موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٦ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

عيد القربان المقدّس

بقلم :
المطران كريكور كوسا - مصر
سيّدي أعطنا من هذا الخبز دائمًا أبدًا

سيّدي أعطنا من هذا الخبز دائمًا أبدًا

 

"إصنعوا هذا لِذِكري " (لوقا ٢٢: ١٩)

 

نحتفل بعيد جسد الرب ودمِهِ، عيد القربان المُقدّس، الذي أسسه الرب يسوع يوم الخميس قبل الآمه، والمعروف بخميس الأسرار، أو خميس العهد. في هذا اليوم المُقدّس أسّس الربُّ يسوع سرَّ القربان، المعروف بسرّ الإفخارستيا، أي صلاة الشكر حيث يقدِّم ذاتَه، جسده ودمه، ذبيحة فداء عن خطايا البشر، ووليمةً روحيّة لحياة العالم، مستبقًا موته على الصليب لفدائنا وقيامته لتقديسنا. وأسّس مع الإفخارستيا سرّ الكهنوت، وأنشأ كنيسته التي تولد من سرّ قربانه لكي تصنعه باستمرار بفعل الروح القدس، فتتحقّق في كلّ قداس، ذبيحة الجلجلة ووليمة العلية، وتفيض النعم السماوية.

 

وقبل هذا التأسيس قام يسوع بغسل أرجل التلاميذ، كهنة العهد الجديد، ليعطي معنى للهوية الكهنوتية ولرسالة الكنيسة، في ضوء سرّ القربان. وهو خدمة المحبة بتجرّد وتواضع وبذل الذات.

 

بعد العشاء الأخير، "أتت ساعة الرب يسوع" (يوحنا ١٧: ١)،  وهي "ساعة عبوره" من هذا العالم إلى الآب، و "ساعة حبّه لجميع الناس" حتى النهاية. ولا فصل بينهما. "ليس لأحَدٍ حُبٌّ أعظمُ من أن يَبذِلَ نَفْسَه في سبيلِ أحِبَّائِهِ" (يوحنا ١٥: ١٣). فالحبّ نفسه هو عمليّة العبور والتغيير والخروج من حدود الفردية المغلقة إلى مساحة الحبّ الإلهي الشامل. "ساعة" يسوع هي ساعة العبور الكبير، ساعة التغيير والتطوّر في الكيان الشخصي الذي يحصل بواسطة الحبّ حتى النهاية، وقد تجلّى في ذروته على الصليب، حيث بذل الربّ كلّ ذاته حتى الموت وقال: "لقد تمّ كلّ شيء" (يوحنا ١٩: ٢٠).

 

خروج يسوع من العالم هو في الحقيقة عودته إلى الآب السماويّ الذي منه خرج. "خروج من الآب ورجوع إليه". خروج يسوع من الآب "عملية حبّ" أنزلته إلى الخليقة حبًّا بالخروف الضال (لوقا ١٥: ١-٧)، فضمّ إلى قلبه البشرية كلّها. وبرجوعه إلى الآب حمل معه كلّ طبيعته البشرية، والبشرية بأسرها، ورجع معه "كلّ جسد". الجديد في رجوعه أنّه لا يرجع وحده بل يجتذب الجميع إليه "وأنا إذا رُفِعتُ من الأرض جَدَبتُ إليَّ النَّاس أجمعين" (يوحنا ١٢: ٣٢). "عبوره" يتّصف بالشمولية. عندما أتى من الآب، "جَاءَ إلى بيتِهِ فما قَبِلهُ أهلُ بيتِهِ" (يوحنا ١: ١١)، أمّا هو فأحبّهم حتى النهاية (يوحنا ١٣: ١). لقد جمعهم كعائلة الله الكبيرة، وجعل الغرباء خاصّته "ولي خرافٌ أُخرى ليست من هذهِ الحظيرة، فتلكَ أيضاً لا بُدَّ لي أن أقودها وستُصغي إلى صوتي فيكون هناك رَعيّةٌ واحدة وراعٍ واحد" (يوحنا ١٠: ١٥).

 

ولشدّة حبّه المنطلق من الذات إلى الآخر، قام عن العشاء، قبل أن يرسم تلاميذه كهنة للعهد الجديد، ويؤسّس سرّ الإفخارستيا، ذبيحة جسده ودمه ووليمة الحياة الجديدة. وقبل أن يُنشئ الكنيسة المولودة من هذا السرّ "فقام عن العشاءِ فخَلعَ ثيابَه... وأخذَ يغسِلُ أرجل التلاميذ" (يوحنا ١٣: ٤-٥) وخلافاً لآدم الإنسان الأول، الذي مدّ يده إلى ما هو ليس إلهي، نزل يسوع، آدم الجديد، من ألوهيته وصار إنسانًا (يوحنا ١: ١٤)، ويقول القديس بولس الرسول إلى أهل فيليبي: "تجرّد من ذاته، متّخذاً صورة عبد، وصار على مثال البشر، وظهر في هيئة إنسان. فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب" (فيليبي ٢: ٦-٨). هكذا كشف يسوع كلّ خدماته الخلاصيّة. فلنتخيّله الآن: بتجرّد من بهائه الإلهي، يجثو أمامنا، ويغسل أرجلنا ويمسحها ويُقبّلها، ولكي يجعلنا أهلاً للمشاركة في وليمة عرسه الإلهي. إنّه يغسلنا هذه المرّة بدمه المراق على الصليب، حسب رؤيا القديس يوحنا: "هؤلاء اللّابسون الحلل البيضاء، من هم ومن أين أتوا؟" فقلتُ له: "يا سَيِّدي، أنت أعلم". فقال لي: "هؤلاء هم الذين أتوا  من الشدّة الكبرى، وقد غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل" (رؤيا يوحنا ٧: ١٣-١٤).

 

غسلُ أرجل التلاميذ تعبير عن حبّ يسوع لتلاميذه ولنا حتى النهاية، حبّ ينقّينا ويُطهّرنا، حُبّ يغسل قلوبنا، يُخرجنا من الكبرياء، حُبّ يُنقّينا لكي نرى الله. وقد قال يسوع نفسه في التطويبات: "طوبى لأنقياء القلوب فإنّهم يعاينون الله" (متى ٥: ٨).

 

بعد أن غسل يسوع أرجل تلاميذِهِ  قال لهم: "أنتم الآن أطهار" (يوحنا ١٣: ١٠)، لماذا قال: "أنتم الآن أطهار؟" ليمنحهم سرّ الكهنوت وليقبلوا ويتناولوا بالقداسةِ والنقاوة جسده ودمه، وليقفوا في حضرة الله بإيمانٍ وخوف ومهابة. لكنّه استثنى واحدًا بقوله: "ولكن لا كلّكم" (يوحنا ١٣: ١٠). ويضيف يوحنا الإنجيليّ والرسول قائلاً: "فقد كان يعرف من سيسلمه" (يوحنا ١٣: ١١). وللحال كانت خيانة يهوذا بن سمعان الاسخريوطي، فقام عن العشاء وخرج ثمّ عاد ليلاً إلى حيث كان يسوع في بستان الزيتون، وأسلمه للحرس (يوحنا ١٨: ١٢).

 

بعد ذلك أسّس الربّ يسوع سرّ الإفخارستيا وناول تلاميذه قائلاً: "خذوا كلوا، هذا هو جسدي. خذوا اشربوا، هذا هو دمي" (متى ٢٦: ٢٦-٢٨). ثمّ قال لهم: "إصنعوا هذا لذكري" (لوقا ٢٢: ١٩) بهذه الوصيّة  رسم يسوع الرُسُل كهنة. ومن يومها بدأ كهنوت العهد الجديد، الذي يُنقل من جيل إلى جيل حتى يومنا وإلى نهاية العالم.

 

يُسمّى الخميس المقدّس "خميس الأسرار"، لأنّ فيه أُنشئت أسرار الخلاص السبعة (أسرار الكنيسة السبعة)، التي هي ينابيع تتدفّق على العالم من ذبيحة المسيح ابن الله وقيامته. فإحياءً لهذه الأسرار، وبهذه المناسبة يتمّ  تكريس الزيوت المقدّسة: زيت المعمودية والميرون، وزيت مسحة المرضى. هذه الزيوت نستعملها في أربعة أسرار أساسية: المعمودية التي تُشرك المعمّدين بكهنوت المسيح، والتثبيت الذي يجعلنا بقوة الرُّوح القُدس مسيحيين حقيقيين في كياننا الداخلي، والكهنوت الذي يتواصل فيه كهنوت المسيح وسلطانه ورسالة الخلاص. ومسحة المرضى التي تقدّس آلآمنا وتشفي نفوسنا وأجسادنا من الأمراض الروحيّة والجسديّة، وتؤهّلنا لرؤية وجه الله السعيدة.

 

رمزية إحتفالٌ بركة الميرون المُقدّس الذي يحتفل به قداسة البطريرك بمشاركة السَّادة المطارنة والكهنة والشعب المؤمن، إظهار وحدة الكنيسة، التي يضمنها البطريرك لكنيسته، حول المسيح "الراعي الحقيقي وحامي نفوسنا".

 

في إحتفالنا بعيد جسد ودم يسوع المسيح، نتذكر، كما قلنا سابقًا، بذكرى تأسيس الكهنوت، ونرفع صلاة الشكر للمسيح، الكاهن الأزلي، الذي أشركنا نحن الكهنة بكهنوته، ونحن على غير استحقاق. لكنّه يُعضدنا بنعمته. وفي كلّ مرّة نشعر بضعفنا أمام قدسيّة كياننا الكهنوتي وعظمة رسالتنا الكهنوتيّة المقدسة وخطورتها، يَهمس لكلّ واحد منّا، كما فعل مع بولس الرسول ويقول: "تكفيك نعمتي" (قورنتس الثانية ١٢: ٩). أجل، نحتاج نحن الكهنة إلى نعمته لكي نلبّي دعوته لنا: "إصنعوا هذا لذكري" (لوقا ٢٢: ٩): نقيم ذبيحة جسده ودمه ونتناولهما لنيل الحياة الجديدة. ونقتدي به نحن الكهنة، فيكون كل واحدٍ مِنّا على مثاله "كاهنًا وذبيحة من أجل الجميع" بروح الخدمة والتفاني والمثل الصالح.

 

في مساء يوم خميس الأسرار المقدّس، ليلة الجمعة العظيمة، نتذكّر صلاة الربّ يسوع والآمه وإستعداده لإتمام إرادة الله الآب السماويّ برفقة بعض من تلاميذه الذين سهروا معه في بستان الزيتون، لقبول آلام الفداء وموت المعلّم الإلهيّ على الصليب، تكفيراً عن خطايا البشر، ولإستحقاق الغفران والمصالحة من رحمة الله اللامتناهية.

 

فليكنْ عيد جسد ودم يسوع الأقدسين في هذا اليوم المقدّس المملوء من محبّة المسيح لنا والمملوء أسرارًا إلهية مقدسة، يومًا نبادله الحبّ من دون قياس، لأنه هو الذي "أحبّنا ومحبته لا حدود لها" ، ولإتمام وصيته "إصنعوا هذا لذكري".

 

+ المطران كريكور اوغسطينوس كوسا ، أسقف الاسكندرية للأرمن الكاثوليك