موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الثلاثاء، ٢٣ يونيو / حزيران ٢٠٢٠

عروس النيل النجاشي

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي

رمزي الغزوي :

 

النهرُ الوحيد الذي لا يحتاج أن تسبقه كلمة نهر هو النيل. كل أنهار الدنيا تريد تعريفاً من هذا النوع إلا هو: نهر المسيسبي، نهر الفرات، نهر العاصي. إنه يكتفي بذاته: النيل.

 

في المدرسة طلب منا المعلم أن نتخيل مصر بدون النيل. ولأننا لم نكن نملك أفكاراً عن مصر وحياة شعبها، فقد شطح خيالنا بطريقة مضحكة. أحدنا قال: سيرتاح المصريون من التماسيح وأسنانها المنشارية ودموعها الكاذبة. وآخر أكد: سيعطشون حتى يشربوا البحر أو الرمال.

 

في ذات اليوم كتب المعلم: مصر هبة النيل. وعرفنا بعدها أن الجملة قالها المؤرخ اليوناني هيرودوت حين زار مصر في القرن الخامس قبل الميلاد. وعرفنا أن الفراعنة يقولون من قبله: النيل هبة الآلهة. وأنهم ساووا بينه وبين الحياة، بل ونظمها وحدد مواسمهم: الفيضان، والزراعة، والحصاد.

 

كان المصريون يعتقدون أن مياه الفيضان هي دموع إيزيس على فراق زوجها أوزوريس. وقد ظل الفيضان مألوفاً حتى اتمام السد العالي 1971. والفيضان ليس دموعا لأحد على أحد. هو الأمطار الموسمية الهاطلة فوق منابع النيل وسط أفريقيا. وكان يأتي بالخير، فهو محمل بالطمي الذي يخصب التربة وينعش الزراعة. وحين ينقطع الفيضان كانوا يعتقدون أن النيل غاضب، ويريد الزواج. ولهذا دأبوا أن يختاروا أجمل فتياتهم، ويزينونها لترمى في مياهه باحتفال صاخب يسمى: عروس النيل.

 

من يومين كنت أسمع أغنية لمحمد عبد الوهاب في فيلمه الوردة البيضاء 1933. تقول الافتتاحية: النيل نجاشي، حليوة أسمر. وقد أثارتني الكلمات التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي؛ لأنني ربطت النجاشي بأثويبا وسد النهضة، والأثر على مصر والسودان، وقلت في نفسي يبدو أن الأغاني تتنبأ بالمصائب أحياناً.

 

كلمة نجاشي تعني الحاكم باللغة الأمهرية، لسان أهل الحبشة (أثيوبيا). وحق لشوقي أن يرى النيل حاكمًا عبر حضارة تمتد منذ ستة آلاف سنة. النيل يحكم الحياة ويتحكم بها. بل هو الحياة.

 

بعيدًا عن تقارير الرعب التي تبث هنا وهناك، فيما لو أن قوة حربية فجرت السد الذي سيحتجز في بحيرته 72 مليار متر مكعب من الماء، هي بالضبط حصة مصر والسودان السنوية. بعيدا عن هذا يرى بعض المحللين أن الحرب القادمة هي حرب مياه. ولكن من ذا الذي يجرؤ على هكذا مغامرة. والسد العالي قنبلة موقوتة في أعالي مصر ايضًا.

 

ربما على المصريين أن يركزوا في قضيتهم المركزية الآن، وألا ينشغلوا في ليبيا وأتونها الملتهب. وعليهم أن يغيروا نمط الزراعة المتبع منذ مئات السنين. النيل لن يفيض بالطمي حتى ولو قدمنا له ألف عروس بمصاغها.

 

الأمر يتطلب حكمة، وقوة إدارة للمفاوضات الضاغطة مع أثيوبيا، وبنفس الوقت الشروع بتغيير نمطية الري باتباع أنماط أكثر توفيرا للمياه. وحمى الله مصر ونيلها.

 

(الدستور الأردنيّة)