موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ١٨ مايو / أيار ٢٠١٦

في مدرسة يسوع، مريم للثالوث الأقدس

بقلم :
حنا ميخائيل سلامة نعمان - الأردن

نبعٌ روحيٌ إرشاديٌ أحْسَبُ أنَّه سيُغير حياتكم ويقود خُطاكم "إلى ما هو حقٌ ونورٌ وحياة". وفي الحقِّ أنِّي شعرت بقوةٍ خَفيَّةٍ دفعتني لأُجري قلمي فيه، بعد أن فتح أمامي آفاقاً روحيةً أخذتُ أرتوي مِنها بصمتٍ وتأمُّل. والنبع هو الكتاب المُعَنْوَن: "في مدرسة يسوع، مريم للثالوث الأقدس، راهبة الكلاريس في القدس الشريف" لقد أجزل العطاء كعادتِه سيادة المطران الدكتور سليم الصائغ الجزيل الإحترام بتفضُّلِه بترجمة هذا الكنز الروحي من اللغة الإيطالية إلى العربية مُسلِّطاً الضَّوء عليه وعلى الشُّعاع الروحي المتدفق مِنه. يقول في مَعرِض تقديمه للكتاب "إنَّ الغنى الروحيّ الذي يتميزُ به هذا الكتاب يُفيد كل النفوس التي تريد أن تحيا بالمسيح ومعه وفيه مهما كانت دعوتها ومهما كان مكانها في المجتمع". لقد تابع سيادته وراجع كل ما يتعلق بسيرة حياة الراهبة مريم للثالوث الأقدس، وعلى جوهر دعوتها ورسالتها وما تلقَّت مِن إرشادٍ روحيٍ وما سَطَّرت بخط يدها في مُذكراتها التي في الأصل باللغة الفرنسية. وقد تبَدَّى هذا من المقدمة الشاملة التي جاءت في ثلاثٍ وأربعين صفحة جعلها مُستهلاً للكتاب لِتكشف معالمه وتُبيِّن ما يجدرُ التوقف عنده لِجَني ثِماره. إن سيرة حياة مَن: "التَقَت يسوع في قلبها، قلبها الروحي، وبإرادتها فتحرَّرت" وما تلقته مِن تعليمٍ وإرشادٍ نحنُ غايتُهُ.. يستحق أن يُعمَّمَ وأن يكون موضع اهتمام مَعشر المؤمنين والباحثين عن الحقّ، في زمنٍ يتزايدُ فيه الفتور الروحي على نحوٍ غير مسبوق! لقد تلقت الراهبة مريم للثالوث الأقدس "المُنتقلة برائحة القداسة" دعوتها من السيد المسيح مباشرة حين خاطبها قائلاً: "أنا أفتِّشُ عن قلبٍ يُحبُّني دون حدود، وعن إرادةٍ تذوب في إرادتي، وعن نَفْسٍ مُتجرِّدةٍ عن ذاتها كي يملأها روحي ويملِك فيها، فهل تُريدين أن تكوني هذا القلب وهذه الإرادة؟ فأطاعت مشيئته، وكانت القلب والإرادة والنفس التي أرادها". "كان يُعلمها وخاصة في أوقات الصلاة في الكنيسة، بكلامٍ أو دون كلام، ليس باللسان والصوت المسموع، بل مخاطبةً صامتةً ومناجاةً تخترق عُمق أعماق ذاتها" كانت تُصغي إليه وتشعُر بوجوده قربها، ومراقبته ومتابعته لما كانت تُدَوِّنُه، بل ويُذكِّرها أيضاً بما قد تكون سَهَت عنه. ولأن "الطاعة تُبدِّد الأوهام"، والطاعة هنا طاعة الكنيسة ومرشدها الروحي وبأمرٍ وتشجيعٍ من المسيح نفسِه "أن لا تخاف مِن ضعفها فرحمته تُبدِّد ضعفها"، أطلعَت مرشدها الروحي على الدعوة التي كُلِّفت بها فأمرها مُشجِّعاً بتدوين ما تتلقاه. "لقد أكد السيد المسيح لِمراتٍ أنَّه هو الذي يُكلمها، وأنه يُكلِّم النفوس كُلها، لكن ليست كُلّ النفوس تَفهمه، لعدم إصغائها له وانشغالها بصوت العالم". كما أخبرها "أن شرط سَماع صوتِه هو اللجوء للصَّمت العميق وعدم الإصغاء للأصوات الأخرى.. والتحرُّر من كل ما يُشْغِل ويُلْهي.. وأن تُحبه النفوس أيضاً بالروح والحق وأن تثبُت على الحق دائماً". لقد أصغت الراهبة مريم للثالوث الأقدس للصوت الإلهي، وفهمت أنَّ "الصَّمتَ لغة الله، وأنَّه صلاةٌ في القلب، وبالصَّمت والتضحية تنتصرُ الروح" كما علَّمها ألواناً كثيرة من دروس الحياة الروحية "وأن تكون سَخية غيورة على خلاص النفوس، وأن تنتصر دوماً على الشَّر بالخير". "إن الدعوة إلى بذل حبٍ أعظم قد يتطلب حياة مكرسة" هذا ما ورد في مُذكِّرات "لويزا جاك" المولودة سنة (1901) في جنوب إفريقيا حيث كانت إرسالية والدها القَسّ البروتستنطيّ من أصلٍ سويسري. ولِبذل حُبٍ أعظم صَوَّبَت نظرها - بعد تحوُّلها إلى الكاثوليكية - شَطرَ ما تَمنَّت وهي الحياة الرهبانية، فدخلت دير راهبات الكلاريس في القُدس لِتُكرِّس نفسها للمسيح الذي خاطبها "لقد جئت بك إلى اورشليم لكي تصعدي معي إلى الجلجلة حيث صلبوني بقوة". لن أخوض هُنا في تفاصيل حياة الراهبة مريم للثالوث الأقدس فقد وردَت بين دفتي الكتاب الذي غطَّى جميع المراحل والظروف والمنعطفات التي مرَّت بها، مُذ رحلت والدتها عن العالم بعد أسبوع من ولادتها، فرَعتها العناية الإلهية ورافقت درب حياتها، فَتَحلَّت بتقوى كبيرة، يُلازمُها الكتاب المقدس تقرأ فيه وتتأمَل بصمتٍ، تقول: "تعلمتُ أن أصَلِّي وبعد أن أصلِّي أشعرُ أنني أقوى مِن قبل بينما كنت قبلاً ضعيفة جداً". وفي صِباها كانت تبحثُ عن المطلق من خلال الصمت والعزلة وتجتهد في الوصول إلى عُمق الأشياء وإلى إعطاء حياتها معناها الكامل، تخدم وتكونُ مستعدةً لِخدمة الآخرين". عاشت نحو أربعة عقودٍ من الزمن مُمْتَثِلةً لقول المعلم الإلهي لها "أنا هو، أنا الذي يُكلِّمُك، اتَّبِعي الخطَّ الذي رسَمته لكِ فهو يقودُك قريباً جداً إلى بيت الآب". "القربان سِرُّ حُبِّ الله للبشر" وعليه يُعِيد السيد المسيح مؤكِّداً الحقيقة السَّاطِعة وهي وجوده في سرِّ القربان: "وجودي حقيقي ٌ في سِرِّ القُربان". وفي مُخاطبة أخرى يقول "أنا في البرشانة بصمتٍ كاملٍ وبصبرٍ كاملٍ، أجذب النفوس وأعطيها ذاتي وأدخُل في حياتها". وتجيء رغبته الشديدة بأن تُكرَّس النفوس لنذر الذبيحة، وأن تلتزمَ به، فهو يدعوها وينتَظِرها لهذا النذر الذي ينقي النفس وبه ستتغير المجتمعات ويعادُ بناؤها". ويُضيف "إني أرغب في أن تعرف النفوس أنها من خلال نذر الذبيحة تدخل في إتحادٍ معي وأنها تتشبه في حياتي الافخارستية"، "أُريدُ أن يُعمَّمَ نذر الذبيحة في كلّ مكانٍ في العالم وبين الناس كلِّهم"، "أريدُ جيشاً عرَمْرَمَاً من النفوس المُضَحِّية التي تحمل رسالتي في حياتي القربانية فتلتزم بنذر الذبيحة، وتتخذ الطرق ذاتها التي اخترتها أنا، ألا وهي الصَّمت، والتضحية، وانتصار الروح لكي ينتشر روحي". وإذا عُدنا لِمُقدمة الكتاب نجدُ شرحاً مُفصّلاً لماهية النذر وآلية الوفاء به والمحافظة عليه طيلة حياتنا، ومنها: "الإنتقال إلى الكنيسة فعلياً إذا كان ذلك ممكناً وبالروح وعن بُعد.. مِن البيت والسجود للقربان ربع ساعة في اليوم.. إنَّه التقاءٌ مع يسوع في سِرِّ حُبِّه في سِرِّ القربان والتعلم على مُناجاته بصمتٍ والإصغاء له والاقتداء بحياته الإفخارستية والتضرع من أجل الخطأة والمنازعين والنفوس المطهرية ..". وكذا الحال عند تلاوة صلاة الصباح والمساء.. والمواظبة على سرِّ التوبة والمشاركة بسرورٍ في ذبيحة القداس اليومية.. وأن نجعل من يسوع في القربان مِحوراً حقيقياً لحياتنا، إليه نوجِّه كل كبيرة وصغيرة مِن أفكارنا وحياتنا، وبين يديه نضع سفينة حياتنا ليكون هو رُبانها فنطمئن إلى المصير". إن الإضاءَةِ الخاطفة هذه على الكتاب لا تُغني عن قراءتِه، لِمَا احتشد فيه مِن الدُّرَر الروحية والتعليمية وَحَسْبي التوقف عند هذه الوَمَضات التي تلقتها الراهبة مريم للثالوث الأقدس: "إني أُصدِر أوامري إلى عناصر الطبيعة بكل قوة، صوتي يرِنُّ فيها وإرادتي مُنطبعةٌ فيها، ولكني لا أُصدر أوامري إلى النفوس، بل أطلُب منها لأنني أنا خلقتها حُرَّةً وحيثُ أجِدُ الاستعداد لسماعي فإنِّي اتكلمُ". "إنَّ الشرَّ الذي يُسبِّبُه العدو يُستَغل أيضاً لتمجيد الله.. الشَّر لا يدومُ إلى الأبد.. الشَّر يُدمِّر أعماله بذاته.. أنا غلبتُ العالم". "ليست الخطايا هي التي تُسِيء إلى طُهرِكم، بل هو الكبرياء الذي مراراً يرفُض الإقرار بالخطايا". "الأمم ترفضني.. أنا مرفوض في كل مكان ومع ذلك فإنَّ كلامي لا يزول وعملي سَينتصر في كل مكان". "أنا هو الكائن.. أنا الحقّ والحقيقة". ولأنَّهُ "رَجُل الأوجاع" كما وصف ذاته لها، نراه يَحُثُّنا: "عزُّوا المرضى بروح الإيمان"، "النفس التي تمجِّدني بالأكثر ليست النفس التي تتألم بالأكثر، بل النفس التي تُحول كل آلامِها إلى حُبٍ وفرحٍ، حتى المضايقات الصغيرة والفشل في الأمور الصغيرة. إن حبها هذا يُمجِّدني هُنا على الأرض". وعن القيام بأفعال الخير والرحمة سِراً وليس علانيةً يقول: "عليكِ إخفاء الخير الذي تعملينه وتُقدِّمينه"، ومُوصِياً أيضاً "أن تكون أعمالها السَّخية دون أن يُلاحظ أحدٌ ما تقوم به كي لا تُمَجَّد مِن بَشَر"، كما وحذَّر قائلاً: "عليها أن تخدم وتُعطي دون أن تتصرف بطريقةٍ تُظهِرُ أنه لا غِنىً عنها على مثال مريم ويوسف". ويدعونا المعلمُ الإلهي من خلالها للإنتصار على الخوف وتبديد القلق "فنحنُ نخُصُّه".. "المستقبل لي فَمِمَّا تخافين.. أنا الحكمة الإلهية.. أنا أُحَوِّلك للأفضل..". كما يدعونا للإستعداد فهو ينتظِرنا.. "الاستعداد.. الاستعداد.. بالصلاة، بالطاعة، بالإصغاء، بالعفة في الكلام، بالفقر، بالبساطة، بالتجرد عن الذات، بالتطهر من الأدران والتوجه لِسِرِّ التوبة بكل محبة، بالمناولة ونذر الذبيحة". بقي تقديم الشكر والعرفان لسيادة المطران د. سليم الصائغ مدَّ الله في عُمُره على جهوده وسهره على ترجمة هذا الكتاب وإبرازه للنور لِنقطف منه الثمار الروحية التي تقودُنا إلى الخير الأسمى...