موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٣ أكتوبر / تشرين الأول ٢٠٢٠

فَتُثمِروا ويَبقَى ثَمرُكم

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
فَتُثمِروا ويَبقَى ثَمرُكم

فَتُثمِروا ويَبقَى ثَمرُكم

 

الأحد السّابع والعشرون من زمن السنة-أ

 

أَيُّها الإخوةُ والأخوات الأحبّاء في المسيحِ يسوع. إِذا أَمعَنّا النّظرَ في الأناجيل الّتي قُرِأَت خلالَ الأحَدَين الماضِيَين، بالإضافة إلى هذا الأحدِ أيضًا، نَجِدُ رابِطًا مشترَكًا يجمَعُها معًا، حيثُ أنَّ جميعَ هذهِ القراءاتِ الإنجيليّة تتحدّث عن أمثلةٍ تدورُ أحداثُها حولَ قصّة (الَكَرْم). ففي إنجيل الأحدِ الخامسِ والعشرين، قَرَأنَا عن سَيّدِ الكَرمِ الّذي خرجَ لِيَستَأجِرَ عَمَلَةً يَعملونَ في كَرمِه. وفي إنجيلِ الأحدِ السّادس والعشرين، قَرأنا عن الأبِ الّذي طَلَب مِن ابنَيهِ الذّهابَ لِلعَمَلِ في الكَرم. ثمّ في إنجيل هذا الأحد السّابع والعشرين، نقرأُ مَثَلَ الكرّامين القَتَلة، الّذينَ عَاثوا في الكَرْمِ فسادًا وخَرابًا وَتَقتيلًا. حتّى بلغَ الأمرُ بِهم إلى قَتلِ الوارِثِ نَفسِه! وهي صورةٌ استخدَمَها المسيحُ لِتَدلَّ على رَفض اليهود له، الّذي وصلَ حدَّ الإعدام صَلبًا.

 

وإذا كانت جميعُ هذهِ القراءاتِ الإنجيليّة تدورُ حولَ موضوع الكَرم، فهي كذلِكَ تدور حولَ موضوع الخلاص. فَرَأينَا أنَّ العَمَلة والابنَينِ والكرّامين، جميعهم يمثّلونَ من ناحية شَعب إسرائيل، أولئِك الّذين كانت لهم المواعِد والنّبوءاتُ، ومنهم الآباء والأنبياء والمسيحُ بطبيعتِه البشرية. ومِن ناحية أُخرى يمثّلون أيضًا جميع الشعوب، فالمسيح أتى فاديًا ومخلّصًا لكلِّ بَني البَشر.

 

وفي نفس الوقت، نَستَنتِجُ من خلالِ هذهِ الرّوايات الإنجيليّة، أنَّ شعبَ إسرائيل بشكل عام، كان في عِداد الرّافضين والجاحدين للمسيح ولرسالتِه وللإيمانِ بِه، إلى أن قتلوه سعيًا منهم للقضاءِ على أَيديولوجيّته والاستيلاءِ على ميراثِه. ليسَ ذلِك فَحسب، بل هم شعبٌ ضَلَّت قلوبُهم (مزمور 95)، فدَاوموا على رَفضِ الأنبياءِ وَنَبذِ رسالتِهم. وها هو المسيح يُخاطِبُهم قائِلًا: "الويلُ لَكم أيّها الكتبةُ والفرّيسيّون المُراؤون. فَأنتُم تَشهَدونَ على أنفُسِكُم بأنّكم أبناءُ قَتَلَةِ الأنبياء" (متّى 29:23-31). لِذلكَ، مَثَلُ اليوم يا أحبّة، يَصِفُ بِشكلٍ مُوجَز، تاريخَ شَعبِ إسرائيل (الدّموي) مع الرّسالة الإلهية، بلسانِ عبيدِه الأنبياءِ، وصولًا إلى الابن المسيح نفسِه.

 

ومِن شعب إسرائيل، اِنتَقَلَت البُشرى لسائِر الأمم، أي إلى الكرَّامين الآخرين، كما يصِفُهم المسيح في مَثَل اليوم. أولئِك الّذين قَبِلوا الرّسالة، وصانوا وديعةَ الخلاص والإيمان، وعَمِلوا في كَرم البشارة والكنيسة بكلِّ أمانَة. ومغزى ذلك أن أمامَ رسالةِ الله ودعوتِه هناك دومًا إجماعٌ على الانقسام! هناكَ مَع وهناك ضِد. هناكَ قبول وهناكَ رَفض. هناكَ إيمانٌ وهناكَ جحود.

 

ولكِن يا أحبّة ما يهمّني أكثر، هو ما وردَ على لسانِ يسوع حينَ قال: "الحجرُ الّذي رَذَلَهُ البنّاؤون، هو الّذي صارَ رأسَ الزّاوية". أَتَعلَمونَ قصّةَ هذا الحجر؟ يُقال أنَّ البنّائينَ في غَمرةِ بنائِهم لهيكلِ سُليمان في القدس، وَجدوا حجرًا كبيراً، فاعتقدوا أنَّ هذا الحجرَ الضّخم لا يصلُح لشيء، فَنَبَذوه. ولكنّهم بعدَ حين، وَجَدوا أنّهم بحاجة إلى حجر يجمعُ بينَ حائطين عَالِيَين، فلم يجدوا أفضلَ من هذا الحجر، ليكون رأسًا للزاويةِ يجمعُ بينَ البِنَائَين.

 

هذه الآية الّتي قِيلَت في حَجر مادّي، أَخذت معنى خلاصيًّا أوسع وأشمل في شخصِ يسوعَ المسيح. فهو الحجرُ الّذي احتقرَه اليهودُ ورؤساؤهم وَرَذَلوه، وهو الّذي صارَ أساسَ الكنيسة ورأسَ الزّاوية ونقطةَ الارتكاز والجسَر الرّابط بين عَهدي الخلاص، القديمِ والجديد، وهو الّذي يجمعُ بصلبِه وقيامته جميع الشّعوب، إذ جعلَ من الجميع شعبًا واحدًا، وهدمَ كلَّ الحواجز المقامَة بين النّاسِ والأمم.

 

الحجر الّذي رذَله البنّاؤون صار رأس الزّاوية! يا تُرى، كم من حجارة في رَعايانا نَنبِذُها ونَحتقِرُها ونَزدريها؟ كَم من الأشخاص نستخفُّ بهم ونستعلي عليهم؟! ثمَّ نكتشِفُ أنّ الّذين نَبذناهم ورَذلناهُم، قَد نالوا النّصيبَ الأوفر ولن يُنزعَ منهم (لوقا 42:10).

 

في كلَّ رعية تجدُ أفرادًا مُصابينَ بداءِ الكبرياء وليس الكورونا! يَعتقدونَ أنّهم رأس زاويةِ الكنيسة، وأنَّ شؤون الرعية لا تسيرُ إلا بهم وبأهل بيتِهم، ويتصرّفون على هذا الأساس! كبرياءٌ ضاربُ الأطناب مستفحِلُ بشراسة! يا أخي ويا أختي، للبيتِ ربٌّ يَحميه ويُعنى بشؤونِه، والرعيةُ تسير والكنيسة تَمضي، فيك ومعك وهو أفضل، ودونك أيضًا سوف تسيرُ وتمضي. فالكنيسة لا تقوم على أحد دون آخر. والأمر ليس متوقّفًا عليكَ ولا عليكِ ولا على الكاهن ولا على الرّاهبة، فهي ليست كنيسة أفراد، بل كنيسة جماعة. ومن يعتقد أن الكنيسة لا تقوم ولا تسير إلّا بِه أو بِها، فهو مُخطئ للغاية. بالعكس قد لا تكون حجرًا للزّاوية، إنّما عصًا في الدّولاب، يؤخّرُ المسير ويُعرقِلُ المسيرة!

 

لِذلِك ننتقل مباشرة إلى الآية الّتي تتبَع، حيث يقول المسيح: "إنَّ ملكوتَ الله سيُنزَعُ منكم، ويُعطى أمّةً تجعلُه يُخرِجُ ثمرَه". الآية قاسية جدًّا لِلّذي يُجيد فَهمَها! الرّعية ليست مُلكًا حَصريًّا لأحد، والكنيسةُ ليست حقًّا لأحد. وإذا كان الاعتقادُ السّائد عند البعض، أنَّ قرشًا أو ألفًا تبرّعت بها لصالحِ الكنيسة، قد ضَمِنَ لي حقًّا أزليًّا فيها، فهذه الطّامة الكبرى والمصيبة العظمى، لأنَّ لا أحدَ يقدر أن يتمنّن على الله، ولا أحد يستطيع أن يدّعي أنه فضّل على بيتِ الله. فالله يُفضّل على الجميع، ولا أحدَ يُفضّل عليه.

 

وما يُعتقد أنّه مُسَلَّمَات دَهريّة، قد يأتي وقت تتغيّر فيه الأمور، وتنقلبُ فيه الموازين. ومَن كان يظنُّ أنّ الرعية له وَلِنسلِه من بعده، فليُمعِن النّظر مرّة أخرى في هذه الآية، إذ لا اعتراض ولا تعديل ولا مُزَاوَدَة، على كلام المسيح، بل هو واضحٌ أشدَّ من وضوحِ شمس آب! وكما تقول العرب: (لَو دَامَت لغيرِك، لَما وَصَلت إليك)!

 

اِنتزاعُ الملكوت أو الرّسالة من شعب إسرائيل، استنادًا على قول المسيح، كان لأنّهم لم يثمِروا الثّمرَ الجديرَ به، والّذي أرادَه اللهُ منهم، بل على النّقيض من ذلك، هم أَساؤوا إلى الملكوت والرّسالة كثيرًا، وكانوا عِجافًا جفافًا. في كنائِسنا وفي رعايانا، يُفترضُ بنا أن نُثمر ثمارًا طيّبة على أنواعِها، تُفيد البُنيان بأكملِه. والغريب هو أن نستغربَ، عندما نفقِدُ هذا الواجب قبل أن يكون حق، لأنّنا لم نلتزِم به كما يجب. فالرّعية إن لم تجد ثَمرَها في أبنائِها وبناتِها، ستبحثُ عنه في أُناس أُخر، يؤدّون الثّمر في وقته. ولَنا في ذلك أمثلة ومواقِف.