موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الخميس، ٢٩ فبراير / شباط ٢٠٢٤

عزلة العواطف وفقدان السِّلم المجتمعي

رلى السماعين

رلى السماعين

رلى السماعين :

 

في يوم ما في سابق الزمان كانت الفنون والأخلاق أسسًا غير مادية، وكانت النظم الاجتماعية مفهومًا غير ملموس وإنما متفق عليه. ورغم كل ما قام به الإنسان في تطوير المجتمعات، وحتى في جهوده لابراز «الإنسانية»، كان يُعتبر جهدًا غير ملموس في البداية، إلا أنه مع مرور الوقت أصبحت هذه الجهود جماعية وكانت السبب في الاستمرارية والتطوير للمجتمعات. وأما الدافع وراء ذلك فكان العنصران الأمل والألم؛ في حين يُعَدّ الأمل المعزي والدافع للتقدم، يعتبر الألم دروسا نستفيد منها لنتطور. وهكذا، يعيش الإنسان حياته، متحملًا الألم بالأمل، إنما يبقى هناك أفراد يجدون صعوبة في تحمل الألم، فيعيشون الحياة في إطار يُطلَق عليه علم الاجتماع وعلم النفس «العزلة الاجتماعية»، وتأتي وهذه بأشكال ودرجات متنوعة، فيها يكون الفرد متصلًا بالمجتمع ونظرائه، لكنه يعيش بمعزل عنهم عاطفياً وفكرياً في غالب الأحيان.

 

يشير العالم سيغموند فرويد إلى أن العزلة تُعَدُّ إحدى الأمراض النفسية التي يُسببها عدم قدرة الفرد على التكيف نتيجة لمعاناة نفسية مدفونة في شخصيته. وتُضيف أبحاث علم نفس الإنسان أن الطفولة تلعب دورًا رئيسيًا في تشكيل شخصية الإنسان، حيث يتأثر ادراكه النفسي وتوازنه العاطفي بتلك الفترة الحيوية. يعتبر هذا الفهم العميق لعلم النفس والتأثيرات الطفولية أمرا ذا أهمية بالغة في فهم التحديات التي يواجهها الأفراد في مواجهة العزلة وضغوط الحياة الاجتماعية وبالذات في ظل الثورة التكنولوجية.

 

في عصرنا الحاضر، ظهر نوع آخر من العزلة الاجتماعية، وهو العزلة الاجتماعية الارادية، والتي أصبحت ظاهرة منتشرة يُنظر إليها على أنها طبيعية، ويرجع سببها إلى قلة الإدراك والوعي في المجتمعات تجاه إدارة حياة الأفراد في ظل الثورة التكنولوجية الحديثة التي نعيشها. فالتكنولوجيا، التي نقول دائمًا إنها «ذكية»، أدت إلى إيماننا بأننا أصبحنا «أغبياء»، ومن ثم، «نضحك» كرد فعل، ولكن هذا الضحك يكمن وراءه فخ عميق حول كيف يؤثر التحول التكنولوجي على طبيعة التواصل والعلاقات الاجتماعية في مجتمعنا!

 

في عصرنا الحاضر، يعيش أفراد العائلة، والموظفون في محيط عملهم، والأصدقاء في لقاءاتهم، في حالة من العزلة العاطفية والجسدية والفكرية وهم متسمرون على هواتفهم في غالب الاحيان، كنوع من الهروب أحياناً، و»الخلوة» مع الذات أحياناً أخرى،دون الادراك بأن أي خلوة عليها أن تكون خالية من المنبهات العصبية وعلى رأسها الهواتف النقالة وما عليها من مواقع افتراضية متعددة.

 

نهاب مما نشهده اليوم من تزايد انعزال الأفراد نتيجة تفضيل وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية على التفاعل الاجتماعي وجهاً لوجه، وما يثير قلقًا أكبر هو الآثار الخطيرة على الطفولة، التي تُعَدُّ استثمارًا حيويًا للمستقبل. يظهر هذا بشكل واضح في العادة التي درجت بتقديم الهاتف للطفل أثناء تناوله الطعام، أو بهدف تهدئته ومنعه من الصراخ، أو عندما يريد أن يلعب، بينما يُكرِّر والدي، الذي هو أخصائي أطفال، أن الصراخ للطفل قد يكون مفيدًا لتقوية عضلات الرئة والجهاز التنفسي، طبعًا بشرط أن يكون الطفل في حالة جيدة وليس مريضًا أو جائعًا أو يحتاج إلى رعاية خاصة، ويشدد على أهمية اللعب والحركة، وخاصة حافي القدمين، كجزء أساسي من نمو الطفل، لانه يساهم في تنمية وتقوية العظام والمفاصل.

 

الواقع بأننا كبشر لن نصل في يوم ما إلى معرفة كل ما نجهله. كل العلوم التي نعلمها هي محدودة في ظل علوم العالم المنظورة، وتلك التي لم نصل الى وُفرِها بعد. جاهل هو من يقول بأنه يعلم ويطمأن بأن المعرفة الكاملة في قبضة يديه،والواقع الذي نشهده ينبهنا بأننا إن لم ندرك بأن في حياتنا يقبع خطر كامن، وصامت وخطير اسمه الانعزال العاطفي الاسري والمجتمعي،سببه تفضيل استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية بشكل كبير على التفاعل الاجتماعي الطبيعي، السبب في تغيير المجتمع الذي سيفقد وقتها العديد من الجوانب الهامة للتواصل مثل لغة الجسد والتعبير الوجهي اللذين يسهمان في فهم الرسائل والانفعالات بشكل أعمق، سيعزز العزلة الفردية والتباعد الاجتماعي، ويهدد السِّلم المجتمعي.

 

(الدستور الأردنية)