موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٥ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠١٩

قوة الإيمان والتواضع في ضوء تعليم المسيح

بقلم :
الأب لويس حزبون - فلسطين

يتناول إنجيل الأحد (لوقا 17: 5-10) توجيهات السيد المسيح للرسل حول قوة الإيمان مهما كان ضئيلا، والتواضع في الخدمة؛ فالإيمان والتواضع هما عنصران اساسيان لعيش الحياة المسيحية، ومن هنا تكمن أهمية البحث في وقائع النص الإنجيلي وتطبيقاته. اولا: وقائع النص الإنجيلي وتحليله (لوقا 17: 5-10) 5 وقالَ الرُّسُلُ لِلرَّبّ: زِدْنا إِيماناً تشير عبارة "الرُّسُلُ" الى الاثني عشر الذين تمَّ اختيارهم من بين التلاميذ (لوقا 6: 13-14)، ولُقِّبوا بالرسل (متى 10: 2)؛ ويستعمل لوقا لقب الرسل ست مرات في انجيله، وأمَّا متى ويوحنا فقد استعملاه مرة واحدة، ومرقس استعمله مرتين، أمَّا بولس الرسول فحافظ على لقب الرسل؛ وهذا اللقب يدلُّ على التلاميذ الذين أرسلهم يسوع ليحملوا بشارة الخلاص. فهم نواة الكنيسة التي ستواصل عمل يسوع؛ أمَّا عبارة " زِدْنا " فتشير إلى طلب التلاميذ من المسيح أن يزيد إيمانهم، ويقوِّيه فيهم. وقد نشأ هذا الطلب من وعيهم بعجزهم عن تحقيق المتطلبات التي وضعها يسوع امامهم لتمكينهم من المغفرة "إِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4). إن ما يطلبه الرب هو فوق حدود الطبيعة الإنسانية. والإيمان عطية النعمة الإلهية بها "كُلُّ شَيءٍ مُمكِنٌ لِلَّذي يُؤمِن" (مرقس 9: 23). وقد مدح بولس الرسول أهل تسالونيقي، إذ أن إيمانهم ينمو (2تسالونيقي 3:1). ويُعلق القديس كيرلس الكبير "لا تعجب إن كان التلاميذ يطلبون زيادة إيمانهم من المسيح مخلصنا جميعًا. وقد "أَوصاهُم أَلاَّ يُغادِروا أُورَشَليم، بل يَنتَظِروا فيها ما وَعَدَ به الآب " حتى يلبسوا قوة من العُلى (أعمال 1: 4). وعندما حلت بهم القوة التي من العلى صاروا بالحق شجعاناً وأقوياء، تُظللهم حرارة الروح، يحتقرون الموت، ولا يبالون بالمخاطر التي كان غير المؤمنين يُهدِّدونهم بها، بل صاروا قادرين على صنع المعجزات"؛ أمَّا عبارة "زِدْنا إِيماناً" فتشير الى حقيقة الإيمان، أنه ليس أمرًا جامدًا قبلناه وتوقف، لكنه قابل للنمو، إنه خبرة حياة معاشه مع الله فيها ينمو الإيمان، وهذا ما يؤكده القديس أوغسطينوس بقوله " إن إيماننا يزداد". أمَّا عبارة " إِيماناً" في الأصل اليوناني ??????, فتشير الى الثقة التي تتجه نحو شخص "أمين"، وتلزم الإنسان بكليته من جهة، ومن جهة أخرى، مسعى العقل الذي تتيح له كلمة أو بعض العلامات، بلوغ حقائق لا يعاينها " الإِيمانُ بُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى "(عبرانيين 11: 1). فهو سرّ قوة المؤمنين، بدونه لن ننعم بطبيعة المسيح المُقامة عاملة فينا، وبدونه لا نقدر أن نقدم الحب الحقيقي الغافر لأخطاء الغير دوما كما أوصانا السيد المسيح " إِذا خَطِئَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ في اليَوم، ورجَعَ إِلَيكَ سَبعَ مَرَّاتٍ فقال: أَنا تائِب، فَاغفِرْ له" (لوقا 17: 4). ومن هنا ندرك كيف ان الرسل طلبوا من يسوع أن يزيد إيمانهم حتى يقدروا أن يعيشوا هذه المغفرة. يعلق البابا فرنسيس "نعم، يا رب، إيماننا صغير، إيماننا ضعيف وواهن، لكننا نقدمه لك هكذا كما هو، كي تنمّيَه". 6 فقالَ الرَّبّ: إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل، قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم تشير عبارة " إِذا كانَ لَكم" في الأصل اليوناني ?? ????? (معناها لو لكم) تشير الى حرف امتناع لامتناع، فإنها تعني ان الرسل ليس لديهم ايمان بمقدار حبة الخردل. وهذه كارثة ان يكون الرسل ذوي ايمان يقل عن حبة الخردل فكيف يكون سواهم من الناس؟ إننا لا نملُكُ مقدارَ حبّة من الإيمان، لذا ترانا نعجزُ عن فعلِ شيءٍ. أمَّا عبارة إِذا كانَ لَكم إِيمانٌ بِمقْدارِ حَبَّةِ خَردَل " الى حاجتنا لا إلى الزيادة من ناحية الكم، وإنما إلى الزيادة من ناحية النوع، وكأنَّ يسوع المسيح يقول للرسل "أنكم تملكون إيمانًا يبدو صغيرًا اقل مقداره من حبة الخردل، وهي أصغر من جميع الحبوب، ولكن إذا حاولتم أن تعيشوا قوة هذا الإيمان فإن فعله سيكون عظيمًا جدًا، حتى إنه يستطيع أن يقلع أكبر الأشجار من مكانها"؛ يعلق البابا فرنسيس" يكفي أن يكون إيماننا بحجم حبة الخرذل، صغيرا، ولكن حقيقيا، وصادقا، لنتمكن من فعل ما هو مستحيل بشريًّا، وما لا يُمكن تخيّله". وأمَّا " حَبَّةِ الخَردَل" فتشير الى أصغر البذور كلها كما يصفها مرقس إنها "أَصغَرُ سائرِ البُزورِ الَّتي في الأَرض"(مرقس 4: 31). وتنمو فتصير شجرة بطول 3.5 متر؛ ويبُين هذا التعبير ان يسوع كان يعلم في الهواء الطلق فأشار الى الشجرة أثناء الحديث؛ أمَّا عبارة "التُّوتَة" في الأصل اليوناني ( ????????? (معناها جميزة) فتشير الى اسم الجميز الذي كان يُطلق بصفة عامة على أنواع مختلفة من أشجار التوت الضخمة. وهي تعتبر رمز للشك الكامن في قلوبنا أو الخطيئة المتعمِّقة في القلب. ويرى القديس كيرلس الكبير "أن "شجرة الجميز" هي رمز قدرة الإيمان على تحقيق ما يبدو لنا مستحيلًا. بالإيمان تُقتلع من الأرض رغم تأصلها بالجذور العميقة، وبالإيمان تُثَّبَّت في مياه البحر المتحركة، فالإيمان يصنع المستحيلات. ومن يثق في المسيح لا يتكل على قوته الذاتية، بل ينسب للمسيح كل ما يُحقِّقه؛ أمَّا عبارة "قُلتُم لِهذِه التُّوتَة: اِنقَلِعي وَانغَرِسي في البَحر، فَأَطاعَتْكم" فتشير الى قوة الايمان القدر على صنع أعمال خارقة؛ إن إيمانًا حيًا كحبة الخردل الصغير قادر على عمل المستحيلات، قادر أن يقلع شجرة جميزة (التوت) بجذورها من الأرض ليُغرسها في البحر وسط الأمواج؛ ويُعلق القديس يوحنا الذهبي الفم بتفسير روحي مشيراً الى "عبارة "شجرة الجميز (التوتة)" إلى الشيطان، فإن كانت حياتنا قد صارت أرضًا غُرس فيها العدو كشجرة جميز (التوتة)، بالإيمان نطرد الشيطان بكل أعماله من حياتنا فلا يكون له موضع فينا، وإنما يُلقى في البحر كما في الأعماق، كما سمح السيد المسيح للشياطين أن تخَرَجَ الشَّياطينُ مِنَ الرَّجُلِ وتدَخَل في الخَنازير، فوَثَبَ القَطيعُ مِنَ الجُرُفِ إِلى البُحَيرَةِ فغَرِق" (لوقا 8: 33). أمَّا عبارة " فَأَطاعَتْكم" فتشير الى عظمة وقوة الايمان في الانسان. 7 مَن مِنْكُم له خادِمٌ يحرُثُ أَو يَرعى، إِذا رجَعَ مِنَ الحَقْل، يَقولُ له: تَعالَ فَاجلِسْ لِلطَّعام! تشير عبارة "مَن مِنْكُم له خادِمٌ " الى العادات السارية في الحياة اليومية حين كان أغلب الخدم عبيداً، وكان النظام الاجتماعي والاقتصادي كله في العالم أيام يسوع قائما على نظم الرقِّ والرقيق. من الناحية الروحية نحن عبيد للمسيح، لأنه هو الذي افتدانا بدمه الثمين على الصليب (افسس 1: 7)، لكن طبيعة الإنسان تشتهي المجد الباطل؛ فعلى سبيل المثال اشتهى كل من يعقوب ويوحنا أن يكون أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره في ملكوته (متى 20: 21)؛ أمَّا عبارة " يحرُثُ " فتشير الى الفلاحة وكل ما يتعاطاه صاحب الأراضي والحقول لكسب معيشته كحرث الأرض وزرعها وحصدها ومعاملة غلاتها. وكانت الأرض عادة تُفلح بالمحراث الذي تجرّه الثيران أو البقر. وكان المنجل للحصاد (1 ملوك 19: 19). وقد بقيت الفلاحة الحرفة الأساسية المعول عليها في فلسطين طوال مدة العهدين القديم والجديد. أمَّا عبارة " يَرعى " فتشير الى الاهتمام برعاية المواشي سيما الغنم. يذهب الراعي إلى الحظيرة في الصباح (يوحنا 10: 2-5) ويقودها إلى المرعى ويقضي معها هناك النهار كله وفي بعض الأحيان الليل أيضاً (لوقا 2: 8 ). أمَّا عبارة " رجَعَ مِنَ الحَقْل " فتشير الى الرجوع من العمل، كرجوع التلميذ من تبشيره. 8 أَلا يَقولُ له: أَعدِدْ لِيَ العَشاء، واشْدُدْ وَسَطَكَ واخدُمْني حتَّى آكُلَ وأَشرَب، ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وتَشرَب تشير عبارة "اشْدُدْ وَسَطَكَ" الى الجهاد والاستعداد للعمل "لِتَكُنْ أَوساطُكُم مَشدودة، ولْتَكُنْ سُرُجُكُم مُوقَدَة، 36 وكونوا مِثلَ رِجالٍ يَنتَظِرونَ رُجوعَ سَيِّدِهم (لوقا 12: 35-36)؛ أمَّا عبارة "اخدُمْني" فتشير الى الأجير الذي إذا قام بمِثل هذا العمل لا يقوم الا بواجبه (لوقا 12: 35)؛ ولقد أدرك بولس الرسول هذه الحقيقة فصرّح: "فإِذا بَشَّرتُ، فلَيسَ في ذلك لي مَفخَرَة، لأَنَّها فَريضةٌ لا بُدَّ لي مِنها، والوَيلُ لي إِن لم أبَشِّر! " (1 قورنتس 9: 16)؛ ويُعلق القديس كيرلس الكبير بقوله: "المثل يُبيّن كما ان قدرة السلطان الملوكي تتطلب من العبيد أن يخضعوا له كدين يلتزمون به، هكذا يقول بأن الرب لا يقدم شكرًا للعبد حتى وإن فعل ما وجب عليه عمله لأنه عبد". أمَّا عبارة " ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وتَشرَب" فتشير الى الحياة الأبدية والشبع في الملكوت. ويُعلق عليها القديس اوغسطينوس بقوله "كأن السيد يقول: بعدما أتمتع بعمل كرازتكم، وأتغذى أنا نفسي بطعام توبتكم، عندئذ تأتون أنتم وتتمتعون بالوليمة أبديًا، وليمة الحكمة الخالدة". 9 أَتُراه يَشكُرُ لِلخادِمِ أَنَّه فعَلَ ما أُمِرَ به؟ تشير عبارة " أَتُراه يَشكُرُ " الى ما عمله الخادم هو أمر عادي. ولماذا يحسبه فوق العادة ويطلب عنه مكافأة خاصة او تهنئة. الله هو الذي أعطانا أن نفعله، فلماذا ننسب لأنفسنا ما صنعته نعمة الله كما جاء في تعليم يعقوب الرسول "كُلُّ عَطِيَّةٍ صالِحَةٍ وكُلُّ هِبَةٍ كامِلَةٍ تَنزِلُ مِن عَلُ مِن عِندِ أَبي الأَنوار" (يعقوب 16:1)؛ ومن هذا المنطلق فان يسوع يطلب من تلاميذه الاتضاع، فإن ثبتوا وغفروا وفعلوا كل شيء صالح، عليهم ان يشعروا أنهم فعلوا ما هو واجب عليهم، وأنهم لم يقدموا ما يوفي محبة الله لهم. فلا يجوز أن يقولوا " قمنا بالواجب، وبقي أن ننال المكافأة. 10 وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه لا تشير عبارة " نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم" الى لا قيمة للخدم الذي ينكرون فيه تعبهم وجهدهم كما لو أنّه لم يكن شيئًا او الى التواضعٍ الزائفٍ، بل المقصود هو اعتبار كلّ جهد وتعب على أنّه استجابة لحبّ الله، وهو جواب على جهده وامتنان للحياة الّتي يهبها الله إياهم، وهي حياته نفسها. لكن هذه الآية تنطبق على التلاميذ انطباقا تاما، لأنه ليس من إنسان لا غنى عنه في خدمة الرب. وهذا هو السبب الذي جعل بولس الرسول يعتبر نفسه مديونًا للكل "فعَلَيَّ حَقٌّ لِليونانِيِّينَ والبَرابِرة، لِلعُلْماءِ والجُهَّال"(رومة14:1). وأمَّا عبارة " وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه " فتشير الى العبارة المألوفة "لا شكر على واجب" أي لا لزوم للشكر، او قولنا " قمنا بالواجب، وبقي أن ننال المكافأة" المقصود هو انه مهما عملنا نحن لم نوفه حق الله علينا، ولن نوفه مهما عملنا. فنحن مدينون له بحياتنا أولاً ثم بكل ما بين أيدينا، ثم بفدائه، وبحصولنا على البنوة. ويُعّلق القديس مرقس الناسك "نحن الذين وهب لنا الحياة الأبدية، نصنع الأعمال الصالحة لا لأجل الجزاء، بل لحفظ النقاوة التي وُهبت لنا". فملكوت السماوات هو هبة يعطيها الرب للعبيد المؤمنين وليس جزاءً لأعمالهم. أمَّا القديس أمبروسيوس فيعلق "لا تفتخر أن كنت عبدًا صالحًا، فهذا واجب ملتزم أنت به". فنحن لم نوفِ الله حقِّه، إنما نحن مدينون له بحياتنا أولاً ثم بكل ما بين أيدينا، ثم بفدائه، وبحصولنا على البنوة. أمّا كيف يرى الله عمل خادمه، فيصفه يسوع في موضع آخر: " طوبى لأُولِئكَ الخَدَم الَّذينَ إِذا جاءَ سَيِّدُهم وَجَدَهم ساهِرين. الحَقَّ. أَقولُ لكم إِنَّه يَشُدُّ وَسَطَه ويُجلِسُهُم لِلطَّعام، ويَدورُ علَيهم يَخدُمُهم" (لوقا 12: 37). ثانياً: تطبيق النص الإنجيلي (لوقا 17: 5-10) انطلاقا من الملاحظات حول وقائع النص الإنجيلي وتحليله، نستنتج ان النص يتمحور حول نقطتين أساسيتين وهما: قوة الايمان والتواضع في الخدمة. 1) قوة الايمان (لوقا 17: 5-6) كان التلاميذ واعين لعِظمة وخطورة متطلبات يسوع. لذلك ها هم يوجِّهون إليه هذه الصلاة "زِدْنا إِيماناً"(لوقا 17: 5). وبما ان الايمان موهبة من الله لذلك طلبوها بالصلاة. ولماذا طلبوها؟ لأنهم أرادوا الايمان اللازم لعمل ما يطلبه منهم السيد المسيح، إذ أدركوا أن ما يطلبه السيد المسيح هو فوق حدود الطبيعة الإنسانية فطلبوا قوة الايمان. ونستطيع ان ندرك قوة الايمان من خلال مفهوم الايمان وضرورته. أ) مفهوم الايمان: كلمةُ "الإيمان" تحملُ معنيين مختلفين: هناك نوعٌ من الإيمان يتصلُ بالعقائد، ويعني اطَّلاعَ النفس وموافقتها على أمرٍ معينٍ، ومفيدٍ للنفس، كما يقولُ الربُّ: "من سمعَ كلامي وآمن بمن أرسلني فلهُ الحياةُ الأبديةُ ولا يمثلُ لدى القضاءِ" (يوحنا5:24)، وأيضاً: "من آمنَ بالابنِ لا يُدان، ولكنه ينتقلُ من الموتِ إلى الحياة" (يوحنا3: 18). يرى رجل الإيمان الأشياء الّتي لا يراها الآخرون ولن يستطيعوا رؤيتها. يُعطيك الإيمان رؤية فائقة الطبيعة للحياة كما جاء في تعليم صاحب الرسالة الى العبرانيين "فالإِيمانُ قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين 11: 1). فالحياة، بدون مصباح الإيمان هي مسيرة في الظلام. وهناك نوعٌ آخرُ من الإيمان يمنحُه السيدُ المسيحُ على طريقةِ الهبةِ المجانية، عطية الله، ننعم به إن سألناه هذه العطية. "يتلقى واحدٌ منَ الروحِ كلامَ الحكمةِ وآخرُ يتلقى وفقاً للروحِ نفسهِ، كلامَ المعرفةِ، وسواهُ الإيمانَ في الروحِ نفسهِ، وآخرُ هبةَ الشفاءِ" (1قورنتس12: 8-9). هذا الإيمان المُعطى على طريقةِ الهبةِ المجانيةِ ليس إيمانَ عقيدةٍ بل إيمان فضيلة الهية، يمنحُ الإنسانَ قدرةً تفوقُ قواه البشرية. فمن كانَ له مثلُ هذا الإيمانِ يقولُ لهذا الجبل: "انتقلْ من هنا إلى هناكَ فينتقلُ" (متى17: 20). إن قالَ أحدٌ ذلك، وهو يؤمنُ أنَّ ما يقولهُ سوفَ يَحدثُ ولم يشكَّ في قلبهِ، نالَ تلك النعمة، كما يؤكده أنجيل مرقس "الحَقَّ أَقولُ لَكم: مَن قالَ لِهذا الجَبَل: قُم فَاهبِطْ في البَحْرِ، وهو لا يَشُكُّ في قَلبِه، بل يُؤمِنُ بِأَنَّ ما يَقولُه سيَحدُث، كانَ له هذا" (مرقس 11: 23). ويذكّرنا التعليم المسيحي أنّ الإيمان ليس هو أن نؤمن بشيء ما، بل أن نؤمن بشخص يسوع المسيح. إنه إيمان القديس بولس الذي قال "أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبي 4: 13) الايمان بيسوع المسيح هو الالتقاء بمحبّة الربّ، والثقة به. الإيمان بكلمته وبشخصه. نحن نثق بشخص قد أثبت لنا حبّه، وقد ملأنا بكلمته. ويُعلق القديس اوسكار روميرو" المسيحية ليست مجموعة من الحقائق التي يجب الايمان بها، او قواعد يجب إتباعها، او محظورات. بل المسيحية هي الشخص الي احبَّني كثيرا لدرجة أنه يطالب بحبّي. المسيحيَّة هي المسيح "(البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي المسيح يحيا، 89). إن معرفة الربّ تسبق وترافق الإيمان. وهذا الايمان الذي يقصده يسوع ليس قوة سحرية يكتسبها الانسان بالتفكير والاجتهاد، إنما هو الايمان بكلمة الله والاِتِّكَالُ على قوته تعالى والعمل بمشيئة القدوسة. إيمان يتطلب طاعة كاملة ومتضعة لإرادة الله، واستعداد مطلق لتنفيذ كل ما يدعونا إليه، والتصديق بالله الكلي القدرة. فمن لا يعمل بمشيئة الله، لا يعمل بقوة الايمان، وإذا كان المؤمن مع المسيح، والمسيح مع المؤمن، عندئذٍ يعمل المسيح فيه. ومنه يستمدُ المؤمن القوةَ التي تفعلُ أكثرَ مما تقدرُ أن تفعلَ قواه البشرية. وعليه فإن "الإيمان" هو سرّ قوة المؤمن، وبدونه لن ينعم المؤمن بنعمة المسيح، وبدون هذه النعمة لا يقدر أن يغفر للغير. والقوة التي تحل فينا بالإيمان لا تعتمد على حجم الايمان بل على اصالته. ان حبة الخردل هي صغيرة جدًّا، لكن يسوع يقول لنا أنه يكفي أن يكون إيماننا بحجمها صغيرا، ولكن حقيقيا، وصادقا، لنتمكن من فعل ما هو مستحيل بشريًّا، وما لا يمكن تخيله. للإيمان قوة مهما كان قليلا. لأن الامر لا يكمن في إيمان إضافي، بل إيمان أصيل، ولسنا بحاجة الى مزيد من الايمان، فقدر ضئيل منه، كحبة الخردل، يعتبر كافيا شريطة ان يكون الايمان حيا وناميا وفعالا. والقليل من الايمان يمنح صاحبه سلطانا على صنع المعجزات. وقد اعترف يسوع ببعض أشخاص من ذوي الإيمان "العظيم": مثل قائد المئة، في كفرناحوم، الذي طلب من يسوع بدافع احتياجه أن يشفي خادمه العزيز عليه (لوقا 7: 1-10)، والمراء الخاطئة التي التقت بيسوع في بيت سمعان الفريسي وهي ممتلئة من حبها الكبير، فبرَّرها يسوع بقوله لها "إِيمانُكِ خَلَّصَكِ فاذهَبي بِسَلام" (لوقا 7: 50)، والمراءة المنزوفة التي التجأت الى الرب بحزنها الكبير، فقال لها يسوع نفس العبارة "يا ابنَتي، إِيمانُكِ خلَّصَكِ، فاذهَبي بِسَلام"(لوقا 8: 48). الإيمان العظيم هو موقف أولئك الذين لم يعتمدوا على قوتهم في حل مشاكلهم المستعصية بل التجأوا الى الرب بروح التطويبات والصلاة المستمرة. وتاريخ الكنيسة هو حافل بالشواهد على هذه الحقيقة، فالقديسون كلهم قد اختبروا قوة الإيمان وكلهم صنعوا المعجزات. " إنَّ إِبراهيمَ آمَنَ باللهِ فحُسِبَ لَه ذلِكَ بِرَّاً (رومه 4: 3). وهكذا بزغ تاريخ الخلاص بقوة ايمان "ابي المؤمنين "الذي تقبل البركة (كتاب تعليم الكنيسة الكاثوليكية ،1080). إذًا، فالإيمان هو الذي يُخلِّص، الإيمان هو الذي يُبرِّر، الإيمان هو الذي يَشفي الإنسان في نفسِه وفي جسدِه (لوقا 17، 26-37). يتساءل البابا فرنسيس " كم شخص، في وسطنا، يتمتع بهذا الإيمان القوي، والمتواضع، إيمان يصنع الكثير من الخير!". يبدو ان نمو الايمان متى زُرع في القلب ينمو بالطبيعة ككائن حي. كما ان حبة الخردل الصغيرة جداً لكنها حيّة وتنمو كذلك يمكن لقدر بسيط من الايمان الصحيح بالله بان يترعرع وينمو. وهو يبدأ في الخفاء في بادئ الامر ثم بعد ذلك يأخذ في الانتشار تحت الأرض ثم فوقها ليكون مرئيا للجميع. ومع ان كل تغيير يحدث يتم بصورة تدريجية وغير مدركة وغير محسوسة، ان هذا الايمان ينمو وسرعان ما يعطي نتائج عظيمة. ونحن نجدد صلاتنا في طلبة الايمان في "صلاة المؤمنين" في كل قداس. وإن كلمة الله في القراءات والانجيل تتطلب منا الكثير وتضعنا تحت المحك. فنشعر كالتلاميذ بأننا ضعفاء وغير قادرين على تحقيقها. لذا نتوجه الى الله طالبين نعمة الايمان من اجلنا ومن اجل جميع اخوتنا. إذا دعونا الرب، كما يفعل الرسل في إنجيل اليوم، فإنه سيزيد من إيماننا، الذي وهبنا إياه منذ معموديتنا. واما المريد ن الايمان يتطلب أولا الحفاظ على أثمن الأشياء التي منحنا أيها الله بالعماد المقدس وتغذيته. وهذا تطلب الانفتاح على تنقية ما هو غير صلح وعلى نيل هبات جديدة من الله. ويُعلق البابا فرنسيس "انه تعالى يقدِّم المزيد من الصداقة معه، المزيد من الاتقاد في الصلاة، المزيد من التعطش لكلمته، المزيد من الرغبة بقبول المسيح في القربان المقدس، المزيد من الرغبة في عيش انجيله، المزيد من القوة الداخلية، المزيد من السلام والفرح الروحي"(البابا فرنسيس، الارشاد الرسولي المسيح يحيا، 161). والإيمان الحقيقيّ هو الإيمان بأن نعمة الربّ تفعل فينا ولو ملكنا إيماناً بمقدار حبّة خردل. الإيمان هو إذن ليس مجرّد معتقد بل الإيمان بشخص يسوع المسيح. إنه إيمان القديس بولس الذي قال أستطيع كلّ شيء ولكن بالمسيح الذي يقوّيني! ومن شهود الإيمان، في عصرنا الحاضر كانت الأم تريزا. صغيرة في حجمها أمام هول المُشكلات التي واجهتها، ولكنّها وبسبب إيمانها وأمانتها لله، نقلتَ جبالاً من الأحزان والأسى والمرض التعيس، إلى حالة من الحب والرعاية والاحترام. لماذا؟ لأنها آمنت، وصلّت، ولم تتراجع مهما كانت الصعوبات. وفي هذا الصدد كتب المهاتما غاندي: "زد إيماني يا ربّ؛ اجعله قويّاً كالصخر. ينبغي أن تكون هذه صلاتنا اليوميّة. لأنّ الإيمان هو كلّ شيء للمؤمن. لأنّ الإنسان، بين يديّ الربّ، يستطيع أنّ يصل إلى أي خطّ نهاية. امنحني الإيمان يا ربّ. هذه هي صلاتي ليل نهار". ويعرِّف بولس الرسول الايمان كأعظم بركاتنا جميعها، إذ يقول " وبِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله، لأَنَّه يَجِبُ على الَّذي يَتَقَرَّبُ إلى اللهِ أَن يُؤمِنَ بِأَنَّه مَوجود وأَنَّه يُجازي الَّذينَ يَبتَغونَه"(عبرانيين 11: 6 -7). يحيا البار بإيمانه كما جاء في نبوءة حبقوق " أَمَّا البارُّ فبِأَمانَتِه يَحْيا" (حبقوق 2: 4) ويؤكد بولس الرسول الخط النبوي " إِنًّ البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا" (رومه 1: 17). ب) ضرورة الايمان: يعتبر الايمان ضرورياً لنيل رضى الله كما جاء في الرسالة الى العبرانيين " بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله" (عبرانيين 11: 6). ومن هذا المنطلق، الإيمان، ليس أمرًا جامدًا قبلناه وتوقف، ولا فلسفة نعتنقها، لكنه هو حياة وخبرة عمل بالله الذي يعمل فينا بلا انقطاع. لكنه ليس الايمان ضروري لارتباطه بأعمال الشريعة كما يقول القديس بولس الرسول " ونَحنُ نَرى أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بالإِيمانِ بمَعزِلٍ عن أَعمالِ الشَّريعة" (رومة 3: 28) ويضيف في موضع آخر " أَمَّا أَنَّ الشَّريعةَ لا تُبَرِّرُ أَحَدًا عِندَ الله فذاك أَمْرٌ واضِح، لأَنَّ "البارَّ بِالإِيمانِ يَحْيا" (غلاطية 3: 11). الله بار (رومة 1: 17)، والله يُبرر في الانسان الخاطئ (رومة 3: 22)، ولا يقتضي من الانسان للحصول على التبرير إلاَّ طاعة الايمان أي قبول البر بتواضع (رومة 1: 5)، والانسان المُبرَّر يجعل نفسه في حياة مقبولة عند الله (رومة 6: 13-20). ويؤكد ذلك صاحب الرسالة الى العبرانيين "بِغَيرِ الإِيمانِ يَستَحيلُ نَيلُ رضا الله " (عبرانيّين 11: 6). ولذلك يجب أن نعيش بالإيمان بالمسيح الذي أحبنا وأعطى نفسه على الصليب من أجلنا كما عاش بولس الرسول "فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي" (غلاطية 2: 20). الايمان ضروري أيضا لأعمال الرحمة الانجيلية والمحبة المسيحية؛ لذلك يُشدد بولس الرسول على أهمية الاعمال، وذلك عن طريق طاعة المؤمن لشريعة المحبة كما يُشدِّد على أهمية الاعمال فيما يتعلق بالدينونة التي يُدان بها كل واحد بحسب اعماله (رومة 2: 5). ويبني بولس الرسول ثقته فيما يتعلق بالدينونة لا على اعماله، بل على الله الذي يُبرّر، وعلى المسيح الذي مات ويشفع لجميع الناس (رومة 8: 39). أمَّا الأعمال التي تحيي الايمان وتجعله قويا لصنع المعجزات فهي اعمال الرحمة الانجيلية والمحبة المسيحية التي نادى بها المسيح اكتمالا لشريعة موسى. لذلك يطالب بولس الرسول ممارسة الايمان في المحبة فينصح تلميذه طيموتاوس "إمتَثِلِ الأَقوالَ السَّليمَةَ الَّتي سَمِعتَها مِنِّي، اِمتَثِلْها في الإِيمانِ والمَحبَّةِ الَّتي في المسيحِ يسوع" (2 طيموتاوس 1: 13). ويؤكد يعقوب الرسول ان الايمان لا يخلص بمعزل عن الاعمال وانه ميت بدونها إذ يقول "الإِيمان، فإِن لم يَقتَرِنْ بِالأَعمال كانَ مَيْتًا في حَدِّ ذاتِه" (يعقوب 2: 17)، "فكَما أَنَّ الجَسَدَ بِلا رُوحٍ مَيْت فكذلِكَ الإِيمانُ بِلا أَعمالٍ مَيْت" (يعقوب 2: 26). "ماذا يَنفعُ، يا إِخوَتي، أَن يَقولَ أَحَدٌ إِنَّه يُؤمِن، إِن لم يَعمَل؟ أَبِوُسْعِ الإِيمانِ أَن يُخَلِّصَه؟"(يعقوب 2: 14). وإن الأعمال التي يذكرها يعقوب الرسول ليست اعمال الشريعة التي يتكلم عنها بولس الرسول في رسالتيه الى اهل غلاطية وأهل رومة إنما الايمان الذي يبلغ كماله في الاعمال، ولا سيما في محبة القريب والصلاة فيصرّح "تَرَونَ أَنَّ الإِنسانَ يُبَرَّرُ بِالأَعمالِ، لا، بِالأَعمالِ لا بِالإِيمانِ وَحدَه" (يعقوب 2: 24). فمن جعل ثقته في كلمة الحق القادرة وحدها على تخليص الخاطئ، خضع أيضا لمشيئة الله في كل ما يمت بصلة الى حياته. فالأعمال تكمّل الايمان. "تَرى أَنَّ الإِيمانَ ساهَمَ في أَعمالِه وأَنَّه بِالأَعمالِ اكتَمَلَ الإِيمان" (يعقوب 2: 22). رسالة يعقوب توفّق بين الايمان وأعمال الايمان. أمَّا بولس الرسول فيطالب بأولوية الايمان مميّزا إياه عن اعماله. نستنتج مما تقدم أن الايمان هو سرّ قوة المؤمن، لا لممارسة أعمال خارقة بلا هدف، وإنما أولًا لنيل حياة المسيح يسوع حيث أننا نعيش بروح المحبة الغافرة لأخطاء الآخرين، وبه نطرد الروح الشرير وكل أعماله، فنقتلعه من حياتنا كما نقتلع شجرة التوت، لنلقى بها في هاوية البحر وأعماق المحيطات. باختصار، الإيمان نعمة من الله، وما النعمة إلاّ حياة الله فينا. ليست شيئًا يُمتلك، بل هي تغيير حقيقيّ، مع كلّ ما يحمله التغيير من فقدان ومن مكسب. أن نحيا حياة الله يعني أن نستقبل روح القوّة في جسد مطبوع بالضعف، وأن نستقبل روح المحبّة في قلب معتاد على الأنانيّة، وأن نستقبل روح الفطنة في عقل يهوى هناء الغباء. 2) التواضع في الخدمة (لوقا 17: 7-10) بعدما تكلم يسوع تلاميذه عن قوة الايمان اخذ يكلمهم عن التواضع في الخدمة. الإيمان الحيّ يعرف أنّ الله هو الذي يتمّم كلّ شيء وأنّنا "بدونه لا نستطيع أن نعمل أي شيء "فضرب لهم مثلا " مَن مِنْكُم له خادِمٌ يحرُثُ أَو يَرعى، إِذا رجَعَ مِنَ الحَقْل، يَقولُ له: تَعالَ فَاجلِسْ لِلطَّعام! أَلا يَقولُ له: أَعدِدْ لِيَ العَشاء، واشْدُدْ وَسَطَكَ واخدُمْني حتَّى آكُلَ وأَشرَب، ثُمَّ تَأكُلُ أَنتَ بَعدَ ذلِكَ وتَشرَب" (لوقا 17: 7-8). وفي هذا المثل نجد الارشادات التالية أولا: يقدم لنا المثل صورة إله "سيد" والتلميذ هو خادم مستعد لتنفيذ ما يرضي سيده بكل أمانة؛ ومن هذا المنطلق فان السيد المسيح يقول "أَتُراه يَشكُرُ لِلخادِمِ أَنَّه فعَلَ ما أُمِرَ به؟ "(لوقا 17: 9). وهنا لا يريد يسوع ان يلقننا درسا في العلاقات الاجتماعية، ولكنه يريد أن يُعلمنا كيفية التصرف في علاقتنا مع الله. لنعمل كل ما يأمرنا به الله بحسب ما ورد في سفر عزرا" كُلُّ ما يَأَمُرُ بِه إِلهُ السَّمَوات، فلْيُقضَ بِدِقَّةٍ لِبَيتِ إِلهِ السَّمَوات"(عزرا 7: 23)؛ وخير متال على ذلك مريم العذراء التي جعلت نفسها أمَة للرب كما نستنتج من كلام مريم الى الملاك جبرائيل "أَنا أَمَةُ الرَّبّ فَليَكُنْ لي بِحَسَبِ قَوْلِكَ"(لوقا 1: 38). إن اتباع يسوع لا يجعل التلاميذ أشخاصًا مهمِّين، ذوي حقوق وامتيازات، لأن الامتياز الوحيد للعظمة هو أن نكون خدام ونأخذ المقاعد الاخيرة. ثانيا: يُبرِّر يسوع هذا الموقف، بل يريد ان يعلم تلاميذه بهذا المثل ان التبشير بتواضع وروح الخدمة هو أساسي "مَن أَرادَ أَن يكونَ كبيراً فيكُم، فَلْيَكُنْ لَكم خادِماً" (متى 20: 26). وقد قضى الربّ يسوع المسيح السنوات الثلاث من حياته العلنيّة في عملِ الخير (أعمال 10: 38)، فهو يعتني بالمرضى، والبُرص، والأولاد وآخرين. ثالثا: يعلمنا يسوع أنّ الطاعة والاعمال الصالحة لا تنطوي على استحقاق من جانبنا، ولا تعطينا حق مطالبة الله بشيء ما. فإن أطعنا الله، فلم نكون قد عملنا إلاَّ ما يتوجب علينا عمله. ومهما كانت اعمالنا الصالحة فليس هذا دينا على الله. وكلّما بذل الإنسانُ ذاتهُ لأجلِ الآخرين، يُدركُ أنّ كلمات الرّب يسوع المسيح تخصّه: "نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم". ويعترفُ بأنّهُ لا يتصرّفُ وفقَ كفاءة شخصيّة، بل لأن الربَّ قد أعطاه النّعمةَ ليعملَ ذلك خاصة عندما تكونُ الحاجةُ بالغةٌ وقدراتُ الشخصِ محدودةٌ. وعندما يشعر الإنسان انه أداةٍ في يدِ الرب، عندها سيَعمل ما بوسعه بكلِّ تواضعٍ، وسيسلِّمُ الباقي للرب بكُلّ تواضعٍ أيضا. وبكلمة أخرى، أنْ يَكُونَ الإنسانُ قادراً على مُسَاعَدَةِ الآخرين لا يُعتَبَرُ استحقاقاً لهُ أَو إنجازاً يفتخرُ بهِ. هذا الواجبِ هو نعمة كما نستشفَّه من كلمات الأب فديريكو لومباردي في نهاية خدمته كمدير لدار الصحافة الفاتيكانيّة خاصة في عهد البابا بندكتس والبابا فرنسيس "أنا أسعى لأصغي لكلمات يسوع لتلاميذه والتي نعرفها جميعًا: "إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه". وهذا الموقف يساعدنا على مقاومة المجد الباطل. ويعلق أسقف سوريا يلوكسين المَنبِجيّ (523)، "إذا هاجمتك إحدى أفكار المجد الباطل بسبب رِفعة مستوى خدماتك، تذكّر كلمات الربّ الذي قال: "وهكذا أَنتُم، إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه" (لوقا 17: 10). وإن العبرة التي يريد يسوع ان يلقيها علينا هي التواضع في الخدمة " إِذا فَعَلتُم جميعَ ما أُمِرتُم بِه فقولوا: نَحنُ خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم، وما كانَ يَجِبُ علَينا أَن نَفعَلَه فَعَلْناه " (لوقا 17: 10). إذ ليس للبشر حق في التبجح امام الله مثل الفريسيين الذين وصلوا الى قناعة ان لهم حقوقا عند الله بسبب صلاحهم وأعمال الخير التي يصنعونها، وذلك لاستحقاقٍ منهم، وليس كرماً من الله. أمَّا نحن فمهما فعلنا لن ننهي خدمتنا ولن نقوم بما فيه الكفاية تجاه إله، الذي انعم علينا بكل شيء. وفهمت القديسة تريزا الصغيرة هذا المغزى فقالت بانها تقف امام الله "فارغة اليدين". فعلينا ان لا نتفاخر بأعمالنا أمام الله، بل مهما قمنا بما أمر به تعالى لنقل "لا شكر على واجب". وبالرغم من أننا " خَدَمٌ لا خَيرَ فيهِم " نحن مدعوون لتناول جسد الرب ونشرب دمه المقدس في كل احتفال افخارستيا نقوم به. ومدعوون الى عيش الخدمة بدون أي مقابل كي تنفتح أمامنا الطريق نحو فرح أعظم: أي أن نكون مشاركين في محبة الله نفسه، الذي ينتظرنا جميعاً على المائدة السماوية. الخلاصة الإيمان الذي يريده يسوع هو المؤسَّس على الإيمان بعمل الربّ فينا ولو بمقدار حبّة خردل. الإيمان هو بأن نعمة الربّ تفعل فينا. الإيمان هو إذن ليس مجرّد معتقد بل الإيمان بشخص يسوع المسيح كما اختبره بولس الرسول الذي قال " أَستَطيعُ كُلَّ شيَءٍ بِذاكَ الَّذي يُقوِّيني" (فيلبي 4: 13)، والإيمان الحيّ يعرف أنّ الله هو الذي يتمّم كلّ شيء وأنّنا " لأَنَّنا بِمَعزِلٍ عَنِّه لا نستطيع أَن نعمل شيئا" (يوحنا 15: 5) والإيمان الحقيقيّ يعرف أنّنا كبشر ضعفاء ولكن كمؤمنين أقوياء، الإيمان أخيرا يساوي الثقة والاتحاد بالربّ وأن نضع عليه رجاءنا. أراد يسوع أن يؤكد لنا مركزنا الحقيقي خارج نعمته أننا عبيد بطَّالون، أي عبيد لله الذين لم يوفوا حقه كما ينبغي. فإن جعلناه الأول في حياتنا، وقدَّمنا كل شيء لحسابه، نبقى عبيدًا مدينون له بحياتنا، نشعر في أعماقنا أننا بطّالون؛ فمن خلال نعمته صرنا أبناء له، وما نمارسه هو من نعمته المجانية، وليس ثمنًا لجهادنا الذاتي أو فضلًا منا. واختصار، حتى لو حفظنا جميع ما يوصينا الله به فإننا في ذلك لم نصنع إلاّ ما هو علينا من واجب، وإن جميع أعمالنا الصالحة لا تُكسبنا أي حق عليه تعالى. فكل ما ينعم به علينا ليس إلاَّ عطية مجانية من جوده. فإن احببنا الرب وتفانينا في خدمته وتجاوبنا مع نعمته ننال الخلاص كما صرّح السيد المسيح " مَن أَرادَ أَن يَحفَظَ حيَاتَه يَفقِدُها، ومَن فقدَ حيَاتَه يُخَلِّصُها"(لوقا 17: 33). الدعاء: يا رب، كما طلب الرسل منك يوما "زِدْنا إِيمانًا" (لوقا 17، 5) كذلك نحن أيضًا نطلب اليك اليوم "زِدْنا إِيمانًا". فالإيمان عطيّة منك. فأعطنا تواضع القلب واجعله ينمو فينا! نعم، يا رب، إيماننا صغير، إيماننا ضعيف، لكننا نقدمه لك كما هو، كي تنمّيَه فنكون مسيحيين من خلال حياتنا وخدمتنا وشهادتنا. آمين". القصة: زدنا ايمانا في "كتاب على " للمؤلفة غاري ويتا. جرى حوار بين البطل وفتاة رافقته وهو في طريقه نحو الغرب مصغياً لإلهامات داخلية، في مهمة شبه مستحيلة لإيصال النسخة الوحيدة المتبقية من الكتاب المقدس الى حيث يمكن حفظه وإعادة نشره وانقاذ البشرية من الدمار الذي لحق بها جراء انفجار أحد النيازك. وهذه ترجمة الحوار: هي: تقول إنك تسير منذ ?? عام؟ هل فكرت يوما أنك قد تكون تائها؟ هو: كلا. هي: كيف تعلم أنك تسير في الاتجاه الصحيح؟ هو: نسير حسب ايماننا وليس حسب نظرنا. هي: ماذا تقصد؟ هو: اي أنكِ تعرفين الامر حتى ان كنت لا تعرفينه. هي: هذا منافٍ للمنطق. هو: لا داعٍ لان يكون منطقياً، انه الإيمان، انه زهرة النور في حقل الظلام الذي يعطيني القوة لأتابع طريقي وأصل الى هدفي. كم نحن اليوم بحاجة ماسة الى الايمان كي يضيء حقولنا الواسعة في هذا العالم المظلم. كم نحن بحاجة الى الايمان كما يعرِّفه صاحب الرسالة الى العبرانيين " هو قِوامُ الأُمورِ الّتي تُرْجى وبُرْهانُ الحَقائِقِ الَّتي لا تُرى" (عبرانيين11: 1). وكم نحن بحاجة الى أن نحيا في الايمان بالمسيح الذي أحبنا وبذل نفسه نفسه على الصليب من أجلنا على خطى بولس الرسول " فما أَنا أَحْيا بَعدَ ذلِك، بلِ المسيحُ يَحْيا فِيَّ. وإِذا كُنتُ أَحْيا الآنَ حَياةً بَشَرِيَّة، فإِنِّي أَحْياها في الإِيمانِ بِابنِ اللهِ الَّذي أَحبَّني وجادَ بِنَفْسِه مِن أًجْلي " (غلاطية 2: 20).