موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الإثنين، ٢٩ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

فالحياةُ عندي هي المسيحُ، والموتُ رِبح

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
لتكُن شفاعتُهما معنا من الآن وإلى الأبد

لتكُن شفاعتُهما معنا من الآن وإلى الأبد

 

 

أيّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيح يسوع. تحتفِلُ الكنيسةُ في التّاسع والعشرين من شهرِ حُزيران، من كلِّ عام، بعيد قِدِّيسين عَظيمَين، ورُكنين أَساسيّنِ وعَامودين وَاسِطَين، قَام عليهما بناءُ الكنيسة العَتيد. هما بطرسُ هامةُ الرّسل وصخرةُ الكنيسة، وبولسُ رسولُ الأممِ وناشرُ البُشرى. بطرسُ الّذي قالَ فيه المسيحُ: "أنتَ صخرٌ وعلى الصّخرِ هذا سأبني كنيستي، فَلن يقوى عليها سُلطانُ الموت. وسأُعطيك مفاتيح ملكوتِ السّموات. فَما ربطتَهُ في الأرضِ رُبِطَ في السّموات. ومَا حَللتَهُ في الأرضِ حُلَّ في السّموات" (متّى 18:16-19). وبولس الّذي قالَ فيه الرّب: "إنّي اخترتُه أداةً ليكون مسؤولًا عن اسمي عند الوثنيينَ والملوك وبني إسرائيل، فإني سأُريه ما يجبُ عليه أن يُعاني من الألم في سبيل اسمي" (أعمال 15:9-16).

 

كلاهما من جهابِذة الرّسل والمُبشّرين، فقد وردَ في الكتاب: "ما أحسنَ أقدامَ الّذينَ يُبشّرون" (رومة 15:10). كلاهما من أساطينِ الكنيسة وعُمدائِها. وكِلاهما شهيدانِ من أجلِ المسيح الّذي أحبّاه. شهيدانِ في سبيلِ البشارةِ الّتي أَفنيا العمرَ يحملانِها في قلبَيهما "كنارٍ مُحرِقَة، قَد حُبِسَت في عظامِهما" (إرميا 9:20)، ويُذيعانِها بِلِسانَيهما، ويُبشّرانِ بالإيمانِ بكلِّ جُرأة، غيرَ هيّابين سطوةَ حاكمٍ أو حقد حاقد أو كيد كائد، لأنّه: "الويلُ لي إن لم أُبشّر" (1 قورنتوس 16:9).

 

أمّا عيدُ اليوم فقد نشأَ منذُ القرونِ الأولى للمسيحية، ويرتقي إلى العام 258 ميلادية كما هو مُرجَّح. وقد أُقيم عيدٌ واحدٍ في يوم واحد، يجمعُ بطرس وبولس معًا، شهادةً من الكنيسةِ بَقَدرَيهما العظيم، وَبِدَوريهما الخالد في نشأة الكنيسة وانتشارِها، وتخليدًا لهما شَهيدَين في سبيل الإيمان ومن أجلِ المسيح.

 

فبطرسُ هو الاسمُ الّلاتيني للرّسول سِمعان (Petrus) والّذي يعني صَخر. أمّا سِمعان فهو الاسمُ الآرامي، ومعناهُ الّذي يَسمع ويُطيع. فحياةُ سمعانَ بُطرس كانت حياةَ إصغاءٍ وطاعةٍ لِله. بطرسُ، كما نعلم، كان صيّادًا مع أخيه أندراوس. يُمارسان مهنة الصّيد في بحرِ الجليلِ، وَيعتَاشَان منها. وهناكَ، على ضِفافِ بحيرةِ طبرية جنّاسرت، وُجِّهَت إليه ولأخيه الدّعوة، ووقعَ عليهما الاختيار ليُصبِحَا للنّاس صَيّادَين. (متّى 18:4-20).

 

بطرسُ كما يظهرُ من خلال مواقِفِه العديدة، كانَ صاحبَ شخّصيّة مُركّبة وأحيانًا مُتناقِضة. إذ كان يجمعُ بين عددٍ من العناصِر، الّتي استطاعَ المسيحُ أن يَصقلَها ويُقضِّبَها ويُهذِّبَها، ليجعَل منه صخرةً للكنيسةِ وهامةً للرّسل. فكان متهوّرًا بعضَ الشّي، مُندفِعًا مُغامِرًا، صاحبَ شخصيّة فذّة وقياديّة. يتكلّمُ أحيانًا بِحماس وجُرأةٍ، لا يتردَّد، ويُصيبُ فيما يقول. فكان أَوّل مَن اعترفَ بأن يسوع هو "المسيحُ ابن الله الحيّ". (متى 16:16). فينالُ الثّناءَ من الرّب: "طوبى لكَ يا سِمعانَ بنَ يونا" (متّى 17:16). وفي أحيانٍ أخرى، يتفوَّهُ بكلامٍ أكبرَ مِنه، غيرَ موزون ولا مَدروس، فينالُ التّوبيخَ من المعلّم: "اِنسحب ورائي يا شيطان" (متّى 23:16). وأحيانًا يفقِدُ ثِقَته ويتزعزعُ إيمانُه بالرّب، فيأخذُ بالغرقِ خوفًا مِن شدّةِ العاصفة (متّى 29:14-31). وقَد يِصلُ به الأمر إلى درجة نُكرانِه المعلّمَ ثلاثَ مرّات (متّى 69:26-75). ومَع ذلك، وبالرّغم من ضعفِه، فهو الّذي إليه أوكلَ المسيحُ أن يُثبِّتَ إخوتَه عندما يرجِع (لوقا 32:22). كما أوكل إليهِ الرّب بعد قيامتِه، مهمّةَ رعايةَ حُملانِه والسّهرِ على خرافِه (يوحنّا 15:21-19).

 

أمضى بطرسُ سنواتِه الأخيرة في روما، حيثُ كانَ أُسقفًا عليها (حبرًا أَعظم). ومِن هنا تأتي أهمّيةُ كنيسة روما. فهي كُرسيّ القديسِ بطرس. وخلفاؤه (الباباوات) هم رعاةُ الكنيسة الجامعة. ومِن روما قادَ الكنيسة والمؤمنين وسط ظروف قاسية من البطش والاضطهاد. ففي زمانِه بدأ التّنكيلُ رسميًّا بالمسيحيين على يد الإمبراطور نيرون. وعَن يدِ هذا الآثِم المجرِم، قضى القدّيسُ بطرسُ شهيدًا بالصّلب سنة 67 للميلاد. ولكنّه طلبَ أن يُصلبَ مقلوبًا، لأنّه لم يجِد نفسَه أهلًا ولا مُستحِقًّا لأن يُصلب كالرّب. دُفِنَ في تلّة الفاتيكان (Mons Vaticanus)، واحدة من تلال مدينة روما القديمة، والّتي عليها اليوم تقوم بازيليكا القدّيس بطرس، تلك القطعة الفنية الوحيدة، من السّماء فوق الأرض.

 

أمّا بولسُ رسولُ الأممِ، فهو ذاكَ اليهودي المتشدِّد، الّذي كان يُدعى شاول. هو من طرسوس، الواقعة في تركيّا اليوم. كانَ يسير على المذهب الفريسيّ، وله وزنُه داخل الجماعة. وهذا ما يظهر، من خلالِ إلقاء الشهودِ ثيابَهم عند قدميه، ساعة رجم اسطفانوس (أعمال 58:7-59). شاول ما لَبِث أن انقلبَ من يهوديٍّ ناقمٍ ومُضطهِد للجماعةِ المؤمنة، إلى مسيحيٍّ مُبشرٍّ لا يَكلُّ ولا يَمِل. فجاب العالمَ القديم، طولًا وعرضًا، يَحمل بُشرى الخلاص، بفمه وريشتِه، مُعتبِرًا كلَّ شيءٍ نُفاية، ليربحَ المسيح.

 

كانَ شاول سائِرًا صوب دمشق ليضطهِدَ الجماعة المسيحية هناك. ولكن حَدَثَ له التَّحولُ في الطّريق، حين ظهرَ له يسوعُ النّاصري، مُجريًا أعظمَ تبدُّلٍ في حياته. فأمضى بولسُ حياتَه بشيرًا لليهودِ بني جِلدتِه، وللوثنيّن أيضًا. لَم يكن بولسُ في عدادِ الرّسل الّذين اختارَهم المسيح مباشرة، خلال حياتِه الأرضية. ولكنّه أمسى، بعد الاهتداء، من كبارِ رُسل الكنيسة، وقُطبًا هامًّا من أقطابِها، وله كلمته في اتّخاذ القراراتِ المصيريّة، وخصوصًا في مجمع القُدس سنة 51 للميلاد. كما ويُعدُّ السّببَ الأهم في انفتاحِ الكنيسة على العالمِ الوثني، وعلى الفِكر اليوناني السّائد في تلك الحِقبة، الأمرُ الّذي أدى إلى امتِداد رُقعةِ الكنيسة وتوسُّعِ انتشارِها.

 

كان اسمه قبلَ الارتدادِ شاول وهو اسمٌ عبري يعني (سُئِلَ من الله). وبعدَ الاهتداءِ صار اسمُهُ بولس أي (الصّغير) لذلك نسمعُه يقول: "أنا أصغرُ صغارِ القدّيسين جميعًا" (أفسس 8:3) وفي قوله هذا إشارةٌ إلى تواضعِه وبساطتِه. كان بولس أيضًا صانِعَ خيام (اعمال 3:18)، إذ كان يعتاشُ من هذهِ المهنة الّتي كانت مُنتشرةً في العالمِ القديم. ثمَّ أصبحَ صانعَ كنائس ومُنشِأَ جماعات في الإيمان. إذ أسهمَ في تأسيس الكثيرِ من الكنائسِ والجماعات المسيحية الأولى، كجماعة قورنتوس وفيلبّي وغلاطية وتسالونيقي.

 

بولس كَتَبَ كَنزًا كبيرًا من التّعاليم، قَوامُه ثلاثَ عشرة رسالة. وبعضُ عُلماءِ الكتابِ المقدَّس يقولونَ أربعَ عشرة رسالة، مُرجّحين أن تكونَ الرّسالة إلى العبرانيين من كتابة بولسَ أيضًا. ذلك لأن أسلوبَه واضحٌ في بُنية الرّسالة. ومن خلال هذه المكتبة العظيمة نتعرّف على حياةِ بولسَ، وعلى إيمانِ الكنيسة والجماعاتِ المسيحيةِ الأولى، وعلى المشاكلِ والمعضِلات الإيمانيّة والأخلاقية اليومية، الّتي كانت تواجِه تلكَ الجماعات، ودورِ بولس في نُصحِها وإرشادِها، وإيجادِ الحلول، وتشديد عزائِمها واِسناد إيمانِها.

 

بولسُ كان مواطِنًا رومانيًّا (أعمال 25:22-29). لذلك، استطاعَ أن يواجِه اليهود من نقطة قوّة. إذ كان يتحصّنُ خلفَ جنسيّته الرّومانية، لتحميهِ من كيد اليهود وحبائلهم. ثُمَّ نَراهُ يطلب أن يرفعَ شكواه لقيصر (أعمال 11:25-12). ولأنّه روماني الجنسية، فهذا ما يُفسِّر لماذا استُشهِدَ بالسّيف مقطوعَ الرّأس، وليس صلبًا كبطرس. ذلك لأنَّ الصّليب كان وسيلة لإعدامِ المجرمين أو المتمرّدين من غيرِ الرّومان، إذ كان الصّليب أداةً لتحقير الشّخصِ وإهانته قبل إعدامِه. أمّا بولسَ فكمواطنٍ روماني، فقد استُشهِدَ بقطع رأسه على يد نيرونَ أيضًا سنة 67 للميلاد. ودُفِنَ خارِجَ أسوارِ مدينة روما، حيثُ شُيِّدت كنيسةٌ فوقَ قبرِه هناك.

 

أمّا السّببُ المباشر لوضعِ عيد الرّسولين في هذا اليوم بالتّحديد، التّاسع والعشرين من حُزيران، فكان عن حنكةٍ وفطنة. فالكنيسةُ بعد انهيار الوثنية الرّومانية، على يد قُسطنطين سنة 313 للميلاد، دَأبت على أن تضعَ بعضَ الأعيادِ المسيحية الكُبرى، الّتي ليس لها تاريخ معروف ومُحدّدَ، بدلًا من عيدٍ وثنيٍّ هام كانَ سائِدًا في الإمبراطورية الرّومانية الوثنية. بُغية إلغاء المناسبة الوثنية، لتحلَّ مكانَها الذّكرى المسيحية، وحتّى تجعل الناس ينسون تلك الذكرى الوثنيّة القديمة، ويذكرون الحدث المسيحي الجديد.

 

لِذلِكَ وَضعت الكنيسةُ عيدَ استشهادِ بطرسَ وبولس، مُؤسِّسَي كنيسة روما، في نفس التّاريخ الّذي كان فيه العالمُ الوثني الرّوماني يُحتفلُ بعيد الأخوينِ (Romulus  (Remus et مُؤسِّسَي مدينة روما سنة 753 قبل الميلاد. والّلذين، بحسب الأسطورةِ السائدة بين الرّومان آنذاك، قد رَضِعا معًا من حليبِ ذِئبة. وهذا بالمناسبة معنى شعار نادي روما لكرة القدم.

 

في واحدةٍ من عِظاتِه قال القديس أوغسطينوس عن القِدّيسينِ بطرس وبولس: ((كلا الرسولانِ يتشاركان في عيد واحد، لأن هذان الاثنان هم واحد. على الرّغم من أنّ معانتهما كانت في أيام مختلفة، إلا أنهما كانا واحدًا. ذهب بطرسُ أوّلًا، ثمّ تَبِعَهُ بولس. لذا فإننا نحتفل بهذا اليوم الذي أصبح مقدساً لنا بواسطة دمِ هَذين الرسولين. دعونا نُكرِمُ إيمانَهما، حياتَهما، أعمالَهما، آلامَهُما واعترافهما بالعقيدة)).

 

لتكُن شفاعتُهما معنا من الآن وإلى الأبد.