موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٤ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

لا بدَّ له مِن أن يَكبُر، لا بدَّ لي مِن أن أَصغُر

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
لتُكن شفاعة القديس يوحّنا المعمدان، شفيعِ شرقي الأردن، معنا دومًا

لتُكن شفاعة القديس يوحّنا المعمدان، شفيعِ شرقي الأردن، معنا دومًا

 

القدّيس يوحنّا بن زكريا والمُلقَّب بالمعمدان... هو أعظمُ مواليدِ النّساءِ قاطِبةً، ومِن ذي قُربَةِ المسيح. إذ كانَت أمُّه أليصابات، نسيبةً لمريمَ العذراء كما يروي لنا الإنجيليّ لوقا (36:1). لَيسَ ذلك فحسب، بل هو سابِقُ الرّب المباشِر، ومُعدُّ الطّريق، والصّوتُ المنادي في البرّية، وهو إيليا المنتظرُ رجوعُه (متّى 11:11-15)، تحقيقًا لنبوءةِ النّبي ملاخي: "هاءنذا مُرسِلٌ رسولي، فَيُعِدُّ الطّريقَ أمامِي" (ملاخي 1:3).

 

وعادةً، تحتفِلُ الكنيسة بذكرى وفاةِ القدّيس أو ذكرى استشهادِه، مُعتبرةً ذاكَ التّاريخ، يومَ ميلادِه في الملكوت. ولكنّها تحتفلُ، بشكلٍ حَصريٍّ وخاص، بذكرى ميلاد ثلاثةِ أشخاص بالجسد: ميلادِ المسيحِ في الخامسِ والعشرين من كانون الأوّل، ميلادِ مريمَ العذراء في الثّامنِ من شهر أيلول، وميلادِ يوحنّا المعمدان في الرّابعِ والعشرين من شهر حُزيران. وللقدّيس يوحنّا أيضًا، عيدٌ آخر هو ذِكرى استشهادِهِ في التّاسع والعشرين من شهر آب.

 

وُلِدَ يوحنّا المعمدان، مِن عائلةٍ كهنوتيّة. فأبوه هو زكرّيا الكاهن، وأمُّه هي أليصاباتُ من بناتِ هارون. وكِلاهُما مِن سبطِ لاوي الكهنوتي. أبصرَ النُّورَ في واحدةٍ من مُدنِ جَبلِ يهوذا كما يروي البشيرُ لوقا (39:1). وبحسب المفسّرين، يُرجّح بأن تكونَ بلدة عين كارم، الواقعة إلى الشّمالِ الغربي من مدينة القدس، حيثُ يقوم هناك مزارٌ للمعمدان.

 

أمّا اسمُ يوحنّا، فأطلقَهُ عليه أبوه زكريّا، بناءً على طلبِ الملاكِ جِبرائيلَ منه، ساعة بشارتِه لزكريّا بمولِدِ يوحنّا. والاسم يوحنّا يعني (الله تحنَّن). ليكونَ مولِدُ يوحنّا علامةً على تحنُّنِ الله ورحمتِه. فالله تحنَّنَ أوّلًا على زكريّا وأليصابات، ونظرَ إليهِما، ورزقَهُما بطفل، وكلاهما كانَ طاعِنًا في السّن، وقد اشتعلَ الرّأسُ شيبا. فردَّ عنهما الخزيَ والعارَ المجتمعي، الّذي كانَ سائدًا آنذاك، ولا يزالُ سائِدًا أيضًا في مجتمعاتِنا بطرقٍ وأشكالٍ عِدّة. فلنا أن نفهم معنى ذلِك العارَ. ثمَّ تحنّن علينا جميعًا، إذ أَرسَلَ إلينا ابنَه الوحيد، يسوعَ المسيح، رحمةً وخلاصًا وفِداءً، وأمامَه يسيرُ يوحنّا، ليُشير إلى هذا الحنان الإلهي: "هوذا حملُ الله" (يوحنّا 36:1).

 

أمّا لقبُه المعمدان، فيدلُّ على خِدمةٍ أو مهمّةٍ كانَ يقوم بها، إِذْ كَانَ يُعمِّدُ الجموعِ في مياهِ نهرِ الأردن. وعَن يده اِعتمَد المسيحُ أيضًا، كَما تروي لنا البِشاراتُ الإنجيلية.

 

في مرحلةٍ مبكّرةٍ من عُمرِه، كغيرِه من بعضِ اليهود، اِختارَ يوحنّا حياةً (نُسكية). فاعتزلَ النّاس، وَسَكَن في برّية يهوذا، قريبًا من ضفاف نهر الأردنّ، حيث كان يُعمِّدُ في مياهِه. يلبسُ وَبرَ الإبلِ كِساء، ويأتزِرُ بزنّار من جِلد. يأكلُ ما توفّرُه له القِفارُ من جرادٍ وعَسلٍ بريّ. دَاعِيًا الجموعَ الّتي كانَت تخرج إليه، قابلةً المعمودية، إلى التّوبة والاعترافِ بالخطايا (متّى 4:3 -6).

 

ميلادُ يوحنّا كانَ معجزةً إلهيّة، وبتدخُّلٍ ربّاني مباشِر. فأبوه زكَريّا كانَ طاعِنًا في السّن، وأمُّه أليصاباتُ كانت عاقِرًا لا تُنجِب. وفي هذا التّدخل العجائبي، دلالة على أنَّ إلهَنَا قادرٌ على أن يُخلِّصَ ويُنجّي، وسطَ أحلكِ الظروفِ وأصعبِ المواقف وآخرِ الّلحظات، حيثُ يبدو كلّ أملٍ منعدِمًا.

 

يوحنّا المعمدانُ هو جسرُ عبور، ونقطةُ اتّصال، وبوابةٌ بينَ العهدين، عهدِ الشّريعة وعهدِ النّعمة: "لإنَّ الشّريعةَ أُعطيَت عن يدِ موسى. وأمّا النّعمةُ والحق، فَقد آتيا عن يد يسوعَ المسيح" (يوحنّا 17:1). فهو من ناحية يُعتبرُ آخر أنبياءِ العهد القديم. ومن ناحية أُخرى، يُعتبر فاتحةَ العهد الجديد، إذ كان السّراجِ المُوقَدَ المُنير (يوحنّا 35:5)، المُعدُّ لاستقبالِ المسيح، إذْ سبقَه بالجسدِ بنحوِ بضعة أشهر فقط.

 

كانَ يوحنّا موقِنًا من مجيءِ المسيحِ المنتَظَر، فأنبئَ الجموعَ غيرَ مرّةٍ قائِلا: " أنا أُعمِّدُكم بالماء. ولكن يأتي مَن هو أقوى منّي، مَن لستُ أهلًا لأن أَفكَّ رِباطَ حذائه. إنَّهُ سيعمِّدُكم في الروحِ القدسِ والنّار". (لوقا 3). ثمَّ أنّه دعا تلاميذَهُ إلى تركِه والّلحاقِ بالمسيح. فكانَ اندراوس من جملةِ تلاميذِه الّذين تَبِعوا المسيح، حملَ الله، بناءً على توصيةِ المعمدان نفسِه. (يوحنّا 35:1-40).

 

أمّا من ناحية فلكيّة، فمع دنوِّ عيد ميلاد يوحنّا يأخذُ النّهارُ بالنّقصانِ شيئًا فشيئًا، ويستمرُّ بذلِك حتّى دنوِّ يومِ ميلاد المسيح. وعندها يبدأ النّهار في الاستطالةِ من جديد. وفي هذه الظّاهرة الطّبيعيّة، دلالة روحيّة، فهي تُشيرُ إلى قولِ يوحنّا في المسيح: "لا بدَّ لَهُ مِن أن يكبُر، ولا بدَّ لي مِن أن أصغُر" (يوحنّا 30:3).

 

كانَ يوحنّا الصوتَ الّذي صرخَ مُبشِّرًا، بينما المسيحُ هو الكلمةُ الّذي به بشّرَ يوحنّا. كانَ يوحنّا الصّوت الّذي دافعَ عن الحق، بينما المسيحُ هو الحقُّ الآتي إلى العالم. كانَ يوحنّا الشَّاهد الّذي شهِد للنّور، بينما المسيح هو النُّور الّذي شهِدَ له يوحنّا. كانَ يوحنّا المُعِد للطّريق، بينَما المسيح هو الطّريق.

 

الفيلسوف اليوناني سقراط اِشتُهِرَ بمقولتِه الخالِدة: "اِعرف نفسَك". ويوحنّا يا أحبّة استطاع أن يعرِفَ نفَسه، وأن يعترِف بقدرِه ومِقدارِه أمامَ المسيحِ الآتي. فاعترف ولم يُنكِر، ولم يَدَّعِ أن يكون هو مَن ليس هو (يوحنّا 20:1). ولذلك قال: "لا بدَّ له مِن أن يكبُر، ولا بدَّ لي مِن أن أصغُر". هذهِ جملة مناسبة لكلِّ واحدٍ منّا، ليتذكّر، في هذا العيدِ المبارك، مَن هو، ومَا قدرُه، دونَ أن يتكبّر، فالقديرُ قد شتّتَ المتكبّرين في قلوبِهم، ورفعَ المتواضعين (لوقا 51:1-52).

 

لتُكن شفاعة القديس يوحّنا المعمدان، شفيعِ شرقي الأردن، معنا دومًا