موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٩ مايو / أيار ٢٠٢٠

عيد صعود المسيح إلى السماء

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن
المسيح ما له أيدي سوى أيدينا، لتتميم عمله بيننا

المسيح ما له أيدي سوى أيدينا، لتتميم عمله بيننا

 

إنَّ الرّبَّ بعد ما كلّمهم ارتفع إلى السّماء وجلس عن يمين الله (مر 16: 19)

 

يقول متخصِّصوا عالم الحيوانات، إنّ أكثر الطّيور لا تنسى عشّها الذي ولَدَت فيه. فهي ولو انتقلت في الخريف والشتاء إلى قارة بعيدة لتحاشي البرد، فمنها 42% تعود من جديد في الربيع والصيف إلى مقرِّها الذي ولدت فيه. حتى الكلاب لا تنسى البيت الذي نمت فيه ولو نُقِلَت إلى مناطق بعيدة، فهي سترجع إلى بيتها، إن بَقِيَت حُرّة طليقة. فلنتصوّر حاسة الإتجاه فيها، حتى قبل أن يصل الإنسان إلى علم التكنولوجيا الحالي ويقدر أن يعيّن أي موقع في العالم ولو أنّه لم يصله أو شاهده بعينه. فنحن محظوظون اليوم بهذا وبغيره من ألإختراعات، التي ما عدنا نستغني عنها. الرّاديو أو التّلفزيون أو التليفون يعرف كلٌّ منهما محطة الإرسال، وهكذا نستطيع سماع أو رؤية أو إستقبال الأخبار ونحن لا نحتاج إلاّ إلى الضغط على زرّ الإستعمال، ونحن في مكاننا. أليس هذا من أعاجيب الله بين يدينا؟

 

وماذا نقول عن الحَمَام الزّاجل ، الذي استعمله الإنسان كأول ناقل بريد، حتى قبل أن يعرف هو نفسه عن اختراع البريد. إن الإنسان، قبل أن يصل إلى إختراع آلات التوجييه، قد احتاج إلى وقت طويل واستعان بآلاف الطيور، كي يفهم منها حاسّة التوجيه، التي استغلّها آخيرا، وأجيالنا الآن تتنعّم باستعمالها.

 

هذا وقد قال الله: إذا كان الثور يعرف مربطه، فكيف لا تعرفني، أنت يا إسرائيل (أشع. 1: 3)

 

إن أقوى ينبوع في الحياة هو ينبوع الإيمان، أعني الثقة بالله، أنه يُديرُ حياتنا: ها أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدّهر. ولا ننسى ما كان في بداية حياته: الكلمة صار جسدا وسكن بيننا. لكننا اليوم نحتفل بعيد صعوده إلى السماء، والذي يُحتفل به منذ القرن الرّابع، كما هو مذكور في كتاب أعمال الرسل: في اليوم الأربعين بعد القيامة، وهو دائمًا حسابيًا يوم خميس. أمّا أصله، فهو عيدُ إله وثني هو إله الرّعد المسمّى Thor، الذي كان يُخيف النّاس بالرّعود، كما كانوا ينسبونها له حينما يُغضبونه، مما أجبرهم على التّعبّد له. وكما نعرف، حاولت الكنيسة منذ البداية، كي لا يشعر النّاس أنها غريبة لهم، ما حاولت أن ترغم الناس على إلغاءِ أعيادها، بل عمّدتها أي أبدلتها ووضعت مكانها أعيادًا دينية. منها أيضا تاريخ عيد الميلاد، حيث كان عند الرّومان أكبر عيد معروف، هو عيد النور، فأبدلته الكنيسة بعيد نور الأنوار، أي المسيح، الّذي قال عن نفسه: أنا نور العالم.

 

من القرن الرابع عشر، وحتى السابع عشر، دخلت عادةٌ غريبة للإحتفال بعيد الصعود، وهي سحب تمثال يسوع القائم، والموضوع على طاولة قدّام الهيكل، وإدخاله من فتحة في السقف فوق الهيكل، وإخفاؤه عن الأبصار. وفي منتصف المسافة، كان يتم تنزيل ملاكين إلى جانب تمثال يسوع مع النص: ما بالكم تنظرون إلى السّماء؟ فيسوع هذا الذي رُفع عنكم إلى السّماء سيعود كما رأيتموه ذاهبًا إلى السّماء (أعمال 1: 11). كان المؤمنون الحاضرون شخصيًا، يلاحقون التمثال وبالأخص ينتظرون إلى أية جهة كان التمثال يدور أثناء سحبه إلى فوق، فيقولون من هذه الجهة يهبّ الريح القوي والمطر والبرق والرّعد. هذا ولا ننسى أنّه في الثلاثة أيام، السابقة لهذا العيد، كانت ولا تزال تقام دورات وصلوات في الحقول القريبة من الكنيسة، مفادها طلب الحماية للطبيعة من الفياضانات، والطقس المناسب للحقول. بها يطلب المصلّون والمشتركون، من يسوع ،الذي سيغيب عن أنظارهم، ألّا ينساهم متى دخل في ملكوته. كاللص الذي قال ليسوع، أذكرني يا رب، متى دخلت ملكوتَك.

 

هذا العيد هو خاتمة عيد قيامة المسيح وحياته على الأرض. نحن نعرف، أنّ الله الآب، قد أرسل لنا ابنه ليكون قريبا منّا، وبالتالي ليخلّصنا بموته على الصّليب، لقد تواضع وظهر بصورة عبد(فيلبي 2: 8) حيث نصلي بقانون الإيمان: لقد صُلب عنّا على عهد بيلاطس البنطي، تألّم ومات وقبر وقام في اليوم الثّالث، كما في الكتب، وصعد إلى السّماء وجلس عن يمين الآب، وأيضا سيأتي بمجد عطيم". فنعيّد اليوم انتصاره ورجوعه مُظفَّراً، وهو يعني أيضا أنتصارَنا نحن معه

 

لقد أمضى يسوع 40 يوما على الأرض بعد قيامته، وذلك لتتميم تأسيس كنيسته وتجميلها بأسرار الرحمة الآخيرة، فمنح تلاميذه قوة الرّوح الذي به يغفرون الخطايا، ويصالحون البشر مع الله: "خذوا الرّوحَ القدس، من غفرتم لهم خطاياهم تُغْفر لهم". ثمّ عيّن بطرس كخليفةٍ له: إرع خرافي! إرع غنمي! وقبل صعوده، أوكل إليَهم مهمّة تعريف رسالته للعالم كله: إذهبوا وبشّروا... ولكي لا يبقوا خائفين ويعرفوا ماذا عليهم تبشيره، فقد طلب منهم الإختلاء للصلاة واعداً إياهم لأن يرسل لهم قوّة من فوق، الرّوح المُعزّي والمعلِّم، مُحذِّرا إياهم بما ينتظرُهم من معاكسات واضطهادات، لأنهم ليسوا أفضل منه، معلِّمَهم، لكنّه بالتالي سيُجلِسهم إلى جانبه لمحاكمة العالم (لو 11: 49) وقتها فقط قرّر أن يعود إلى ملكوته، مُرتاح البال، واقفا على منصّة الإنتصار كالرّياضي الأول، ليذكرنا أن موطننا الحقيقي عنده هو، وليس على هذه الأرض. بصعوده أكّد من جديد ارتباط الأرض بالسّماء، "حيث جعله الله ربّا ومسيحا (أعمال 2: 36). جلوسه عن يمين الآب لا يعني تتويجَ ملكٍ كما نعيشه على ارضنا، وإعطاءَه لقبا في حفلة تتويجه، كما في تتويج الملوك الفراعنة حيث كانوا يحصلون على لقب أبناء الآله. صعود المسيح هو أعلى من تتويج ملك. لا، هو لم يحصل على لقب "مواطن شرف في السّماء، بل أصبح أيضا بطبيعته البشرية مخلص الآرض والسّماء.ألم يصلّهو إلى أبيه: أمدحك يا أبتي، لنَّ كلَّ ما لك هو لي.

 

كثيرون لا يقدرون أن يتصوّروا، ما يعني هذ العيد وكيف حدث: فهل هو صعود إلى طابق أعلى بمصعد كهربائي أو صاروخ أرسله إلى أبعدِ ما يمكن، مثلما تُرْسِلُ الصواريخُ الأقمارَ الصناعية إلى حيث تشاء؟ أو مثلما صعد إيلي في عربة تارية؟. إن لوقا، الذي وصف لنا هذه الحادثة، ما كان في باله مِثل ما في بالنا  اليوم، بل هو يقول: وإن غيمة أخفته عنهم، لأن الغيوم في التوراة هي رمز لوجود الله. ولوقا يكمّل: وجلس عن يمين الآب.

 

من يزور كنيسة الصعود على جبل الزيتون في أورشليم، يشاهد على بلاطة بجانب الهيكل، أثار قدم يسوع، حيث كان واقفا لآخر مرّة قبل أن يغيب عن الأبصار. فإن لم يكن هذا الأثر حقيقيا، فهو مفيد لتعليمنا، أنّ المسيح ترك لنا آثارا كثيرة تُذكِّرنا به. الكنيسة تحتفل اليوم بعيد إنتقاله إلى السماء، وهذا لا يعني بالعربي الدّارج الوداع ورفع اليد عن العالم والتخلي عنا، إنما عودته إلى ملكوته الذي جاء منه، أي اختفاؤه بالجسد عن عيوننا، من بعد ما قام بالواجب الّذي أرسله الله أبوه لتتميمه على الأرض، وهو الموت من أجلنا، ليتمَّ الصّلح بينه وبيننا، بعد ما أبعدتنا خطيئة أبوينا آدم وحوّاء عن الفردوس، كما قال بولس: "أقامنا معه وأجلسنا معه في السّموات ليُظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا" (أفسس 2: 6).

 

عاد إلى ملكوته ليرسل لنا الرّوح القدس، الذي سيقود العالم بعده إلى الكمال وإلى النّهاية، ويرينا هدف حياتنا نحن. فالوقت بعد يسوع هو وقت الرّوح القدس. قال يسوع من السماء أتيت وإلى السّماء أعود. صعود يسوع ما هو إلاّ غيابه عنا بالجسد، إذ عيونُنا ما عاد باستطاعتها رؤياه بالنظر، بل فقط بالإيمان، إذ هو بقى معنا تحت أشكال أخرى: أولها جسده ودمه في سر القربان، ثم بكلمته الحية الباقية إلى الأبد، ثم قوله لنا: أنا معكم كل الأيام إلى منتهى الدّهر. وآخِراً في أتباعه الصّالحين، الّذين يُمضون حياتهم بخدمة من قال عنهم: كلّ ما تفعلونه لهؤلاء، فلي تفعلونه.

 

 نعم عيد اليوم، هو عيد انتصاره المُفرِّح، وذلك يعني إنتصار الطبيعة البشرية الضعيفة، فهذا سبب فرح لنا، كما تقول صلاة القداس :ليعُمَّ السّرورُ قلوبَنا، لأنّ صعود ابنك إلى السّماء، هو عنوان رفعتنا، إذ مسكنه الآن سيكون مسكنَنا الحقيقي الآخير. لذا قال لتلاميذه: "سمعتم أني قلت لكم أنا ذاهب ثم آتي إليكم. لو كنتم تُحبّوني لكنتم تفرحون، لأني قلت أمضي إلى الآب لأن أبي أعظم مني" (يو 14: 28).

 

بهذا العيد أراد يسوع أن يُذكِّرنا أنَّ لنا وطناً آخر، يقول عنه بولس هو وطنُنا الحقيقي، وهو أجمل ممّا نتصوّر، إذ هو فيه. وبصعوده، يرينا الإتجاه الصحيح إلى هذا الوطن الذي نسمّيه السّماء، الجنّة الأبدية، التي لم تسمع بها أُذنٌ ولا رأتها عين، هذا ما أعدّه الله لمحبيه.. فهذه الأرض ليست وطنَنا الحقيقي. كل أفراحنا الدنيوية وألأرضية، لا تشبع اشتياقنا إلى الفرح الذي ينتظرنا في السّماء. فليس صدفة أنّ لوقا يبدأ كتابه الثّاني أي أعمال الرسل بحادث الصّعود هذا، ليذكرنا بمهمتنا وهي نشر ملكوت الله في العالم القديم، لكي بالتالي نحصل على المكافأة عنده. فيوم صعوده، هو بداية المسؤولية، التي وضعها بين أيدينا، وهي الشهادة لما صنعه لنا، حتى بالتالي يدعونا لنرث الملك المعد لنا منذ إنشاء العالم.

 

الله يعطينا إقامة مؤقّته لنعمل الخير: إذهبوا إلى أقاصي الآرض واكرزوا بالإنجيل لكل الخلائق. بهذا إكنزوا لكم كنوزا في السّماء"(متى 6: 19) تؤهِّلُنا للدُّخول إلى الوطن الحقيقي الذي وعدنا به هو نفسه: أنا ذاهب إلى الأب لأُعِدَّ لكم مكاناً، وعندما أعددتُ لكم مكانا أعود إليكم لآخذكم فتكونون معي حيث أنا.

 

قال القديس أغسطينوس: لقد خلقتنا لك يا رب ولن يستريح قلبنا إلاّ فيك. مَن فقد شيئا لا يستريح له بالٌ، حتى يجده فيفرح. أنسينا قصة المرأة التي فقدت درهمها، كم فرحت حين لقته؟ الإنسان بحاجة إلى وطن، يعيش فيه  باطمئنان ويشتغل هادئ البال. لكن بولس يقول: هذا الوطن غير دائم بل هو مؤقّت لأنّ لنا وطنا دائما عند الله، لذا فلا يجوز لنا أن ننسى هذا الوطن، الذي نشتاف له في عمق أعماقنا.

 

نعم هو الله الذي يرسلنا إلى الأرض، كلٌّ مع مؤهّلاتٍ خاصة به، للقيام بمُهمّةٍ خاصّةٍ أيضا، وهي بالتالي المساهمة في إصلاح عالمنا، الذي خربته الخطيئة، أينما وحيثما نعيش. فبأعمالنا الصالحة، يمكننا وضع أثارٍ لمن يأتي بعدنا، حتى يُكمِّل هذه المهمة. هذه المهمة هي بحد ذاتها التبشير والتعريف بالمسيح ورسالته بين البشر من جيل إلى جيل. وهي رسالة الكنيسة الدائمة الموكلة لكل مؤمن ولكل جيل.

 

عيد اليوم يقول لنا إننا كما قال يسوع عن نفسه: من الآب أتيت وإلى الآب أعود، نحن أيضا منه أتينا وإليه نعود، بعد حقبة الزّمن التي يهدينا إياها، وبعد إنهاء المهمة التي علينا تأديتها. فنقدر أن نقول بعد انتهاء مدة فيزا إقامتنا في هذا العالم الجميل فنرحل إلى حيث أتينا. نعم جيلنا ليس شواذاً، إذ كلُّ مخلوقٍ يجب أن يترك هذا العالم ليُكافأ على كلِّ ما عمل، إن حسناً فإلى ملكوت الله، وإن شرّا فإلى الجحيم، حيث نار حارقة لا تنطفئ أبدًا.

 

نعم هذه هي المهمة التي إئتمننا عليها يسوع، فهي من يوم صعوده، موضوعة بين أيدينا. فنحن الآن المسؤولين عن نشر الإيمان وتوسيع وتحسين حقل الكنيسة في العالم الذي نعيش فيه. ولا نفتكر أنهم الكهنة والأساقفة والبابا فقط هم المسؤولون عن التبشير، بل كلّ المعمّدين والمثبّتين هم حملةُ هذه الرّسالة، ومسؤولون عن إيصالها، للذين ما سمعوا بها بعدز كلّ مسيحي إذن هو رسول في هذا العالم، موكّلٌ إليه نشر ملكوت الله بشهادة حياته اليومية، كأن لا رسول في العالم غيره. في صلاة من القرن الرابع عشر نقرأ:

 

المسيح ما له أيدي سوى أيدينا، لتتميم عمله بيننا.

المسيح ما له أقداما سوى أقدامنا لنجلب أناسا يسيرون على طريقه

المسيح ما له شفاهاً سوى شفاهنا، تبشّر به للناس

المسيح ما له مساعدة سوى مساعدتنا للمحتاجين لجذبهم إليه.

 

إذًا نحن المسؤولين في عالم اليوم عن نشر رسالته، بعدما علّمنا إياها وغاب عن عيوننا، لكنه يُراقب حياتنا وأعمالنا ويدعمنا لنبقى سائرين على الطريق، الذي هو. آمين