موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٨ مايو / أيار ٢٠١٦

كلما قرأتم إنجيل آلام الرب

بقلم :
حنا ميخائيل سلامة نعمان - الأردن

"كلَّما قرأتم إنجيل آلام الرَّب شدَّكُم لقراءَته مِن جديد.. كلَّما قرأتم إنجيل آلام الرَّب وَجدتُم شيئاً جديداً يُنمِّي إيمانكم فيُزهر ويُثمر، وكلما أمعنتم النظر فيه انفتحت أمامكم الآفاق، وكلما تأملتم فيه تسَلَّحْتُم بنوره فكان الهاديَ المُوُجِّه لدرب حياتكم، وكلما تبحَّرتُم أكثرَ في حوادثِه وأحداثه عَرفتم أنفسَكم وأدركتم الرجاء المُعدّ لكم". كنتُ مَشوقاً لِسماع هذه الكلمات، وهي أشبه أنْ تكون صَرخةً أمَنِّي النفس أن تُعمَّم وتُفعَّل فيُعْطَى إنجيل آلام الرَّب، بل إنجيل بٌشرى الخلاص كُله، حِصَّة من سُويعات نهار وليل المسيحيِّين فهذا أجدى لهُم ..! والصرخة تِلك انطلقت من كنيسة مار يوسف الرابِضةِ ببهاءٍ على جبل عريقٍ مُزدَحِمٍ بالسكان يحمل إسم العاصمة عمان. ومُطلِق الصرخةَ في يومِ الجُمعة العظيمة، كان راعي الكنيسة والقائِم على شؤونها قُدُس الأب الدكتور يعقوب حجازين، الذي استحق التقدير واكتسب الاحترام بينَ بَني قُومِه، إذ يَذكُرهم ويَعرفُهم بالإسم، ويتفاعل معهم، ويتابع عن قربٍ ما يَضِجُّ في دواخِل صُدورهم. وتراهُ لا ينفك يُحدِّث بعراقةِ مَسيحيَّتنِا وتاريخها الحافل، ويشدد على التأصُّل في الأرض والتَّمَسُّك بالهُويَّة. إلى كنيسة مار يوسف كانت وُجْهتي، بعد أن شعرتُ صباح يوم الجمعة العظيمة، بدعوةٍ تأجَّجَت في داخلي لأكون هناك بهذه المناسبة المقدسة ، ذات السِّر العظيم، سِرّ الفداء والافتداء، سِر الخلاص، سِرّ الحُبِّ الإلهي. توقفتُ مَهابةً لحظة خَطَوت خُطْوَتي الأولى من باب الكنيسة، إذ كان راعيها -الذي لم تُثنِه سنوات العمر المَديد- مُكِباً بوجهه على الأرض، مُستغرِقاً بالصلاة بِصمتٍ قُبالة صليبٍ مُغطى.. سينكشف سِتارُهُ بعد حينٍ من الزمن عند قوله: "هُوذا عُود الصليب، عليه عُلِّق خلاصُ العالم، هلُمُّوا نسجُد له". كانت الكنيسة عامرة مُحتشِدة بالمُصَلِّين الذين أخذوا مقاعِدهم بترتيب وتراصٍ والتزامٍ، عُيونُهم مُسَدَّدة تارة إلى راعي الكنيسة ومُجريات الشعائر، وتارةً أخرى إلى كُتب الصلاة لمُتابعة ما يُتلى أو ما يُرنَّمَ ويُنشَد فيتردَّد صَداه في أرجاء الكنيسة. لقد أبهج قلبي التنظيم العَفوي والتزامُ جُمهور المُصَلِّين، دون حاجةٍ لِفرقٍ تُنظِّم.. "أذكر مَراحمك يا ربُّ وإحساناتك، لأنها منذ الأزل هي، لا تذكُر خطايا صِباي ولا معاصيَّ، بل أذكرني وَفقاً لرحمتك ومن أجل جُودِكَ يا ربُّ" على وَقْع هذا المزمور الذي يرتقي بالنفس، طلباً للرحمة، التي لها صِبغة خاصة في "سَنة الرحمة الإلهية" اسْتُهِلت شعائر الجمعة العظيمة، وبعد القراءَات تدفَّق بِخُشوعٍ ووضوحٍ مِن حَناجر ثلاثة مؤمنين إنجيل آلام الرب، في جوٍ من السكينة والصمت، أصغى فيه المؤمنون، لِما شكَّل مِفصلاً في تاريخ البشرية.. عندما أعَدَّت عَتَمات الأزمنة.. وشعوبها الصليب لِلُّمخلِّص الفادي، لا لِذنبٍ اقترفه! "يا شعبي ماذا صنعتُ بك وبما أحزنتُكَ أَجِبْني؟ يا شعبي ماذا صنعتُ بك وبما أحزنتُكَ.. - لِتُعِدّ صليباً لمُخلِّصك- في عِظة المناسبة الحزينة خاطب راعي الكنيسة جُمهور المُصلِّين قائلاً : "لقد سُمِّر على الصليب، على خشبة، خشبة ترتكز على جُلجلة، على تلَّة خارج أسوار المدينة التي أخذت تعجُّ بزوار الهيكل..، والقمة العظيمة التي ارتكز عليها الصليب هي قمة التاريخ البشري المُزمع أن يَكتُبَ أولى صفحاته الجديدة بدمائه الزَّكية". وكان افتتح العِظة بقول المسيح: "إن نفسي حزينةٌ حتى الموت" وأضاف: "بصوتٍ متقطعٍ، مُتهدجٍ، وفي ظُلمة وادي الجسمانية وبعد نزوله من عِلَّية صِهيون، بعد أن لمْلمَ السيد المسيح ما عِنده من قِوىً جسمانية قال: "إن نفسي حزينةٌ حتى الموت، موت الصليب، يا أبتاه إن شئتَ فأجِزْ عني هذه الكأس!". "هي مشيئة المسيح الإنسان تُلقي صرختها، تنبعِثُ من الأعماق، مِن أعماق الإنسان. لكنها ليست صَرخةَ تمردٍ، بل صرخةُ استغاثةٍ وألمٍ تَنُمُّ عمَّا في نفسه من اضطرابٍ وعمَّا يُجابه مِن تجربةٍ، تجربة التحول عن طريق الفِداء بالموت، عن طريق الكفارة بالدّم، عن طريق المجد بالهوان. لكنَّه لن يتحول عن طريقه لأنها مشيئة الآب. فيُردِف باستسلامٍ مُطلقٍ، يكبحُ به جماح ثورة الطبيعة والشيطان: "يا أبتاه لا تكن مشيئتي، بل مشيئتُك". "فتعود المشيئتان الإلهية والإنسانية على حدٍ سَواء إلى ما هما عليه دوماً منذ التجسد وإلى الأبد، مِن الانسجام التام والتجاوب الصَّميم في وَحْدةِ شَخصه" إنَّ لي مَعمودية أعتمدُ بها، وما أشدَّ تضايُقي حتى تتِم". وهُنا يعتبرُ السيد المسيح موته معمودية، وكذا حالُ كل من يؤمن به ويموتُ شهيداً لإيمانه. ويتابع الأب يعقوب حجازين -الذي يحمل درجة دكتوراة في القانون - محطات العِظَة التي تلاها بِلِسانٍ فَصيحٍ طلقٍ، وبيانٍ واضحٍ، ونَبَرات مُعبِّرة، فيقول: "وأخذ يصلي تلك الصلاة المُرهِقة والدَّامية.. في نزاعه في بستان الزيتون.. صلاة تقدمة نفسِه، المُنضَمَّة إلى تلك الرؤية، التي كان يرى من خلالها بؤس البشرية وشقاءَها. تلك الصلاة التي مكثت كشُعلة القِنديل المُرتجفة والمُشرفة على الإنطفاء.. والتي كان يَسترها في جسمه المنْهُوك، القوي الجريح لمَّا كان ينوء بحمل الصليب.. وعليه، إن أعظم عملٍ في حياة يسوع وأكبر برهانٍ أظهره عن حبِّه للبشر والعمل الذي خلص به العالم لن يجري في وقتٍ من الراحة.. وكان بمقدوره أن يفعلَ، بل في ساعة صلاةٍ جاهدةٍ ومُضنيةٍ، لن تجد لها منفذاً في صعودها إلى الله إلا من خلال جسمه المُثخن بالجراح والمُنسحق تحت ثِقل الصليب". وفي جانبٍ من العِظة قال: "إنّ صُخور الجُلجلة كانت أرقّ من قلوب البشر المُتحجرة.. إذ تشققت أسىً وحسرةً على سيِّد الجُلجلة، ولبست الطبيعة ثوب الحَداد لموته ساعة اظلمت الشمس وانخسفت خجلاً وحياءً لموتِ النور.. وانشق حجاب الهيكل حُزناً على صاحب الهيكل.. والكنيسة اليوم تُطفىء شموعها، تُعرِّي هياكِلها، تُخرس أجراسها، تُعلّق قدَّاسها..". ومِن جوِّ الحُزن ومأساة الصَّلب، ولِما يقع في شرقنا العربي من ويلات وتشريد وتصفية مذهبية لم ترحم أحداً، أنهى العِظة التي تناولت جوانب المناسبة المختلفة بقوله: "الصليب طريق القيامة، شرطُ القيامة، بدء القيامة، قيامة فموعد فلقاء بأبي المراحم وإله كلّ تعزية المُعزي في جميع مضايقنا". "افتخروا بالصليب فليس هو خشبة عار أو عِثار، بل أداة خلاص ومغفرة وشفاء لِمن يقصد المصلوب المعلق عليه بإيمان، الصليب علامة نصرٍ ومجدٍ، وهو عينُه من علم البشرية الحروف الأولى في المحبَّة والحرية والمساواة والعدالة، وهو الطريق المؤدِّي إلى الملكوت السماوي، كما كان طريق المسيح إلى الملكوت على حدِّ قول بولس الرسول "أفما كان ينبغي للمسيح أن يتألم لكي يدخل إلى ضياء مجده". وتمضي مراسم هذا اليوم المَهيب ويُحْمَل ما يمثِّل جسد المسيح المائت على الصليب، والمُغطى بأزهارَ بيضاء في طواف والألسُن تُنشِد مزمور "إرحمني يا الله كعظيم رحمتك..". وفي التفاتة إلى الوجوه ترى بينها مِن الأشقاء العرب.. فيذهب الخاطرُ مستذكراً سمعان القيرواني الذي شارك في حمل الصليب وكأني بهم قد ألقيت القُرعَة عليهم ليشاركوا في حمل الصليبب بعد ألفي عام من تلك الجمعة الرهيبة.. وصليبهُم هذه المرَّة تمثل بالإبتسال للموت.. والتهجير والأحزان والنُّكران! غير أنّ هذا الصليب سيُبدِّد آهات حامليه وتأوهاتهم وأحزانِهم فتستحيل فرحاً مع بزوغ الفجر الجديد القادم لا محالة.. كما كان فجر القيامة المجيدة. "قدوسٌ الله، قدوسٌ القوي، قدوسٌ الذي لا يموت.. إرحمنا".