موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٩ مارس / آذار ٢٠٢٤

عظة أربعاء الرّماد 2024

بقلم :
الأب فارس سرياني - الأردن
﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6)

﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6)

 

﴿وَأَبوكَ الّذي يَرى في الخُفيةِ يُجازيك﴾ (متّى 4:6)

 

الأحِبَّةُ جَميعًا في الْمَسيحِ يَسوع! مَع أَربِعَاءِ الرَّمَاد، نَسْتَهِلُّ الزَّمنَ الأربَعينيَّ الْمُقَدَّس، الَّذي مِنْ خِلالِهِ نَتَهَيَّأُ لِبُلوغِ قِمَّةِ هَرمِ إيمانِنَا الْمَسيحيّ، أَي الاحتِفَالِ بِفِصحِ الرَّبِّ وقِيَامَتِهِ الْمَجيدَة. مَع أَربِعَاءِ الرَّمَاد، نَبْدَأُ زَمنَ الصَّومِ والتَّوبَة، كِلاهُمَا مَعًا جَنبًا إلى جَنب، دُونَ انْفِصَالٍ أَو تَجزِئَةٍ أَو اخْتِزَال. فَالصَّومُ بِلا تَوبَةٍ يَفقِدُ مَعنَاه، ويُضْحي مُجَرَّدَ جُوعٍ أَو حِميَةٍ غِذَائيَّة، أَو ضَربًا مِنْ ضُروبِ التَّوفير! وهَذَا مَا يحدُثُ مَع الَّذينَ يُغَالونَ في الصَّومِ مُتَبَاهِينَ مُتَفَاخِرين، أَمَّا ثِمارُ تَوبَتِهم فَشَحِيحَةٌ قَليلَة، وأَيادِيهم عَنِ العَطَاءِ والصَّدَقَةِ مَغلُولَة!

 

اِسْمَحوا لِي أَنْ أَقولَ لَكُمْ بِأَنَّ زَمنَ الصَّومِ، مع كُلِّ أَسَف، يُحَوِّلُهُ البَعضُ لِيُصبِحَ زَمَنًا مُزعِجًا ومَشْحُونًا بالْمُمَاحَكَاتِ الصِّبيَانِيَّة! فَفِي هَذَا الزَّمن، تَكثُرُ أَجْوَاءُ الْمُنَافَسَةِ والاسْتِعرَاض، وكَأَنَّنَا في مَيدَانِ تَحدٍّ أو حَلَبَةِ مُبَارَزَة! ومِنَ الْمُعيبِ أَنْ يَتَحَوَّلَ الصُّوم لَدَى البَعضِ، أَدَاةً وسَبَبًا لإدانَةِ الآخرين والحُكمِ عَلَيهِم، وأَحيانًا تَشعُرُ وَكَأنَّ الأمرَ يَصِلُ حُدودَ تَكفيرهِم! هَؤُلاء ﴿أَخَذُوا أَجْرَهُم﴾ (متّى 16:6)، عِندَما عَرُّوا هَذَا الزَّمَنَ الجَميلَ مِنْ قُدْسيِّتِه، وجَرَّدُوهُ مِنْ بَهائِهِ، وقَدْ كَسُوهُ بالقُشورِ الهَشَّةِ ومَآزِرَ مِنْ أَوراقِ التَّين (راجع تكوين 7:3).

 

هَذا هو صُومُ الْمُنَافِقين! وصَومُهم عَارٍ وأَعوَرٌ ومَنْبُوذ، لأنَّهُم لا يَصومُونَ لأجلِ التَّوبَةِ، واسْتِنزَالِ الرِّضَى والغُفرانِ الإلهيّ، ومُمارَسَةِ الرَّحمَة، فَيُضْحِي صَومُهم كَذِبًا ورِيَاء، وتَجسيدًا دَنيئًا للبُخلِ والتَّقتيرِ! وعَليهِ يُحذِّرُنا الرّبُّ مِنَ بِدايَةِ هَذا الزَّمَن، بِأَلّا نَجعَلَهُ زَمَنًا لِلْمُهاتَرَاتِ، قَائِلًا: ﴿وَإِذَا صُمْتُم فَلا تُعَبِّسُوا كالْمُرائِين، لِيَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّهم صَائِمُون. أَمَّا أَنتَ، فَإِذَا صُمتَ، فادهُنْ رَأسَكَ واغسِلْ وَجهَكَ، لِكَيْلا يَظْهَرَ لِلنَّاسِ أَنَّكَ صَائِم، بِلْ لأَبيكَ الَّذي في الخُفْيَة، وأَبوكَ الَّذي يَرى في الخُفْيَةِ يُجازيك﴾ (متّى 16:6-18).

 

أَيُّها الأخُ الصَّائِم، أَيَّتُها الأختُ الصَّائِمَة، إِذَا صُمتَ فَلا تَحمِل السُّلمَ بالعَرض! ولا تُمسِك مِنَ الصَّومِ ذَيلَهُ! فَمَا الفَائِدَةُ مِنْ صَومِكَ هَذَا، وفَنَاءُ قَلْبِكَ وفِكرِكَ لا يَزالُ مُتَّسِخًا تَأبَى تَنْظيفَهُ! مَا الفَائِدَةُ مِن صَومِكَ هَذَا، وأَنتَ لا تَزالُ تحمِلُ مَشاعِرَ حَقدٍ وضَغينةٍ وكُرْهٍ وحَسَد، وتَأبى النُّزولَ عَنْ تِلكَ الشَّجَرَةِ الْمُعتَلَّة! مَا الفَائِدَةُ مِن صَومِكَ هَذَا، وأَنتَ تَرفُضُ أنْ تُشارِكَ الْمُحتَاجَ خُبزَكَ، ورَجَاؤكَ مُقتَصِرٌ عَلَى هَذهِ الحَيَاةِ الفَانِيَة، وقَلبُكَ مُعَلَّقٌ بخيراتِ الأرضِ، وسَعيُكَ مَحْصورٌ بالاستِزَادَةِ مِنْ كُنوزِهَا، ولا تَسْعَى لِأنْ يكونَ لَكَ كنزٌ ورصيدٌ في السَّمَواتِ يَشفَعُ لَكَ بَعدَ رَحيلِكَ، يَا أَيُّها الْمَائِتُ النَّافِق!

 

زَمنُ الصَّومِ وإنْ كَانَ في جَوهَرِه زَمنًا مُقَدَّسًا ومُبَارَكًا، إَلّا أَنَّهُ في مَظَاهرِهِ هُوَ زَمَنُ الكَذَّابين الدَّجَّالين! مَنْ يُلَطِّخونَ هَذَا الزَّمنَ بِكثرَةِ الرِّيَاءِ والنِّفَاق! وفيهم يَصدُقُ قَولُ الرَّبِّ عَلَى لِسَانِ نَبيّهِ أَشعيا: ﴿هَذَا الشَّعبُ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِفَمِهِ، ويُكرِمُني بِشَفَتَيهِ، وقَلبُهُ بَعيدٌ مِنِّي﴾ (أش 13:29). ويَقولُ أيضًا: ﴿حِينَ تَبْسُطونَ أَيدِيَكُم أَحجُبُ عَينَيَّ عَنكُم، وإِن أَكثَرتُم مِنَ الصَّلاةِ لا أَستَمعُ لَكُم، لِأنَّ أَيديكُم مملؤَةٌ مِنَ الدِّمَاء﴾ (15:1).

 

وعَليهِ يَدْعُونا الرَّبُّ للتَّوبَةِ والنَّدامَةِ، قَائِلًا: ﴿فاغْتَسِلوا وتَطَهَّروا، وأَزيلوا شَرَّ أَعْمالِكم، وكُفُّوا عنِ الإِساءَة. تَعَلَّموا الإِحسانَ والْتَمِسوا الحَقَّ. قَوِّمُوا الظَّالِم، وأَنْصِفُوا اليَتيم، وحَامُوا عَنِ الأَرمَلَة. لَو كَانَتْ خَطاياكُم كالقِرمِز، تَبيَضُّ كالثّلج. ولَو كَانَت حَمْراءَ كالأُرجُوان، تَصيرُ كالصُّوف﴾ (أش 16:1-18).

 

يا أَحِبَّة، هَذا هُوَ الْمَعنَى الحَقيقيِّ لزَمَنِ الصّومِ! هُوَ زَمَنٌ لِأجْلِ التَّوبَة. فَمَع بِدَايَةِ البُشْرَى الإنجيلِيَّة، يُعْلِنُ سَابِقُ الرَّبِّ، يُوحَنَّا الْمَعمَدان، فَيَقُول: ﴿تُوبوا، فَقَدْ اقتَرَبَ مَلكوتُ السَّمَوات﴾ (متّى 2:3). فَالتَّوبَةُ دَربُ جِهَادٍ يَسْلُكُهُ الصَّائِمُونَ، بالرّوحِ والحَقّ (يوحنّا 24:4)، لِمُلاقَاةِ الرَّبّ. والتَّوبَةُ لا تَصِحُّ إلّا بِمُمارَسَةِ الصَّوم! فالصَّومُ الصَّادِق، الْمُجرَّدُ مِنْ كُلِّ الغَاياتِ الوَضيعَة، يَظلُّ وَسِيلَةً جوهريَّةً لإبداءِ التَّوبَةِ النّصُوح، والإعرَابِ عَنِ النَّدَامَةِ الحَقَّة.

 

ومَع أَنَّ كَثيرًا مِنَ الْمُحْدِثين، عَبيدِ بُطُونِهم، يُقَلِّلُونَ مِنْ شَأنِ الصَّوم، ويُحاوِلُونَ إيجَادَ "مُنَاسَبَاتٍ" لِلتَّملُّصِ مِنه. أَمَّا نحنُ فَفِي صَومِنَا، إِنَّما نَقتَدي ونَقتَفي آَثَارَ مُعَلِّمِنَا الْمَسيحِ الّذي صَامَ ﴿حَتَّى جَاع﴾ (متّى 2:4). والجُوعُ وَجَعٌ وتَضحِيَة، تَحَمَّلَهَا الرَّبُّ في سَبيلِ خَلاصِنَا. فَعَيبٌ وعَارٌ عَلَى البَعضِ أَنْ يَقبَلُوا عَلَى الرَّبِّ أنْ يَجوعَ ويَتَخَلَّى، هوَ القَادِرُ عَلَى أَنْ يُصيِّرَ الحِجَارَةَ خُبْزًا (راجع متّى 3:4)، وَيُمْسِكونَهُ عَلَى أَنفُسِهِم!

 

فَفِي صَومِنَا نُشَارِكُ الرَّبَّ في جُوعِهِ ووَجعِه وتَضْحِيَتِهِ، مُتَخَلّيينَ بعضَ الشَّيء عَنْ نَمطِ حَيَاتِنَا الْمُعتَاد، وَسِيلَةً لِلتَّطهيرِ والتَّكفِيرِ عَنِ الآثام. ونَمتَثِلُ لِمَا أَوصَانَا بِهِ الرّبّ، أَدَاةً لِطَردِ الشَّرِّ ومُقَاوَمَةِ الشِّرير، مُسْتَذْكِرينَ قَولَهُ: ﴿هَذا الجِنسُ مِنَ الشَّيطَان، لا يخرُجُ إلّا بالصَّلاةِ والصَّوم﴾ (متّى 21:17).