موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأحد، ٢٢ مارس / آذار ٢٠٢٠

فيض الصلاة يهبُ قوة الإيمان

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
هكذا يحثنا السيد المسيح على الصلاة الدائمة بلا ملل، النابعة عن الإيمان بالله، مستجيب الصلوات

هكذا يحثنا السيد المسيح على الصلاة الدائمة بلا ملل، النابعة عن الإيمان بالله، مستجيب الصلوات

 

مثل القاضي الظالم (لوقا ١٨: ١-١٤)

 

سبق وأعلن الرب يسوع أنّ "الصليب" هو طريق الملكوت، ويجب على إبن الإنسان أن يتألم ويموت ويقوم من بين الأموات ليملك معنا.

 

هكذا يجب أن تتألم كنيسته وتحمل صليبه وتنتظر مجيئهُ الثاني.

 

ربما نتسأل: كيف يمكننا أن نحمل الصليب ونقبل الآلام بفرح من أجل الملكوت؟

 

وقد جاءت الإجابة من السيد المسيح نفْسَهُ: "صَلُّوا ولا تَملّوا، اسألوا تُعطوا، أُطلبوا تَجِدوا، إقرعوا يُفتح لكم، لأنَّ كُلّ من يسأل ينال، ومن يَطلُبُ يَجِد، ومن يَقرَع يُفتَحَ لَهُ" (لوقا ١١: ٩-١٠).

 

في إنجيل اليوم، قدَّم لنا السيد المسيح مثل الأرملة والقاضي الظالم ليحثنا على الصلاة الدائمة، قال: "كان في إحدى المُدُنِ قاضٍ لا يخافُ الله، ولا يهابُ الناس. وكان في تلك المدينةِ أرملةٌ، تأتيهِ فقول: أَنصِفني من خَصمي. فأبى عليها ذَلِكَ مُدَّةً طويلة، ثُمَّ قال في نفسه: أنا لا أخاف الله، ولا أهاب الناس، ولكن هذه الأرمَلة تُزعِجُني، في أنصِفُها لِئَلاَّ تَظَلَّ تأتي وتَصدعَ رأسي". ثُمَّ قال الرب: "اسمَعوا ما قالَل قاضي الظالم. أَفما يُنصِفُ اللهُ مُختاريهِ اليينَ يُنادونَه نهاراً وليلاً وهو يَتَمهَّلُ في أمرهِم؟" أقولُ لكم: إنَّه يُسرِعُ إلى إنصافِهم ولكِن، متى جاء ابْنُ الإنسان، أفَتُراه يَجدُ الإيمانَ على الأرض؟" (لوقا ١٨: ٢-٨).

 

يشرح لنا القديس اوغسطينوس هذا المثل قائلاً: "هكذا يحثنا السيد المسيح على الصلاة الدائمة بلا ملل، النابعة عن الإيمان بالله مستجيب الصلوات، لذا يعلن أنه في أواخر الدهور إذ يجحد الكثيرون الإيمان وتبرد المحبة تتوقف أيضًا الصلاة، فيفقُد الإنسان صلته وصداقته مع الله. هذا هو ما عناه بقوله "أفَتُراه يَجِدُ الإيمانَ على الأرض؟"، مُعلناً حزنه على البشرية المحرومة من الصداقة الإلهية.

 

هذا الفصل من الإنجيل المقدس يعلمنا الالتزام بالصلاة والإيمان، وبعدم إتكالنا على ذواتنا بل على الرب.

 

أيُّ تشجيع على الصلاة أكثر من مثل القاضي الظالم المُقدم لنا؟ فإن القاضي الظالم وهو لا يخاف الله ولا يهاب الناس، إلا أنه يُصغي إلي الأرملة التي تسأله، مغلوباً بلجاجتها وليس باللطف. إذا كان قد سمع طلبتها ذاك الذي يكره أن يسأله أحد، فكم يسمع لنا نحن ذاك الذي يَحثُنا أن نسأله؟

 

يُعلمنا الرب أنه "ينبغي أن نُصلي كل حين وبلا ملل" ويُضيفُ قائلاً: "ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض؟". إن سقط الإيمان بطلت الصلاة، لأنه من يصلي لمن لا يؤمن به؟ لذلك عندما حث رسول الأُمَم القديس بولس على الصلاة، قال: "لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص" (رومة ١٠: ١٣). ولكي يظهر أن الإيمان هو ينبوع الصلاة أكمل قائلاً: "فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟" (رومة ١٠: ١٤).

 

كي نصلي يلزمنا أن نؤمن ولكي لا يضعف ذلك الإيمان الذي به نصلي فلنصلِ. الإيمان يفيض صلاة، وفيض الصلاة يقوي الإيمان. أقول، إن الإيمان يفيض صلاة، وفيض الصلاة يهب قوة الإيمان عينه. فلكي لا يضعف الإيمان أثناء التجربة قال الرب: "اسهروا (قوموا، انهضوا) وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة"…

 

ماذا يعني "تدخلوا في تجربة"؟ هذا يعني أن لا نترك الإيمان؟

 

فالتجربة تشتد برحيل الإيمان، وتنتهي بنمو الإيمان… ولكي تعرفوا أيها الأحباء بأكثر وضوح أن الرب بقوله: "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة" يقصد ألا يضعف الإيمان ويهلك، يقول في نفس الموضع في الإنجيل المُقدّس: "هوذا الشيطان قد طَلَبكُم ليُغَربِلٓكُم كما تُغَربَلُ الحنطة، ولكني دَعَوتُ لك أَلاَّ تَفقِدَ إيمانك. وأنتَ ثَبّتْ إخوتكَ متى رَجٓعْتَ" (لوقا ٢٢: ٣١-٣٢). ذاك الذي يحمي إيماننا يصلي! أفلا يصلي ذاك الذي يتعرض للخطر؟

 

في كلمات الرب: "ولكن متى جاء ابن الإنسان أفَتُراه  يجد الإيمان على الأرض؟ الرب يسوع يتحدث عن الإيمان الكامل، إذ يكون نادراً على الأرض بسبب فتور المحبّة.

 

تُبنى الحياة الروحيّة على الصلاة، وتنطلق منها، كما توصل المؤمن إلى عيش حياة روحيّة مُفعمة بالطهارة ونقاوة القلب والضمير، واللقاء المباشر مع الله.

 

لا يمكننا أن ننسى بأنّ يسوع المسيح، كان يصلّي، لأنّ الصلاة كانت محور حياته. كان يصلّي لأبيه في الإصغاء والعزلة. كان يحيي الليل كلّه في الصلاة. واتّسمت صلاته بطابع الحمد والشكر والثقة، وتسليم الذات. "ذهب إلى الجبل ليصلّي، فأحيا الليل كلّه في الصلاة لله". كان السيد المسيح يعمل إرادة أبيه "أن أعمل أعمال مَن أرسلني"  (يوحنا ٩: ٤). كانت صلاة يسوع، مشاهدة للآب وجهًا لوجه. من هنا، دعا يسوع إلى ضرورة ممارسة الصلاة، بإيمانٍ وتواضعٍ، وبثقةٍ وبساطة، وربطها بالعمل، وتتميم إرادة أبيه وتعاليمه "ليس مَن يقول لي "يا ربّ، يا ربّ" يدخل ملكوت السموات. بل مَن يعمل بمشيئة أبي الذي في السموات"، وأكّد يسوع على أهميّة الصلاة المشتركة، وعمق فعاليتها. "إنّ الصلاة علاقة محبّة بين الإنسان والله. إنّها حوار محبّة. إنّها تلبية محبّة لنداء الله المحبّ… وايضًا هي أن نكون مع الله".

 

يحتاج المؤمن في حياته اليوميّة والمسيحيّة خاصةً، إلى اللقاء بالربّ يسوع، من خلال الصلاة. فهي التواصل المستمرّ، مع الخالق والدخول في حياة السيّد المسيح، من خلال الحوار المباشر معه، المُعبَّر عنها بالتأمّل، والصمت والتراتيل، والمناجاة والعبارات، والألحان والسجود، والطلب والشكر والتمجيد. فالصلاة تعبير عن الإيمان والمحبّة والرجاء، أي أن نقبل عطيّة الله ونعمهُ.

 

تساعد الصلاة المؤمن، على التعبير عن حياته، برغباتها وصعوباتها وأفراحها، كما على شكره لحضور الله في داخله." ليست الصلاة في الأساس تمرينات، بل هي روح، وديناميّة حياة أساسيّة، ومناخ معيّن للنفس". "ففي التأمّل، وفي كلّ صلاة أخرى، نحن مدعوّون إلى أن ندع الله يحبّنا، وإلى أن نختبر محبّته ونتذوّقها، كما أنّنا مدعوّون إلى أن نعبّر له عن محبّتنا".

 

الحياة الروحيّة هي إنسجام بين الصلاة والحياة اليوميّة. فهي ترفض الإزدواجيّة بين ما يصلّيه الإنسان وما يعيشه ويطبقه بالأعمال.

 

هل هذه الإزدواجيّة متأتيّة بسبب عدم الوضوح والضعف البشريّ ؟ أم بسبب قلّة الإيمان والشكّ والقناعة؟

 

"أيّها الربّ يسوع المسيح، ارحمني أنا الخاطئ". تدفع الحياة الروحيّة المؤمن، إلى أن تُصبح حياته صلاة عميقة وثابتة، وصلاته حياة مقدّسة وطاهرة". نحن نحتاج وقتاً لنكون وحدنا مع الله… إنّ الصلاة يجب أن تكون نوعيّة حياة، تتيح لنا أن نجد الله في كلّ شيء وفِي كلّ زمانِ ومكان".

 

تجعلنا الحياة الروحيّة، على مثال الربّ يسوع، من خلال الروح القدس، وبواسطة الصلاة، كما في شهادة الحياة، أبناء لله بالتبنيّ فننادي بثقة كاملة: "أبّا"، "يا أبتِ" والدليل على كونكم أبناء أنّ الله أرسل روح ابنه إلى قلوبنا، الروح الذي ينادي "أبّا"، "يا أبتِ" (غلاطية ٤: ٤-٦).

 

إنّ الروح، وهو مرسل كالآب، بالصلاة يُثبّت وضعنا، في صميم كيانه، ويُثبّت حياتتنا الجديدة بالمسيح يسوع.

 

+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك