موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٤ مارس / آذار ٢٠٢٠

كورونا.. فيروس بيننا!

بقلم :
المونسنيور بيوس قاشا - العراق
أعمال الوقاية من انتشار وباء كورونا في العراق

أعمال الوقاية من انتشار وباء كورونا في العراق

 

في البدء

 

فيروس كورونا "كوفيد-19" (COVID-19) عنوان عالمي يتصدر اليوم الصفحات الأولى من مسيرة الإعلام بمختلف فروعه المرئية والمسموعة ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وغَدا الشغل الشاغل للعالم بأسره، لدول غنية ولدول فقيرة، وسبّب قلقاً واسعاً، وبسببه تعطّلت الحياة كاملة لكونه عدوّاً قاتلاً، بل "فيروساً" مخيفاً ومرعباً ومميتاً، كما قدّمه لنا الإعلام المخيف، والذي أزاد هالة الفزع والهلع بنشراته الإخبارية وقنواته الفضائية، وبدأ يشعر الإنسان بأنه في خطر الموت الأكيد إنْ لم يحترس من أجل الوقاية منه، وبانتشاره  تغيرت ملامح الحياة وبدأ الإنسان يتساءل: هل نحن في عالم نهاية الأزمنة أم بداية نهاية العالم؟، فالإنجيل المقدس يقول على فم المسيح الحي "وفي الازمنة الاخيرة" (متى 7:24-9). فأين نحن من هذا كله بعد أنْ أُعطيت العديد من أوامر الحيطة والحذر، وأُصدرت عناوين مختلفة "الوقاية خير من العلاج" وماهي الطرق العديدة لتعميم الوقاية؟، وأضاف الخوف هلعاً بغلق المنافذ البرية والبحرية والجوية بين جميع بلدان البشرية، وتحولت العديد من المدن في أوطانها إلى مدن أشباح وشوارع أشبه مقفرة من عقولها، ولم يمضِ حدث عالمي باهتمام من قِبَل الحكومات وعالم الصحة والبيئة والنظافة والطوارئ مثل ما حصل مع "كورونا"، كما لم نعهد هلعاً كمثل هذا الذي أصاب دنيانا بحيث إصابة شخص واحد أمست تطغي على الأخبار ونشراتها، فالمشكلة ربما ضُخِّمت بأكثر من حجمها الحقيقي وربما يعود ذلك إلى الافتقار إلى الدواء الناجع والعلاج الأمين والشافي -وإنْ كان البحث يجري على قدمٍ وساق- و... و...

 

العولمة وجناحاها

 

ومع الهلع من فيروس "كورونا" كشفت العولمة عن علمها عبر جناحيها الإيجابي والسلبي، وحملت إلينا أسئلة عديدة وأجوبة مختلفة. ورغم الإيجابيات العولمية الجديدة في التقدم العلمي والحاسوبي والموبايلي، فهي في الآن ذاته مصدر لكثير من التهديدات كعولمة الأمراض والهجرة والفيروسات المحلية والعابرة للحدود عبر الصواريخ البيولوجية والمنفلقة، ومع هذين الجناحين بدأنا نتساءل جميعاً: هل سندخل مرحلة جديدة في مسيرة الحياة الطبيعية؟، وهل سنكون جميعاً في مصير مشترك؟، أم نحن نتجه نحو تحييد الآخر المختلف والخوف من أهدافه المعلَنة والخفية في الاحتلال وتدنيس حقيقة الاخوّة وإنسانيتها ، وقدسياتها الايمانية ،  وسرقة أموال الفقراء وخيراتهم لتجعل الإنسان وقوداً وأداةً لنشر تلك المبادئ القاتلة؟ وفي الآن ذاته، فالعديد من الدول الفقيرة لا يُحسَب لها إلا التدمير إزاء العالم المتقدم واللاهي بمصالحه وأنانياته، ومن هنا بإمكاني أن أقول: هل الأديان غدت معنية بهذا العالم الجديد وما يحصل؟، وهل أصبحت صلواتنا وأفعالنا لها تأثيرات معولَمة تتجاوز حدود بيتنا ومجتمعنا ووطننا؟، إنْ كان ذلك فعلينا جميعاً أن ندخل مرحلة المسؤولية، وبإمكاننا أن نكون خيراً وصحةً وبناءً ونزرع عالماً آمناً، كما بإمكاننا أن نصنع عالماً متوحشاً ومريضاً. وهنا يظهر جلياً ارتباطنا بالإنسانية وإخوّتها، وبإيماننا وحقيقته، قبل أن تكون العولمة المزيفة قد أبعدتنا عن الآخر المختلف، وأدخلتنا في نظرية المؤامرات والعقاب ليس إلا!.

 

من أجل الوقاية

 

وفي عراقنا الجريح كما في البلدان الاخرى، قاد رؤساء الكنائس ورجال الإيمان وأئمة المساجد وشيوخ الجوامع حملة من أجل الوقاية ضد فيروس "كورونا" حمايةً لأبناء الشعب ومؤمني كنائسهم ومساجدهم ونحن لهم شاكرون ومدينون لاهتماماتهم، وهمس الكثير منهم في آذان بعضهم البعض وأمام مؤمنيهم ما نصّه: إن كورونا (كوفيد-19) دعاية إعلامية واقتصادية في حرب بيولوجية شاملة بين الدول الكبرى ومصالحها...

 

والبعض الآخر أكد: إن هذا الشيء ليس إلا كلام بسيط ولا يمكن تصديقه فما هو إلا لتدمير الدول والانسان وخاصة الانسان الفقير لوقف الهجرة القادمة من دول العالم الثالث وهي العالة على الجميع . وآخرون في المسيحية يقولون: يجب أن نكون شجعاناً ولا نخاف، فإيماننا عميق بما أعلنه الرب يسوع في إنجيله المقدس إذ قال "لا تخافوا أنا معكم طول الأيام" (متى20:28)، فلا نخاف الداء ولا العدوى لأن الرب حامينا.

 

وآخرون اوصوا بعدم الجلوس الواحد بصف الاخر خوفاً من بعضنا البعض مكما علينا تجنب اللقاءات والمصافحات فمنع أخذ السلام في الصلاة وعلى الحاضرين أن يتركوا مسافة فاصلة بينهم وبين البشر الاخرين كما أضافوا الى عدم مشاركة الاحبة افراحهم واحزانهم ولا يجوز من احتضان قريب او بعيد او صديق فقد عزيزاً لنخفف شدة الحزن والفراق وتؤجل الزواجات كي لا يرقص الاهل والاصدقاء فرحاً بزفاف ابنهم أو ابنتهم أو صديقهم والوضع الكارثي شديد على كبار السن والمرضى نخاف منهم ونخاف عليهم انه الفيروس اللعين فقد وضعنا في اختبار اخلاقي عسير وما علينا إلا الامتثال لفرق الصحة وخلايا الازمات واصبحنا قطيعاً حتى في بيوتنا ومجتمعاتنا .

 

وآخرون يلومون الله (أستغفر الله) ويقولون: إن الله هو الذي أرسل فيروس كورونا ليهلك البشر بسبب انتشار الخطيئة وابتعاد الإنسان عن الإله الحقيقي، ومذكّرين بما جاء في الإنجيل المقدس "وتكون مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن" (متى 7:24)، ويُلحقون بها ما جاء في السر الثالث لسيدة عذراء فاتيما التي تراءت لثلاثة أطفال في البرتغال، وما قالته العذراء سيدة مديوغورييه، وأخرى على هذه الشاكلة.

 

وأزادوا في توصياتهم همسَهم  في قدسية الصلوات وبالخصوص الاقتراب من القربان المقدس حيث أوصى رؤساء الكنائس ورجال الإيمان بأنه لا يجوز المناولة عبر الفم أو عبر الملعقة بل يجب أن تتم المناولة باليد خوفاً من الرذاذ المتطاير من فم المتناول حماية لرجل الصلاة والإيمان. وهنا انقسم المؤمنون بين المؤيدين والمعارضين، وأخيراً رضخت الأغلبية لهذا الأمر وإنْ كان قد اعتبره البعض جريمة بحق القدسيات الإلهية مدّعين أن القربان المقدس كونه مقدس فلا يمكن أن يُعدي الإنسان ولا يحمل فيروساً إلى الآخرين. إلى أن بدأ إفراغ أماكن العبادة من روّادها، وأُقفلت الكنائس، وأُلغيت القداديس، كما أُوقفت كل النشاطات الرسولية والكنسية والتعليمية خوفاً من العدوى بسبب التجمعات، وعلى الجميع ملازمة منازلهم، وأصبح الجميع يُنشد مصيراً واحداً مشتركاً، كما بدأوا يعيدون حساباتهم ومستقبلَ أجيالهم، ويؤمنون بأنه لابدّ من تجاوز هذه المحنة الكونية.

 

وإيماناً بما قاله الرؤساء وبما أُمرنا به وبما صرّحوا به رجال الإيمان، بأمكاننا أن نقول: أنه لا يجوز الخلط بين عيش الإيمان العميق وعيش العولمة الإيمانية العاطفية المزيفّة، فما علينا إلا أن نترك الإيمان العميق والحقيقي يفعل فعله في المؤمن لكي يُظهر زيف الإيمان العاطفي، كما لا يجوز أبداً بيع الإيمان بأقوال وتعليمات وأوامر خوفاً من...!، كما لا يجوز أن يُعاش الإيمان العاطفي ويسود في المجتمع لمصالح لها حساباتها السياسية والمصلحية ، ولحقيقة وجودنا الطائفي حيث ينشأ هنا صراع أكيد بين الإيمان العميق المعاش الذي يستند إلى الحقيقة العقائدية وبين الإيمان العاطفي والعولمي  والذي يستند في كثير من الأحيان إلى العلم الشخصي وليس إلى العلم الطبيعي، أي ينشأ صراع بين الإيمان وحقيقته وبين العلم وعقله، فما أراه وما أدركه أن الإيمان والعلم يسيران كلاهما في سكة واحدة لهدف واحد الا وهو  تمجيد الله من قِبَل البشرية العلاّمة عبر عقلها وغزارة علم الله الذي وُهب للإنسان كعطية حكيمة، وبها أفرزه وسلّطه على المخلوقات الأخرى... إنه الناطق.

 

الفايروس بيننا

 

توصي الوقاية من "فيروس كورونا" الموجود بيننا بأنه لا يجوز الاقتراب الواحد من الآخر، ولا يجوز اللمس أو العناق حرصاً لعدم انتقال الفيروس، ولكي لا يملأ داخلنا خوفاً وفزعاً. كما توصي الوقاية بالتحذير من المصافحة وما إلى ذلك، فحقيقة الاتصال بالآخر أصبحت عبر الاتصال دون أن أعرف الآخر، وغدونا نسمع ونرى الغرائب في هذه الأزمنة، وانتقلنا جميعاً من حالة البشرية الحسنة -إذ أن الله لما خلق الإنسان رأى كل شيء حسناً (تك10:1)- إلى البشرية المختلفة والمؤلِّهة لذاتها، وهذا ما يجعلنا أنْ ندرك أنّ فيروساً لا نراه وإنما نحياه وهو يعشعش في صدورنا ألا وهو فيروس الكراهية بين الأخوّة الواحدة والذي يسود عبر الطائفية بين أفراد المجتمع، والتعصب الديني والقومي والعشائري، وبتسلّط الأغلبية لتدمير الأقلية التي لا حول لها ولا قوة، وهذا ما يؤكد جلياً أن فيروس الكراهية قد أصابنا كلنا بداء الكبرياء في الأنانية والتوحد (حول الأنا) القاتلة والمميتة، عندها تنفجر العنصريات المختلفة، ويزداد عدد البؤساء والمرضى والجياع بين المجتمعات والشعوب، يموت الابرياء لمصالح كبار الزمن والماسكين بامور الحكم والادارة والمختلفة وبذلك ننسى عمل الله الواحد الرائع بأنه خلق الإنسان على صورته (تك27:1) وجعله متسلطاً على دبابات وحيوانات الجنة (تك26:1)، فالوباء الحقيقي الذي أصاب الشعوب هو كراهيتنا للآخر بنظرات ملوَّثة من اجل مصالحنا الضيقة والذي جعله الله في جنة الحياة، والخشية الأكيدة تظهر في الابتعاد عنه وعدم التعامل معه.. إنها هوية أنانية ومصلحة كبريائية، وفي ذلك قال يوماً سارتر: "الآخر هو الجحيم الحامل للعدوى لذا يجب الابتعاد عنه والانعزال بعيداً، ولا يجوز إقامة علاقة معه لأنه أجنبي الوجود وغريب عن أوطاننا، غريب عن شعبنا. " إذ يقول أحد الكتّاب العرب ، ماذا يعني عندما لا نشعر بمعاناة إخوتنا ونغمض أعيننا عن رؤيتهم كي تتشابك الأيادي وتنطلق لبناء أخوّة إنسانية في أنسانية  أمينة وما ذلك إلا فعل خلاّق.فالاحداث التي نختبرها واحياناً نكون نحن أبطالها في الحرب تجعلنا نصمت ونتأمل بعمق في صفحات التاريخ ونحن نعيش الحزن وبحث عن رجاء يعزّينا كأننا غرباء عن صفحات التاريخ الاليم ولنتأمل كلمات الانجيل فنحن لسنا سوى رسل وتلاميذ والمسيح لنا هو المثال والقدوة في عالم بات مظلم بسواد الحقد والكراهية . ليس إلا!.

 

البابا فرنسيس

 

في العام الماضي (2019) وبالتحديد في الثالث من شباط، قام قداسة البابا فرنسيس بزيارة إلى الإمارات العربية المتحدة للقاء شيخ الأزهر الشريف وتوقيع وثيقة "الأخوّة الإنسانية". إن توقيعه على هذه الوثيقة جاء ليُظهر للشعوب والحكّام أن البشرية واجب عليها أن تدرك أن الإنسان هو القيمة العليا، وتاجها أن تكون أخوّة في مسيرة واحدة، خشبة إنقاذ تنشل الحكّام والشعوب من بحار المهالك والتباعد بينهم وبين أزمة الأصوليات الضارة والقوميات، وتنشلهم من يمّ العنصريات. والبابا يعتبر أن الأخوّة فعل خلاّق وعبر ذلك يسعى لتغيير وجه العالم عبر مبادرات ونشاطات وأفكار تدعو إلى التسامح والتعاون والعيش المشترك.

 

إن البابا فرنسيس نادى منذ إعتلائه الكرسي البابوي وحتى الساعة بالعناية بالمرضى والفقراء وقبول المهمشين،وايواء المهجرين  ولا زال يشدّد على سماع صرخاتهم وآهاتهم،... إنها الأخوّة التي نادى بها البابا فرنسيس حيث تُرجمت الشعارات إلى أفعال رحمة ورأفة وشفقة ومودّة بين جميع البشر من أقصى المسكونة إلى أقصاها، وكل واحد باسمه، وكل واحدة باسمها، ما نحتاجه آذاناً صاغية، ولا يجوز أن نجرّب الرب يقول مار يعقوب (13:1) إن الله لا يجرّبه الشرّ ولا يجرِّب أحداً بل الشهوة تجرب الإنسان فتستهويه".....

 

وهذا ما أظهره مؤخراً مع عدوى الفيروس "كورونا"، فقد قال في مقابلته العامة يوم الأربعاء 26/2/2020 بأنه قريب من العاملين الصحيين الذين يعالجون المرضى ويلتزمون بإيقاف العدوى، ويدعو كل واحد ليقوم بدوره لأننا نملك حماية الله الذي يسهر على كل فرد منا بمحبة الآب، كما هو قريب من الذين أُصيبوا بالفيروس أو الذين يشعرون بتهديد في هذا الفيروس. واوصى كهنته ان يكونوا اما المسؤولية ....

 

واقعنا الحالي

 

ما يحصل بيننا اليوم هو خلطنا الشاسع في عقيدة مسيرتنا الحياتية والإيمانية وخاصة بعدما استفحل فينا حب العولمة وعبادتها وإنْ كان من العولمة ما هو إيجابي يقودنا إلى حقيقة الإيمان العقائدي والذي يجعلنا أن نكون أمناء لِمَا نحياه، وما هو سلبي والذي يزيّن العاطفة بإيمان مطلبي وطقسي. فالعولمة المزيفة ترسم لنا مجموعة من حركات وطقوس وأدعية متنوعة وعبر مناسبات مختلفة ومتعددة، وتُظهر أنها حقيقة الدعاء، فتطلب من رب السماء أن يعمل ما نشاء، وما عليه إلا أن يلبي طلبنا، أو بمعنى آخر إننا نجعل من رب السماء سميعاً مطيعاً لطلباتنا، وعليه تنفيذها بحذافيرها مقابل أن نتلو له مزموراً أو دعاءً أو تمجيداً أو طلبةً، وبالحقيقة ما ذلك إلا صفقة تجارية ربحية بيننا وبين رب السماء، إنها عولمة مزيفة لا ندرك تزييفها لأننا نحن نريد ذلك وتلك مشيئتنا وليست مشيئته تعالى فمن المؤكَّد أن العولمة المزيفة أضرّت بالإيمان عبر خطابات مرتبطة بتدبير بشري باسم الله ، حيث تقول إن الله سلط المرض ولكن بسبب مفهومية العالم وانتشار الفيروس وسرعان ما بدأ يجتاح العالم كله، بدأ الخطاب الديني يتراجع، فبدأ هدف مشتركٌ  يجمع بين البشر، إنها الاخوّة والإنسانية في رسالتها المشتركة إذ توجه الجميع الى محاربته وأصبحت تشعر العولمة بهشاشتها هذه ، رغم علمها وتقدمها. أما حقيقة الإيمان العقائدي فما هو إلا الإيمان المعاش، فهو الاستسلام لرب السماء الذي يقول "إنْ كان لكم إيمان مثل حبة خردل لقلتم لهذا الجبل..." (متى20:17). فإيماني هنا هو علاقتي مع الله الذي أحبني وجعلني أحبه فآمنتُ به وتبادلنا حباً وقبلتُ به كما قبلتُ دعوته "لأتعشى على قربٍ منه وهو على قربٍ مني " (رؤيا20:3)، وحبه هذا علّقه على الصليب علامة وفائه من أجلي إذ قال "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبائه" (يو13:15). فقد جاء إلى عالمنا وسكن بيننا طاعة ومات على الصليب طاعة وفي كليهما لم يصنع إلا مشيئة إلهه إذ قال "لتكن مشيئتك لا مشيئتي" (لو42:22)... هذه علامة أمينة لحقيقة الإيمان المعاش.

 

فالإنسان، المؤمن الأمين لإيمانه يحمل إيمانه في حقيقة حياته مؤمناً أن الله قادر على تلبية طلبه، فيسأله الشفاء ويحمل أقواله في مسيرة حياته، ولكنه لا يفكر أبداً أن الله سينزل من السماء لأنه مؤمن بقدرته عبر مسيرة إيمانه إلا إنْ كان ذلك معجزة (وهذا ما حصل في زمن الرب مع الشعب) "إيمانك خلصك" (لو19:17)، "لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا!" (لو9:7)... ولكنه يؤمن بإمكان الله أن يقوم بأعجوبة ما، فصلاتنا للمريض واجبة حسب قول مار يعقوب "وإذا كان بينكم مريض..." (14:5-18)، وفي الآن ذاته يؤمن المؤمن أن استخدام وسائل الطب ممكنة للشفاء وإنْ كان يتمنى أعجوبة وهو يدرك تماماً أن الأعجوبة لا تحمي مَن يُشفى عجائبياً من المرض ثانية ومن الموت ولنا في ذلك لعازر حيث أقامه الرب من الأموات، أحياه ليظهر قوته الإلهية ويؤمن به اليهود. (يو11) لغاية إيمانية. وأما إذا كانت الأعجوبة شرطاً للإيمان فربما تفسد العلاقة بين الله والمؤمن الأمين فيكون آنذاك إيماناً عاطفياً عولمياً مزيفاً. فحينما نمسح شخصاً (سر المسحة) نؤمن بأن الرب قادر على شفائه، ولكن الأمر يتحول إلى مسيرة الحياة فيمنح مجالاً للعلم كي يظهر حقيقة عقله وغزارة علمه وهو يعلم أنّ الله بأمكانه أن يقوم بأعجوبة. ولكن ندرك جيداً أن الله منحنا عقلاً لنستخدمه ويميزنا بعقلنا عن الحيوان، فبالعقل علامة لإدراك الإنسان حقائق الكون، معه الإيمان يقرأ معاني هذه الحقائق... إنه الواحد يتقبّل الآخر. فلا يجوز أبداً الخلط بين الإيمان الأمين والإيمان العاطفي العولمي، فالإنسان يشارك الله فقد "تجسد بيننا" (يو14:1) ويقول سفر الخروج  "فيصنعون لي مقدساً لأسكن في وسطهم" (خروج 8:25). ويقول مار أثناسيوس الرسولي "جاء‏ ‏ونزل‏ ‏لأرضنا‏ ‏ليصعدنا‏ ‏لسمائه". إنها الأخوّة في مسيرة إنسانيتها كما هي حقيقة ألوهيتها، فيسوع المسيح إله وإنسان، وقال القديس من القرن الثاني "إن مجد الله هو الإنسان الحي" فلا يجوز أبداً الخلط بين الإيمان الذي نحياه في مسيرة حياتنا والإيمان العاطفي بعلمه العولمي، فبالعقل يتقصى الإنسان حقائق الكون وماهيتها، وبالإيمان يقرأ معانيها.

 

إرادة الله

 

من المؤكَّد أن العلماء وبالتعاون مع الأطباء ومنظمة الصحة العالمية سيجدون أمصالاً تقينا من هذا الفايروس المخيف، فقد سبقهم في ذلك غيرهم من العلماء في إيجاد أمصال من الفايروسات التي حاربت البشرية حتى اليوم... إنه تحدٍّ لا نفهم أبعاده، ولماذا هذا الداء؟ ولماذا الآن؟ ولماذا استُنفر الإعلام المخيف لمتابعة مسيرة الفايروس؟، والسؤال يبقى: مَن يقف وراء هذا الفايروس؟ إنه سؤال لا جواب له إلا من قِبَل الذين خطّطوا لهذه المسيرة المميتة في جعل الإنسان أداة تُباع وتُشترى، وآلة بأيديهم يستخدمونها متى ما يشاؤون، والحكم الأمين له ما هو إلا المصالح والمال الفاسد والكراهية المقيتة للإستيلاء على الآخر كبرياءً وأنانيةً وحساب حقيقة الربح والخسارة.

 

نعم، تقدَّمنا في العلم ولكن الأخطار والأمراض والأحقاد والكراهية والطائفية والعشائرية تطورت وتنوعت معنا ومع محسوبياتنا، لذا علينا أن نسأل أنفسنا عن معنى الحياة وكيفية عيشنا، إنه استحقاق يتجاوز نظرتنا لمكافحة الفايروس الفتّاك إلى ما هو أنفع وأرفع لأننا خُلقنا بشراً، فلا فرق أن نميّز بين غني وفقير، مسيحي ومسلم، صابئي وإيزيدي، فنحن جميعاً أخوة كما نحن كلنا إنسان. إن هذا الفايروس يذكّرنا أننا بحاجة إلى التواصل مع بشر كي نفتش عن اختيار إنسانيتنا ومنظومة الأخلاق التي تحكمنا لنكتشف الآثار الكارثية على أصعدة الحياة، وفي عالم من العولمة همَّش الضعفاء وسحق الفقراء وجعل النسيج الاجتماعي عند أضعف أوضاعه في أيامنا هذه. فنحن في النهاية أسرة واحدة وإنسانية معذَّبة تعيش على أرض واحدة، وحين تتألم فإنها تشعر بالألم الواحد، وفي نهاية المطاف ترفع أكفّها بالدعاء والتضرع لربٍّ واحد. وجميل أن نقلق على صحة الإنسان عندما نجتمع للصلاة معاً، ولكن ليس من حق أحد أن يقول إن الله يريد "كورونا" للإنسان. ولكي ندرك ذلك علينا أن نفهم إن إرادة الله ليست إرادتنا ولا يمكن أن ندركها بعقلنا بل عبر مسيرة الحقيقة الإيمانية التي نحياها. فالجهل وقلة المسؤولية والخوف على الذات يمكنه أن يقلق على صحة الناس، فالله يرشدنا باستعمال علم الدواء بحقيقته وعلينا أن نحافظ على تعاليمه كي لا نخلط بين إرادة الله وبين الطبيعة المتمايزة عن الله ولو أنها خليقته. فالإنسان من المؤكَّد أنه يخشى من هذا الفيروس المزعج والمخيف الذي انتشر في أصقاع العالم المختلفة،وأخذَ البعض يتكهن إنها نهاية العالم، ومع هذا عليه أن يدرك جيداً ويخشى أكثر من أن إصابة هذا الفيروس لجهاز واحد في طبيعتنا ولكن الأكبر من ذلك فقد اصاب إخوّتنا في صميمها وإنسانيتنا في حقيقتها . عندما نغمض أعيننا عن معاناة إخوتنا بحجة كراهيتنا لهم، فنحن لسنا من درجاتهم، وعندما نجعل الآخرين خَدَماً لنا وليس أخوة، وعندما نبرّر بلغة كريهة غضبنا وخوفنا من الآخر الذي يقاسمنا مسيرة الحياة فقد قالت "الأخوّة الإنسانية":إنّ أهم اسباب أزمة العالم اليوم يعود الى تغييب الضمير الانساني والفلسفات التي تؤله الانسان وتضع القيم الدنيوية موضع المبادىء العليا . فالتطرف الديني والتعصب قد أثمر في العالم بوادر حرب عالمية ثالثة وعلى أجزاء وبدأ بتأجيج الكراهية والعنف والله لم يخلق الناس ليتقاتلوا أو يغيبوا أو يضيق عليهم في حياتهم فاية نظرية بشرية هذه، فإمّا أن نتألم معاً وإمّا أن نتمجّد معاً، بانتصار الحقيقة على العاطفة، وبانتصار الحب على الكراهية، والخير على الشر، والفضيلة على الرذيلة.

 

الخاتمة  

 

فلننتبه إلى أمور الأشياء، ولنأخذ الحقائق كما هي وليس كما نشاء، فالبشرية واحدة والخطر الكبير إننا مقتنعون بأننا قادة لأتباع ديانتنا في كل شيء وننسى أن العالم واسع وكل واحد منا له مساره وللإيمان الحقيقي رسالة سامية، وبهذا الاندماج تكون الحقيقة. فيوماً نجعل أنفسنا وزراء للأوقاف ويوماً وزراء للصحة ويوماً وزراء للهجرة ويوماً وزراء للعمل وننسى أن الحقيقة هي ما نحن إلا خدم لمسيرة الخلاص التبشيرية التي اختارنا من أجلها الرب يسوع حينما قال "اذهبوا وبشروا في الخليقة كلها" (مر15:16). فمع البشارة نحمل قليلاً من زوّادة كل علم ليرافقنا في مسيرة البشارة، لذا علينا أن ندرك ماذا يعني توزير الإنسان في مجال ليس من اختصاصه، فالعلوم الإنسانية والدينية لا تمنع أحداً من أن يكون مثقفاً إلى درجة سامية ولكن تمنعه من أن ينتحل رسالة ليست من اختصاصه، وهذا ما جعل الدوائر الدينية تختار أناساً اختصاصيين في مجالات مختلفة لكي يكونوا عوناً لها لأن ليس من شأننا كل شيء بل من شأن الآخرين، فربنا وضع -كما يقول مار بولس- أناساً في الكنيسة: أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلمين...." (1كور28:12). وهكذا، فالعلم وحده ليس كافياً ليعطي الإرشادات الممكنة ويحاول التنسيق بين أفكار القرّاء لتخفيف الأضرار واحتواء الكارثة، ولكن تندرج في مساره العديد من المجموعات تكون المصدر الموثوق... كما لا يمكن لأصحاب العلم أن يقولوا شرعاً بوسائل الدين وأحكامه، لأنه لم يُعطَ لهم ذلك وإنما أُعطي لرجال الإيمان، وما ذلك إلا حقيقة المسيرة في الأخوّة الواحدة، فالواحد يكمّل الآخر من أجل الحقيقة، وإنما ما يجوز هو النصيحة، والحقيقة هي عند العالم الأكيد ورجل الدين (الإيمان قلت) الأكيد. فأصحاب الاختصاص لهم أهمية خاصة هنا، وكل في مجاله .  

 

نعم، تستطيع البشرية تجاوز محنة هذا الوباء ولكن الحقيقة هي أن الترابط والمصير المشترك للإنسانية أصبح حقيقة علمية، لذا يجب أن تكون لنا مسؤولية الإنسانية مشتركة على مدى الامتداد الجغرافي للبلدان، لأن المآسي تبتدئ أحياناً من نقطة لم نعرها اهتماماً، فإن العديد من أماكن العالم يمكن أن يكون لها تأثيرات مدمِّرة في العالم. فالعالم أصبح مرتبطاً، وما يحصل بمنطقة جغرافية سرعان ما يمتدّ إلى العالم كلّه. ويبقى السؤال هل سنبقى نخاف من بعضنا البعض، هل نحن سنمضي في عزلتنا وهل يكون مصير الفايروس يأكل منا بعد أن اصبح العزل سياسة مقبولة وسيبقى السؤال: هل نحن في بداية نهاية العولمة والذهاب إلى الانعزالية أم لأ؟ فالمثل يقول "من يمتلك الصحة يمتلك الامل ومن يمتلك الامل يمتلك كل شي" وإنشاء الله كل شيء يمضي وتبقى ايامنا تذكر فايروسها، والحقيقة ان الفايروس لا يتمثل فقط في تهديد حياتنا بل في تحطيم حياتنا الاجتماعية فقد اصاب قيمنا الانسانية كما الروحية قبل اجسادنا فما لنا إلا أن نتوجه إلى الخالق ليشمل الجميع برحمته ويُطهر العالم من هذا المرض الفتاك. ولنُعلّم شعبنا ونرشده وندلّه الى حيث اصول مياه الينابيع ليستقي من ماء الحياة الابدي وليس من بئر السامرية الدنيوي إنه إيماننا فهو قال لنا "الْمَاءُ الَّذِي أُعْطِيهِ يَصِيرُ فِيهِ يَنْبُوعَ مَاءٍ يَنْبَعُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (يو4: 14) ولنكن مثل  النبي إشعيا الذي بشّر بالفرح والتعزية والرجاء لشعب الله "عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الرب إلهكم" (اشعيا 1:40-3)، وأملنا أنّ الرب "سيأتي لنجدتنا فلن نغرق" (متى 25:8) فهو لنا خلاصٌ في كل شيء" من الفايروس. نعم وامين.