موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١١ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠

كلٌّ ووزناته

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
الأب منويل بدر

الأب منويل بدر

 

الأحد الثالث والثلاثون (الإنجيل متى 25: 14-30)

 

هناك أُناس يعيشون كل حياتهم ولا يسمعون كلمةَ مديح من أحد. هناك أُناس يعيشون كل حياتهم ولا يسمعون كلمةَ شكر من أحد. هناك أُناس يعيشون كل حياتهم ولا يسمعون مرّةً من أحد أنه يحتاجهم بشغلة مُعيّنة. علما بأنَّ كلَّ إنسان، يُحبُّ أن يسمع مديحا أو شكراً أو تقديراً. قال أحدهم: من كلمة شكر ابقى فرحا لمدة شهر. فكم من الفرح ينتج عن كلمة مديح لعمل ما. وهذه طبيعة الإنسان. هذه طبيعتنا. نحن نحنّ للتقدير وعرفان الجميل. جوته، الشاعر الألماني المشهور كتب: المديح والتقدير هما الهواء المنعش الذي يحتاجه الإنسان، كالأكل والشرب واللّبس والسكن. نحن بحاجة لتقدير المجتمع، لما نصنعه له، وهذا يُولِّد فينا الثِّقة بالنفس. الأم تفرح إن سمعت كلمة مديح سواء من زوجها أو من أولادها، والعكس أيضا صحيح فالولد ينضج ويتفتح اكثر، إذا ما لاقى مديحا وعرفانا من أهله. فالمديح  يشجّعه على الإنتباه لتصرفاته ويحاول بها أن يجذب انتباه أهله للمكافأة، ويخلق جوّا سلميا. يقول مثل: النّجاع دائما على حق! ومن لا يحن للنجاح؟

 

مَن مِنّا لا يُسرّ ولا يفرح، على نجاح خاص، حصلَ لنا بعرق الجبين وبالمجازفة الواعية، التي هي شجاعة وتفاؤل، خاصة إذا كان سيلحقها مُكافآت تقديرية للجهود المبذوله، ووقفةٌ أمام المشاهدين على منصّة التتويج. فمن لا يُجازف ليُنتج شيئا مفيداً للحياة، لا يستحق المديح كما أنَّ الفَشلَ أيضا لا يجلب إلاّ الملامة مِمَّن حوله. وهذا ما يريد نص إنجيل اليوم أن يؤكِّده لنا. كلُّ واحد، وليس فقط نخبة مُعيّنة، بل كلُّ واحد يأتي إلى هذا العالم مع وزنات مُعيّنة، يجب أن يُتاجر بها في حياته. أما عبّر بولس عن ذلك حيث قال: "فأنواع المواهب موجودة، ولكن الرّوح واحد... لِكلِّ واحد يُعطي إظهار الرّوح للمنفعة. فإنّه لواحد يعطى بالرّوح كلام الحكمة ولآخر كلام علم بحسب الرّوح الواحد. ولآخر إيمانٌ بالرّوح الواحد. ولآخر مواهب شفاء، ولآخر...."(1 كور 12. 10). الإنسان ينضج، إذا ما أُعطي مسؤولية. فالمسؤولية تُشجّع على إظهار الشّخصيَّة والمواهب الخفيّة الكامنة، ليستفيد منها أيضا غيرنا ومجتمعنا. واحدة لا يجوز أن ننساها، وهي أننا ما أُرسِلْنا سدىً إلى هذا العالم، أو أنَّ الله وضعنا باطلا حيث نحن على الأرض ، بل قد أرسلنا للقيام وإتمام عمل، هو قرّره لنا مسبقا، يستفيد منه مَنْ نعملُه له فنُكافأ عليه، ومكافأتُنا هي في الآخرة من عند الله، الذي سنظهر أمامه لِيَحْكُمَ على مدى أمانتنا ونجاحنا في العمل. إذ علينا أن نعمل لغيرنا حتّى نُكافأَ شخصيا. العالم لا يستغني عن انخراطنا واشتراكنا  في العمل، كي يتحسَّن، إذ ما نحن خدامٌ لا فائدة منهم

 

كل ما نفعل في هذا العالم يضعه الله في كفّتي ميزان: كفتي الخير أو الشّر، نُكافأ أو نُقاصص على الكفَة الراجحة منهما. ومثل الوزنات يرينا ماذا علينا ان نفعل حتى تصير حياتنا ناجحة

 

من ذكريات  طفولتي هذاه الحادثة المُحزنة. وُلِدّتُ في عائلة كبيرة واهل فقراء، ما كان عندنا الكافي لنشبع خبزنا اليومي، فاضطرّ والدي يوماً إلى اللجؤ إلى رجل غني واستدان منه 7 دنانير لمدة ثلاثة شهور بفائدة مئة مئة، أي اربعة عشر دينار. وعلى الوقت جاء الغني ليسترد ماله الموعود، وإذ لم تكن حالة أهلي قد تحسّنت، فهم لم يربحوا يانصيبا، بل زاد فقرنا، طلب والدي من هذا الرجل تمديد المدة لثلاثة شهور ثانية، وبنفس الشروط، أي مضاعفة الفائدة مئة بالمئة، أي أن الفائدة أصبحت بثلثين أكثر من المبلغ الأساسي. ولمّا جاء الوقت لدفع المبلغ، جاء الرجل يطالب بالواحد وعشرين دينارا من أصل سبعة، وإذ ما كان من حلّ لهذه الأزمة، أذكر انه كان عندنا اربع عنزات وراءهن ثلاثة جداي صغيرة، كانت العائلة تعيش بعض الأشهر من حليبها. وبعد المدّ والكرّ والجدال الطويل، قبل المتاجر بأخذ العنزات وموالديهن بالمبلغ المطلوب. أذكر هذا الحادث إلى اليوم بحزن وألم، إذ كان فراقي أنا من العنزات مؤلم بشكل، إذ أنا كنت أرعاها طيلة العطلة الصيفية مع باقي الرعيان في القرية.

 

قصة الوزنات في إنجيل اليوم هي قصة في الإتجاه المُعاكس. فها رجل غني، هو يفتّش عن أناس، فقراء أو غير فقراء، فنحن لا نعرف، لأنّ الإنجيل لا يذكر ذلك، هو يَداين ماله، نعم هو يضع ماله تحت تصرّفهم للمتاجرة به. فأنا أتساءل: أين كان عنّا هذا الغني في ذاك الوقت!

 

تُرى، ماذا أراد يسوع أن يُعلِّمنا من هذا المثل الغريب النادر؟ بولس يقول: إنّ كلَّ ما سَبق فَكُتب، كُتِب لآجل تعليمنا (روم 15: 4). إن يسوع كان يَهمُّه خلاصَنا، فكانت كلُّ كرازاته وخطبِه وأمثالِه، ذات معنى بهذا الإتجاه. بطريقة بسيطة كان يُفهمنا ما لنا وما علينا. كان يُفهمنا أيّ اتجاه أو طريق نسير، حتى نصل المينا سالمين. في جُمُلَ صغيرة، كان يعطينا عبارات مُقنعة لا تُنتسى: مثلا: تعالوا إليَّ أيّها المتعبون والمثقلون وأنا أريحكم. في الألم ألا تخطر على بالنا جملته: إحملوا صليبي عليكم، لأنّ حملي خفيف.

 

من الأمثال كان مرارا ينتقل إلى الأفعال، ويرينا كيف نتصرّف بيومياتنا، حتى تنجح حياتُنا. فهو لا يُعطي أوامر، كما في باقي الّديانات، مثلا كان الفريسيون يضيّقون الخنّاق على أتباعهم ويقولون يخلص فقط من له قرابة دموية مع إبراهيم ومن يحافظ على الـ614 وصية التي هم، كروؤساء الشعب أوجدوها للشعب، وفرضوا المحافظة عليها. فمن خالفها كان يُطرد من المُجتمع وهم يحكمون عليه بالهلاك، دنيا وآخرة.

 

أمّا في الديانة الإسلامية فيخلص فقط من يحافظ على الإلتزام لالخمس ركائز: الإيمان بالله ورسوله. الصلاة خمس مرات في اليوم. صوم شهر رمضان. الحِجة إلى مكّة وإعطاء الحسنة. فهذا قانون جاري وساري المفعول لكل زمان ومكان ومؤمن.

 

أمّا يسوع فقد أراح ضميرنا من الوسواس وأبدل كلَّ القوانين والوصايا، بالعمل الصالح: إذهب واعمل كذلك. من ذلك مثال اليوم. رجل يريد أن يسافر فيؤمّن أمواله بكل ثقة، لثلاثٍ من عبيده، لكلِّ واحد حسب مقدرته. ولمّا رجع دعاهم ليؤدّوا حسابا، عن ماله الّذي إئتمنهم عليه. فهو يريد أن يقول لنا: الله يعطي كلِّ واحدٍ مؤهّلات كافية، ليقوم بوظيفته اليومية وبالتالي ليعمل ما هو ضروري فيخلص. لقد عمل العبدان الأوّلَان جهدهما، كي لا يُخيِّبا أمل سيِّدِهم. فهو ما إئتمنهم مالا، إلا وكان واثقا منهما، وبالفعل هما لم يخيّبا أمله، بحيث سارت أُمور عملهم على ما يُرام، بل حصّلا مرابح يُمدحان عليها، بسبب أمانتهما، وللمكافأة سمعا بالتالي مديح يسوع: أحسنت! أيها العبد الصالح الأمين، أُدخل إلى فرح ربِّك! هذا وبالمُقابل، هناك العبد الثالث، الّذي ما كان يَهُمُّه خلاصَ نفسه، فلم يقم بعمل أيِّ شيء يستفيد منه للمستقبل، بل نسي أنّ سيِّده سيعود ليحاسبه عمّا صنع بماله، فهو سيظهر فارغ اليدين أمام الدّيان، كمثل العذارى الجاهلات في الأحد الماضي، إذ كانت مصابيحهن قد انطفت وما جلبن معهن زيتاً، فتأخّرن وبالتالي لم يلحقن بالموكب، فطُردْنَ، ولم يُسمح لهنَّ بالدّخول. كذلك هذا العبد سمع الملامة: أيها العبد الكسلان الجبان، والّذي لا خير فيه! ألقوه في الظلمة البرّانيّة، حيث البكاء وصريف الأسنان! سيده وثق به وأمَّنّه على مبلغ من المال، ليُتاجر به ويستفيد من المناسبة . أمّا هو، فمن جهة، خوفا من المجازفة فالخسارة، ومن جهة ثانية طلبا للراحة وعدم تحمّل المسؤوليّة، فقد أضاع المناسبة التي يتمنّى الكثيرون أن تلوح لهم، ليُظهروا من جهة، شكرَهم لهذا السيّد الكريم، ومن جهة ثانية، ليُظهر مقدرته على تحمّل المسؤولية، بل راح فدفن مال سيِّده، بحجّة أنه صارم بمطلبه، أنه يريد المبلغ مع المرابح، التي قد تنجم عن هذه المناسبة، فقال لنفسه: لِمّ الإجهاد؟ أعيد المبلغ كاملا، بلا مربح ولا خسارة، ووضع يديه في جيبه وتابع حياة لا مسؤولية فيها. لكنه استغرب، حينما عاد السيّد وطالبه أن يؤدي حسابا عمّا أُؤتُمِن عليه، فأجاب بنبرة الإستكبار والتهديد المُفتَعَل: أنا فعلت كذا وكذا في مبلغك، وأنا أعرف أنك تحصد من حيث لا تزرع، وتُجَمِّع من حيث لم تُوزِّع. لذا فأنا ما عملت شيئا به. إليك مالك!. يمكن أنّه يُقارن سيّده الكريم بنفسه هو، فكلماتٌ مثلُ هذه، لا تصدر إلاّ من قلب وتفكير ضيِّقَين، لا يعرف إلاّ ما في نفسه وبأحكامه على غيره، يدور في دائرة مغلقة. هو لم يَحرِّك ساكِنا، خوفاً من أنْ يخسر شيئا، لكنه بالتالي خسر كل شيء "أمّا نحن عاملون معه، نطلب أن لا تقبلوا نعمة الله باطلا" (2 كور 6: 1).

 

فماذا يعلِّمنا هذا الموقف؟ يُعلِّمنا أنّ الثقة بالنّفس هي سبب النجاح، أمّا القلق والإحباط فما هما من الفضائل المسيحية. وكمسيحيين يقول لنا هذا العبد الكسول، أنه لا يكفي أن نكون مسيحيين، ورثنا الدّيانة وراثة، فنفتكر أننا نُؤَمِّن الخلاص، فقط بالإنتماءِ إليها، بدون الإشتراك في الحياة والأعمال المسيحية. بهذا نحن لا نختلف عن الفرّيسيين، الّذين كانوا يفتكرون، لأنّهم من قرابة وذرّيَّةِ إبراهيم، فيعتبرون ذلك، ككرت دخول مُؤمَّن في السّماء، حتّى أنذرهم بقوله: إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أبناءً لإبراهيم، قبل أن تدخلوا السّماء أنتم، لأنّ أعمالكم شِريرَة.

 

نعم لا يجوز أن نضع وزنة الإيمان في قارورة مُغلقة ونُقفِل عليها في مكان آمن لا نفتحه، قائلين فقط كالعبد الثالث: دفنته في الأرض حتى تعود يا سيدي. فما الفائدة من مسيحيّتي بل مني كمسيحي في هذا العالم؟ "لا أحد يوقد سراجاً ويضعه تحت المكيال، لكن على المنارة، فيضيء لجميع من هم في البيت" (متى 5: 15). مهمَّتُنا أن نتاجر برأس المال هذا الثمين، الإيمان، إذ الإيمان يكثر وينمو من التبشير. علينا أن نبذر حبة الحنطة، لتنمو في القلوب وتأتي بثمر كفوائد رأس المال للعبدين اللَّذَين، تاجرا برأس المال الذي بين أيديهم. ولمّا عاد سيدهم كافؤه بالمرابح فكافأهم بالجلوس قي ملكوته. لكل عمل وأجرته المستحقّة

 

"طوبى لأُولئك العبيد، الّذين إذا جاء سيّدُهم، يجدُهم ساهرين" (لو 12: 37). لكن من هم هؤلاء العبيد، الّذين سيجدهم سيِّدُهم ساهرين؟ بلا شك هم المُقتنعون، أنّ حياتهم ليست سدى على هذه الأرض، بل هم كمؤمنين، يفهمون أنّ الله أعطاهم مواهب كافية، يجب أن يُتاجِروا بها، حيثما هم وفي  مجتمعهم، لتحسين هذا العالم وساكنيه، وهم مُقتنعون من أنَّ المسيح سيعود، كما قال."سأعود إليكم وسأراكم فتفرح قلوبُكم، ولا ينزع أحدٌ فرحَكم منكم" (يو 16: 22). يقومون بأعمال مُرضية لأنهم، كما قال بولس "إني عارف بِمَن آمنت" (2 تيمو 1: 12). وعارفون أيضا كبولس، أن حياتهم ليست تضييع وقت، إذ يقول: "إني لا أسعى باطلا، ولا أتعب باطلا"(فيلبي 2: 16).

 

الهموم والوزنات

 

هُنَاكَ هُمـومٌ فـي حياتِنا يَجِبُ أنْ تُشْغِلَنا

هِيَ هُمومُ الخلاصِ والجُلوسِ عِنْدَ ربِّنا

 

ثمَّ هُنَاكَ هُمـومٌ زائفَةٌ كاذِبـةٌ لا تَسْتَأْهِلُ مِنّا الهمّ

فالإِهْتِمامُ بها ساعةٌ خاسِرةٌ لا تَجْلِبُ سوى الغمّ

 

هُنَاكَ كُنوزٌ ضِروريّةٌ للحياةِ لا بُدَّ مِنِ امْتِلاكِها

وأُخرى خـادِعةٌ لا مَكانَ فـي الحيـاةِ لإِشْراكَها

 

لا تَهْتمُّوا لِمـا تَأْكُلونَ أوْ تَشْرَبــونَ أَوْ تَلْبَسـون

أبوكُمُ السّماوِي عارِفٌ بِهِ حتّى قَبْلَ أنْ تطلبون

 

هُنَاكَ أمثالٌ عديـدةٌ تُحَدِّدُ مواقِـفَـنا الإجتماعيّه

مِنْها مَثَلُ الوزَنـاتِ الْمُخْتَلفَةِ لكلِّ واحِـد كِمِّيّه

 

مِنْها الأمانةُ لِصاحِبِها ومِنْها التِّجارةُ الخَيْريّه

الأَمـانـةُ والثِّقةُ والتّضحِيَةُ فـضـائلُ مسـيحيّه

 

تَحْمِلُ ثِـماراً مِنْها ثلاثونَ أوْ سِتّونَ أو مِيّه

هي أُجْرَةُ أقوالِنا وأَعْمالِنا وإنْ كانَتْ خفيّة

 

نُحـاسَبُ عليهـا ويومُ الحِسابِ لَنْ يطول

فأنـا وأنتَ وهو، كلُّ واحِـدٍ مِنّا مسؤول

 

النَّميمةُ والحَسَدُ هِيَ رَذائِلُ مَذْمومَةٌ فِيْ كلِّ فم

فمَنْ قالَ لا لِيَبْقَ بلا، وَمَنْ قالَ نعم فَلْيَبْقَ بنعم

 

في الصَّباحِ مُنْذُ الشُّروقِ وعِنْدَ بِدايةِ النّهار

فـي أَيْديـنا أَنْ نَعْمَلَ ونُسجِّلَ أَحْسَنَ الأخبار