موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٢ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٥

قلوبنا مغارةً لميلادك

بقلم :
منويل طنوس - الأردن

هناك قلوب مازلت تتوق لملاقاة الله، وتنتظر يوم رجوع المخلص بمجده العظيم، وهناك قلوب فقدت السلام والحب، وتنتظر ميلاد المسيح لترى نوره الحقيقي في قلوبها، في عمق هذا الانتظار، تتحضر نفوسنا برجاء لا حدود له لتستقبل ملك السماء آتيًا بكل جلاله على هذه الأرض، متأملين حبه العظيم ومرتلين ومصلين بكلمات تليق بحضوره الإلهي إلى هذه الأرض. ولد السيد المسيح في مغارة صغيرة وعلى مذودٍ صغير، إنها ليست صدفة إنما رمز للتنازل الالهي، فأصبح الله إنساناً بشخص يسوع "الكلمة صار بشراً وسكن بيننا"، فولادة المسيح أظهرت لنا حب الله الأبدي الذي ليس له مثيل حيث أعطانا طفلاً مولوداً من مريم البتول لأجل خلاص البشرية جمعاء، فلم يولد في قصر أو بيت كبير، بل على العكس إختار مكاناُ فقيراً جداُ وهو مذود حقير في مغارة صغيرة في مدينة بيت لحم، ليظهر تواضعه فملك السماء والأرض يتجسد في مذود، فحدث الميلاد أظهر لنا تنوع عجيب في الاحتفاء بولادة الطفل يسوع وأظهر لنا فئات مختلفة من المجتمع في ذلك الوقت، كان اولاً إشتراك الملائكة ممثلي اهل السماء، يسوع ومريم ويوسف ممثلي العائلة المقدسة، الرعاة ممثلي الفقراء، والمجوس ممثلي الاغنياء والعلماء وممثلي الامم الوثنية، ثم سمعان الشيخ ممثل الإسرائيليين الأتقياء، وحنة ممثلة الانبياء، والنجم الامع في السماء ممثل الطبيعة، ونحن نحتفل في قلوبنا وعقولنا بميلاد ملك السماء والأرض. فَرِح الملائكة بميلاد المخلص، وأنشدوا نشيدهم الخالد "المجد لله في الأعالي وعلي الأرض السلام وفي الناس المسرة"، ودَعوا الرعاة أيضا للاشتراك معهم في هذا الفرح، في قول الملاك "لا تَخافوا، ها إِنِّي أُبَشِّرُكُم بِفَرحٍ عَظيمٍ يَكونُ فَرحَ الشَّعبِ كُلِّه: وُلِدَ لَكُمُ اليَومَ مُخَلِّصٌ في مَدينَةِ داود، وهو الـمَسيحُ الرَّبّ"، فكان هذا الفرح عظيمٌ في السماء والأرض وإبتهج الجميع بميلاده وعم السلام والمحبة في قلوب البشر، وهنا يجب أن نشير إلا أن السلام في المسيحية ليس فكرا سلبياً في الراحة والهروب بحثا عن المدينة المثالية للعيش بها، لكنه نقاء القلب والضمير وتجديد الذهن والفكر يومياً، فالسلام هنا رياضة يومية تبدأ من داخل النفس وتتجه نحو تنقيتها بطرد وهزيمة كل الاحباطات التي تواجهنا لأن السلام هو مصالحة مع الله ومع الآخرين، وفي هذا العيد يتطلب منا الاستعداد لقبول الغفران والشفاء الإلهي وبفرح سماوي لنستقبل طفل المغارة بقلوباً نقية محتفلين بسر تجسده بيننا. فمن فرح الميلاد إلى مجد القيامة، حيث أن الله لم يكتفي بأن يحل بيننا ويتجسد بصورة إنسان بل على العكس، محبته فاقت كل وصف، حيث أحبنا وبذل إبنه الوحيد ذبيحة كفارية عن خطاينا على الصليب المقدس ليهبنا الحياة الأبدية، وهنا بين لنا السيد المسيح عظمة محبته باحتماله كل ذلك الآلام والعذاب على الصليب من اجل كل إنساناً على هذه الأرض، فبصليب أراد المسيح أن يصالح الله مع البشر، فالله الظاهر بالجسد هو السلم الذي يصل بين الأرض والسماء، وبعد كل ذلك قام وأعطانا حياةً دائمة وجديدة. وسؤال هنا، هل نحتفل بالميلاد مرة واحدة كل عام؟ يجب علينا أن ندرك أن المسيح حاضراً دائماً وأبداً في سر القربان، فميلاده في مدينة بيت لحم ليس صدفة "وأنت يا بيت لحم، أَرض يهوذا لست أَصغر ولايات يهوذا فمنك يخرج الوالي الذي يرعى شعبي إسرائيل"، فبيت لحم معناهُ بيت الخبز، من المغارة تجسد إله السماء إنساناً لنراه حاضراً دائماً وأبداً في سر القربان أي كما تجسد الله في مغارة بيت لحم، يتجسد كل يوم نقوم بالذبيحة الإلهية في القربانة الصغيرة التي نتناولها لنولد مع المسيح من جديد. إذن المغارة والقبر، هما كنيستُنا ندخل إليها لنلتقي يسوع كل يوم على المذبح قرباناً؛ إلهاً حيّاً حاضراً بيينا في ملء الزمان ومعطيَ لنا الحياة، وها هم رعاة الكنيسة يعلنون لنا كلمة الله في كل يوم، ويقدّمون إلينا كأس الخلاص وخبز الحياة؛ ونحن اليوم كالمجوس والرعاة والمريميات نحمل تقادمنا إلى الله لنصبح بدورنا قرباناً حياً، فالتجسد والخلاص والإفخارستية (الذبيحة الإلهية) ثلاثة أسرار لا يمكن فصلهم عن بعض في إيماننا المسيحي، كلّ مرّة تقام الذبيحة الالهية، إعرف أنّك تعيش سرّ التجسّد والفداء، إعرف أنك تعيش الميلاد والصليب والقيامة، فهو الذي قال: من أكل جسدي له الحياة الأبديّة؟ فالميلاد والقيامة حدث مستمرّ، نعيشهما كل يوم كلّما اشتركنا في سرّ القربان (الإفخارستية)، فمن فرح الميلاد نتأمّل الله المتجسد في مذود تنازل وصار مثلنا وسكن بيننا، ويعطي لنا حباً وسلاماً لجميع البشر إلى عظمة القيامة بعد سر الفداء الذي تجلى على الصليب ليعطي لنا الحياة. يا طفل المغارة، أغمر قلوبنا بالسلام والمحبة، إمنح السلام في كل البلاد وخاصة في شرقنا المتألم، الذي مسّه إبليس بشرّه وجعل منه مكان تسود فيه الثورات الدموية والحروب والإرهاب، إحمي كنيستك وأبناءك من كل الإضطهادات المنتشرة في هذا العالم الفاني، وإجعل فينا بساطة الرعاة ولهفة المجوس، ولا تجعلنا كهيرودوس قاتل الأطفال فالذين على شبهه كثر في هذا العالم، وإزرع في قلوبنا المحبة والتسامح والرجاء، لتكون قلوبنا مغارةً لميلادك ولكي نستطيع أن نواجه صلبان ومصائب هذه الحياة، ونطلب من مريم عذراء شفاعتها الدائمة بالصلاة من أجل هذا العالم، ليعم السلام على الأرض كلها بميلادك أيها القدوس.