موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الأربعاء، ٢٠ مايو / أيار ٢٠٢٠

عيد الصّعود

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
في لحظةِ صعود الرّب، كانت عيون التّلاميذِ شاخصةً إلى السّماء، تودِّعُ محبوبَها الّذي حُجِبَ عنها للتّو

في لحظةِ صعود الرّب، كانت عيون التّلاميذِ شاخصةً إلى السّماء، تودِّعُ محبوبَها الّذي حُجِبَ عنها للتّو

 

اِسعوا إلى الأمورِ الّتي في العُلى

 

أيُّها الإخوةُ والأخواتُ الأحبّاء في المسيح يسوع. نَحتفِلُ اليوم بعيدِ الصّعود المجيد. وهو من الأعيادِ الاحتفالية الكُبرى، أو ما يُعرف بأعياد البَطالة. ولكن، كسائر أعيادِنا الكُبرى هذا العام، فإنّنا نحتفِلُ به في ظلِّ ظروف استثنائيةٍ للغاية، أَلقَت بضلالِها وثِقَلِها ليسَ على الكنيسة فحسب، إنّما على جميع مجالاتَ الحياة وأَنشطَتِها. كثيرٌ من الأمورِ والعاداتِ الّتي أَلِفنَاها قد تغيّرت، ولكثيرٍ من النّاس والمؤسّسات والدّولِ أيضًا، أشياءُ كثيرة تَعَقَّدت واكفَهرَّت، فأضحت الرّؤية ملتبسةً مشوّشة، يشوبُها كثيرٌ من الغموضِ والتّخبُّط.

 

في إنجيلِ اليوم وَرَدَت جُملة مِفتَاحيّة، تصِفُ حالةَ التّلاميذ، وتُحاكي شيئًا من حالتِنا اليوم. فعلى امتدادِ صفحاتِ الإنجيل، قبلَ أحداثِ الآلام والصّلب والموتِ ثمَّ القيامة، اعتدنا على الرّقم (اثني عشر). أقامَ يسوعُ الاثني عشر، دعا يسوعُ الاثني عشر، أرسل يسوعُ الاثني عشر، جلسَ يسوعُ للطّعامِ مع الاثني عشر...

 

ولكن، إذا أَمعَنّا النّظرَ في إنجيل اليوم، نجِدُ حالةً مُغايرة تمامًا، تختلِفُ عَمّا عَهِدَهُ الرّسلُ واعتادوا عليه. يقول النّص: "ذهب التّلاميذُ الأحدَ عشر"! جملة قَصيرة ولكنّها تُعبّرُ عَن واقعٍ جديد، عن ظرف استثنائي غير مألوف بالنّسبة للتّلاميذ. أمورٌ بعدَ القيامة لَم تَعُد هي نفسها الّتي كانت قبلَ القيامة. تشكيلةُ التّلاميذ وتركيبة الجماعة قد تغيّرت. فهم قَد مرّوا بظروفٍ صعبة ومؤلِمة وغيرِ مُعتادة، أَدَّت إلى حدوثِ تغيرات جذرية وانقلاباتٍ جوهرية. وأبرزها كانَ فُقدان يهوذا.

 

ربّما قد لا يُؤيّدني البعضُ في هذه الجملة الأخيرة. ولكنّي اعتَبرُ غيابَ يهوذا عَن تشكيلةِ الجماعة، خسارةً وفُقدانًا بالرّغم من كلِّ ما فعل. فالكتابُ يقول في سفرِ حزقيالَ النّبي: "لَيسَ هَوايَ أَن يَموتَ الشِّرِّير، يقولُ الرّب، بل أَن يَرجِعَ عن طَريقِه فيَحْيا" (حزقيال 11:33). نَعم، يهوذا أَخطَأ وكان ذَنبُه عظيمًا وهفوتُه جسيمة، ولكنَّ بابَ التّوبة مفتوحٌ دومًا. وإن لم يَكُن مفتوحًا لكبارِ الخطأةِ وأكثرِهم شرًّا، فهذا يُناقِض رحمةَ الله الّلامحدودة وغيرِ المُتناهية، لأنَّ رحمةَ الفادي أعظمُ من ذنبِ الإنسان.

 

لذلك يكتب حزقيال أيضًا فيقول: "اِرجِعوا عن طُرُقِكُمُ الشِّرِّيرة، فلِمَ تَموتونَ يا بَيتَ إِسرائيل؟ فإِن رَجَعَ الشّريرُ عن خَطيئَتِه وأَجْرى الحَقَّ والبرّ، وسارَ على فرائِضِ الحَياةِ مِن دونِ أَن يَصنَعَ إِثْمًا، فإِنَّه يَحْيا حَياةً ولا يَموت. جَميعُ خَطاياهُ الَّتي خَطِئَها لا تُذكَرُ لَه. إِنَّه أَجْرى الحَقَّ والبِرَّ فيَحْيا حَياةً". (حزقيال 11:33-20)

 

يا أحبّة، عيدُ الصّعود هو دعوةٌ إلى التّوبةِ وعَدَمِ اليأس، وهو نِداءٌ إلى حياةٍ جديدة. كلُّ التّلاميذ أخطأوا وتركوا المعلّمَ ساعةَ آلامِه وهربوا خائفين مُرتعدين. ولكنَّ الرّبَّ يجمعُهم من جديد. يُكلِّفُهم بحملِ الرّسالة، ويوكِلُ إليهم مَهمّة إعلانِ البُشرى. فالخوفُ والهروب وحتّى الخيانة، لَم تكن سببًا لإسقاط التّلاميذِ من حسابات المسيح، والحكم عليهم بِ الّلاعَودَة.

 

كلُّنا نُخطِأ وكلُّنا نبتعِد وكلُّنا قد نُنكِرُ ونخونُ ونهرب، تمامًا كما حصلَ مع التّلاميذ. ولكنَّ بابَ التّوبة مفتوحٌ لنا جميعًا كما كان مفتوحًا للتّلاميذ أجمعين، إلّا لِمن قرّرَ أن يُغلِقَ البابَ بيأسِه. فإلهُنا هو إلهُ البدايات لا النّهايات، واللهُ لا يسقِطُ إنسانًا من حساباته، ولكنَّ الإنسان قد يُسقِط اللهَ من حساباتِه وبإراداتِه.

 

عيدُ الصعود هو انطلاقةٌ جديدة، وبدايةٌ جديدة. هو ربيعٌ أخضر في حياةِ التّلاميذ بعدَ شتاءٍ مظلمٍ وعاصفٍ وباردٍ مرّوا به واختبروه قبلَ حين. والآن ها هم يُبرِعمونَ ويُورِقون فرحًا وغِبطة، ينطلِقون بهمّة ونشاط، مُزوّدينَ بسلطانٍ من العُلى، يُعلِنونَ البشارة، يُعلّمونَ الأمم، يحمِلونَ النّعمةَ إلى الخلق أجمعين.

 

يا أحبّة، في لحظةِ صعود الرّب، كانت عيون التّلاميذِ شاخصةً إلى السّماء، تودِّعُ محبوبَها الّذي حُجِبَ عنها للتّو. عيونُهم شاخِصة، أجسادُهم تَمَسمَرت في مكانِها، عقولُهم منذهِلة، قلوبُهم مُنخطِفة. حالةٌ من التّعجب! نَعم، يسوعُ صَعِدَ إلى السّماء، ولكنّه قال: "هاءنذا معكم طوالَ الأيّام إلى نهايةِ العالم". هو مَعنا ويُرافِقُنا، هو طريقُنا وهو بابُنا أيضًا إلى ذلك المُقامِ الأبدي، لنكونَ نحنُ أيضًا يومًا حيثُ هو يكون.

 

عيدُ الصّعود هو عيدُ الرّجاء بالملكوت الأبدي الّذي أَعَدَّهُ اللهُ لنا نحن أحبَّته قبلَ إنشاءِ العالم. فَالفِراقُ، وإن كان إلى حين، فحتمًا هناك لقاء أبديٌّ لا ينتهي ولا يزول. عيد الصّعود هو بارقةُ الأمل، هو النّجمُ المشرِق، الّذي يُضيءُ لنا عتمةَ الدّرب، مرشِدًا خُطانا وموجِّهًا بوصَلةَ حياتِنا، وسط الظّلمةِ والتّشويش.

 

كانت عيونُ التّلاميذ شاخصةً إلى السّماء. كانت قلوبُهم مرتفعةً إلى العُلى، كانت لدى الرّب. لذلك، عيدُ الصّعود هو عيدُ الارتقاء، والسّموِّ إلى العُلى. القدّيسُ بولس في رسالتِه إلى أهل قولسّي، يقول: "اسعوا إلى الأمورِ الّتي في العُلى حيث المسيحُ قَد جلسَ عن يمين الله. اِرغبوا في الأمورِ الّتي في العُلى، لا في الأمورِ الّتي في الأرض" (قولسّي 1:3-2)

 

أمورٌ كثيرة في الأرضِ تجذبُنا بعيدًا عن المسيح، مواقفُ وظروفٌ عديدة تشدُّنا إلى الأسفل، تمنعُنا عن السّعي إلى أمورِ العُلى، وتكبحُ فينا الرّغبةَ في شؤونِ الملكوت. لذلك يأتي عيدُ الصّعود ليُذكّرني بأنّني، أنا المسيحي، وإن كُنت لا أزالُ في العالم، لكنّي لستُ من هذا العالم (يوحنّا 11:17، 14) في عيد الصّعود تذكّر أن تصعدَ نحوَ القِمَم، لأنَّ مَن يَتَهَيّب صُعودَ الجبال، يَعِش أبَــدَ الدَّهــرِ بيــنَ الحــُفرْ! كما قالَ أبو القاسمِ الشّابي. وفي الحفرِ يكثُرُ الطّينُ وتكثرُ الأوحالُ والبعّوضُ أيضًا.

 

وأخيرًا، في عيدِ الصّعود، أودُّ أن أتلوَ عليكم ما وردَ في رسالة القديس بولس الثّانية إلى أهل قورنتوس، وهو ما نقرأه في رُتبة الجنازة ودفن الموتى. وهو بالمناسبة نصٌّ موجّهٌ ومُخصَّصٌ لنا نحنُ الأحياء، وليس للّذي مات وقَد نَوَينا دفنَه.

 

"نَحنُ نَعلَمُ أَنَّه إِذا هُدِمَ بَيتُنا الأَرْضِيّ، وهو أَشبهُ بالخيمة، فلَنا في السَّمَواتِ بيتٌ مِن بِناءِ الله، لم تَشِدهُ الأَيْدي. لِذلِكَ لا نزالُ آخذينَ بالثّقة، عالمينَ أنَّا، ما دُمنا مُقيمين في هذا الجَسَد، نظلُّ في دارِ غربة عن الرّب. فنَحنُ إِذًا واثِقون، ونُؤثِرُ هَجرَ هذا الجَسَد، لِنُقيمَ في جِوارِ الرَّبّ" (2 قورنتوس 1:5، 6-8).