موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٩ مايو / أيار ٢٠٢٠

لا تضطرب قلوبُكم...

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
الأحد الخامس من الفصح: لا تضطرب قلوبكم!

الأحد الخامس من الفصح: لا تضطرب قلوبكم!

 

أَيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. رَأينا في إنجيلِ الأحدِ الثّاني من الفصح، كيفَ أنَّ التّلاميذَ كانوا مجتمعين في دار أُغلِقَت أبوابُها خوفًا من اليهود. فَجاءَهم يسوعُ القائمُ، مُخترِقًا الأبوابَ الموصَدةَ تَوجُّسًا وقلقًا، وحيّا تلاميذَه تَحيّة السَّلام، فنزعَ الاضطراب مِن قلوبِهم، وألقى فيها طمأنينةً وفي نفوسِهم فرحًا وسَكينة.

 

واليوم في هذا الأحدِ الخامس من زمن الفصحِ المجيد، نعودُ بضعَ خطواتٍ إلى الوراء، إلى الفصل الرّابع عشر من بشارة يوحنّا. لنقرأَ المسيحَ مُشدِّدًا عزيمةَ تلاميذِه وشاحِذًا هِمَمَهم، مُخاطِبًا إيّاهم: "لا تضطرب قلوبُكم". فقد كانَ الرّبُ يعلمُ يقينًا بأنَّ الخوفَ سوف يتملَّكُهم، والاضطراب سوفَ يعتمرُ قلوبَهم. كانَ يعلم بأنّهم سَيَتزعزعون ويرتعِدون، وبأنّهم سينقلِبونَ ويَتَقَلقَلون، وبأنَّ عَزائِمَهم سَتَتَراخى، وقواهم تخورُ وتتداعى. فأردفَ الرّبُّ قائِلًا: "تؤمنونَ بالله فآمِنوا بي أيضًا". لأنّ ثباتَهم بالإيمانِ هو طوق نجاتِهم الوحيد للعبورِ خلالَ الأزمة الّتي ستعصِف بهم، وللخروج منها سالمينَ مُعافين.

 

فالرّبُّ قبلَ لحظاتٍ كشف لِرُسلِه الكِرام ما سيحدثُ له. فأنبأَ إليهم بموتِه القريب، وبخيانةِ يهوذا الّذي سيُسلِمُه، وبإنكارِ بطرسَ ثلاث مرّات. سلسلةٌ من الأحداث المزعِجة، الّتي دَبَّت الذُّعرَ والرّعبَ في قلوب التّلاميذ! مع ذلك، لا تضطرِب قلوبُكم! بالرّغم من كلِّ ما سيحدث، لا تضطرب قلوبُكم، بل حافظوا على إيمانِكم بي.

 

اليوم، هناك مشاعرٌ من الخوفِ تجري فينا، هناك تيّارٌ عالٍ من الاضطرابِ يسري بينَ الجميع. وإن رفضَ البعضُ أن يُسمّوه خوفًا، فهو قلقٌ، تخبّطٌ، خِشية، هَول، هَلع. سمّوه ما شِئتُم. المهم هي مشاعرٌ من عدمِ الاستقرار، ربّما لا نُظهِرُها مُكابَرة أو تَحفُّظًا، ولكنّنا نشعرُ بها، ونُفكّر بها، وربّما تؤرِّقُ الكثيرينَ منّا. هناكَ حالةٌ عامّة من الخوف والاضطراب والتَّزَلزُلِ وعدم التّوازن، الّتي تجتاحُ العالمَ برمّتِه، على مستوى المجتمعات، وعلى مستوى الدّول والحكومات، وأيضًا على مستوى الأفراد والأشخاص.

 

كَم من الأفرادِ اليوم خَسِروا وظائِفهم ومصدرَ رزقِهم وقوتَ عوائِلِهم. وَكَم من الأفرادِ يَنظرون بعين القلق والتوجّس، إلى ما قد يحصلُ لهم في المستقبلِ المنظور، إن بَقيت الأحوالُ على ما هي عليهِ اليوم. أحوالُنا غيرُ مُستقرّة، مضطرِبة، مُختلّة. بالرّغمِ من التّطمينات، الّتي تصدرُ عن هنا وعن هُناك، ونحن نحترِمُها، ولكنّنا لا نستطيعُ أن نُنكِرَ أو نغفلَ عن حالةِ عدم الاستقرار النّفسي والاقتصادي أيضًا، الّتي تضرِبُ بِلا هَوَادَة، فُرادةً ومجتمعات. كانَ اللهُ في عونِ الّذينَ هم في حاجةٍ فعلًا إلى العونِ والمساعدة.

 

أيُّها الأحبّاء، نحنُ اليوم في عينِ العاصفة! ومع ذلك لا تضطرب قلوبُكم ولا تفزع. ما دُمنا نسيرُ على الطّريق فنحنُ في أمان. وما دُمنا نسلِك في نورِ المسيح، الّذي هو الطّريق، فنحنُ في أمان أيضًا. النّهاية لا تكمنُ هنا على هذهِ الأرض، فنحنُ نؤمن بذاكَ الّذي وعدَنا، ووعدُه صدقٌ، لا يُخلف الوعدَ ولا الميعاد. وَعدنا بأنّه ذاهبٌ ليُعدَّ لنا المُقام الأفضل والموضِعَ الأجمل. حيث المروج الخصيبة يُربِضُني، ومياهَ الرّاحة يوردني فينُعِش نفسي. فكيفَ لنا أن نخافَ وأن نَضطرِب، ونحن نؤمنُ بالمسيحِ، الطّريقِ والحقّ والحياة؟!

 

لَمّا دعا الرّبُّ إرميا، خافَ من دعوة الرّب له، متذرِّعًا بأنّه ولد، لا يُحسِنُ الكلام. فجاءَه جوابُ الرّبِّ قائِلًا: "لا تخف من وجوهِهم، فإنّي معك لأُنقِذكَ" (إرميا 8:1). قد نبدو أولادًا لغيرِنا، صغارًا، ضعفاء، نفتقِرُ إلى الحكمة أو الخبرة، لا نقوَ على فعلِ شيء. ولكنَّ اللهَ معنا، وإذا كانَ اللهُ معنا، فمن يكونُ علينا؟! اللهُ معنا! كَم هي عظيمةٌ هذهِ الجملة. تجعلُ الدّنيا ترتعِدُ تحت أقدامِنا. ولسانُ حالِنا يقول مع القدّيس بولس: "أستطيعُ كلَّ شيءٍ بالمسيح الّذي يقوّيني" (فيلبّي 13:4) المسيح يقوّينا، يُشدِّدُنا، يشحذُ هِمَمنا، هو مُعتَصمٌ لنا وعِزّة، هو نصرةٌ نجِدُها في المضايق. لذلك: "لا نخشى إذا الأرضُ تقلّبت، والجبالُ في جوف البحر تَزعزَعت. إذا عَجّت مياهُها وجاشت، والجِبالُ بِطمُوِّها رَجفت. ربُّ القوّات مَعنا، إلهُ يعقوبَ حِصنٌ لنا" (مزمور 3:46-4)

 

رسالتُنا اليوم: ما دُمنا نسلُك في النّور، وما دامَ المسيح رَاعينا ومُرشِدنا، فإنّنا لا نخشى لومةَ لائم، ولا حِقد حاقد، ولا حسدَ حاسد، ولا افتراءَ كاذِب. فاصبِر على كيد الحسود إنَّ صبرَك قاتِلُه، فالنّارُ تأكلُ بعضَها إن لم تجِد ما تأكُلُه! المسيحُ يُرشِدُنا، يُنيرُ دربَنا، حتىّ نسلُكَ وسطَ تقلّباتِ الدّهر الحاضر، دون خوفٍ وبلا اضطراب. ثبِّتوا قلوبَكم في المسيح، صخرةِ خلاصِكم ومُعتصمِكم، ثبّتوها فيه هو نجاتُكم ونجدتُكم، حِصنُكم وملاذُكم، ملجؤكم وموطِنُ لجوئِكم.

 

لا تضطربْ قلوبُكم يا تلاميذي وصحبي، لا تفزَع قلوبُكم يا رِفقاي، بل آمِنوا، واثبتوا في إيمانِكم. لأنّكم بثباتِكم تكتسِبونَ أنفسكم. سفينتُنا تبحرُ بِنا وَسطَ بحرِ الحياة. تتقاذفُنا أمواجُها، تتلاعبُ بِنا رياحُها وعواصِفُها، تصدِمُنا صخورُها وعَقباتُها. وربّما تُحطِّمُ شيئًا من مجاديفنا، وقد ينالُ التّعبُ والوَهَنُ منّا جَرّاءَ من نُقاسيه من همومَ ومتاعب، وأحمالٍ مرهِقةٍ ثقيلة. ومع ذلك آمِنوا بالله وآمِنوا بيَ أيضًا...

 

لا تضطرب قلوبُكم، بل سَكِّنوها عندَ من هو نبعُ السّكينة، وسلّموها إلى من هو بحرُ السّلام، وأودِعوها إلى مَن هو فيضُ الوداعة... لا تضطرب قلوبُكم، بالرغم من كلّ ما يحدثُ حولنا أو حتّى معنا، آمِنوا ولا تفزعوا. فإن كان هذا وقتُ الشِدَّةِ، فهو أيضًا وقتُ الفرجِ، فانتصِبوا قائمينَ وارفعوا رؤوسَكم لأنَّ خلاصَكم واقفٌ على رؤوسِ الأشهاد.

 

لا تضطرب قلوبُكم، فإنّي ذاهبٌ إلى حينٍ، ثمَّ أرجِعُ إليكُم واصطصحبُكم معي لتكونوا أنتم حيثُ أنا أكون. أنا ذاهبٌ لأجعلَ لكم مُقامًا أَبَدِيًّا، تستقرّون فيه إلى جوراي، وتنالونَ الرّاحةَ بعد تَعبِ الحياةِ، وكثرةِ تكاليفها ومشقَّاتِها.

 

لا تضطرب قلوبُكم! المستقبلُ مجهولٌ غيرُ واضحِ المعالم. ربّما يكونُ مُشرقًا، وربّما يكون أشدَّ إعتامًا. ربّما يكون أفضلَ، وربّما يكونُ أكثر سوءًا! جميعُ الاحتمالاتِ مفتوحةٌ وقائمة.

 

ومع ذلك، دعونا نتصفّحُ التّاريخَ، دون زيفٍ ودون تحوير. لنأخذَ منه عبرةً لنا: جميعُ الممالكِ والإمبراطوريات التي قامت على مرِّ التاريخ، بالحديد والنّار، وغَزَت الأقطارَ والأمصار، أتاها زمانٌ لتنهارَ فيه ويقومَ غيرُها على أطلالِها. أمّا كنيسةُ يسوعَ المسيح، التي قامت على يد مجموعة من صيّاديِ السَّمك، فلم تنهار ولن تسقط أبدًا، بل تظلُّ قائمة، بالرّغم من كلِّ ما أصابها عبرَ القرون من اضطهادٍات وهَجمات وويلات، لماذا؟ لأنّها قامت على صخرةِ المسيح، الذي وعدنا بأنَّ أبوابَ الجحيم لن تقوى عليها، ووعدُه حقٌّ وقولُه صدق. صخرةُ الكنيسة، من حولِها تَسقطُ وتتحطّمُ كلُّ الحجارة، أمّا هي فلا ولن تسقط أبدًا. فها أنا معكم طوالَ الأيام، حتّى انقضاءِ الدّهر. بهذا الإيمان إخوتي وأخواتي، نمضي ونسير، دون خوف ودون قلق، فلا تضطرب قلوبكم، تؤمنون بالله فآمِنوا بيَ أيضًا.

 

"السَّاكِنُ في كَنَفِ العَلِيِّ يَبيتُ في ظلِّ القَدير. يَقولُ لِلرَّبِّ: ((أَنتَ مُعتَصَمي وحِصْني إِلهي الَّذي علَيه أَتوكَّل)). هو الَّذي يُنقِذُكَ مِن فَخِّ الصَّيَّاد ومِنَ الوَباءَ الفتَاك. يُظَلَلكَ بِريشِه وتَعتَصِمُ تَحتَ أَجنِحَتِه، وحَقُّه يكونُ لَكَ تُرسًا ودِرْعًا. فلا تَخْشى اللَّيلَ وأَهوالَه ولا سَهْمًا في النَّهارِ يَطير. ولا وَباءً في الظَّلامِ يَسْري ولا آفَةً في الظَّهيرةِ تَفتُك. يَسقُطُ عن جانِبِكَ أَلْفٌ وعن يَمينكَ عَشَرَةُ آلاف ولا شَيءٌ يُصيبُكَ. حَسبُكَ أَن تَنظُرَ بِعَينَيكَ فتُعايِنَ جَزاءَ الأَشْرار. لأَنَّكَ قُلتَ: ((الرَّبُّ مُعتَصَمي)) وجَعَلتَ العَليً لَكَ مَلْجَأً. الشَرُّ لا يَنالُكَ ولا تَدْنو الضَّربَةُ مِن خَيمَتِكَ: لأَنَّه أَوصى مَلائِكَتَه بِكَ لِيَحفَظوكَ في جَميعِِ طرقِكَ. على أَيديهم يَحمِلونَكَ لئَلاَّ تَصدِمَ بحَجَر رجلَكَ. تَطأ الأَسَدَ والأفعى تدوسُ الشبلَ والتنين. أُنجيه لأَنَّه تعَلق بي أَحْميه لأَنَّه عَرَفَ اسْمي. يَدعوني فأُجيبُه أَنَّا معه في الضِّيقِ فأُنقِذُه وأُمَجِّدُه. بِطولِ الأيامِ أُشبِعُه وأُريه خلاصي" (مزمور 91).