موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر السبت، ١٩ سبتمبر / أيلول ٢٠٢٠

فاتفق مع العملة على دينار في اليوم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
فاتفق مع العملة على دينار في اليوم

فاتفق مع العملة على دينار في اليوم

 

الأحد الخامس والعشرون (متى 20: 1-16)

 

لو كان برنامج التقدير لشخصيات المجتمع في الماضي معروفاُ، كما في زماننا اليوم، لكان ربُّ العمل هذا قد أختير كرجل العصر، وذلك لطريقة معاملته الإنسانية الخارقة، للعمال العاطلين، الّذين جمّعهم من الأماكن العامة، ليشتغلوا ويأكلوا لقمة العيش، التي كانوا محرومين منها، ولكانت الصّحافة أجلَّتْه ووضعته على لائحة الرّجال العالميّين، وكافأته بالنّياشين المختلفة، كما كانت تفعل الشيوعية، مع كلِّ من بَرَزَ في مجال ما. فنادرا ما كنتَ ترى موظّفا بدون نيشانِ تقديرٍ على صدره.

 

إن قانون مساوات الآجرة في كل المجتمعات شائك وصعب، وغالبا ما يكون سببَ جدال طويل  في البرلمانات، ولكن بالتّالي يبقوا في قراراتهم حيثما ابتدأوا، لا أكثر ولا أقل، مع الإعلان عن مشاورات جديدة بالموضوع. إذ بالتّالي، يبقى القانون المُتَّبَع هو هو: أي من يشتغل كثيرا يجب أن يكسب أيضا أجرة كثيرة مقابل عمله، ومن يشتغل قليلا لا يكسب إلا قليلا.

 

لكنّنا نتساءل: ما هذا الكَرم الغيرُ معهود واللامحدود، عند ربّ العمل في إنجيل اليوم؟ أيُّ ربِّ عمل، يقدر في آخر النهار، أن يدفع نفس الأجرة السّخيّةَ لعمّاله، مهما اشتغلوا، ساعة أو ساعتين أو ثماني ساعات كما يُحدِّده قانون العمل والعمال، فهل لديه المال الكافي ليبقى مصنَعُه واقفاً على رجليه، ويجمّع مرابح كافية ليدفع أجرة العمال، مهما اشتغلوا ربع أو نصف وظيفة أو أيضا وظيفة كاملة، وكلهم بنفس المعاش؟ حسب خبرتنا وقوانينا، إنّ كلَّ ربِّ عملٍ حريصٌ جدّا في تعيين ودفع الرّواتب. فهو من جهة، لا يريد أن يظلم أحداً، ومن جهة ثانية لا يقدر أن يسمح لنفسه بتبذير رأس ماله سدى، دون أن يُصيبَه الإفلاس، وبالتالي ينكسر. لكن كيف نفسّر مثل إنجيل اليوم؟ كيف بوسع ربّ العمل، أن يكون عادلا مع كل موظفيه؟ وهذا، حسب قانون العمل والعمّال مستحيل، كما سمعنا، إذ حين بدأ مدير المالية بدفع الأجرة: وكلهم يأخذون دينارا، لا فرق ولا مُراعاةَ للوقت، سواءً عملوا كل النّهار تحت حرِّ الشمس، أو فقط ساعة واحدة، بدأ التّذمّر والحسد، وعلى حق. ألا يُذكِّرُنا ذلك بعصر الشيوعية، التي كانت تفتخر أنه ما في الشعب أي عاطل عن العمل، والأجرة أيضا كانت واحدة للكل، حتّى تبيّنت هذه الكذبة عندما وقع حائط برلين وراح النّاس يتحدّثون عن كذب الحكم الشيوعي، الّذي دام إلى ما يُقاربُ الـ80 سنة، فانهار بالتالي اقتصاديا وعسكريا ولنقل أخلاقيّا ودينيّا، حيث كان يمنع ممارسة الدّين، وإنّ الإنسان، بما أنه خليقة الله، فهو لا يستطيع العيش بدون الإتصال بالله خالقه. هذه النقطة كانت سبب انهياره عام 1989.

 

من سماع أو قراءة مثل يسوع هذا، نشكّ من البداية انّه حقيقة واقعية، بل هو رمز يريد يسوع أن يُعلِّمنا منه شيئا؟ قد سمعنا: مثل ملكوت السموات هو كمثل ربِّ بيت. وبالتالي أَعطى عمّالَه أجرَهم، لكلِّ واحِدٍ ديناراً؟ فهل هذا عدل؟ هل هذا واقعي؟... أوّلا لا يجوز تحريف كلمات يسوع  ولا تسييسها وألاّ نتج عنها عدم فهمها، لأن يسوع ما كان ربَّ عمل أو صاحب مصنع، فَدَفْعُ الأجرة لا يعني نقدا على هذه الأرض، إنّما إظهار محبّته للكل بالتّساوي، لأنّ ساعات العمل عنده وله غير خاضعة لقانون العمل والعمّال. كلّ هذا المثل بوصفه وحذافيره، هو رمز فقط، ولا يعني قصّة واقعيّة. أما قال هو نفسه: لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض،حيث يُفسِد السّوس والصّدا، وحيث ينقب السّارقون ويسرقون (متى 6: 19 ، لو 12: 33). أمثاله التي كان يحكيها بلهجة وبطريقة سهلة بسيطه، يفهمها الكبير والصّغير، تختلف عن القصص المسليّة، بالدرس الذي كانت تريد إيصاله للسّامعين. فنهاية ما كان يحكيه ما كان نهاية فيلم أو قصة تهريجية لكن درسا أدبيا دينيا أخلاقيا، يجب الإحتذاء به او الوصول إليه. لذا فالمهم في أمثاله، هو ليس الأوصاف الجانبية، لكن الخُلاصة، إذ هو لا يريد وضع قوانين للعمل والعمّال، وإنّما إظهار من هو:"الرّبُّ إلهٌ رحيم ورؤوف، بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء" (خروج 34: 6). كما في هذا التشبيه: المهم هو ليس الصحن، الذي نضع فيه الأكل على الطاولة، فالصحن ممكن أن يكون كرتون أو بلاستيك أو تنك أو خزف أو ذهب، لكن المهم هو الطعام الذي يوضع في الصحن. فالأهم في أمثال وقصص يسوع، هو ليس الوصف الكلامي، لكن المعنى المقصود. هو ما كان يُلقي محاضراتٍ للعقول، بل قصصاً للقلب والتّأمُّلِ في فحواها. فدعوته للعمّال في ساعات مختلفة، قد تعني دعوة كلِّ واحد منّا للعمل في كنيسته. فإنَّ الله يعطي كلاً منّا الفرصة، لنذهب إلى العمل في حقله، وهو لا يترك أحداً، بلا أُجرة، لنقل بلا رحمته وعنايته ومحبّته.

 

فيسوع تواضع وجاء إلى الأرض بيننا، كي يشرح لنا، ويُرينا من خلال تصرُّفاته، ما هي إرادة الله، وهي أن يغفر لنا ذنوبنا. وها إن متى الإنجيلي يؤكِّد لنا ذلك في عدَّة مواقع، مثلا عندما يجلس يسوع مع العشّارين والخطأة  وأصحاب السُّمعة السيّئة ويأكل معهم، إذ هو كما قال "أتى للمرضى لا للأصحّاء". فبتصرُّفه هذا، أقحم الفريسيين والوُعّاظ، بأنّه لا مقصد له سوى إصلاح البشر والبشرية، وذلك ليس بالقوانين والوصايا، وإنَّما بالرّحمة والتّسامح والمحبّة: رحمةً أريد لا ذبائح. فتعليمه إذن كان جديدا، ويختلف عن تعليم كتبتهم روؤساء كهنتهِم، لأنّه من الله أبيه

 

أكثر الإتهامات على هذا المعلّم الجديد، كانت أنه يُخالف الوصايا، لا يتقيّد بوصيّة السبت، أنّه يشفي يوم السبت، أنّه لا يرضى برجم الزّانية، أنّه يعاكس وصاياهم: قيل لكم... أما أنا فأقول لكم، أنّه يغفر الخطايا، ومن يغفر الخطايا إلاّ الله؟ ينادي: الأولون هم اللآخِرون، والآخِرون هم الأوائِل. أو قوله: من رفع نفسه وُضِع، ومن وضع نفسه رُفع. فمن يقوم بأعمال كهذه، أو يحتقر النّاس بمناقضات غير منطقية، هو ليس من الله، قالوا له.

 

يسوع ما كان يُعلِّم خُفية، بل علنا، لذا كثرت المناوشات بينه وبين أصحاب الرّأي في الشعب، ممّا أحدث بلبلة كبيرة في الآراء. وكما نقرأ من سطور الإنجيليين الّذين نقلوا لنا بعض المواقف المُحرجة، كان يسوع في تعليمه يُحِبُّ الإستفزاز العلني، كي يزعزِع أساس القوانين الزّائدة: كي يَحُطَّ المقتدرين عن كراسيهم ويرفع المتواضعين. فمن كان يخاطب الجماهير بهذا الأسلوب عليه أن يتوقّع غضب الرّوؤساء وعلماء زمانه، الّذين كانتْ سلطة التَّحَكُّم بالشّعب بين أيديهم، فلا مكان له لأن يثور عليهم. لكن منذ قَدِم هذا الواعظ الجديد وتجرّأ على كشف دجلهم وكذبهم، راح كثير من أتباعهم، يتركونهم إراحة لضميرهم، ويتبعونه هو اذ كانوا يشعرون بخفّة حِمْلِهٍ عليهِم، فخافوا الآن من أن يتركهم كل الشّعب، لذا حكم رئيسهم قيافا عليه بالموت، للسبب: خير لنا أن يموت واحد عن الشّعب ولا تهلك الأمة كلُّها(يو 11. 49).نعم وجدوا عليه كلَّ عِلّة، لأنّه بتعليمه كان بلغة اليوم يُشوِّش على محطّة إرسالهم، وقد قال الباحثون أنهم وجدوا في الأناجيل إلى مئة مناوشة وجدال بينه وبين الفريسيين، فطفح الكأس، وبالتّالي هيّجوا الشّعب عليه ونادوا: إصلبه! إصلبه!

 

الديانة عادة لا تُهيِّج ولا تسبِّبُ العداوات، بل تُهدِّئ القلوب وتخلق ثقافة سلام، اينما حلّت وقُبِلَت. لكنّها إن ناقضت تعليم ديانة سابقة، فيجب أن تحسب حساباً للرّفض، جتّى لا نقول لاضطهاد مبشّريها، وهذا قد تنبّأ به يسوع مُسبقا، حيث قال: مثلما اضطهدوني سيضطهدونكم أيضا (يو 15: 20). لكن المبشِّرين علّمونا أن انتشار ديانة يسوع مجبول بالمعاكسة والإضطهاد، لكن النتيجة هي النّجاح، لأنّ دم الشهداء هو ماء لزرع جديد، وهذا ما يُفسِّرُ لنا نجاح هذه الدّيانة: ثقوا! فإني قد غلبت العالم، وأنتم أيضا ستغلبون.

 

والآن وبالنسبة لمثل يسوع اليوم بدفع الأُجرة المتساوية لساعات العمل الغير متساوية، فما هو إلشّرح لنفهم كميّة الإستحقاق، لمن يعمل في حقل الله. فهناك العامل أو المُبشِّر الّذي يعمل لوقت قصير، لكنَّ عمله يُنتِجُ نجاحا كبيرا فيستحقَّ أجراً كبيراً عند الله. وهذا ما قصد يسوع شرحه لسامعيه، لِيُثبِت لهم أنّ مقياس الأجرة هو ليس عدد ساعات العمل وإنّما كثافة الإستثمار في حقله، بتفاني ومحبّة. نعم محبّة الله لا تُقاس لا بساعات عمل ولا بأجرة محدودة.

 

العمل في الكنيسة وفي حقل الله لا يحتاجُ للمراقبة وتحديد وقت العمل فيه، إنّما الإنخراط الغير مغرض. الذي نتعلّمه من هذا المثل هو أنّ الطاعة والذّهاب إلى العمل، لها أجرتها. فربُّ العمل له قلب كبير وكريم، ولو أنَّ كَرَمَهُ يُسبِّب الحسد عند العمّال الآخرين. لكن رغم ذلك قال لهم ربُّ العمل: أنا ما ظلمتكم. ألم أتّفق معكم على دينار؟. نعم الله ينظر إلينا بعين المحبّة وعين المحبّة واسعة وكريمة وعادلة، تُكافئ كل عمل بأجرة متساوية. إذ كل عما وكلُّ عامل يستحق أجرته الكاملة عند الله. آمين

 

العاملون بأجرة غير متساوية (متّى 20: 1–16)

 

مُنْذُ خَلَقْتَنا أَوْكَلْتَ العالَمَ الَّذيْ أَنْتَ لَنا صَنَعت

لِعَمَلِ أَيْدينا والإسْتِفادةَ مِمَّا أّنْتَ فيها وَضَعت

 

العَمَلُ كَثيرٌ قُلْتَ وأمّا الْعُمَّالُ فقَليلونَ فِيْ أيِّ وقت

أَعْطَيْتَنا مَثَلَ الفلاّحِ الّذي زَرَعَ كَرْمَهُ قُرْبَ البيت

 

خَرَجَ يُقَتَّشُ عَنْ عُمَّالٍ فِيْ ساعاتٍ مُتَكّرِّرة

تَوَافَقَ وإيَّاهُمْ على أُجْرِةِ عَمَلٍ كانَتْ مُقَرَّرة

 

تَعِبُوا كُلَّ النَّهارِ وَلَكِنَّهُ كافأَهُمْ بِأُجْرَةٍ مقبوله

الآخِرونَ قَبْلَ الأَوَّلِين أعْطاهُمُ أُجْرَةً معقوله

 

إحْتَجَّ الأَوَّلونَ على مُعامَلَتِهِ وافْتَكَروا أَنَّهُمْ ظُلِموا

إذْ كَيْفَ الآخِرونَ يَنالونَ أُجْرَةً ليسَ مِثْلَهُمْ تألَّموا

 

ناداهُمُ الْوَكيلُ بِعَيْنٍ غاضِبَةٍ أنَّبَهُمْ فيها عَنِ الحسد

بَرَّرَ لَهُمْ مْوْقِفَ سيّدِهِ الَّذي يُحِبُّ الْكُلَّ مِثْلَما قصد

 

وَأَفْهَمَهُمْ مَوْقِفَ سيِّدِهِمْ فَهْوَ مُوَزِّعُ الأمْوالِ والنِّعم

يُعْطيها لا عَنْ ساعاتِ الْعَمَلِ بَلْ عَنِ الْحُبِّ والهِمم

 

أَنا ما ظَلَمْتُكَ قالَ لِلْمُحْتَجِّ على سَخَائهِ وَكَرَمِه

لا تَحْسِدِ الْبسيطَ على خَيْرٍ نَالَهُ هذا أُجْرَةُ أَلَمِه

 

لا ظُلْمُ في الحياةِ بل الظُّلْمُ هُوَ رُؤْيَةٌ الْعَيْنِ الحاسِدة

إذْ لِلْحياةِ مَعاييرُ لا تَقْبَلَها العُقولُ أحيانا لأَنّها كاسِدة