موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ١٧ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٩

عزاء الأحياء على أمواتهم

بقلم :
الأب منويل بدر - الأردن

لا أظن أنّ إنسانا يُعايِش عددَ اموات ويَعيشُ حالات حزن على الأموات أكثر من كهنة الرّعايا، خاصة وإن كانوا في رعية كبيرة ولمدة زمن طويلة من حياتهم، تتراوح ما بين 20 و 30 سنة، كما الحال في أوروبا. تعددت الأسباب والحزن واحد. ويمكن لا يبقى نوع موت أو حالة حزن إلا ويعيشها كاهن الرّعية في نفسه. الموت ليس محصورا على وقت أو جيل معيّن، فكم كنت أحاول إقناع والدي بذلك، حينما كان يجلس وحده مقابل قبر والدتي من بعيد، تحت شجرة بلوط أو زيتونة، ويبدأ يُعدِّد لها كم رجل لا يزال أمامه في القرية، أكبر منه سنّا، ويقول لها بعد 4 أو 2 أو.... وانا لاحقك يا أم عبدالله. باعتقاده أن الموت على الدّور، الأكبر أوّلا ثم الأصغر فالأصغر. طبيعي أن موت شخص عزيز، يترك في قلوب وعيون الباقين والمعارف والأصدقاء، حسرات حزن وألمٍ عميقين. وهما علامات تقدير صادقة للفقيد، الّذي يترك ليس فقط مكان جلوس فارغ، ولكن أيضا فراغاً أكبر في العقول والقلوب. وهذا الحزن عليهم حق ومقبول عند المحزونين. إذ هم لا شعوريّاً يتواجدون في صدمة غير متحضَّرين لها ولا مُتوقِّعينها. يشعرون بألم وصدمة يحتاجون وقتاً للقبول بهما، بعد فقدان ميِّتِهم. هذا ونقدر أن نختصر حالات الحزن، التي يعيشها أهل الفقيد في 4 مراحل. هي كمسلسل مرتبطة مع بعضها، لها بداية وأحيانا لا نهاية في قلوبهم وتفكيرهم. هذا ويمكن البقاء في مرحلة أطول من الثانية. أما طول مدّة الحزن وكثافته عند البااقين فهي فريدة عند كل حزين، مرجعها قوّة ارتباط الحزين بالمائت الفقيد، تكون مرّاتٍ ثقيلة حتّى إنّ كثيرين يحتاجون إلى معالجة نفسية ومرافقتهم لمدة طويلة في بداية الحزن، حتى يقفوا على رجليهم إن صحّ التعبير، ولا ينزووا مع أنفسهم، بل يحتاجوا إلى مرافقة مَن عاش نفس الموقف ويقدر أن يُعطي الحزين بعض النّصائح ليتعزّى. المرحلة الأولى هي الصدمة. بعد موت فجائي، لا هو متوقّع ولا كان في الحسبان. فتكون النتيجة أن مَن يسمع الخبر يُصاب بالهلع وكثيراً ما يقع على الأرض مُصفرّاً مرتجفاً، مهتزّ البدن ومرتجف اليدين وغير قادر لا على البكاء ولا على التكلّم لمدّة من الوقت. أما كانت العادة قديما هي تمزيق الثياب وتهميش الوجه لإظهار مدى الحزن على المنكوبين؟ نتيجة لذلك يبقى الحزن لمدة طويلة مُسيطرا، مثلا بعد موت الزوج أو الزوجة الفجائي، أو موت ابنٍ وحيد، كأن المفجوع لا يريد أن يُصدِّق حقيقة واقعيّة تطول حتى بعد الدفن. عزاء مثل هؤلاء، حتى يعوا إلى الواقع، أنهم بحاجة إلى مرافقة قريب قريب او صديق عزيز يبقى بقربهم للإستماع لهم وتشّجيعهم وصرف نظرهم عن التفكير الدّائم بالحدث. المرحلة الثانية هي التشتت الدّاخلي. وبكلمة أخرى فوضى العواطف التي تتراكم، منها الغضب والخوف والكراهية واليأس والشوق مراراً في اليوم. وأحيانا الشعور بالذنب الذاتي أو برمي الذنب على الأخرين بسبب موت الفقيد. هنا لا بدّ من ذكر شعور الأهل عند موت طفل صغير، فهم يرمون بالذنب مرات كلٌّ على نفسه ومرّات يتراشقون باللوم على بعضهما البعض. فهما لا يقدران على كبت هذا الشعور. يزداد هذا االشعور حدّة عندما لا يجدون تجاوبا عند فردٍ ثالث، كأنه لا يفهمهم. ولي هنا ذكرى محزنة هي كالتالي. لعائلة فتية في رعيتي توفي مولودهما الأول بعد 4 أيام فقط من مولده. الوالد كان خرج عن الدّين وسجّل نفسه في البلدية أنه لا ديني حتّى يوفّر دفع الضرائب للكنيسة. وبعد بضعة أشهر توفي طفله، فتلفن لي وأصر على قيامة قداس وجناز رسميّان كما للموتى النّاضجين. فكم وكم حاولت أن أُفهمه أن الطفل ملاك ما ارتكب أي جرم ولا ذنب أمام الله حتى نقيم له قدّاساً كلُّ صلواته طلب المغفرة والإسترحام والتّرجي من الله أن يسكنه في نعيمه. وثانيا في طقوسنا الكاثوليكية لا يوجد نصوص قداس جناز للأطفال بل صلوات فرح قبل موارات الجثة في الأرض. لكنني ما قدرت إقناعه فزاد غضبه على الكنيسة وشوّه سمعتي، بأنني لم أقبل قيامة قداس لابنه لأنه هو خارج عن الكنيسة، لذا رفضت دفن ابنه كنسيا. هذا كان قبل 18 سنة ولكنه لا يزال يلومني في كل مناسبة. المرحلة الثالثة. دور الذكريات الطيبة ثم نسيانها. في هذه المرحلة كثيرا ما يكون الحديث بالتذكير بمراحل حياة ولقاآت مع المتوفّى. خاصة الأطفال إن عاشوا وفاة أحد أهلهم، فحديثهم الدّائم هو: كنا... سافرنا مع بعض إلى... حضرنا... إشترينا... أو إذا كان الشخص الحزين كبيرا فهو يجلس في زاوية ويناجي المتوفي كأنه لا يزال حيّا أمامه، مرّات معاتبه ومرّات بهزّة رأس مستغربا سرعة الفراق أو التّرحم على الماضي بقوله. يا فلان! يا ريتنا ما عرفنا بعضا... المرحلة الرابعة. هي العودة إلى الحياة السابقة دون نسيان الفقيد، ولكن الحزين المتعقّل يفهم أن هذي هي سُنَّةُ الحياة. وكما قال كتاب الحكيم: ذكرى الصديق يدوم إلى الأبد. هذا يعني بداية مرحلة جديدة، ولو أنّ ذكرى الفقيد ترافق المحزون كظلِّه، ولا يقدر أن ينساه، لكن مرحلة الحزن ليست مرحلة يأس بل ذكرى طيبة منها ذكرى شكر لمعرفته للمتوفّى، ومحاولة تقليد مواقفه الجميلة، إذ المتوفّى قد أصبح قسما منه، يتذكّره دائما بالخير. يتذكر مواقفه المشرّفة بفخر وفرح. وللشعور بقربه هناك العوائد في أوروبا منها الإعتناء بقبر المتوفى والصلاة سواء الفردية لراحة الفقيد وإضاءة شمعة ليضيء له المسيح دربه أو بطلب قداس تكفيري عن نيّته. هذه كلّها عوائد مسيحية محمودة، لا يجوز نسيانها إحياءً لذكرى الفقيد، الذي أصبح قريبا من الله ولا يترك أهله ومعارفه أيضا بدون شفاعة لهم عند ربّهم. إني ذاهب إلى أبي لأُعدّ لكم مكانا. ومتى ذهبت وأعددت لكم مكانا أعود أيضا لآخذكم إليّ حتّى أكون أنا تكونون أنتم أيضا (يو 14: 3).