موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ٢٧ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

فمَن يَفصِلُنا عَن مَحبَّةِ المسيح؟

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
كرزة الأحد 13 من زمن السنة: فمَن يَفصِلُنا عَن مَحبَّةِ المسيح؟

كرزة الأحد 13 من زمن السنة: فمَن يَفصِلُنا عَن مَحبَّةِ المسيح؟

 

أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيحِ يسوع. نَحنُ في الفصلِ العاشر من إنجيلِ القدّيس متّى البشير. وفيهِ المسيحُ يُخاطِبُنا بِبعضٍ منَ الآياتِ المفاجِئة أو الصّادِمة بالأحرى. آياتٌ تحمِلُنا إلى التّعجّبِ والذّهول! "من أحبَّ أباه أو أمّه، ابنَه أو ابنَتَهُ أكثرَ منّي، فَليسَ أهلًا لي"! أَترى المسيحُ يدعونا لبُغضِ الوالِدين، لِكَراهية البَنين؟! إنَّ الّذي دَعانا في الوصايا العشرة إلى أَنْ "أكرِم أباكَ وأمَّكَ" (خروج 12:20)، لا يمكِنُه أَنْ يَدعونا الآن إلى بُغضِهم ونبذِهم، أو إلى رَذلِ وكُرهِ فَلذات الأكباد.

 

وحتّى نَفهم معنى هذهِ الآيات، لا بدَّ لنا من الرّجوع قليلًا إلى الآياتِ السّابقة، لكي نأخذَها في سياقِها العام. حيثُ يتحدّثُ المسيح عَن العَداوة الّتي ستقوم ضِدَّ الإيمان والمؤمنين به. فالإيمانُ بالمسيح سَيلقى رفضًا كبيرًا، وأتباعُه سيُحاربونَ وسَيلقون مقاومةً من كثيرين. لذلك هو يتحدّث عن السّيف، أي عن فتراتِ الشّدة والمحنة والاضطهاد، الّتي ستلحق بأتباعِه، الّذين سيُعانون كثيرًا من أجلِ اسم يسوع. ومِن جُملة أولَئِكَ المقاومين والمعارضين، بل مِن ضمن أعداءِ المؤمن أيضًا "أهلُ بيته" (متّى 36:10).

 

فَإبّان أزمنةِ الاستشهاد، خاصّةً في القرونِ الأولى للمسيحية، كانَ الحكّامُ والأباطرة يستخدمون أهلَ البيت، وسيلةً للضّغط المعنوي والنّفسي على المؤمن. يستخدمونَهم كورقة رابِحة أو كطُعم، لِيُسقِطوا المؤمن في فخِّ الجحودِ وترك الإيمان، مِن أجلِ اهل بيته. لذلِك المسيح يتحدّث ضمنَ إطار غير طبيعي واستثنائي. عن ظروفٍ قاسية بل قاهِرة، فيها يتوجّب على المؤمن أن يختار: إمّا المسيح وما يعنيه ذلك من عَذابٍ قد يؤول إلى الشّهادة والموت، وإمّا إنكارُ المسيح وتفضيلُ أهلِ البيت والأحبّة والحياةِ الزّمنية والأرضيّة عليه.

 

ثمَّ يُكمِل المسيح فيقول: "ومَن لم يحمِل صليبَه ويتبعني، فليسَ أهلًا لي". اتّباعُ المسيح يا أحبّة يَعني صليبًا. فبينَ المسيحِ والصّليب علاقة لا تزول. وكذلك الأمرُ للمؤمن التّابِع، فبينَه وبينَ الصّليب علاقة لا تزول أيضًا. فالتّلميذُ كمعلّمِه آية معرّضة للرّفض والنّبذ. والصّليبُ كما نعلم، يعني عذابًا، يعني ألمًا، يُعني معاناة وأحيانًا من أقربِ المقرّبين.

 

اليوم نحن لا نمرُّ بفتراتِ اضطهادٍ دَمويّة ومباشِرة، والحالُ يختلِفُ طبعًا باختلافِ القرّاء واختلافِ بلدانِهم، كتلك الاضطهاداتِ الّتي اِختَبَرها أباؤنا وأجدادُنا الأوائل في الإيمان. ولكنّ مواقفَ الاختيار نختبِرها كثيرًا في مواقِف نمرُّ بها، وفيها علينا أن نقومَ بفعلِ اختيار: إمّا المسيح وإمّا غيره، إمّا معه وإمّا عليه. إمّا اتّباعُ وصاياه ومشيئتَه، وإمّا اتّباعُ وصاياي ومشيئتي، أو مشيئةَ أقاربي وأصدقائي، أو شهواتي وميولي ورغباتي، الّتي قد تفصلني عن محبّة المسيح، وتمنعني بالتّالي عن اختياره، بل تقودني تلقائيًّا إلى رفضِه!

 

اللهُ خلقَ كلَّ شيء على وجه الأرضِ وتحتِها وفوقِها حَسن. ولكنَّ سوءَ الاستخدام والاختيار، قد يُسيء إلى الأشياء والأشخاص وإلينا نحنُ أيضًا. لذلك يبقى كلُّ شيءٍ جيدًا وحسنًا، ما دام أنّه وسيلة من خلالِها نصلُ إلى الله. ولكنّه قد يتحوّل إلى شر، عندما يُصبح الشّيءُ في حدّ ذاتِه غايةً، وسببًا يفصِلُنا عن الله.

 

فكّروا قليلًا في الأمورِ الّتي تُبعِدنا عن محبّة المسيح، في الأشخاص الّذين قد يكونون سببًا في انفصالِنا عن المسيح. في الظّروف، في المواقِف في الأشياء الّتي قد تكون طريقًا معبّدةً تقودُنا صوبَ الهلاك الأبدي: "لأنّ الّذي يُريدُ أن يُخلِّصَ حياتَه يفقِدُها. وأمّا الّذي يفقِدُ حياتَه في سبيلي فإنّه يُخلّصُها. فماذا ينفعُ الإنسانَ لو رَبِحَ العالمَ كلَّهُ، وَفَقدَ نفسَه أو خَسِرَها؟" (لوقا 24:9-25).

 

كَم مِنّا، مِن أُسرِنا، مِن أولادِنا وبناتِنا، من أحبّتِنا مِن معارِفِنا، هم الآن في عِداد الخاسرين لأنفسهم ولأبديّتِهم؟ كُثيرون! سائرونَ صوب الهلاكِ مباشرةً دون توقّف! ونحن لا نزال نختلِقُ لهم الأعذار في بُعدهم عن الله، في انقطاعِهم عن العبادة، في تركهم للصّلاة. يجدون وقتًا لكلِّ شيء، وقتًا لِرَفاهيّتهم ولسعادتِهم المؤقتة وهي حق. ولكنّهم لا يجدونَ ساعةً أو حتّى لحظة لله مالك كلّ شيء، أو يصطنِعون عشراتِ الحُججِ والمبرِّرات!

 

في الفيلم الملحمي التّاريخي (المُصارِع/ Gladiator)، يُقرُّ الإمبراطور ماركوس أوريليوس، مخاطِبًا ابنَه كومودس، الّذي كان سيئًا إلى حدٍّ كبير: "إنَّ أخطاءَك كابنٍ هي فشلي كأب! Your faults as a son is my failure as a father". ألا تنطبِق هذه المقولة على حالات كثيرة من الأخطاء، وما يقابلها من فشل متراكم ذريع؟!

 

يا تُرى، عندما يحينُ الوقت، حيث لا وقت للنّدم، ويمثلُ كلُّ واحد بمفرده لدى المسيح، الدّيان العادل القاضي بالحق، مَن سَيقدّم الأعذار والمبرّرات؟ مَن سيرافِعُ عنّي، وعنكَ، وعنكِ، وعنهُ وعنها؟! لا أحد سَيُرافِعُ عن أحد، فكلُّ واحدٍ: "سينالُ جزاءَ ما قدَّمَت يدُهُ وهو في الجسد، خيرًا كانَ أم شرًّا" (2 قورنتوس 10:5). أنت وحدَكَ فقط ستؤدّي حِساب وكالتِك، وسَتأخذ جزاءَ اختياراتِك واستثمارِكَ لتلك الوزنات. فإمّا أن تكون الابنَ الصّالح الأمين الّذي فَقدَ حياتَهُ في سبيل المسيح، وإما أن تكون العبدَ الخائِن الّذي فَقد المسيح سرمدًا ليربح الدّهر ساعة.

 

"فمَن يَفصِلُنا عن مَحبَّةِ المسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضِيقٌ أَمِ اضْطِهادٌ أَم جُوعٌ أَم عُرْيٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيْف؟! فقَد وَرَدَ في الكِتاب: ((إِنَّنا مِن أَجْلِلكَ نُعاني المَوتَ طَوالَ النَّهار ونُعَدُّ غَنَمًا لِلذَّبْح)). وإِنِّي واثِقٌ بِأَنَّه لا مَوتٌ ولا حَياة، ولا مَلائِكَةٌ ولا أَصحابُ رِئاسة، ولا حاضِرٌ ولا مُستَقبَل، ولا قُوَّاتٌ، ولا عُلُوٌّ ولا عُمْق، ولا خَليقَةٌ أُخْرى، بِوُسعِها أَن تَفصِلَنا عن مَحبَّةِ اللهِ الَّتي في المَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا" (رومة 35:8-39).