام هذا الملك. ظاهرة جديدة كم كنا نفرح في صغرنا، عندما كنا نشاهد مصوّرًا بكاميرته، فكنا نتهافت عليه ونترجاه: صوّرني! خذ لي صورة يا صديقي! وكنا ننتظر بفارغ الصبر تحميض وسحب هذه الصورة في الاستوديو، وكنا نعتني بها ونحافظ عليها، حتى تحدث لنا المناسبة الثانية بعد سنتين أو ثلاثة أو أكثر، ونتصور من جديد. كان ذلك أوّلا لعدم وجود كاميرات بين أيدينا وهذا يعني عدم وجود استوديوهات إلاّ في بعض المناطق وبعض المدن، التي لقلة الإتصالات والمواصلات، كان صعبًا الوصول إليها. وثانيًا إذ التصوير فن ومن كان متخصصا به؟ بل من كان له خبرةٌ في التصوير؟ وثالثًا وليس آخرا لغلاة التصوير، فمن كان يقدر دفع صور فيلم بكامله. لذا فكانت الكثير من الحفلات، حتى لا نقول كلها، تحدث بدون تصوير. هذه كانت بداية التصوير في أكثر بقع العالم. أما اليوم ومع اختراعات التكنولوجبة التي غزت العالم، الفقير قبل الغني، فما عاد حدث بسيط يحدث، إلاّ وتُؤخذ له الصّور التي تنشر بثواني في كلّ أنحاء العالم، إذ الملايين من البشر يحملون التليفونات المجهّزة لأخذ الصور وإرسالها وبثّها على السوشال ميديا من فيسبوك وماسينجر إلى الإنستغرام وأجهزة التليفون الثانية من واتسأب وفايبر وإيمو... فما عاد الإنسان يحتاج الآخر لأخذ صورة بل هو نفسه يأخذ الصورة المسمّاة اليوم "سيلفي": أي نفسه بنفسه يأخذ الصور ويرسلها لمن يشاء. أول من ذكر كلمة سيلفي كانت مقدِّمَة جائزة أوسكار السنوية للسينما والأفلام في هوليوود، إيلين دي جينيريس Ellen De generes عام 2014، حيث نزلت من المسرح إلى وسط القاعة ودعت بعض الممثلين المشهورين للإنضمام إليها وأخذ صورة "سيلفي" قالت. ومنها عادت اليوم هذه الكلمة على لسان كل من يحمل كاميرة. فما عاد التصوير فنًا بل هواية ومزاجًا. وهنا تجدر الإشارة أنه قبل سنتين وقف صحفي في حديقة حيوانات فاقترب منه شمبانزي، فسلّمه كمرته فأخذ القرد سيلفي لنفسه كما تبينه هذه الصورة هنا وضع التي أرسلها لك عن طريق إيمو. وإذ نشرها الصحفي على صفحته سرقها مصورون آخرون دون ذكر مصدر هذه الصورة، فاحتج صاحبها على كل أنواع السوشال ميديا التي تناقلتها أيضًا بدون ذكر مصدرها وصارت دعوة قانونية واسعة لم تُحل بعد، مفادها: من يحق له نشر صورة أخذها غيره، بدون طلب الإذن من صاحبها، إذ هذا هو القانون الدّولي المتعارف عليه. فما عاد إنسان يقدر أن يحصي كم من مليار صورة تُؤخذ الآن يوميًا، منها من يخزّنه صاحبها ومنها ما ينشره على صفحته مع خبر قصير لأصحابه. ولكن منها ما أصبحت للإستعراض اليومي ببدلة جديدة أو الظهور في رحلة بمكان غريب ليرى الناس أن صاحبها يتنعّم بالحياة، وأما للنساء فأصبحت السيلفي مباهاة بفستان جديد أو تسريحة شعر غريبة... وهنا النقطة. ماذا يكمن وراء أخذ أو نشر صورة السيلفي؟ هناك علماء نفس تخصّصوا بدراسة نفسية أصحاب السيلفي وطلعوا بالنتيجة التالية. قبل كل شيء للنساء أسلوب بأخذ السيلفي يختلف عن الرّجال. النّساء يصورن أنفسهن بتسليط العدسة من فوق فتظهر تقاطيع الوجه بجاذبية أكثر للمتفرّج، بينما الرجال فبالعكس، يسلطون الكاميرا من تحت إلى فوق، فتظهر ملامح الوجه جديّة أكثر. أخذ السيلفي صار اعتياديًا بين كل طبقات الشعب وعند كل الأمم، لكن عالمة النفس الأمريكية ليديا كورتِه تجد في تحليلها أن ثقافة من يعمل السيلفي تبدو واضحة على صورة السيلفي نفسها، وهي تقدر أن تجد فرقًا بين سيلفي الغربي وسيلفي الصيني، إذ الغربي يمسك كاميرته بيده بينما الصيني فيضعها على مقضب، فيظهر وجهه صغيرًا ومن خلفه مشهد طبيعة واسعة، أما الغربي فيحبّذ السيلفي القريب إلى الوجه ليعبّر فيه عن شعور وملامح اللحظة التي يأخذ فيها الصورة. ويؤكد عالم نفسي بريطاني ومعه فريق عمل لدراسة نفسية صُور السيلفي في العالم، نفس النتيجة أي إظهار ملامح الوجه أو الطبيعة. لكنه وجد الفرق مثلا في السيلفي الإنكليزي، فالمصوّر يفضّل الصور الجماعية. وفي تشيلي يفضل المصور أخذ السيلفي وهو مسترخٍ على الكنبه في بيته. أمّا البرازيليّون فيفضّلون أخذ السيلفي عراة الصدر المحروقة من الشمس. هذا ولا ننسى أنّ الكثيرين أيضًا يعملون سيلفي مع حيوناتهم لأنهم يحبونها ويردون أن يذكرونا بمبدأ حماية حياة الحيوانات (وقد صار اليوم محبوبًا أكثر من حياة الطفل، وإلا لما احتجوا على صيد الحيوان بينما هم لا يحتجون على قتل الجنين). منذ انعرفت كلمة سيلفي فقد أُخذِت وتؤخذ يوميًا ملايين الصور. لكن لا نفتكر أن الصورة الخاصة هي ظاهرة جديدة، بل أُخِذَت أيضًا في القديم صور خاصة. فنّ أخذ الصورة هو فقط الذي تغيّر. في أواخر القرن الماضي انتشر التصوير بالكاميرا المعروفة بولارويد Polaroid أي كاميرا نصف آلية، وهي عبارة عن استوديو بيد مستعملها، هو يأخذ الصّورة وبعد ثوانٍ كانت تقوم الكاميرا بتحميض المسودّة وقذفها ببطء خلال نصف دقيقة كان الواحد يحصل على الصورة. لكن هذه الكاميرا لم تستطع أن تثبت ذاتها للسبب أن صورها ما كانت جيدة وما كانت تعطي الملامح المنشودة. ثمّ مع الوقت القصير كانت تفقد من لونها وبهائها. والآن لماذا يأخذ الناس، كبيرا وصغيرا، سيلفي لنفسهم بهذه الكميّة؟ تقول عالمة النفس ليديا، لأسباب كثيرة ومختلفة. فالإنسان يعمل لنفسه سيلفي مرّاتٍ ومرّات، وهذا أكيد ليس فقط ليظهر، وإنّما ليتذكّر تاريخ حياته. فها السياسيّون يكتشفون أهميّة السيلفي أثناء الإنتخابات، وهذه طريقة صاروا يستعينون بها للتعريف على أنفسهم بل وعن سياستهم، بحيث أنّ ظهورهم مع هذا الجمهور وهذه الفئات من النّاس، يدلُّ على اتّجاههم السياسي وبالتالي يتقرّر انتخابهم أم لا. وبالتالي لا ننسى أن السيلفي على سهولة أخذه هو المرجع الرئيسي لتقدير الذّات من الذّات، والتذكير بلحظات ممتعة يعيشها الإنسان ويريد أن تبقى في عقلة وأمام عينيه.